دمى مطيعة تصنع بهاء هذا المساء بـألوانها الدافئة وبأصواتها العذبة حين تحاكي أقبية المدينة الباردة وتمنحها حرارة أشواقها العابرة.
ترقص الأمكنة وتتمايل على إيقاعات السامبا.. وترتفع وكأن لوجدانها أجنحة يحلق بها عاليا ويرسم ملحمة الإلتحام …
الموسيقى التي تمنح الحياة لهذه الدمى وهي تتماوج بين الأغاني والأصوات في لغتها العصية ترتفع في فراغ البونراكو…
ترتفع عاليا ويعبر صداها إلى الآفاق البعيدة مفتشا عن وجه غائب في حضور الأمكنة أو عن أذن لم تعد صماء لوشوشات الحنين العابر بينهم.
الخيوط الرفيعة تشد الدمى كالأقدار..أقدار يختلف إيقاعها وغالبا ما تكون حمقاء حين تشدها اليد الخفية بإحكام وتحركها الأنامل الخشنة يمينا وشمالا في مهب المزاج وما يمليه نص عابر لم يخرج عن متن الكلام، وظل حبيس أحرفه لا يبحث عن مفتاح للقفل الذي تآكل بفعل الصدأ والملل والعرق البارد والساخن ولا أحد يشعر بحرارته في نزولها وارتفاعها إلا غبار المكان ..غبار البونراكو الذي امتلأ بالمتفرجين والمستمعين والمستمتعين بالماريوناث حين تنثر ما تيسر من الفرح العابر…
فرح آلي يتوزع عليهم ..يقتاتون الأمل من نبرات الدمى وحركات الماريوناث ..لكل دمية إيقاعها وصوتها ولونها المختلف، وبين لون وآخر تصنع الخيوط الرفيعة مشهدا يهتز له البونراكو فرحا وابتهاجا وتصفيقا.
البونراكو.. هذا المكان الذي تتوالى فيه الأحداث والمشاهد كما توالت سفن الأولين في فتوحاتها البائسة فأغرقها اليم قبل أن تصل المرفأ..لم يعد يحاكي البحر من أعلى المكان. واكتفى بأن يحضن الأسماك الصغيرة في حدود الإكواريوم ..ليؤثث بحرا بلا موج وبلا خوف وبلا مغامرات لربان لا يتقن قراءة ما تمليه البوصلة فتختلط الاتجاهات والتوجهات… التي لا تصمد أمامها الخيوط الرفيعة..خيوط لا تراها عيون المستمتعين بالمشاهد، لا تقبض عليها النظرات السعيدة..باهتة ورفيعة كنسيج عنكبوت تشد قبضتها جيدا وتداريها عن وهن السقوط
العنكبوت لا ترى الدمى ولا تبصر ألوانها وأشكالها ولا تسمع أصواتها في بهاء البونراكو لكنها تحركها بخيوطها الرفيعة التي تجتمع في قبضتها مثل كبة الصوف التي كانت تنسج منها أمي قميص الشتاء..
وهاهو الشتاء البارد يحيط بالدمى ..بعضها تداريه يد العنكبوت وتعري الآخر لمهب الرياح.. أناملها الواهية التي حركت الدمى طويلا في مسرح البونراكو تسرب إليها الصقيع. وصار يسري في حركاتها وسكناتها..حتى تكاد في عز المشهد أن تْسقط الماريوناث أو تقطع خيوطها الرفيعة التي تحفظ بحركتها ديمومة. هذه الأنامل التي لم تعد تشعر بالمستمتعين في الضفة الأخرى للمشهد.. صارت الأنامل تحرك الدمى كقدر يعبث.. كمقامر يخسر اللعبة في آخر الليل..
الأصوات تئن.. أصوات الماريوناث تحاول أن تصرخ لكنها عبثا تستطيع كسر الجدار الرابع ونسيج العنكبوت يلفها من كل الجهات. فما الجهة التي تشرق منها الشمس؟؟.
الخيوط الرفيعة تشد وتمد.. لم يعد معاوية يتفقد مسرح الدمى ويلهم العنكبوت أسرار حكمة شعرته المقدسة، ولا العنكبوت في زوايا المكان تعلم الدمى كيف تقفز على أوهن البيوت لتصلب قامتها وتشحذ أصواتها.. تتكرر المشاهد بلا روح بلا نبض …يحتج المستمتعون في الضفة الأخرى للبونراكو..تقول سيدة تجاوزت الأربعين بعتبات قليلة: ” الأغنية باردة ”
وتفتت اللحن كخبز بائت في يدها ..
يصرخ طفل في العاشرة من زاوية فيها ظل يميل إلى العتمة: ” أريد أن أتبول يا أبي” …
فيندد الجمهور بفرح كاذب وأغاني صماء لا تسمع نبض حضورهم .. الكل يطالب الماريوناث برقصة على إيقاع السامبا ..والعنكبوت تحاول أن تعزف الموهيكانز وتتلوى في رقصة الأفعى ..لكن عابرا بقاعة البونراكو جلس في كرسي على اليمين قال :”يجب أن تغني الماريوناث يجب أن ترقص الدمى”.
حركت العنكبوت الدمى التي تركتها في المهب بحركة ساذجة وبخفة صماء ..لات ملك سوى أن تمزق الخيوط ليغادر الجمهور مسرح البونراكو..لتقهر طفلا تبول وهو يجلس في زاوية فيها ظل يميل إلى العتمة.. لتنتقم من سيدة تجاوزت الأربعين بعتبات قليلة وشعرت ببرد الأغنية ففتت الخبز البائت في يدها ومن عابر يحن إلى أغاني الماريوناث وصديقه بجانبه يحمل العديد من الشعارات المنددة.
العنكبوت لا تبالي إن سقطت الدمى وانكسرت أو فقدت ألوانها وصارت باهتة هي تراهن الآن كقدر غريب الأطوار على خبايا اللعبة القادمة وكيف تبقى الخيوط الرفيعة في يدها مثل كبة الصوف وإن رحل موسم البرد والشتاء.
تحركها الأنامل البلهاء في عبث ..لكن أناملها خانت الاتجاه أو خانها الاتجاه ..لا فرق والربان لم يعد يتقن ما تمليه البوصلة فترك الموج والخوف واختبأ في الاكواريوم يستمتع بحركة السمكات الصغيرة التي سيأكلها إذا كبرت قليلا في وجبة عشاء مع صديقه الذي خسر في لعبة القمار آخر الليل.
الخيوط الرفيعة تأبى أن تستجيب لأنامل العنكبوت ..تشتد عليها..تختنق الأنامل وتئن ..تصرخ العنكبوت وتتقمص صوت الماريوناث ..الدمى تضحك تقهقه بأعلى أصواتها… تختلط الأصوات ويصفق الجمهور بقوة… ثم يغادر المسرح…يتزاحم للخروج فتدوس خطوات طائشة العنكبوت الغبية
ترقص الدمى وتكسر الجدار الرابع تنتصر الماريوناث وتعتلي عرش البونراكو تردد أجمل الأغاني يتردد صداها.. يعبر إلى كل النوافذ فيفتحها حيث تطل الشمس من كل الجهات.