يشير عنوان المقال إلى كتابين بارزين: الأول “نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” للمفكر المغاربي محمد عابد الجابري، والثاني “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” للمفكر المشرقي جورج طرابيشي.
محمد سعيد بوسعدية
صدر الكتاب الأول في سنة 1980، وكان بمثابة تمهيد للمشروع الجابري في نقده للعقل العربي حيث أصدر تباعا: تكوين العقل العربي؛ بنية العقل العربي؛ العقل السياسي العربي؛ العقل الأخلاقي العربي؛ ثم أنهى مشروعه بمدخل إلى القرآن الكريم، ففهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول.
أما الكتاب الثاني “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” للطرابيشي، فقد صدر في سنة 1993، وكان هو الآخر بمثابة مدخل إلى مشروعه الكبير في “نقد نقد العقل العربي”، حيث أصدر تباعا: إشكاليات العقل العربي؛ وحدة العقل العربي؛ العقل المستقيل في الإسلام، ثم ختم مشروعه بكتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة”.
1- الانطلاقة من محمد أركون وسؤاله: أين هو الفكر الإسلامي؟
وللأمانة العلمية، فإنّ فكرة وعنوان المقال مستوحاة من كتاب محمد أركون: “من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟”. ويشير عنوان كتاب أركون إلى كتابين مهمين لمفكرين بارزين من المفكرين الإسلاميين في عهد التأسيس والاجتهاد، وهما كتاب “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” لأبي حامد الغزالي، وكتاب “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” لأبي الوليد ابن رشد. ويدخل كتاب “فيصل التفرقة”، كما أشار إلى ذلك محمد أركون في مقدمة كتابه، في باب التنظير والمناظرة لإبراز معايير التفرقة بين ما أجمع عليه علماء أهل السنّة والجماعة من عقائد إسلامية مستقيمة، وهو ما يصطلح عليه بالأرثوذوكسية، وبين البدع والاعتقادات الطارئة المنحرفة عمّا يُسمّى “الإسلام”.
كان الغزالي قد تعرّض في “تهافت الفلاسفة” للمسائل الثلاثة وهي قدم العالم وعلم الله بالجزئيات وحشر الأجساد، وكفرّ الفلاسفة كما هو معلوم، ثم ألّف “فيصل التفرقة” ليبطل مناهج التأويل الباطني واستنتاجاتها.
وكان ناصري خسرو القبادياني قد دافع في كتابه “جامع الحكمتين” عن الموقف الفلسفي قبل هجوم الغزالي عليه، لكن الردّ الكامل والاحتجاج الفلسفي المتعمق عن آراء الغزالي وكتابيه المذكورين، لم يجرؤ أحد أن يأتي بهما قبل ابن رشد صاحب “تهافت التهافت” و«فصل المقال”، كما ذكر ذلك محمد أركون في كتابه.
وكما جاء في الغلاف الرابع للكتاب، فإنّ محمد أركون حاول من خلال العنوان أن يثير ذكرى الغزالي وابن رشد لكي يبين حجم الفارق بين جدية المناظرات الفكرية التي حصلت أثناء الفترة الكلاسيكية المبدعة من تاريخ العرب والإسلام، وبين الوضع المؤسف الذي تردّى إليه الفكر الإسلامي المعاصر. وهو بهذه الإثارة لا يقصد الرجوع إلى تبني مواقفهما الفكرية وتطبيقها على العصر الراهن، فهذا مستحيل منهجيا، باعتبار أنّ أدواتهما المعرفية ورؤياهما للوجود تنتمي إلى الفضاء العقلي والمعرفي القرنوسطي، ولكن ما يتبناه أركون هو روحهما الفكرية القلقة والجادة في البحث عن الحقيقة والتي تبقى ملهمة لنا.
وتساؤل أركون عن الفكر الإسلامي المعاصر هو نتيجة منطقية للحقبات المعرفية التي عرفها الفكر العربي- الإسلامي من مرحلة التشكيل إلى يومنا هذا كما جسّدها في كتابه “الفكر العربي”. وتتمثل هذه الحقبات في الحادث القرآني؛ تشكل الفكر العربي؛ الفكر الكلاسيكي، الفكر السكولاستيكي والمحافظة على القيم؛ انبثاق الحداثة: اتجاهات النهضة واتجاهات الثورة. وكان أركون ألّف هذا الكتاب في سنة 1975، أي قبل بروز ما يعرف “بالصحوة الإسلامية” في بداية العقد الثامن من القرن الماضي، ولذلك لم يخصص فصلا لأدبيات الإسلام السياسي رغم إرهاصاتها التي بدأت تنتشر في الخمسينيات من القرن الماضي، لذلك أنهى أركون كتابه بالفكر الثوري، أو بما يسمى فكر إيديولوجية الكفاح.
لكن هذا الفراغ في الحقب المعرفية استكمله أركون في حواره مع مترجمه هاشم صالح والمنشور كملحق في كتاب “قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟”، حيث يجيب أركون عن سؤال محوري له علاقة بموضوع الحقب المعرفية محتواه: أنت تضع مشروعك العام تحت عنوان “نقد العقل الإسلامي”، فما الذي تقصده بذلك؟
يجيب أركون: أقصد إعادة تقييم نقدي شامل لكل الموروث الإسلامي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم. (الحوار أجراه هاشم في سنة 1996). ويميز أركون في حواره هذا بين عدّة مراحل أو حقبات معرفية أساسية وهي: (هنا طبعا أركون يعود إلى كتابه الفكر العربي المذكور آنفا ولكن مع توسيع الحقبات أي قام بتحيينه).
-مرحلة القرآن والتشكيل الأولي للفكر الإسلامي؛
– مرحلة العصر الكلاسيكي، أي عصر العقلانية والازدهار العلمي والحضاري؛
-مرحلة العصر السكولاستيكي، التكراري والاجتراري، أو ما يدعى بعصر الانحطاط؛
-مرحلة النهضة في القرن التاسع عشر وحتى الخمسينيات من القرن الماضي؛
-مرحلة الثورة القومية ويربطها أركون بثورة الضباط الأحرار في مصر إلى غاية وفاة جمال عبد الناصر؛
-مرحلة الثورة الإسلامية التي تمتد من سنة 1970 إلى يومنا هذا. (أي أضاف الثورة الإسلامية كحقبة جديدة للحقبات المعرفية التي ذكرها في كتابه “الفكر العربي”، وهو بذلك يقصد فكر أقطاب الحركات الإسلامية بكل اتجاهاتها).
ويرى أركون في كتابه “من فيصل التفرقة إلى فصل المقال” في الفصل الثامن المعنون: “كيف نتحدث عن الحركات الإسلاموية؟” أنّ أدبيات الإسلام السياسي لا يحيلنا على الإسلام كدين أو كتراث فكري، وإنما يحيلنا إلى مقدرة كل إيديولوجيا كبرى على تحريك المتخيل الاجتماعي وتغذية لهيبه؛ فهو يمثل كمًّا هائلا من الاحتجاجات والمطالب والتركيبات الإيديولوجية وأحلام اليقظة الجماعية والهلوسات الفردية.
2- من “نحن والتراث” إلى “مذبحة التراث”
كما أبرز أركون السجال الفكري بين الغزالي وابن رشد، عملتُ عبر هذه المقالة على إبراز السجال الفكري بين الجابري والطرابيشي، وذلك ليس من أجل العودة إلى محتوى هذا الجدال الذي يبقى سياقه من إفرازات النكسة العربية، وإنّما لإظهار التصحر الفكري الذي أمست تعيشه الساحة الفكرية العربية وتبيان أسبابه السياسية والمعرفية، وذلك منذ مغادرة أقطاب الفكر العربي الحياة البيولوجية، وخاصة منذ ما يسمى بالربيع العربي.
فمن خلال كتاب مذبحة التراث، وبغض النظر عن الانتقادات التي طالت ممثلي التيارات الفكرية العربية (الماركسية، – اليسارية، – القومية العلمانية، – القومية الإسلامية، – العلموية البراغماتية، – العلموية الإبستمولوجية) التي كانت تعبر، حسب طرابيشي، عن مأزق الإيديولوجيات الثورية وفشلها بعد هزيمة 1967، وهو الأمر الذي دفع بهؤلاء المفكرين إلى الارتكاس إلى التراث للصراع حوله وتبني طرف فيه ضد آخر أو لتحويله إلى إيديولوجيا تراثية خاصة، برغم كل ذلك كانت الساحة الفكرية العربية بمختلف مدارسها ثرية ومنتجة للفكر، محدثة بذلك سجال فكري بين أقطابها تنم عن قلق وجودي وتتسم بروح البحث عن الحقيقة وأسباب الركود والهزيمة رغم اختلاف توجهاتها الفكرية.
هكذا برزت التيارات الفكرية اليسارية أو الماركسية التي كانت تحت وطأة الناصرية والبعثية والتي جسّدها الطرابيشي في كتابه بعيّنتين: الأول سمير أمين وهو الماركسي السائل صاحب كتاب: “أزمة المجتمع العربي”، وتوفيق سلوم الماركسي الصلب صاحب كتاب “رؤية ماركسية للتراث العربي”. بالإضافة إلى هذين العيّنتين يمكن ذكر صادق جلال العظم صاحب كتابي: “نقد الفكر الديني” و«دفاعا عن المادية والتاريخ” على سبيل المثال لا الحصر.
أما التيار الفكري القومي، فقد جزأه طرابيشي في كتابه إلى شطرين: الأول قومي- علماني جسّده زكي الأرسوزي وهو سوري بعثي عاصر عهد النهضة، وصاحب كتاب “العبقرية العربية في لسانها”، والثاني قومي- إسلامي جسده محمد عمارة صاحب كتابي: “نظرة جديدة إلى التراث”، و«العرب والتحدي”.
فيما يخص التيار الثالث والموسوم بالعلميين أو العلمويين، يشير طرابيشي أنه من البديهي أن البراءة الإيديولوجية في الدراسات العلمية في حقل الإنسان والتاريخ مستحيلة، وباستثناء بعض المقاربات التقنية البحتة فإنه يتعذر ألّا تكون الدراسات التراثية مسكونة بهاجس الإيديولوجية. ويشير طرابيشي إلى حسين مروة صاحب كتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” كمثال للدراسات المنهجية المسكونة بهاجس إيديولوجي ومع ذلك يعترف طرابيشي أن مروة لم يشارك في المجزرة النظرية للتراث عن طريق الإصرار على الرؤية الكلية والمتكاملة للتراث، فيما يستثني محمد أركون من المشاركة في هذه المجزرة رغم أنّ أركون كان صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي كما كان الجابري صاحب نقد العقل العربي، كما سبق القول.
على نفس الوتيرة يختار طرابيشي عينتين من هذا التيار، الأول وهو النموذج العلموي البراغماتي وجسده زكي نجيب محمود صاحب كتاب “تجديد الفكر العربي” و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري” والثاني هو النموذج العلمي الإبستمولوجي وجسده الجابري في مشروعه الضخم “نقد العقل العربي” بمختلف أجزائه وعناوينه. وكما سبق القول، اختار طرابيشي مشروع الجابري ليدخل معه في سجال فكري ويبني مشروعه التراثي الموسوم بنقد نقد العقل العربي.
أمّا التيار الرابع والذي تجنبه طرابيشي لأسباب لم يذكرها بالتفصيل في كتابه مذبحة التراث فهو التيار السلفي- الإسلامي، ومن الواضح أنّ طرابيشي يدمج ضمن هذا التيار كل الحركات الإسلامية، سواء كانت إخوانية أو سلفية (حركية أو علمية) أو تبليغية (من جماعة التبليغ) أو تحريرية (من حزب التحرير)… وبغض النظر عن الأسباب التي دفعت طرابيشي إلى عدم الاهتمام بالتيار السلفي- الإسلامي، يبقى رغم ذلك فاعلا إيديولوجيا أساسيا أثرى الساحة العربية والإسلامية بأدبيات فكرية، وبمقاربات ورؤى للتراث، استغلّها معرفيا وإيديولوجيا في سجلاته الفكرية مع التيارات المنافسة. نشير أنّ الفكر السلفي- الإسلامي ليس فقط إفرازا للصحوة الإسلامية التي ظهرت في الثمانينات كما يرى البعض، ولكن تأريخه يعود إلى فترة الإصلاحيين في القرن 19، مرورا بالحركيين مع ظهور جماعة التبليغ وحركة الإخوان المسلمين في العقد الثاني من القرن العشرين.
إذن، تراوح الفكر العربي، خاصة بعد النكسة – حسب كتاب طرابيشي- بين التيار الماركسي والتيار القومي بشقيه العلماني والإسلامي والتيار الفلسفي العلموي بشقيه البراغماتي والإبستمولوجي، إلى جانب التيار السلفي- الإسلامي. وكان التراث العربي الإسلامي مسرحا لحرب بديلة لا تقل ضراوة وعمقا عن تلك التي شهدتها الساحة الإيديولوجية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
3 – من نكسة 1967 إلى نكسة الربيع العربي 2011: ماذا بقي من الفكر العربي المعاصر؟
إذا كانت نكسة 1967 أنتجت لنا صراعا إيديولوجيا بين التيارات السياسية المختلفة (الناصرية-البعثية-اليسارية-القومية-الإسلامية) والتي جسّدتها المدارس الفكرية السابقة الذكر في مناظراتها الفكرية وسجالاتها الأدبية، فإنّ نكسة الربيع العربي – رغم مرور عقد من الزمن على أحداثه ومآلاته ومخرجاته – لم تكن بمقدورها إحداث سجال فكري ولا حوار أدبي بمستوى الجدال الذي حدث بعد نكسة 1967.
لا ننفي ظهور بعض الدراسات تخصّ مسارات ومخرجات الربيع العربي من قبل باحثين مستقلين ومن بعض الدوائر الأكاديمية والمراكز البحثية المؤدلجة؛ فهناك دراسات ترى في الربيع العربي مؤامرة خارجية: كـ«الربيع العربي .. ثورات أم مؤامرات” لعلي كريم حسن؛ و«متلازمة أمريكا، هل هو ربيع عربي أم سايكس بيكو جديدة؟” لصلاح المختار؛ و«فبراير: خدعة الثورة وحقيقة المؤامرة” لمصطفى الفيتوري؛ و«أمريكا والربيع العربي، خفايا السياسة الأمريكية في المنطقة العربية”؛ لجيهان عبد السلام عوض.
دراسات أخرى ربطت الربيع العربي بالحركات الإسلامية؛ البعض منها ترى دورها إيجابي في تحقيق تطلعات الشعوب العربية التواقة إلى الحرية والديمقراطية، والبعض الأخرى ترى دورها سلبي، حيث قفزت على نتائجه وأهدرته في المهد. من هذه الدراسات نذكر: “الإسلاميون وتحديات الحكم في أعقاب الربيع العربي” وهو كتاب جماعي من تحرير حامد القويسي وعصام البشير وجواد الحمد؛ و«وثائق الربيع العربي والصحوة الإسلامية” لحسن محمد الزين؛ و«ثورات الربيع العربي وتأثيرها على الإسلام السياسي وعمليات الإصلاح في الوطن العربي” لميلاد مفتاح الحراثي ومحمد عبد الغفور الشيوخ. لا نغادر جو هذه الدراسات دون ذكر كتاب عبد الإله بلقزيز المعنون “ما بعد الربيع العربي أسئلة المستقبل”؛ وكتاب عزمي بشارة المعنون “الثورة التونسية المجيدة: بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها”؛ وكتاب هاشم صالح المعنون “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ”، وهو خلاصة لعدد هام من الكتابات والنظريات الغربية والعربية التي تعاطت مع الربيع العربي.
هذه نماذج من دراسات وأبحاث قام بها باحثون نعتقد أنهم مستقلون، ومهما كان فهم يعبرون عن رؤية إيديولوجية لأحداث سياسية لازالت آثاره سارية المفعول إلى يومنا هذا، وذلك على غرار مؤلفي عبد الإله بلقزيز وهاشم صالح، وأخرى تبقى مؤدلجة تابعة لمراكز بحثية على غرار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يرأسه عزمي بشارة. ونحن إذ نثمن هذه المجهودات البحثية والفكرية في سياقاتها العربية، نعتقد من وجهة نظرنا، أنها لم ترتق لمستوى الفكر العربي الكلاسيكي أو النهضوي ولا الكفاحي الإيديولوجي بتعبير أركون. فأغلب الدراسات لازالت تحوم وراء حجج المؤامرات الخارجية والداخلية بدل البحث عن أركيولوجيا المجتمعات العربية التي لازالت تعيش عصر ما قبل الدولة.
4 – سقوط الإيديولوجيات، بروز الهويات القاتلة والتقوقع في إطار الدولة-الوطنية
لا نعود في هذه الفقرة إلى كتاب فوكوياما “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، ولا إلى كتاب صامويل هنتنغتون “صراع الحضارات”، ولا أيضا إلى كتاب أمين معلوف “الهويات القاتلة”. نريد فقط استقراء واقع الفكر العربي والأوضاع السياسية للمجتمعات العربية في العقد الأخير، خاصة بعد أحداث الربيع العربي.
4-1 سقوط المدارس الإيديولوجية أو السرديات الكبرى في الساحة العربية
أول سقوط مدوي للإيديولوجية العربية مسّ الناصرية والقومية-البعثية بعد نكسة 1967، ولو أن إرهاصات هذا السقوط تعود إلى فشل الوحدة العربية بين مصر الناصرية وسوريا القومية في سبتمبر 1961. كان الحلم الناصري والقومي-البعثي يتمحوران حول الوحدة العربية سياسيا من المحيط إلى الخليج، واسترجاع فلسطين التاريخية من الكيان الصهيوني، فجاءت نكسة 67 كضربة موجعة وقاسية لهذا الحلم لتعيد النظر في تطلعات هذه الإيديولوجيات، خاصة الناصرية التي أخذت في الأفول بعد موت جمال عبد الناصر، وقُبرت تماما بعد زيارة الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة.
حاول اليسار الماركسي والإسلامي-الإخواني على الخصوص سدّ الفراغ الإيديولوجي الذي مسّ التيار الناصري وزعزع التيار القومي-البعثي، وحاولت السلط العربية من جهتها إعادة البناء الفكري والإيديولوجي للمجتمعات العربية بالاعتماد على التيار الإسلامي لقبر الناصرية كلية من جهة، ومجابهة اليسار الماركسي الذي استعاد أنفاسه هو الآخر بعد نكسة 67، من جهة أخرى.
لم يستطع التيار اليساري-الماركسي احتلال مكانة مرموقة في المجتمعات العربية حتى في المقرات النخبوية كالجامعات والمعاهد العليا. إرهاصات سقوطه بدأت مع الثورة الإيرانية التي شارك فيها اليسار الإيراني بكل تشكيلاته، إلا أنّ الغلبة رجعت إلى رجال الدين الشيعة وعلى رأسها الإمام الخميني الأمر الذي أعطى دفعا للتيار الإسلامي الحركي العربي رغم التباين العقدي بين الخمينية الشيعية والحركات الإسلامية العربية ذات الأغلبية السنية. جاء “الجهاد الأفغاني” ضد “الإمبراطورية الماركسية”، وصعود الوهابية إلى مسرح الأحداث العربية، وبروز الصحوة الإسلامية ليزيدوا الطين بلة على التيار اليساري-الماركسي الذي عرف الموت السريري بسقوط الاتحاد السوفيتي.
لم يبق في الساحة العربية إلّا السردية الإسلامية كإيديولوجية سياسية لازالت تحلم في خطاباتها باسترجاع الخلافة وقيام الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد لاقى هذا الخطاب الإيديولوجي رواجا لدى الشعوب العربية بعد أحداث الربيع العربي كما تؤكده الدراسات المشار إليها سابقا، وهذا ما حصل بالخصوص في كل من مصر وتونس والمغرب، حيث وصل التيار الإخواني إلى سدة الرئاسة والحكومة عن طريق الانتخابات. إلّا أنّ تسارع الأحداث السياسية في هذه البلدان أفشل المشروع الإسلامي الإخواني الذي عرف تراجعا سواء عن طريق القوة (حالة مصر) أو عن طريق الانتخابات (حالتي تونس والمغرب).
إنّ سقوط السرديات الكبرى بمختلف تشكيلاتها يكون قد أثّر سلبيا على الفكر العربي المعاصر الذي عرف شللا وانطواءً فكريا، رغم أنّ هذا السقوط يمثل في حدّ ذاته مادة أدبية للسجال الفكري لدى النخبة العربية للبحث عن الأسباب والنتائج واقتراح الحلول المناسبة.
4-2 بروز الهويات القاتلة في الساحة العربية
سقوط الإيديولوجيات الكبرى في الساحة العربية أنتج في المقابل هويات دينية-طائفية وأخرى عرقية قاتلة بتعبير أمين معلوف. لقد استطاعت السرديات العربية الكبرى فيما مضى أن تجمع بين المسلم والمسيحي والشيعي والسني والماروني والقبطي والعربي والكردي والأمازيغي والإفريقي. فحتى في بلد طائفي مثل لبنان أو عرقي مثل السودان، كانت الناصرية أو البعثية-القومية على سبيل المثال تجمع بين الماروني والمسلم وبين الشيعي والسني والدرزي في حالة لبنان، وبين العربي والإفريقي في حالة السودان.
لقد تقوقعت الطوائف الدينية والعرقية حول شيوخها وقياداتها التي راحت تستغل الأوضاع المزرية لكسب مواقع سياسية وريوع اقتصادية في ظلّ الدولة-الوطنية، وأنتجت بذلك وعيا مغايرا وفكرا طائفيا وعرقيا خطيرا على وحدة كيان الدولة-القومية، وأمست سببا للشقاق وانحلال الدولة وتقسيمها، كما حدث بالسودان الذي فقد جنوبه بعد أن كان الاتجاه القومي-العربي يحلم بالبقاء مع مصر لتكوين دولة النيل الكبرى غداة الاستقلال.
4-3 التقوقع في ظلّ الدولة الوطنية والحفاظ عليها
يتفق التياران القومي والإسلامي في أدبياتهما السياسية على أنّ الدول الوطنية العربية هي من إفرازات الاستعمار الغربي واتفاقيات سايكس بيكو، بينما يختلفان في مشروعها السياسي في إعادة بناء ما فوق الدولة-الوطنية (supranationale). كان حلم القوميين يتمثل في توحيد العرب من بغداد إلى نواكشوط تحت قيادة موحدة، فيما كان حلم الإسلاميين يكمن في إعادة إحياء الخلافة ونقلها إلى عاصمة عربية، بعد أن أسقطها وألغاها أتاتورك في اسطنبول.
صورة الواقع العربي مغايرة تماما للحلمين القومي والإسلامي، فنظرة خاطفة على الجامعة العربية التي تضم 22 دولة، نلاحظ أنّ أنظمتها السياسية متباينة ومختلفة، تتراوح من الملكية المطلقة إلى الملكية شبه النيابية، ومن نظام رئاسي مغلق إلى نظام رئاسي شبه نيابي، ومن نظام مركزي-يعقوبي إلى نظام فيدرالي، وهو الأمر الذي يصعب من كل محاولة توحيدية للأقطار العربية حتى كأقطاب جغرافية. الوضع السياسي ازداد تعقيدا بعد أن أصبحت بعض الدول الوطنية العربية تعيش شقاقا يهدّد وحدتها كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن ونسبيا في العراق. دفع هذا الوضع بالنخبة العربية إلى التقوقع فكريا في ظل الدولة الوطنية قصد الحفاظ عليها من كل محاولة لتشتيت الوطن إلى دويلات كما حدث مع جنوب السودان ومازال قد يحدث مع غربه في منطقة دارفور وهي حالة ما تحت الدولة الوطنية (infranationale).
سيشهد الفكر العربي المعاصر – إن وُجد – انقساما وتشتيتا قياسا إلى تعدّد الدول العربية، وقد تتطور إلى أقطاب خليجية وشامية ونيلية (نسبة إلى واد النيل) ومغاربية وهو الحد الأقصى الذي يمكن الحلم به مستقبلا رغم أنّ العرب يمثلون كتلة جغرافية وتاريخية وثقافية-دينية-لغوية واحدة.