هكذا تكلّم مارك زوكربيرج :” فَكِّر فيما يَفْعَلُه النَّاس في فيسبوك اليوم، إنَّهم يتواصلون مع أصدقائهم وعائلاتهم ، لكنَّهم أيضا يَبْنُون صُورة وهَويَّة لأنفسِهم، وهي بمعنى من المعاني العلامة التجارية الخاصة بهم. إنهم يتواصلون مع الجمهور الذي يريدون”.
يبدو أننا في زمن يجب أن ننظر فيه إلى مسألة الهوية من زاوية مختلفة بعيدا عن العواطف التي عادة ما تسعى الأنظمة لتأثيثها وتوجيهها. سواء كانت هذه الأنظمة قَبَلية، أو عروشية، أو جمعية أو مؤسساتية. فقد مضى ذلك الزمن الذي كان الإنسان لا يرى فيه نفسه إلا من خلال جماعته، فلا يُدين إلا بما تُدين به. ولا يأتي إلا بما تأتيه، يَتَّبعُ أثَرها شبرا بشبر وذراعا بذراع، فما هو إلاّ بوق للقبيلة والجماعة، ولسان حاله:
ومَا أنَا إلا من غُزِيَّةَ إنْ غوَتْ غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ
ونحن أمام مسألة الهوية نجد أنفسنا أمام أسئلة صارخة، غاضبة؛ أسئلة تحاور كينونتها وغايتها. وأسئلة تبحث عن الثابت والمتغير فيها. وأسئلة أخرى تسأل عن أهمية السؤال عنها، على حد قول الكاتب المصري يوسف رخا: “فعلا مللتُ أسئلة الهوية”.
هل الهوية فطرة يولد فيها الإنسان، وينشأ ويموت عليها ؟ أم هي خاضعة للتغيير والجرح والتعديل ؟ وهل من فقد شيئا من خصائصها، يعني أنه فقدها بالكامل ؟؟ فلعل الهوية شيئا ينمو رويدا رويدا، كما يقول درويش: “لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون”، ذلك لأن من طبيعة الأشياء أنها تتغير ولا تبقى على حالها أبدا، فهذه سنة كونية تنال كلّ شيء، في السماء والأرض وما بينهما. ولعلها عندما تتغير بالفعل، تتحوّل إلى شيء مختلف تمامًا عما كانت عنه من قبل، كما يقول عزمي بشارة :” كل هوية مصنوعة ومُتشكَّلة، وهي ماهوية في مرحلة معيّنة، قبل أن تتغير ويعاد تشكيلها”.
صحيح إنَّ الجماعة تقدم لأفرداها ما يمنحهم هويتهم، وما يُعزز الانتماء الذاتي إليها، وتحرص تلك السلطة المجتمعية سواء كانت هياكل شعبية أو مؤسسات دولة إلى ربط هؤلاء الأفراد دوما بهويتهم، لأن المسألة تصبح في مفهوم الدولة تتجاوز حدود البحث عن الذات إلى قضية بناء الأمة ووحدتها وبقائها. لتصبح قضية الهوية قضية عامة لا أمرا شخصيا محدودا.
وفي هذا يقول الفيلسوف العربي عبد الوهاب المسيري: “الهوية هي حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين العدو”؛ إلا أن ما طرحه الفلاسفة في هذا الحقل المعرفي كان مقلقا إلى درجة كبيرة، حول آليات تشَكُّل هذه الكينونة، وتعرضها للتغير، وواقع من فقد ذاكرتَه الجمعية كلَّها، أو جزءا منها. وما الذي يحصل إن لم يستطع الفرد الوفاء بالتزاماته للجماعة ؟ وهل يستطيع أن يشكّل هويته الخاصة به بعيدا عن السياج الذي فرضته عليه قيم الولاء؟ باعتبار أن الهوية كما يقول أمين معلوف : “لا تتجزأ أبدا، ولا تتوزع أنصافا، أو أثلاثا أو مناطق منفصلة”.
وبالعودة إلى ما قاله زوكربيرج وبدأنا به حديثنا، ومع كل هذه الأسئلة المرهقة التي خاض فيها الفلاسفة حول مسألة الهوية لنا أن نسأل عن واقع الهوية ومآلها في ظل عالم الميديا الذي ابتلع الإنسان وابتلع معه كل ما يتعلق به، ونحن أمام جيل يبدو أنه قد ملَّ من أسئلة الهوية، خاصة في تلك الأوطان التي تتبارز فيها طوائفها ومكوناتها بالأجنة، فتستحضر الماضي بكل ما فيه من غموض وتناقض، لتقحمه في معركة الحياة الحاضرة، وتجلعه جسرا للعبور نحو ما هو آت ؟ فالميديا بمختلف أنواعها مكنت الإنسان المعاصر من أن يصنع عالمه الخاص به، عالما يصنعه على عينيه، يختار فيه صداقاته ومجتمعه، ويُعبِّر فيه عن آرائه، ويرسم فيه حدود آماله وأحلامه، ويضع ضوابط لعلاقاته.
وهو مع ذلك كله يعيش لحظة الانعتاق من الجماعة الأم التي فرضت سلطتها عليه، فأي مآل للهوية الجماعية على قوتها وثباتها ورسوخها أمام هذا الإعصار التكنولوجي بما وفره من وسائط وفضاءات تواصليه وأتاحه أمام الأفراد؟ وما مدى خطورة التهديدات التي تُوجِّهُها الهويةُ الميداوية (ميديا) إلى هويةِ الدولة والأمة؟ وما سُمك التحصينات التي تقيمها الأنظمة المختلفة للحفاظ على هوية أفرداها؟
الواقع أنَّ مسألة الهوية التي كانت إلى وقت قريب موضوعا مهما من المواضيع التي تحرص الدول على أن لا يغيب عن عينيها، فتُشرف على تحديد عناصره، ورسم مناهجه بما يتوفر بين أيديها من طرق التربية والتعليم، ومؤسسات الثقافة والسياحة والإعلام، لغاية جمع الناس على صراط واحد يُظلهم جميعا، وفقا لمقتضيات بناء الأمم؛ قد أصبحت في عصر الميديا مشاعا متاحا للجميع، بما أيقظته هذه الوسائل من فردانية وذاتية، باتت وبشكل صريح وجها من وجوه الصراع داخل المجتمع الواحد.
وهي تطرح ما كان محظورا من أسئلة حول هويات الجماعات، وتشكلاتها وبداياتها، بما يعيد الحديث فيها إلى اللحظة الجنينية، فتطفو إلى السطح الأقليات، اللهجات، العادات، التاريخ، الأرض، المقيم والوافد، وغير ذلك مما يزعج التوافق الهوياتي الذي كانت السلطة العليا لأي أمة تحرسه وتحميه، مما ينزع صفة القداسة عن الجماعة بما تحمله من ماض واحد تتحلق حوله، ولتبرز عقيدةُ الرفض، التي تحاول التأسيس إلى ذات مختلفة وجديدة لها كينونتها، لتصبح الهوية حينها كما يقول درويش : ” هي ما نُوَرّث لا ما نَرث، ما نخترع لا ما نتذكر”.
وفي ظل هذا الواقع المضطرب الذي قد يشكّل لحظة تيه للكثير من الأجيال، تأتي الميديا لتفتح ذراعيها للأفراد، وتمنحهم سلطات مطلقة لفعل ما يريدون بعيدا عن أعين السلطات الهوياتية، فيتحرر لغويا ومجتمعيا وقيميا، بما تنفثه في روعه من جرعات ذاتية عالية التكريز، تدفعه لأن يبني صورة له بعيدا عن الصورة التي ورثها عن ذاته من جماعته التي ينتمي إليها، يوحي له بذلك الاشمئزار من سؤال الهوية المتكرر والمرهق، والفرار من ذلك الصراع الهوياتي التي لا تنطفئ جذوته في الكثير من البلدان التي لا تزال تسكنها البُدائية.
ومن الطبيعي جدا أن المجتمعات ستجد صعوبة مع هذا الصنف من الأفراد الذاهب في الاتساع والانتشار، حيث تضعف قيم الولاء والانتماء، فبدلا من أن تتحدث عن هوية جامعة، سيذهب كل فرد بهويته بما يعني أن الهوية الجامعة لم تعد تمثل له شيئا، وقد لا يرتبط بها إلا من باب المجاملة للمحيط، ولو حدث وأن تحرر من ذلك المحيط، لترك معه تلك الهوية خلف ظهره.
ومع هذا الوصف الذي بيناه، تغدو الآليات التقليدية التي تتبعها الهيئات والجماعات والدول للحفاظ على الهوية وغرس قيمها، توريثا وتأصيلا، عاجزة أمام هذا الاجتياح الذي تقوده السوشيال ميديا على عناصرها، فتسرقهم منها إليها.
صحيح أن المدرسة والجامعة ودور الثقافة والجمعيات الأهلية، والأنشطة الشعبية، والأسر كبيرة وصغيرة، تسهم جميعا في الحفاظ على هوية المجتمع الواحد؛ إلا أن الواقع يفرض على الدول أن تسارع إلى دخول هذه المعركة بأدوات مختلفة تكون من جنس هذا المُحدَث الجديد، على أن لا يبقى هذا مرهونا بمبادرات شخصية، بل يجب أن يكون فعلا تتبناه المؤسسات الرسمية للدولة بما يمليه عليها واجب الحفاظ على هوية المجتمع الواحد.