إذا كانت حروب الماضي تُخاض غالبا باسم الدين، فإن حروب اليوم تُخاض باسم الثقافات؛ فالثقافة هي السلاح الأخطر في عصرنا لِتَمَثُّل الآخرين، واختزالهم في مسكوكات عنصرية، والهيمنة عليهم في آخر الأمر.
وإذا كانت الثقافة الغربية في وقتٍ سابقٍ تتحالف في كثير من الأحيان مع القوة العسكرية لتعزيز تمركُزيّتها وتفوّقها على الشعوب المستضعَفة، فهي الآن تغيّر استراتيجياتها في اللعبة الكبيرة بتدخّل لاعبين جدد، أخذوا على عاتقهم مهمّة الرجل الأبيض التقليدية، مقابل الاحتفاء بهم، ونيل الشهرة، كما أنهم يقبضون ثمن خدماتهم بسخاء من أجل إرضاء الدوائر الرسمية والثقافية.
أطلق المفكّر الإيراني ”حميد دباشي” في كتابه “بشرة سمراء أقنعة بيضاء“، (الذي يحاكي به عنوان كتاب فرانز فانون) تسمية ”المثقف الكومبرادور” Comprador على زمرة من المثقفين العالمثالثيين الذين فضّلوا الاستقرار في أوروبا وأمريكا، وإعلان ولاءهم غير المشروط لمشروع الإمبراطورية (الجديدة) المعولَمة. تحوّلوا طوعا إلى مخبرين محليين، يقدّمون المعلومات عن شعوبهم الأصلية، وأوطانهم التي تبرأوا منها، من أجل استمرار الهيمنة الإمبريالية الغربية، وتبرير تدخّلاتها الظالمة في بلدان كثيرة باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذه الفئة من ”القائلين نعم” كما وصفهم إدوارد سعيد، لا تنقصهم الموهبة أو التكوين الجيّد، كما لا ينقصهم الوعي بخطورة مهامهم في صناعة ثقافة الخنوع، وقتل كل محاولة للمقاومة من داخل الإمبراطورية، ولكن ما ينقصهم فعلا هو الموقف الشجاع لقول ”لا” عندما يقول الجميع ”نعم”.
يرى دباشي أن الخطر الكبير الذي ينجم عن خدمات هؤلاء الكتّاب والمثقفين، لا يكمن بالدرجة الأولى في تعاونهم مع الإمبراطورية، بتقديم معارفهم الأنثروبولوجية والإثنوغرافية الدقيقة عن مجتمعاتهم للدوائر الرسمية في الغرب، وبالتالي تقديم معرفة واقعيّة واستراتيجية، أو التورّط في اللعبة العظيمة بمفردات شاعر الإمبراطورية “روديارد كيبلينغ”، أي التجسّس على بلدانهم؛ فالخطر الحقيقي يكمن في جلْد الذات، وتشويه الإسلام عند الكثير من الكتّاب، كما يتجلّى في الصورة الخاطئة التي رسمها آخرون عن أوطانهم، وتوْق شعوبها المتعطّشة للحرية لتدخّل الولايات المتحدة من أجل القضاء على الديكتاتوريات العربية تحديدا، (وهذا ما حدث فعلا مع اندلاع أحداث الربيع العربي)، وهي المهمة التي تكفّل بها كل من السوري فؤاد عجمي والعراقي كنعان مكيّة، بالقول افتراءً إن العراقيين ينتظرون بشغفٍ كبير في الشوارع، وهم يحملون الورود والحلوى الشرقية وصولَ القوات الأمريكية المحرِّرة من الديكتاتورية والطغيان.
أمثلة كثيرة تبرهن على تورّط الأدب في هذه العملية، فمقياس شهرة هؤلاء الكتّاب والاحتفاء بهم، ونيلهم لأهم الجوائز التقديرية في أوروبا وأمريكا لم يُراعِ جودة النصوص، بقدْر ما تقدّمه هذه النصوص من خدمات تحافظ على استمرار الهيمنة، بإعادة إنتاج نفس المقولات الاستشراقية المحبَّبة لدى القارئ الغربي؛ فالعنف كامنٌ في تكوين المجتمع الشرقي، والأصولية عمْلةٌ إسلامية بامتياز، وانتفاضةُ أطفال الحجارة الذين يقابلون الصهاينة بصدور عارية، ووجوه لم ينبت الزغب فيها بعد، تنْقلب صورتهم إلى إرهابيين كارهين للحياة، ويمسي الضحايا، هم أنفسهم جلادين.
تزخر كتابات شرقيين وعرب ومسلمين بهذه المواضيع الطنّانة، وترتفع أسهمهم في بورصة الصراع من أجل التقبّل والاعتراف. إن كتابات مثيرة وذات جودة عالية على غرار البريطاني-الهندي سلمان رشدي والإيرانية آذار نفيسي تطرح جدلا واسعا، وتحقق أعلى المبيعات، فنفيسي مثلا التي درّستْ لمدة طويلة في الجامعة الإيرانية تنتقل إلى الولايات المتحدة بعد نجاح الثورة الإيرانية، وتنال مباشرة حظوة غير مسبوقة بمهنتها الجديدة “المخبر المحلي”. إن كتاب سيرتها المنشور بالإنجليزية (2003) بعنوان ”أن تقرأ لوليتا في طهران” يقدّم حسب دباشي: (حكايةً تدغدغ بيت الحريم الفارسي مع نساء ينتظرن مارينز الولايات المتحدة لإنقاذهن من رجالهن هنّ بالذات) ص 29. إن ما يُعاب على نفيسي بشكل كبير هو تغييبها للبيئة الإيرانية الحقيقية، وتطهيرها من كل صفة بطولية مقاومة للنظام الأبوي المحلي، أو مقاومة للنظرة الكولونيالية الوقحة. وببساطة قراءة لوليتا في طهران هي حسب دباشي طمسٌ لذاكرة المقاومة، وجعلها مجرد نسخة مذعنة للإمبراطورية الأمريكية.
أما رشدي الذي اشتهر بردّه على الإمبراطورية في رواية (أطفال منتصف الليل) 1983، وتحرير صوت التابع بمنحه فرصة صنع تاريخه، وابتكار حداثته محليّا، فقد وقع في فخّ شيطنة الإسلام، والترويج الإعلامي للصراع بين الشرق والغرب بالتحريض على العنف، واضطهاد المهاجرين في روايته المثيرة (الآيات الشيطانية) 1989. وقد كَسَب منذ البداية تأييد الإعلام والحكومة في بريطانيا وكذا أحقيّته المطلقة في حرية التعبير، واعتبرتْ الدوائر الرسمية روايتَه صوتاً نقديا تقدُّمياً، رغم أنها تخدش مشاعر الملايين من المسلمين وأبناء المستعمرات السابقة، خاصة أولئك الذي يعيشون في بريطانيا وينافسون سكانها في حياة الرفاهية وفرص العمل المتاحة.
يصنّف المفكر الكيني المرموق ”علي مزروعي” رواية الآيات الشيطانية في باب “الخيانة الثقافية”، التي اقترفها رشدي في حقّ المسلمين، والتنكّر لأهله وتاريخه، واحتقاره لجذوره. ويطلعنا على حقيقة تقاضي رشدي 800 ألف جنيه استرليني، أي ما يقارب 1.5 مليون دولار كي يسْخر من الإسلام، وكان ذلك قبل إثارة الجدل بسبب فتوى الخميني الشهيرة، ويواصل مزروعي مستنكرا، (بما أن العديد من الأمريكان الأفارقة يعتبرون الإسلام طريقاً نحو إعادة الأفْرَقَة، أي العودة إلى الجذور، فهل ما يفعله رشدي ببساطة هو مواصلة احتقاره لجذوره).
من الأسماء التي تصدّرتْ المشهد الثقافي في فرنسا لسنوات طويلة يبرز الكاتب الفرانكو-جزائري بوعلام صنصال، كأحسن مثال عن المخبر المحلي الطامح لنيل المناصب العليا، وحصد الجوائز سريعا، فانتقاله إلى فرنسا أكسبه شعبية كبيرة، وحضورا دائما في المنابر الإعلامية. إن صنصال صاحب الجوائز الكثيرة خاصة في فرنسا وألمانيا اختصر على نفسه طريق التسلّق إلى القمّة، ليس باعتباره كاتبا فريدا من نوعه، ولكنه عرف كيف يغازل الدوائر اليمينية المعادية للمهاجرين، ويكسب ثقة اللوبي الصهيوني، وتقبّله لدوره المنتظَر حرفيا، أي أن يكون مرتزقا صغيرا يقول ما يرضي مستخدميه.
ينتقد المستعرب الألماني “ستيفان فايدنر” بشدّة اتّحاد الناشرين الألمان على منح صنصال جائزة السلام السنوية سنة2011، والسبب أنه يساهم في نشر المشاعر المعادية للإسلام كتلك التي تروّج لها حركة ”بيغيدا”، المناهضة للمهاجرين وأسلمة أوروبا. وقد نشر صنصال لاحقا في ألمانيا سنة 2013 كتابا بعنوان: مجانين الله“: كيف تغزو الإسلاموية العالم، يحذّر فيه دون أساس واقعي من غزو إيديولوجيا الحركات الإسلامية للعالم، رغم علْم الجميع ببطلان حجته في الواقع.
لا يخلو عالمنا اليوم من عملاء، ومرتزقة، ومخبرين محليين، يتخفّوْن جميعا تحت عباءة المثقف الكومبرادور، يتسابقون على حرق أنفسهم لتقديمها كقرابين، كي تثبت حسن نيّتهم في خدمة الإمبراطورية، وإدامة هيمنتها على شعوبهم وأوطانهم؛ فمشاعر الاشمئزاز واحتقار جذورهم تعبّر عن مازوشيةٍ بليدة، وكرهٍ دفين للذّات، والجماعة التي ينكرون انتماءهم إليها. بل يصل الأمر حدّ الخيانة في الكثير من الحالات.
لم يتغيّر شيئًا كما يرى دباشي في معادلة الرجل الأبيض، فالعِداء باقٍ، والأطراف تتغيّر، فكراهية الأسود واليهودي التاريخية، يحل محلّها كراهية الأسمر (العربي) والمسلم. وزنجي المنزل بتعبير (مالكوم X) مازال يحرس جيّدا زنجي الحقل خوفًا من التمرّد ضد سيّده الأبيض، الذي يمثّله أحسن تمثيل الدور الرائع الذي أدّاه الممثل الأمريكي “صمويل جاكسون” Samuel L. Jackson في فيلم Django Unchained (2012)، عن زنجي المنزل الكاره لعرقه بشكل مازوشي رهيب.