بدءًا، وبصورة وامضة ومكثفة وصاعقة، يقول الإمبراطور والحكيم الروماني ماركوس أوريليوس في الكتاب الخامس من تأملاته “لا تعد إلى الفلسفة كما يعود الطفل إلى المعلم، بل كما يعود الأرمد إلى إسفنجه ومرهمه، أو يعود آخر إلى كمادته وغسوله. بذلك سوف تبرهن على أن طاعة العقل ليست عبئا كبيرا، وإنّما هي مصدر راحة تذكر أيضًا أن الفلسفة لا تريد إلا ما تريده طبيعتك، في حين تطلب أنت شيئًا يجافي هذه الطبيعة. فأي شيء أدعى إلى القبول من حاجات طبيعتك نفسها؟ هذه هي ذات الطريقة التي تخدعنا بها اللذة ولكن انظر، ألست ترى شيئًا أكثر قبولا من الشهامة والكرم والاتزان والتقوى؟ وأي شيء أكثر قبولاً من الحكمة ذاتها إذا كان ما يهمك هو التدفق المطمئن والدائم لملكتنا الخاصة بالفهم والمعرفة؟.
أ.د بشير ربوح
على هدي هذا التأمل النافذ في التاريخ، انخرط مفكرنا إدوارد وديع سعيد في مسعى فكري هو على درجة عالية من الطرافة والإبداعية المذهلة، عمل فيه على العودة إلى الفلسفة، بعد أن اختبر ذاته معرفيا في فضاء النقد الأدبي، واجتهد في استيعاب الممارسة المفاهيمية للنصوص الأدبية في مختلف تمظهراتها، وكان على دربة مكينة من مناهجها وطرائقها، مكنته من امتشاق الأفق النقدي، والتحكم في تقنياته المتجددة باستمرار.
يمكن الإقرار أولا، بأن إدوارد سعيد ينتمي من جهة الاشتغال المعرفي إلى مجال خاص هو فضاء النقد الأدبي؛ فقد كان أستاذا في هذا التخصص الأكاديمي لمدة قاربت أربعين سنة في جامعة كولومبيا، وكان فيها منشغلًا بالسيرة الذاتية للأديب الإنكليزي البولوني الأصل جوزيف كونراد (1857 – 1924) وعلاقة سيرته بنتاجه الروائي القصير، تحت إشراف أستاذه هاري ليفين الذي تأثر كثيرا بنظرية الناقد الألماني إريش أورباخ، وبكتابه المحاكاة: تمثيل الواقع في أدب الغرب (Mimesis: The Representation of Reality in Western Literature) لأن: كتاب أورباخ هو الأوسع مدى والأبعد طموحًا بما لا يقاس بين جملة المؤلفات النقدية المهمة جميعها خلال نصف القرن الماضي؛ فمداه يغطي عيون الأدب، بدءًا بملامح هوميروس والعهد القديم وانتهاء بإبداعات فيرجينيا وولف ومارسيل بروست.
وتشكل رواية كونراد قلب الظلام (Heart of Darkness) النص التمهيدي لأغلب الدراسات ما بعد الكولونيالية، كما يشير إلى ذلك الباحث الهندي هومي بهابها، إلى جانب رواية الأديب العربي الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وفي مختلف متون النصوص الأدبية مثل: ألبير كامي وفلوبير ورايمون ويليامز و شاتوبريان وفرانتز فانون وجين أوستن وكاثرين مانسفليد وتوماس هاردي وروديارد كيبلنغ وأندريه جيد وأندريه مالرو، أو في عمل عايدة الأوبرالي، وفيها التقى إدوارد سعيد بمجموعة من المفردات ذات الحمولة الفلسفية التي هي في حاجة ماسة إلى تقعيد معرفي أصيل، يخرجها من تهلهلها ويضعها في أفقها الفلسفي، بحيث يدلّ ذلك على أن النص الأدبي يحمل هما ثقافيًا ورؤية معرفية، ويختزن بداخله معان قابلة للاستشكال والمفهمة والاستثمار، خاصة على مستوى الرؤية. ومن هنا، كان النص الأدبي نصا ثقافيا حاملًا أنساقا هي أنساق التمثيل، وهذا النص لا يخلو من (أنين) هو أنين التمزق المطلق كما يسميه هيغل، وأنين الترهل الإنساني الذي صوره صمويل بيكيت وأنين عمل الحلم الذي تحدث عنه فرويد.
في هذا الوضع، لم يكن غريبا على إدوارد سعيد أن يتحرك بعدته المعرفية صوب الفلسفة، ليس من أجل امتلاك ناصية التفلسف بالمعنى الأكاديمي الخالص، بغية تشييد نسق رؤيوي أو تقديم نموذج معرفي ينتصب كمنظورية شاملة لها مقدرة تفسيرية وتسويغية، بل يجتهد لكي يغدو أحد تقنيي الفلسفة الذين كان لهم الفضل الكبير في إدخال الفلسفة إلى فضاء الأدب ومنحه الثقل المعرفي، بحيث يقوم بتمتين الخلفية المعرفية للممارسة الأدبية، خاصة من جهة النقد. ونحن نعلم أن أغلب الفلاسفة الكبار اشتغلوا في حقل الأدب مثل: أفلاطون وبروتاغوراس وأرسطو في أثناء مرحلة تدريسه في الأكاديمية، ونيتشه وهيغل وهايدغر وسارتر وسيمون دوبوفوار، وكان لهذا الاشتغال الأثر الرائع في إثراء الخطاب الفلسفي باللغة والمجاز والأسلوب أيضًا، وبالمفردات المكثفة، وفي الضفة الأخرى هناك نزوح معرفي وأدبي نحو حقول الفلسفة، مثلما حدث مع عبد الوهاب المسيري ورولان بارت وتزيفيتان تودوروف ونعوم أنوم تشومسكي وجوليا كريستيفا وإدوارد سعيد الذي عثر في الفلسفة على ضالته، ووجد مستقره المعرفي؛ إذ بدأ بصورة متصاعدة وحلزونية في الاستثمار المفهمي للمناهج والرؤى والمفاهيم، وهنا وقف يقظا أمام هذا الزخم اللامتناهي من منجزات الفلسفة، ومرتحلا في خطابات التفكر الفلسفي المتعددة والمتجددة، وقد تأبط ملفًا زاخرا من مفردات الأدب، مثل: مفردة (الشرق) التي التقطها من رواية بنجامين دزرائيلي تانكرد (Tancred) حينما وصف الشرق بأنه صنعة، تلتها مفردات الخيال والسرد والثقافة والإمبريالية والآخر والتابع والهوية والتحرر والشرقي الكسول والمترهل والأصلاني والنص والخطاب….
بهذا التزاوج المعرفي بين الفلسفة والأدب في تجربة إدوارد سعيد، أصبح سعيد ضيفًا دائما على التفكر الفلسفي، وبدأ في معاشرة النصوص الفلسفية في مختلف ضروبها، ومن صلب التزاوج نتج النص الإدواردي الذي حمل كلّ هذا الإشراق اللغوي والوهج التعبيري والمجاز الاختراقي، وكان سعيد في الوقت ذاته الفرصة السانحة لتمتين رؤيته المعرفية للاستشراق والثقافة والإمبريالية والمثقف والنقد والقراءة والنص والأنسنية.. وغيرها من مكونات الشبكة المفاهيمية التي اشتغل عليها سعيد وكرس لها جهدًا كبيرًا في الارتقاء بها إلى مستوى عال من التأصيل العلمي.
مساوقة لهذا الحديث الذي يشير إلى وجود إقرار صريح بتعالق التفكر الفلسفي والإبداع الأدبي، يتنزل النص الإدواردي، بحيث جلب سعيد معه حزمة مفهومية أدبية، لكنّها بأفق فلسفي، ومنه اصطدم بنصوص جيامباتيستا فيكو وميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي وتيودور أدورنو وكارل ماركس، وغيرهم من أهل التفلسف المبدع. لكن ما هو الشيء أو الأشياء المهمة التي عثر عليها إدوارد سعيد في فضاء التفلسف؟ وكيف أمكن له أن يرحل هذه الشبكة المفاهيمية العسيرة والملغمة من حقولها ومحاضنها التي تشكلت فيها وأخذت صورتها واستقرت على محتوى معرفي معين إلى فضاء النقد الأدبي الذي هو بدوره، حامل شرائط مخصوصة، وله تيماته السافرة والضمنية، وله كذلك سدنته وكهانه؟ وهل بالإمكان أن يأمن سعيد من شراك المفاهيم الفلسفية؟ وإلى أي حد معرفي استطاع أن يقيم جدلاً مثمرا بينه وبين الفلاسفة؟
على سبيل المقاربة
إن الأمر على درجة مرتفعة من الخطر الحدّي، وليس من اليسر أن يدخل سعيد في هكذا معركة بين الأدب والفلسفة، فإما أن يسقط في شرك الفلسفة، وإما أن يحتفظ بمكتسباته السابقة ويحترم مباشرة شرط التماسف، ولكن هي في حقيقة التوجه معركة مع الذات المعرفية الحديثة، بمعنى أن سعيد مقبل على فهم واستيعاب وتفكيك رؤية معرفية مبثوثة في المتن الفكري الغربي، أي إنه بدأ استشعار وجود المفاهيم، وشعر بمسؤولية تتبعها ومعرفتها والوقوف على حمولتها المعرفية، وطريقة اشتغالها والآليات التي تتحكم فيها، وهذا هو الأهم، أي الوعي بنسابيتها، وفق التصور النيتشوي، ثم النبش في المستوى الأركيولوجي تمشيا – وبصورة محدودة – مع القراءة الفوكوية للخطاب، من دون الاكتراث بطبيعة النص وانتمائه؛ إذ إنه اكتشف أن مفهوم الشرق حيثما وجد في الوعي الغربي، انتهى به الأمر إلى اكتساب مجال واسع من المعاني، والتداعيات، وظلال المعاني، وأن هذه لم تكن تشير بالضرورة إلى الشرق الحقيقي، بل إلى المجال الذي يرتبط بمحيط الكلمة، مؤكدًا مُسلّمة خطيرة جدًّا على مستوى الرؤية والمنهج معا، وهي أن الشرق كمفهوم ليس من صنع المخيال الغربي الذي نتج بدوره من رؤية نابعة من براديغم مفرط في ذاتوية منتشية بقوتها، ومتعالية ومستغرقة في نرجسيتها تطوف حول نفسها، إذ من المخادعة الاعتقاد بأن الخيال وحده قد فرض خلق صورة الشرق، بل هو من صنع خطاب القوة، خطاب يجمع في جوفه معنى المقدرة على استثمار واستغلال المعرفة المنتشرة في فضاء الدراسات الشرقية، تعتمل فيه إرادة القوة بالصورة النيتشوية، لأن شرط الدراسة الحديثة هو: تفهم الأفكار والثقافات والتاريخ، أو دراستها دراسة جادة، دون دراسة القوة المحركة لها، أو بتعبير أدق دون دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها؛ دراسة هشة على مستوى التحليل، لا تستطيع إنجاز الإنساء المنشود.
يمكن أن نلمس مدى رغبة الغرب في نقل هذه الصورة من مجال الخيال إلى أفق السيطرة بحيث جرى تنميط هذه الصورة أو المفهوم / الصورة، فهي صورة صُنعت في الغرب وشكلت في مختبراته الذهنية، وجرى إخضاع الشرقي لهذه الصورة ووضعه في هذا القالب المتخيل فلا يكاد أحد يوافق على أن مقابلة الروائي الفرنسي فلوبير مع غانية مصرية هو الذي أخرج نموذج المرأة الشرقية الذي امتد تأثيره واتسع نطاقه، ولكن هذه المرأة لم تتحدث مطلقًا عن نفسها، ولم تُصوّر قط مشاعرها أو تُعبر عن وجودها أو تاريخها، بل إنه هو الذي تحدث باسمها وصورها. وكان هو أجنبيًا، يتمتع بثراء نسبي، وكان رجلا، وهذه جميعا حقائق تاريخية مكنته من فرض سيطرته ومكنته لا من امتلاك كشك هانم جسديًا فقط بل أيضًا من التحدث باسمها، واطلاع قرائه على جوانب تمثيلها للمرأة الشرقية، والحجة التي أطرحها هنا هي أن موقع القوة الذي كان يحتله فلوبير إزاء كشك هائم، لم يكن حالة فردية، بل إنه يمثل بصدق القوى النسبية بين الشرق والغرب، ويمثل الخطاب الخاص بالشرق الذي نشأ بفضل موقع القوة المذكور.
لسنا هنا بصدد الحديث عن دراسة سعيد بشأن الخطاب الاستشراقي، وإنما نرمي إلى النبش عن تلك المهمة التي غدت عند سعيد قرارًا استراتيجيا في فهم سريان الاستشراق كخطاب متماسك يعلو على نصوص الأدب والثقافة والفلسفة، ويتحكم في طريقة اشتغالها وخضوعها لمنطق مهيمن قابع داخل الخطاب، وعلى أساس ذلك التقى سعيد بالمفكر الفرنسي فوكو (1926 – 1984)، بعد أن صفی حسابه نهائيًا مع مسألة النصوص الاستشراقية؛ فهو لا يشتغل عليها بحثا عن مدى صدقيتها أو اقترابها من الواقع، أو حتى إمكانية البحث عن حكم معياري نجعله مرجعًا في تقييم هذه النصوص، وإنما يتعالى عليها، متقصيًا عن وحدتها التي مكنتها من هذا الصمود المعرفي.
ويقر سعيد بمدى استفادته من الفكرة التي طرحها ميشيل فوكو عن الخطاب على نحو ما عرضها في كتابه “علم آثار المعرفة” وكتابه الآخر (التأديب والعقاب) في تحديده لمعنى الاستشراق، والحجة التي أطرحها تقول إننا ما لم نفحص الاستشراق باعتباره لونا من ألوان الخطاب، فلن تتمكن مطلقا من تفهم المبحث البالغ الانتظام الذي مكن الثقافة الأوروبية من تدبير أمور الشرق – بل وابتداعه – في مجالات السياسة وعلم الاجتماع، وفي المجالات العسكرية والأيديولوجية والعلمية والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير.
يستمر مسار سعيد في التحاور مع المنجز الفوكوي، بحيث يقاسمه فكرة أن الخطاب في مساره شيء في غاية البساطة؛ إذ يقول فوكو عن الخطاب إنه في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال القمع التي تلحقه تكشف باكرًا وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة، أي إن آليات الاشتغال تبدي مدى مقدرته التحكمية في تحريك النصوص باعتبارها نتاجا لثقافة مسجونة داخل قفص الإمبريالية، فما هو مساير للخطاب يدرج ضمن الحقيقي، وما هو خارجه تنزع عنه صفة الحقيقة الجليلة، لأنه يحتوي على مجموعة من الطرائق المنظمة، من أجل الإنتاج والقانون والتوزيع والتداول، واستعمال المنطوقات.
إن الحقيقة مرتبطة دائريًا بأنساق السلطة التي تنتجها وتدعمها وبالآثار التي تولدها والتي تسوسها، وهو ما يدعى بـ«نظام الحقيقة”، وبهذا يتحرك الخطاب، خصوصا عندما تظهر قضية مزعجة له على مستوى نظامه الرؤيوي؛ إذ يسرد سعيد قصة فكرة التمثيل التي غدت مفهوما أثيريًا لدى الغرب بحسبانها مكوناً مفصليا في الخطاب الغربي وكلّ تمرد على هذا الحقيقي يؤدي إلى تشغيل ماكينة الخطاب بالإقصاء والطرد والطمس والتقزيم، فقد أحدث في مثل آخر عام 1986، خلال البث والمناقشات اللاحقة لبرنامج وثائقي عنوانه الأفارقة، كانت البي بي سي أصلا قد كلفت بإعداده وقدمت معظم تمويله. وقد كتب السلسلة وسردها باحث متميز وأستاذ للعلوم السياسية في جامعة ميشيغن هو علي مزروعي، وهو كيني ومسلم تسمو كفاءته ومصداقيته كجامعي ثقة من الدرجة الأولى على كل مساءلة وريبة. وكانت لسلسلة مزروعي مقدمتان منطقيتان: الأولى، أنه للمرة الأولى في تاريخ تهيمن عليه تمثيلات الغرب لإفريقيا يقوم إفريقي بتمثيل نفسه وتمثيل إفريقيا أمام جمهور غربي، وهو بالضبط الجمهور الذي قامت مجتمعاته لبضع مئات من السنين بنهب إفريقيا، واستعمارها، واستعبادها، والمقدمة المنطقية الثانية هي أن تاريخ إفريقيا مكون من ثلاثة عناصر أو، بلغة مزروعي ثلاث دوائر متحدة المركز، التجربة الأصلانية الإفريقية، وتجربة الإسلام، وتجربة الامبريالية.
…
بداية، سحب الصندوق القومي للإنسانيات دعمه المالي لبث هذه الحصة الوثائقية، رغم أن السلسلة بثت على قناة الـ«بي بي سي” على أي حال. ثم إن الـ نيويورك تايمز، وهي الصحيفة العمومية الأولى، نشرت مقالات متوالية تهاجم السلسلة.. وأنه (الحديث موجه لمزروعي) يمارس الإقصاءات والتأكيدات العقائدية.. وأنه يبالغ مبالغة ضخمة في تصوير شرور الاستعمار الغربي.. فها هو ذا، في نهاية المطاف، شخص أفريقي على شاشة التلفاز الغربي، في فترة البث الرئيسية، يتجرأ على اتهام الغرب بما كان قد فعله معيدًا فتح ملف كان قد اعتبر مغلقا. ثم إن كون مزروعي قال أيضًا كلاما حميدًا عن الإسلام، وأظهر تمكنه من المنهج التاريخي الغربي والبلاغيات السياسية الغربية، وكونه، بإيجاز، وقد ظهر نموذجا مقنعا لكائن إنساني حقيقي – كل هذه الأمور جرت مجرى معاكسا للعقائدية والإمبريالية.
مؤدى ذلك أن الخطاب – وفق رؤية فوكو – يستحوذ على الفضاء الثقافي، ولا يترك أي مجال لإحداث خلخلة فيه، وأي مقاومة يجب أن تتماشى مع السلطة المساوقة لها، فحيث تقوم السلطة، تكون المقاومة. ومع ذلك، أو على الأصح، بسبب ذلك، فإن هذه المقاومة لا تقوم خارج السلطة. ومهما تنوّعت صور المقاومة، فإنها عند فوكو مجرد ردّ فعل وصدى على السلطة وعلى علائق القوة المنتشرة فيها بعيدا عن الفرد والجماعة والدولة، وهي في الأصل أي هذه المقاومة التي أتكلم عنها ليست جوهرًا، وهي ليست سابقة على السلطة التي تواجهها، إنها مساوية لها في الامتداد ومعاصرة لها طبعا. فمعاني الثورة والتمرد والاعتراض وكسر فكرة التمثيل الغربي، طرائق تعبيرية مرفوضة ومنبوذة من الخطاب الغربي الذي يحوز مرجعية إمبريالية متعالية ومسبقة موجودة بصورة ثاوية كتيمة معرفية قارة في النموذج الغربي، ومنه يغدو: مفهوم فوكو للسلطة كونها شيئًا يعمل في كل مستوى اجتماعي، لا يفسح مجالا للمقاومة.
على هذا المستوى من النقاش الإدواردي مع منجزات فوكو المعرفية، حرص سعيد على التحرّر قدر الإمكان من سلطة فوكو المعرفية، حتى لا يخضع هو بدوره لخطاب فوكوي يهيمن على تخمينه في مسائل الاستشراق والثقافة والسلطة والمقاومة؛ فقد قطع نصف المشوار الفكري . معه، واعتبر ذلك. من منظور إدواردي – لازمة معرفية تسعفه في فهم هذا الخطاب المركب والثابت، غير أن هذا التمشي غير المكتمل الذي قام به ادوارد سعيد مع فوكو يصنف مثلا عند الباحث الهندي بهابها بأنه ذرائعي جدا في استخدامه لمفهوم فوكو للخطاب.
لكن هذه الذرائعية التي وصف بها “بهابها” استراتيجية سعيد في التعامل مع المنجز الفوكوي للخطاب ومدى مساهمته في كشف منطق الاستشراق الخفي والسافر وتعريته، لا تنقص البتة من قيمة سعيد المعرفية في استثمار ما هو فلسفي في مجال النقد الثقافي، أو في الاتكاء عليه بغية مساءلة النص الغربي واستنطاقه لإخراج مخفياته، وإنما كان تقنية فلسفية عالية الدربة اجتهد سعيد فيها من أجل التمكّن من الاستشراق كخطاب، والتعامل معه على هذا الأساس، وكل مناقشة له خارج هذا الإطار تعدّ وفق منظرونا المتواضع مناقشة في غير موضعها وهي مقاربة طريفة في سحب الاستشراق من مجال القطاعات النصية أو الحقول الدراسية إلى فضاء الخطاب الذي يتحكّم في النص، فما تسعى إليه من تناولها لنصوص ليس وضع قائمة بأسماء القديسين المؤسسين، بل بإبراز انتظام ممارسة خطابية ما، إلى واضحة النهار، ممارسة تفعل فعلها، بذات النمط في اللاحقين الذين هم أقل أصالة، أو في أولئك وهؤلاء من الذين سبقوهم، ممارسة لا تشير إلى حضور قضايا في آثارهم هي غاية في الأصالة فقط، بل وأيضًا إلى تلك التي رددوها أو نقلوها عن السابقين عليهم.
لجأ سعيد إلى هذا الإجراء ـ تجنبا لأي انحراف عن المقصد الأصلي – كي يبقى حريصًا على استقلاله الفكري في ظل موجة طاغية من التبعية للتفكير الغربي، سواء على مستوى براديغم الذات أو براديغم اللغة وأفقها التأويلي.
نبحث الآن عن النقطة التي حدثت فيها القطيعة بين سعيد وفوكو، أو ما يمكن اعتباره منعطفا في التفكير الإدواردي، بالنظر إلى مسعى سعيد في التحاور مع المنجز الفوكوي من باب الأخذ والاستيعاب ثم من جهة التجاوز، وهي ممارسة خطيرة من جهة أنها تستثمر في مفاهيم مشبعة برؤية فلسفية ومعرفية قوية تبلورت في محضن فكري خاص لكن على الرغم من هذه المخاطرة، كان إدوارد سعيد محاورا تجاوزيًا بامتياز، تبدّى ذلك في أن منهجية فوكو في تحليل علاقات القوة والمعرفة، تعمل على فضح صيغ التوليتارية وأنظمة الاستبداد أشكال عملها في الفكر والمؤسسات، لكن ذلك لا يقود إلى أي مقاومة ولا يحفز على وضع برنامج عمل. هذا هو الفرق الحاسم بين تفكير فوكو وإدوارد سعيد الذي يشدّ على مفهوم المقاومة وعلاقة النصوص بشروطها المكانية والزمانية، فالشيء الذي جعل من سعيد محاورًا تجاوزيًا لفوكو هو رغبته في الكشف عن الإخفاق السياسي الذي لحق بمختلف الفلسفات الغربية، حيث يقول: إن جميع الطاقات الحيوية التي صُبت في النظرية النقدية، في جميع ممارسات نظرية جديدة مبتكرة تُعرّي الأشياء من السرية التي تلفعها، من مثل التاريخانية الجديدة والتقويضية والماركسية، وقد تحاشت الأفق السياسي الرئيسي، بل أود أن أقول: المحتم المشكل، للثقافة الغربية الحديثة، وهو الإمبريالية.
من داخل الخطاب الاستشراقي، يناضل سعيد على صعد متعدّدة من أجل تكريس مفهوم المقاومة ليس بحسبانها مجرد رد فعل على السلطة المنتشرة في فضاءات المجتمع ومؤسسات الدولة وخطابات النصوص الفكرية، وإنما هي أيضًا نهج فكري واجتماعي بديل لخطاب الاستشراق، فقد تأتي فكرة أن المقاومة بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرّد ردّة فعل على الإمبريالية فهي نهج بديل في تصور التاريخ البشري. وأنه لذو أهمية خاصة أن نرى إلى أي مدى يقوم هذا النهج البديل في إعادة التصور على تحطيم الحواجز (القائمة) بين الثقافات. ومن المؤكد أن الكتابة ردا writing back كما يعبر عنوان کتاب فاتن على الثقافات الحواضرية، وتخريب السرديات الأوروبية عن الشرق وأفريقيا، واستبدالها بأسلوب سردي جديد أكثر لعبًا وأشد قوة تشكل مكونا رئيسيا في هذه العملية.
إن ما يلحظه إدوارد سعيد على الفلسفة البنيوية بصورة خاصة هو انتفاء بعد المقاومة في متنها الفكري؛ ففوكو مثلا يحتفظ لنفسه بـ اما هو سياسي بإصراره على السلطة، لكنه يحرم نفسه من السياسة لأنه لا فكرة لديه حول علاقات القوة ودون التفكير في علاقات القوة يصعب التفكير حول المقاومة بأية صورة منظمة)، وما يصدق على البنيوية يصدق على أغلب التوجهات الفلسفية الغربية، لأنها لم تتحدّث عن فكرة المقاومة خارج الفضاء الغربي، والتزمت الصمت المريب حول هذه المسألة، فـ: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، بالرغم من تبصراتها النفاذة المخصبة في العلاقات بين السيطرة والمجتمع الحديث والفرص المتاحة للخلاص عبر الفن من حيث هو تنقيد، صامتة صمتاً مذهلا عن النظرية العرقية. والمقاومة ضد الإمبريالية والممارسة الضدية في الإمبريالية، ولكي لا يؤول ذلك الصمت كسهو غير مقصود. فها هو ذا المنظر الرئيسي لمدرسة فرانكفورت اليوم، يورغن هابرماس، يوضح في مقابلة أن الصمت امتناع مقصود كلا يقول هابرماس، ليس لدينا ما نقوله لا الصراعات ضد الإمبريالية وضد الرأسمالية في العالم الثالث.
من هنا، كان نص إدوارد سعيد للاستشراق نصًا نقديًا، من جهة أن أغلب مثقفي الغرب، وخصوصا في مجال العلوم الإنسانية، يعجزون عن الربط بين وجهي، الحداثة وجهها المشرق، من شعر وفلسفة ورواية، وجهها المظلم، مثل الرّق والاضطهاد والاستعمار (۳۳)، وكان مقاوما من ناحية أن هذا المنجز ينخرط في مسار الدفاع عن رؤية تتمسك بأفق المقاومة، ليس عن ذات شرقية فحسب، بل أيضًا عن ذات غربية ما زالت حتى اللحظة حبيسة منظورية مشبعة بأفق إمبريالي؛ فإخفاق الاستشراق هو، في حدّ ذاته، إنساني وليس معرفيا، نظرًا إلى عقابليه الكارثية المتمثلة في الاستعمار والمركزية الغربية والرق والاستعباد والاستغلال وتأسيس الحقيقة على التحدّي هو موقف إتيقي وليس إجراء برهانيا. إنه موقف حيوي متعمد وليس واجبًا مهنيا. لذلك، فإن اختيار.. سعيد لعبارة التحدي لم يكن صدفة بل انبثق عن تصور فلسفي محدّد للأثر النظري أو النقدي بوصفه موقفاً حيويا.
ربَّ نص يقودنا إلى تشريع ضرب جديد من ضروب التاريخ المبني على المقاومة، والانعتاق من حديث فلسفي غربي تيمته الأساسية هي الموت) أو (النهاية)، موت الإله، موت المؤلف، موت الإنسان، نهاية الميتافيزيقا نهاية النسق نهاية الفلسفة، نهاية الأيديولوجيا، تشفّي الذات، عدمية المعنى. فإذا كان التاريخ وفق المنظور الغربي، في أغلبه، يبشر بنهاية السرديات الكبرى للتحرير والتنوير، فإن التاريخ الشرقي أو العربي لم يبدأ بعد مسيرته في التنوير والتحديث، والتنظير لفكرة المستقبل بعيدا عن فضاء إمبريالي مهيمن، والانطلاق في البحث عن حداثة أصيلة ومتأهبة لغد جديد.
يمكن أن نرصد خطاب الفشل في عبارات جان فرانسوا ليوتار وميشيل فوكو، بحيث نجد عند كل منهما التعبير المجازي ذاته المستخدم لشرح الخيبة بسياسيات التحرير، فالسرد، الذي يفترض نقطة بداية عاضدة وهدفًا مسوغا، لم يعد كافيًا لرسم المسار الإنساني في المجتمع. وليس ثمّة ما يتطلّع إليه (بلهفة المستقبل): بل نحن عاقون ملتصقون ضمن دائرتنا، والخط الآن مطوّق بدائرة. وبعد سنوات من الدعم ضد الاستعمار في الجزائر وكوبا وفيتنام وفلسطين وإيران الذي كان قد أصبح يمثل بالنسبة إلى كثير من المفكرين الغربيين انخراطهم الأعمق في سياسات وفلسفة فكفكة الاستعمار المناهضة للإمبريالية، انتهى المطاف إلى لحظة من الإرهاق والخيبة.
بناء عليه، يكون إدوارد سعيد من القلائل الذين تفطنوا قبل الأوان إلى الخسارة التي لحقت بالبنيوية في المجال السياسي، وما تعرضت له من محاسبة على مستوى إغفالها للقضايا السياسية التي أبعدتها عن أفق النقاش، وهذا ما دفعه إلى وضعها تحت طائلة النقد الدنيوي الذي يُرجع فيه النصوص إلى ظروفها الاجتماعية والتاريخية.
هذا على مستوى الجدل مع المنجز الفوكوي والمقدرة على تجاوزه من خلال الانهمام بفكرة المقاومة، التي حفزته معرفيًا على البدء في محاورة التيار التفكيكي الذي غدا – مع تزايد العداء لكل ما هو بنيوي ونسقي – نزعة فلسفية مهيمنة على الفكر الفلسفي الغربي بدءًا من نهاية الستينيات، حينما أصدر جاك دريدا في سنة 1967 كتبه الثلاثة في علم الكتابة والصوت والظاهرة والكتابة والاختلاف المح إدوارد سعيد في التفكيكية أنها دخلت في حرب صريحة مع المشروع البنيوي، بغية تفكيك البنى المختلفة التي ما زالت تحوي ترسبات ميتافيزيقية وعلة ذلك أن البنيوية ما زالت تحتكّم في مفهومها للعلامة اللسانية أو اللغوية إلى ثنائية قارة في الفلسفة الغربية، وهي أن التعارض الذي أحدثته الرواقية بين الدال والمدلول، دون أن نردّه إلى كل الجذور الميتافيزيقية اللاهوتية. ويرتبط بهذه الجذور التمييز بين المحسوس والمعقول على أهمية ما يتضمنه، وهو الميتافيزيقا في مجملها. وهذا التمييز مقبول عامة كأمر بديهي لدى علماء اللغة وعلماء السيميولوجيا الحصيفين، ومنه دشنت التفكيكية استراتيجيا جديدة تنهض على تفكيك البنية، خصوصًا بنية اللغة التي تدور حول مركزية الصوت باعتباره مظهرًا أساسيًا لفكرة الحضور، ولا تكترث على الإطلاق بالكتابة، فكل شيء موجود في اللغة، وحتى مقولات الكينونة أو الوجود مستمدة من بنية اللغة. كما أشار بنفيست إلى أن مقولات الميتافيزيقا الأرسطية مستمدة من بنية اللغة اليونانية. وكل شيء موجود داخل نص يحتوي على دال يكون في ارتباط لساني مع دال آخر، أما المدلول فهو عند دريدا دوما مؤجل، وفي وضع الإرجاء الأبدي.