تثير قصة نشر مخطوط الباحث توشيهيكو إيزوتسو “الله والإنسان في القرآن :علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم “، الكثير من الإعجاب والتقدير لمفكر ياباني أحسن وأخلص وأنصف القرآن في جميع أعماله و يكن الكثير من الاحترام والتعاطف لمصادر التراث الإسلامي.
في هذا الكتاب يكشف الباحث على نحو علمي طبيعة التحول الجذري الّذي أحدثه القرآن في حياة العرب والمسلمين ، بوصفه نظاما مفهوميا جديدا أعاد صياغة المفاهيم السابقة وأضاف إليها مفاهيم جديدة، وربط في ما بينها بعلاقات معقدة، فأنتج رؤية للعالم مختلفة تمتاز ببناء مفهومي عظيم من حيث تماسكه ومرونته وتنظيمه.
شرع الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو في تلقيح مخطوط مؤلفه “الله والإنسان في القرآن الكريم :علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم ” في ربيع عامي 1962 و1963 ، و كانت في الأساس تمثل الجزء الخامس من سلسلة دراسات في الإنسانيات والعلاقات الإجتماعية أصدرها معهد كيو للدراسات الثقافية واللغوية باليابان في عام 1959 تحت عنوان”بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن” .
و ألقى المفكر توشيهيكو إيزوتسو محاضراته في معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مكجيل ـ مونتريال بطلب من الدكتور ويلفريد كانتويل سميث مدير المعهد آنذاك، وقد شارك العديد من المهتمين بقضايا الإسلام في حلقته الدراسية التي كان يقدمها.
وأثارت محاضرته الكثير من النقاشات والتي ساهمت في جعله يستوضح أفكاره أكثر من خلال الأسئلة الحيوية والتعليقات القيمة التي وجهت له وهو ما دفعه للبحث في الموضوع بعمق ودقة.
وانكب على توسيعها وتنظيم موضوعها في نظام مختلف، مستعينا في ذلك على استعمال العديد من المراجع من كتب ومقالات نشرت في مجلات، بخمس لغات: العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية.
وصل عدد المراجع التي استعان بها لتنظيم مخطوطه بالعربية 63 كتابا كمقدمة ابن خلدون وصحيح مسلم بشرح النووي وجامع البيان عن تأويل القرآن..
أما المصادر باللغة الإنجليزية والألمانية والإيطالية بلغ عددها 35 كتاب، والمميز بين هذه المراجع استعماله لديوان “طرفة ابن العبد البكري متبوعا بنقد يوسف العالم من سانتا ماريا وهذا الديوان متبوع بملحق يضم مجوعة من القصائد الشعرية لطرفة ابن العبد البكري لم يسبق نشرها ومصدرها مخطوطات من الجزائر وبرلين ،لندن وفيينا، إضافة لاعتماده على خمس مجلات باللغة الإنجليزية .
وكتب المفكر توشيهيكو إيزوتسو :”وفي عملي هذا، كان الأمل يحدوني في أن يكون بإمكاني الإسهام بشيء جديد من أجل فهم أفضل لرسالة القرآن لعصره ولنا، على الرغم من أن كثيرا من العلماء المتمكنين قد درسوا القرآن من زوايا عديدة مختلفة “.
ولم يكتف الكاتب الياباني بالاعتماد على المراجع فقط، بل قام بجولة دراسية موسعة لمدة سنتين امتدت من(1959ـ 1961 ) شملت مناطق مختلفة في العالم الإسلامي.
وصدر الكتاب منقحا بعنوان :”الله والإنسان في القرآن :علم دلالة الرؤية القرآنية ” لأول مرة سنة 1964عن معهد كيو للدراسات الثقافية اللغوية في طوكيو، بعد أن قدمت له الجامعة “منحة فوكوزاو للارتقاء بالتعليم والدراسة من أجل نشر الكتاب، وأعادت مؤسسة وقف الكتاب الإسلامي في ماليزيا ،نشر هذه الدراسة في تواريخ مختلفة بعد عام 2002 في كوالا لامبور.
و نشرت أول ترجمة عربية لهذه الدراسة تحت إشراف الأستاذ الجامعي السوري عيسى علي العاكوب، وصدرت عن دار نشر الملتقى سنة 2007 في مدينة حلب السورية وكانت استجابة من أساتذة جامعيين سوريين مهتمين بتطبيق مناهج دراسة حديثة في دراسة القرآن، كما صدرت في نفس السنة ترجمة أخرى إلى العربية لكتاب إيزوتسو توشيهيكو أعدها هلال محمد الجهاد عن المنظمة العربية للترجمة .
رأي باحثين في الكتاب
يشير الأستاذ السوري عيسى علي العاكوب مترجم الكتاب للعربية والصادر عن دار النشر السورية الملتقى، أن الملاحظ في أعمال المفكر توشيهيكو عمق تحصيله في الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي ، بالإضافة لرحابة الفضاء المعرفي الذي جال فيه عقله.
وكتب:” يقال أنه يتقن عددا كبيرا من اللغات الشرقية والغربية، الأمر الذي هيأ له بمساعدة عوامل أخرى أن يلم بخيوط أساسية لنسيج ثقافات كثيرة في الشرق والغرب وفي شأن الإسلام،إن إيزوتسو نفسه يؤكد في مقدمات كتبه في الدرس القرآني عزمه على تقديم شيء جديد يقدم فهما أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأول ولدينا نحن أهل هذا العصر، ويؤكد مرارا اعتماده التجريب والاستقراء في الحصول على نتائج وتفاديه التأثر بالأحكام القبلية ، وما تميزت به أعماله من الموضوعية والحياد العلمي والاحترام للقرآن والإعجاب بلغته وإحكام آياته “.
كما يؤكد عيسى علي العاكوب على أن بواعث الدرس القرآني عند توشيهيكو إيزوتسو مختلفة تماما عن بواعثه لدى جمهرة المستشرقين الدارسين للقرآن .
وأضاف أن ما يستخلص من روايات من عرفوا إيزوتسو شخصيا ومن تأمل جملة مؤلفاته أنه كان يسعى إلى التأسيس لفلسفة شرقية تستطيع أن تقف في ميدان المقارنة والموازنة مع الفلسفات الغربية ،خاصة وأنه عاش مرحلة تشهد الحقبة الاستعمارية لليابان ثم الضربات التي واجهتها من القوة العسكرية الأمريكية.
ويرى عيسى علي العاكوب أن الباحثين العرب اللذين تعرفوا على آثار إيزوتسو القرآنية اختلفوا في شأن عده واحدا من المستشرقين أولا، فقد عدّه قلة منهم واحدا من المستشرقين الذين درسوا القرآن وينطبق عليه ما ينطبق عليهم في قابلية أعمالهم لإصابة الحقيقة ومجافاتها حين يكتبون عن الإسلام ، في حين يرفض أغلبهم إقحامه في حلبة فرسان الدرس الإستشراقي للإسلام وثقافته .
ويؤكد المترجم العاكوب أن إبعاد إيزوتسو ومنجزه عن الدائرة الإستشراقية يدخل في جزء منه في إطار تقدير أعماله والثناء عليها..
يرى هلال محمد الجهاد مترجم الكتاب من اللغة الإنجليزية إلى العربية الصادر عن المنظمة العربية للترجمة أن لهذا الكتاب أهمية كبيرة تتمثل أولا في شخصية صاحب هذا الكتاب وهو المفكر الياباني الشهير توشيهيكو إيزوتسو ، الذي اهتم بعلم اللغة الحديث وعلم الدلالة، إلى جانب مساهماته الفكرية في التعريف بالإسلام دينا وفكرا ، وتعمقه في دراسة التراث الروحي الحضاري للإسلام وللأديان والثقافات الشرقية الأسيوية.
وكتب :”هو باحث يكتب برصانة وبأسلوب علمي بسيط، له إطلاع واسع بالثقافة العربية الإسلامية، فالدراسات التي أعدها في هذا المجال متنوعة، شملت قضايا متشعبة في الدين الإسلامي والتفسير وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي القديم، كما أن ترجمته صحيحة ودقيقة للشواهد التي اقتبسها من القرآن الكريم، والشعر الجاهلي، لدرجة تجعل من يقرأ كتابه “الله والإنسان في القرآن ” يعتقد أن من كتبه هو مفكر عربي”.
ويؤكد الدكتور محمد الجهاد أن دراسة توشيهيكو إيزوتسو للقرآن تتميز بالكثير من الموضوعية، وأنه تفاعل مع الإسلام وتمكن من فهم وتحليل مظاهر الحضارة العربية الإسلامية،مرجعا ذلك إلى أصل ثقافته الشرقية بالرغم من أنه كتب هذه الدراسة بالإنجليزية وليس باللغة باليابانية .
كما يعتبر أن أهميته ثانيا تكمن في منهج هذه الدراسة وهو علم الدلالة الذي يعد واحدا من أهم مجالات علم اللغة الحديث وأكثرها خصوبة وتعقيدا.
وكتب:”فتوشيهيكو إيزوتسو يعرض في مؤلفه أساسيات ومبادئ نظرياته ويظهر رؤيته وفهمه الخاص لها ، ويعدل من هذه الأساسيات ويكيفها بحسب طبيعة الموضوع المدروس :القرآن الكريم، ويقدم طريقة بسيطة للطلبة والباحثين لفهم الماهية الحقيقية لعلم الدلالة ولفلسفته، وكيفية تطبيقه عمليا ،فأغلب الباحثين والمترجمين الذين حاولوا التخصص في هذا العلم قدموه بطريقة صعبة قائمة على التأكيد على الجانب النظري دون الالتزام بتبسيطه عمليا.”
ويؤكد المترجم هلال محمد الجهاد أن الوجه الثالث من أهمية قراءتنا لهذا الكتاب تكمن في أنه يجعلنا نكتشف أهمية اللغة في حياة البشر ودورها الأساسي في تشكيل رؤية الإنسان لعالمه من خلال إعادة تنظيم المفاهيم (القديمة والمستحدثة) وإدخالها في أنساق وعلاقات ذات مستويات معقدة ومتداخلة تشكل نظاما جديدا ذو طبيعة مختلفة كليا عن النظام الذي كانت المفاهيم تتخذه سابقا، ويترتب على ذلك فهم جديد للعالم ودور جديد للإنسان فيه ،
كما يرى محمد هلال الجهاد أن هذه الدراسة يمكن أن تفتح الطريق أمام باحثين آخرين للقيام بدراسات قرآنية دلالية أكثر عمقا.
أهمية الكتاب
يقوم كتاب إيزوتسو على نظرة مفادها: أن رسالة القرآن ورؤيته للعالم وفلسفته عن الوجود ترتكز في ألفاظه، أو بعبارة أدق: في الدلالات المكتنَزة في الألفاظ التي استعملها القرآن لبيان رسالته، وأن الدرس الدلالي لهذه الألفاظ سيكشف عن التطور الذي أحدثه الاستعمال القرآني في دلالاتها التي كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام؛ لتصبح هذه الألفاظ حاملة لرؤية جديدة للكون، وفلسفة مختلفة للعالم.
يشير الباحث إيزوتسو توشيهيكو إلى أن هذا الكتاب الموسوم فعليا بـ “الله و الإنسان في القرآن “يمكن أيضا أن يعنون على نحو أعم بـ “علم دلالة القرآن “.
وكتب: “وكنت سأضع هذا العنوان دون تردد، لولا حقيقة أن الجزء الرئيسي من هذه الدراسة معني على وجه الحصر تقريبا بمسألة العلاقة الشخصية بين الله والإنسان في الرؤية القرآنية للعالم، ويركز على هذا الموضوع المحدد”.
وكتب أيضا :”إن العنوان الرديف يمكن أن يتضمن فائدة أن يوضح بداية المسألتين الخاصتين اللتين تؤكد عليهما هذه الدراسة ككل وتميزاتها :علم الدلالة من جهة ، والقرآن من جهة أخرى، والواقع أن كلا العنوانين مهم بصورة متساوية بالنسبة إلى الهدف الخاص بهذه الدراسة “.
يؤكد الكاتب أنه طبق منهج التحليل الدلالي أو المفهومي في بحثه لمادة مستمدة من المعجم القرآني، وبخصوص هدفه من هذه الدراسة فيرى أن هذا الكتاب موجه أولا وبشكل رئيسي إلى أولئك الذين لديهم أصلا معرفة عامة وجيدة بالإسلام ،لأنهم على استعداد لأن يبدو اهتماما حيويا بالمشكلات المفهومية التي تثيرها دراسة تخص القرآن حتى وإن لم يفترض أن لديهم شيئا مسبقا من المعرفة المتخصصة في علم الدلالة وفي منهجيته.
نفس السياق يشير الباحث إلى أنه سيركز في القسم الأول من الكتاب على الجانب المادي التطبيقي بشكل أقل من الوجه المنهجي للموضوع وذلك ليجعل المتخصصين في دراسة الإسلام يدركون فائدة أن يمتلكوا وجهة نظر جديدة حول مشكلات قديمة ويدركون قيمة ذلك .
يشير صاحب “مفهوم الإيمان في الدين الإسلامي”إلى أن علم الدلالة “كما يوحى الأصل الاشتقاقي الدقيق للمصطلح، علم يعنى بظاهرة “المعنى “بأوسع معاني الكلمة .
ويعتقد أنه واسع في الحقيقة إلى درجة أن كل شيء تقريبا مما يمكن اعتباره ذا معنى ـأي معنى، سيكون مؤهلا تماما لأن يصبح موضوعا لعلم الدلالة، ويؤكد أن دراسة المعنى هو موضوع يدرس في علم الاجتماع والإناسة (الأنثروبولوجيا ) وعلم النفس…
وكتب :” إن علم الدلالة بوصفه دراسة للمعنى لا يمكن إلا أن يكون إلا فلسفة من نوع جديد تقوم على تصور جديد كلية للكينونة والوجود، ويتسع ليشمل فروعا عديدة مختلفة ومتنوعة من العلم التقليدي ولم تحقق تكاملها “.
يرى المفكر توشيهيكو إيزوتسو أن علم الدلالة هو دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية الخاصة بلغة ما، تتطلع للوصول في النهاية إلى إدراك مفهومين لـ “الرؤية للعالم ” الخاصة بالناس الذين يستخدمون تلك اللغة كأداة ليس للكلام والتفكير فحسب، بل الأهم كأداة أن علم الدلالة بهذا الفهم هو نوع من “علم الرؤية للعالم “أو دراسة لطبيعة رؤية العالم وبنيتها لأمة ما، في هذه المرحلة أو تلك من تاريخها ،مشيرا إلى أن هذه الدراسة تستهدي بوسائل التحليل المنهجي للمفاهيم الثقافية التي أنتجتها الأمة لنفسها وتبلورت في المفاهيم المفتاحية للغتها .
استمد إيزوتسو جذور منهجه في علم الدلالة من أستاذه اللغوي الألماني ليو فيسجيربر، الذي طوّر فكرة أن علم الدلالة نوع من ” علم الرؤية للعالم “والذي كان يؤكد له دائما أهمية اللغة الإنسانية كعملية تشكيل للعالم ذات طابع عقلاني، وتتفق فلسفة أستاذه اللغوية الهمبولدتية (نسبة إلى العالم اللغوي المعروف هبولدت) في كثير من نقاطها الجوهرية مع نظرية الباحث الإنجليزي سابير ـ وورف.
وما يجمع بين هذه النظريات هو رؤيتها للصلة الوثيقة بين اللغة والفكر والثقافة؛ فاللغة ليس أداة للتواصل فحسب، بل هي أداة للتفكر أيضًا، ومن هذا المنظور فإنها وسيلة أساسية لتقديم مفهومات وتفاسير للعالم الذي يحيط بأهل اللغة.
هكذا تصبح اللغة عملية عقلية تصوغ أو تعكس رؤية العالم عند أمة من الأمم أو ثقافة من الثقافات. فالثقافة تصوغ اللغة بالقدر الذي تصوغ به اللغة الثقافة، واللغة هي المفتاح لفهم فلسفة ثقافة ما، وإدراك رؤيتها للعالم.
وبهذا يصبح علم الدلالة كما يفهمه إيزوتسو: دراسة تحليلية للتعابير المفتاحية في لغة من اللغات ابتغاء الوصول إلى فهم رؤية العالم في عند القوم الذين يستخدمون هذه اللغة في مرحلة محددة من تاريخهم الثقافي.
ومن خلال هذا البحث يطمح إيزوتسو إلى الوصول إلى المفهوم الأولى أو التلقي الأول للوحي كما تجلى في عصر الرسول والصحابة.. باعتباره فترة الصدمة أو النقلة الدلالية المباشرة.. التي أدركها العرب حينها على نحو جليًّ وحاد.
يقوم منهج إيزوتسو في التحليل الدلالي على نظرية “الحقول الدلالية”. فالمعجم اللغوي لأي لغة من اللغات، أو نص من النصوص يتألف من عدد من الحقول الدلالية [المتشابكة]، كل حقل منها يتألف من مجموعة من الكلمات تربط بينها علاقات دلالية معينة، وتسمى هذه الكلمات مفتاحيةً، ومن بين هذه الكلمات كلمة صميمية، هي المركز المفهومي في الحقل الدلالي.