لا يمكنُ أن نفكرَ في الديمقراطية من دون التفكير المُعمَّق والجدِّي في قاعدتها العميقة، الفلسفية والفكرية، التي تأسَّست عليها وشكلت مبدأ إمكانها التاريخي. فالديمقراطية ليست شكلا فارغا دون محتوى، ولا ممارسة دون مضمون ثقافيٍّ أو رؤية للعالم والأشياء والقيم قُدِّرَ لها أن تدشنَ العالمَ الحديث من خلال الأنسنة المنتصرة منذ “عصر الأنوار” في أوروبا.
الديمقراطية انبثقت وترسَّخت كنتيجةٍ لانقلابٍ في عالم القِيَم أولا قبل أن يتمَّ استيرادُها عندنا باعتبارها لعبة انتخابية وصناديقَ اقتراع وهيمنة أغلبية يسهل التلاعب بنتائجها من قِبل السلطة العربية الاستبدادية القمعية. الديمقراطية ثمرة حضارةٍ جديدةٍ قفز معها إلى مسرح المعرفة والفعل وجهٌ جديدٌ حل محل المرجعيات القديمة المتعالية وسلطة الأسلاف: الإنسان. لقد أصبح الأنتروبوس مركز الكون ومرجعَ القِيَم. هذا هو مفهومُ الأنسنة الذي لا يمكنُ أبداً فهمُ الأزمنة الحديثة دون استحضاره. ولكنَّ الشيءَ الأبرز المُلاحَظ عندنا أننا دخلنا العالمَ الحديثَ مستهلكين لا فاعلين ومقلدين لا مبدعين. تلك مأساتنا العميقة باعتبارنا عربا ومسلمين. فكما أصبحنا نستوردُ وسائل تحسين الحياة كذلك استعرنا أشكال التنظيم السياسي وآليات السلطة والإطار المؤسَّساتي للحياة المدنية الحديثة. أقول “استعرنا” ذلك فقط لأننا لم ندرك ـ لأسبابٍ ثقافيةٍ بكل تأكيد ـ جوهرَ الثورة التي صاحبت ميلادَ الحداثةِ بوصفها انقلابا معرفيا وزحزحة للقيم من تعاليها اللاهوتي إلى وضعها الناسوتي الجديد. أو قل إننا لم نُحدث، بعدُ، ثورتنا الكوبرنيكية في عالم القيم. هذا يعني أننا ظللنا نأخذ من الغرب مُنجزاتِه التقنية دون وعيٍ بأسُسها العقلية ـ التجريبية التي أرسى دعائمها العلمُ الحديث؛ كما ظللنا نستعيرُ أشكال الحياة السياسيةِ الجديدة دون إحداث مراجعةٍ لأسس ثقافتنا التقليدية المُتمحورة حول التعالي ومرجعية الماضي. لقد تمَّ تحديثُ مجتمعاتنا “في سياق استهلاكيٍّ لا إبداعي” كما يُعبِّرُ أحدُ الباحثين بحق.
كتب المُفكر التونسي هشام جعيط في هذا الشأن قائلا: “… فلا ديمقراطية عندنا في كل العالم الإسلامي. والمسألة في الحقيقة لها عروقٌ فلسفية وثقافية. فهي في قلب الأزمة الثقافية العربية والإسلامية من حيثُ إنَّ هذه الثقافة امتنعت عن التَّحوُل القِيَمي الكبير الذي حفَّ بالحداثة وهذا من منتصف القرن الثامن عشر. فمشكلة الديمقراطية لا تكمنُ في المظاهر الخارجية من تعددية وبرلمانية وانتخاب وغلبة الأغلبية، بل لها عروقٌ قيميَّة تمثل أساسا في قلب الضمير: وهي معنى الكرامة الإنسانية والقناعة الداخلية بوجاهة الديمقراطية في النخبة والجمهور واعتبار الألم الإنساني كشر في حدِّ ذاته. وهذه القيمُ أهمّ من الحرية والمساواة لأنها تشتمل عليها وتغلفها”. فالديمقراطية، من حيثُ الجوهر، هي:
“انقلابٌ ذهنيٌّ ثقافي ليس له الآن دعامة في الواقع الاجتماعي والسياسي (عندنا).” (هشام جعيط، أزمة الثقافة الإسلامية، دار الطليعة – بيروت ط3، 2011. ص 8).
يضيفُ الكاتب محللا أزمة العربيِّ – المسلم مع الحداثة التي يمكن قراءتها باعتبارها تجربة تحديثٍ شكلاني خال من الأبعاد الثقافية القيمية التي أرست دعائمَ النظرة الحديثة للإنسان والعالم قائلا: “… لم نستوعب البنى المادية للحداثة من حيثُ أنا ننتجها، أو أنا استوعبناها أقل بكثير من بقية العالم … ولهذا أسبابٌ من بينها – وهو أساسيٌّ – الامتناع عن التحوّل الثقافي بالمعنى العام. فنحن أمعنا في الأخذ بمظاهر الحداثة السطحية، ولم نأخذ بالأسس أو ما يشبه الأسس، وهي ثقافية.” (نفسه، ص 13).
هل يختلفُ الوضعُ في الجزائر عن هذه الصورة العامة لأزمة الثقافةِ العربية والإسلامية؟ قطعا لا. لقد تمَّ بناءُ الدولة الوطنية بعد حرب التحرير من دون اجتياز المسافةِ الذهنية الضرورية بين شكلانية المؤسَّساتِ الحديثة الموروثة عن الاستعمار وواقع مجتمعنا التقليديِّ الأبوي الذي زُجَّ به في حُمَّى الاقتلاع الاجتماعي والثقافي والرمزي مع “الثورات” الصناعية والزراعية والتي كانت فشلا ذريعا على كل المستويات. وأعتقدُ أنه يمكننا – بصورةٍ ما – قراءة مُجمَل الهزات الكبيرة التي شهدها مجتمعُنا منذ الاستقلال من زاوية هذا الفشل السياسي والتنموي والثقافي والتربوي في ردم الهُوَّة بين شكلانية بناء الدولة العصرية والمضامين الثقافية والإنسانية التي تجعلها تقطعُ مع الماضي وأشكال التضامن التقليدية لصالح المواطنة والحقوق الإنسانية بالمفهوم الحديث. ولعلّ الفشل كان عربيا بامتياز لا جزائريا فقط. بل ربما كان صينيا أيضا مع محاولات الزعيم ماو تسي تونغ تجاوز تخلف المجتمع الصيني الزراعي من خلال التصنيع الثقيل و”الثورة الثقافية” – زمن الخمسينات والستينات – وما تبعَهُمَا من كوارث اقتصاديةٍ وإنسانية رهيبة. لم تكن ثقافة الزعامة وامتهان الإنسان ووصاية النظام الأحادي بقادرةٍ على الخروج من النفق أو منافسة الغرب الليبرالي الذي اكتشف مركزية الإنسان وقيمة الفرد وأهمية تأسيس الحياة على الحرية بكل أبعادها. وبالعودة إلى التجربة الجزائرية نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ العجز كان سياسيا بكل تأكيدٍ ولكنه كان عجزاً فكريا وثقافيا أيضا يطال رؤيتنا للتحديث والتي ظلت قاصرة ومُتسرِّعة وغير مستوعبةٍ بشكل جيِّدٍ لشروط بناء “جمهورية ديمقراطية شعبية”. وإلا فكيف نفسِّرُ ما عرفناه من أشكال النكوص الخطيرة مع الحالمين، استيهاما، بعودة الدولة الدينية وحكم الوصاية ومُدوَّنات الشريعة الموروثة التي لم تخضع لاختبار الفحص النقدي والمساءلة الفلسفية – القانونية والإبستيمولوجية انطلاقا من فتوحات العقل الحديث وقطائعه المعرفية والسياسية منذ أكثر من قرنين؟ لقد كانت الظاهرة الإسلامية الأصولية منذ ثمانينات القرن الماضي، في اعتقادنا، مُعبِّرة لا عن حالةٍ ثقافية أو موقفٍ سياسيٍّ وإنما عن ردِّ فعل المجتمع الذكوريِّ الأبوي أمام التحديثِ المتوحش وغير المتوازن الذي فكّك بنية العلاقات وأشكال التضامن التقليدية من دون أن يرافقَ ذلك عمل تربويٌّ وانتقال هادئٌ إلى مجتمع جديدٍ تترسَّخ فيه العلاقاتُ المدنية الحديثة وقيمُ احترام الإنسان باعتباره مواطنا حراً ومسؤولا. لم يكن الأمرُ هينا بالطبع وإنما أردنا أن ننبِّهَ إلى صعوبة حرق المراحل في عمليات التغيير الكبرى التي ترومُ تغييرَ المجتمع أو تطبيق خطاطة “مشروع المجتمع” كما يُعبَّرُ بفجاجةٍ غالبا. لطالما نبَّه الباحثون الطليعيون إلى أنَّ الماضي لا يموتُ وإنما يتمُّ كبتُه كماردٍ في قمقم ليُستعادَ في شكل اعتصام بالهويةِ أو الأصالة متى كشف الحاضرُ عن أزماته من خلال عجز الدولة عن تقديم بدائل ناجحة في العلاقات الاجتماعية والازدهار الثقافي والرَّفاه الاقتصادي وشعور المواطن بقيمته الاعتبارية في ظل توفر فرص الحياةِ الكريمة وتحقيق الذات.
هذا ما دعانا – في الكثير من الأحايين – إلى التنبيه بأنَّ الديمقراطية لا يُمكنُ أن تُختزل في لعبةٍ انتخابيةٍ مبتذلة وخصوصا في العالم العربي. نعلمُ جيِّداً مدى التوجُّس من الحرية وانعدام ثقافة النقاش والانفتاح على النقد والرأي الآخر والمعارضة السياسية عند الحكام العرب الذين لم يكن التخلص من صفة الزعامة عندهم بالأمر الهيِّن. لقد ورثوا، من دون أدنى شكّ، قيمة الفحولة من وسطهم الثقافي والاجتماعي الذكوري التقليدي، كما ظل من السهل لدى الكثيرين منهم لعب دور المخلص والمُنقذ في فتراتٍ تاريخية عصيبة مُجسِّدين بذلك الآمال العريضة لشعوبٍ عانت طويلا من إذلال الاستعمار وهيمنته. وممَّا زاد في تغييب الاهتمام بالمنحى الديمقراطي – الذي تحدثنا عن أسسه الفلسفية – هو اعتبارُ الليبرالية إيديولوجية استغلالية استعمارية لا تخدمُ مسعى مجتمعاتنا إلى الاستقلال الفعلي عن المنظومة الكولونيالية ولا تطلعاتها إلى العدالة والمساواة والتنمية. هذا ما قاد الكثيرَ من البلدان العربية – كالجزائر منذ الاستقلال – إلى تبنِّي نموذج “الديمقراطية الشعبية” وآليات الحكم المركزي المعتمد على الحزب الواحد وقيادة الزعيم مع إرجاء التفكير في المطالب المتعلقة بالحريات المدنية والحقوق السياسية والتي كان يحلو للينين أن يُسمِّيها “الديمقراطية الشكلية” في مقابل “الديمقراطية الجوهرية”. ولنا، بالطبع، أن نتأمل في السياقاتِ التاريخية والثقافية المعقَّدة التي جعلت من هذه الطبعة الاجتماعية والشعبوية للديمقراطية طريقا للخلاص الأرضيِّ عندنا واستجابة لـ”غريزة القطيع” في استعادة ذكرى المهديِّ المُنتظَر الذي سيُمثِّل حضورُه بيننا شفاءً من كابوس التاريخ وظلمته. لم يكن لذلك أية علاقةٍ بالحداثةِ السياسية بالطبع ما دامت أركيولوجيا الوعي الجمعيِّ تكشفُ عن رواسب الحنين إلى أزمنة البطولة التي بإمكانها أن تُخلصَ فحولتنا الجريحة من عقدة الإخصاء أمام تحدياتِ حاضر فقدنا فيه زمامَ المبادرة والفعل. كأنَّ ثقافتنا الألفية – ذات الجوهر الأسطوري – قد اخترقت، بذلك، قلاعنا الحديثة كحصان طروادة وهي تضعُ على وجهها قناعَ الحداثة السياسية الزائفة في شكلها الإيديولوجي الاشتراكي.
ومن جهةٍ أخرى لاحظنا أنَّ الخطابَ الإسلاميَّ الذي تزامن صعودُه مع بداية التشكيك في الإيديولوجية القومية بداية السبعينات لم يكن، هو الآخر، قادراً على إدراك جوهر الديمقراطية أو القبول بها دون حذر أو بمعزل عن كونها وسيلة وأداة تُمكِّنُ من الوصول إلى السلطة لا غير. فالتياراتُ الإسلامية – على اختلافها – لا تؤمنُ بجوهر الديمقراطية القائم على مركزية الإنسان والسيادة الشعبية وحكم القانون المُنبثق عن النقاش الحر والإرادة العامة. لقد ظل المناضل الإسلاميُّ – في العالم العربيِّ والجزائر معا – يعتبرُ الديمقراطية فرصة وحيلة تُتيحُ له نيل ما يريدُ من أجل فرض نموذج مجتمع الوصاية الذي يحمله في مشروعه والذي يُضمرُ حنقا واضحا على قِيم الحداثة والتحرّر والمساواة بين الجنسين. لقد قطع الإسلامُ – من خلال ممثلي هذا التيار – مع تاريخه الغنيِّ الزاخر بالتجارب الروحية والمغامرات الفكرية والإبداعية ليتقلص إلى مُجرَّدِ هوس مرضيٍّ بالسلطة أو الانتقام من حركية المجتمع التاريخية المتعثرة أمام تحديات التحديث الإيجابي المتوازن. كان الجانبُ السوسيولوجي للإسلام السياسيِّ، بمعنى ما، طاغيا ومُعبِّراً عن البنيات الأكثر تقليدية للمجتمع، كما كان كاشفا عن رغبات الانتقام الدفينة التي تسكنُ الذكورةَ الحالمة باستعادة مواقعها السابقة في صورة نوستالجيا عميقةٍ إلى أزمنة كانت تسودها قيمُ الفحولة ومجمل علاقات الإخضاع التي عرفت تدهوراً منذ بدايات تحديثنا المتوحش.
لقد لاحظ المفكرُ العربيُّ الراحل جورج طرابيشي، بحق، كيف أنَّ إشكالية الديمقراطية في العالم العربيِّ يجب ألا تُختزل في العائق السياسيِّ الذي يمثله النظام الاستبدادي، وإنما كذلك في العوائق السوسيو- ثقافية المرتبطة بالمجتمع التقليديِّ الذي يقفُ حاجزا بين الإنسان العربيِّ – فرداً كان أو جماعة – وبين تطلعاته المشروعة إلى الحرية والتفكير والتعبير بعيداً عن منظومة قيم المنع والتحريم التقليدية الزجرية. يقول:” … ولنملك الجرأة على أن نعترف: فلئن كانت الأنظمة العربية القائمة تُقيمُ العثرات أمام الآلية الديمقراطية، فإنَّ المجتمعات العربية الراهنة تقيمُ العثراتِ أمام الثقافة الديمقراطية. فالأنظمة العربية لا تتحمل انتخابا حراً، ولكنَّ المجتمعات العربية لا تتحمل رأيا حراً. ومجتمع يريدُ الديمقراطية في السياسة، ولا يريدها في الفكر، ولا على الأخص في الدين، ولا بطبيعة الحال في العلاقات الجنسية، هو مجتمعٌ يستسهل الديمقراطية ويختزلها في آن معا. ومن الاستسهال – كما من الاختزال – ما قتل”. (هرطقات، دار الساقي، بيروت – ط3. ص 17-18).
هذا هو مدارُ النقاش: الديمقراطية ثقافة بالأساس، وليست آلياتُ تحقيقها – كالانتخابات مثلا – إلا إجراءاتٍ ووسائل تمثل تتويجا قانونيا لهاجس ترسيخ مبادئ الإرادة العامة والحريات الفردية والجماعية ومرجعية المجتمع في التشريع لذاته بمعزل عن أستاذية المرجعيات التقليدية المفارقة والمؤسَّسات التي تمثلها. من هنا نفهمُ كيف أنَّ الديمقراطية في عمقها، كما أسلفنا القول، ليست حيلة انتخابية أو شكلا إجرائيا يؤسِّسُ لنظام حكم الأغلبية كما يُشاعُ عادة بكل سذاجة. إنها ميلادُ زمن الإنسان الذي احتل مركز دائرة القيم وأصبح فاعلا تاريخيا مع بداية الأزمنة الحديثة التي رأى هيدغر أنَّ من بين مظاهرها الأكثر أهمية ما سمَّاه “عطلة الآلهة”. لقد كان للكثير من المفكرين والفلاسفة أن يلاحظوا بالطبع – نظير لوك فيري مثلا – أنَّ ثقافة الديمقراطية هي ثقافة الاستقلالية واعتبار الإنسان مرجعا لذاته في كل مناحي الحياة كما تمثلت، بخاصةٍ، في الفن الحديث الذي أصبح يحتفي بالإنسانيِّ مُبتعداً – شيئا فشيئا – عن تمثيل الإلهيِّ أو المقدَّس. هذا ما جعل المُثقفَ العربيَّ يدرك مدى ضخامة المشكلات المطروحة أمام المشروع الديمقراطي المتعثِّر إلى اليوم. فالعوائق ليست سياسية فحسب كما رأينا، وإنما هي ثقافية واجتماعية بالأساس وهو ما يكشفُ عن صعوبة الانتقال إلى الديمقراطية بمجرَّد توفُر قرارات سياسيةٍ فوقية ما لم تتغيَّر بنية العلاقات الاجتماعية ونمط الثقافة السائدة التي ترتاب من حريات الفرد الفكرية وغيرها وتعتبرها تهديداً للمجتمع. والدليل على شللنا في هذا المجال هو أنَّ أنظمتنا السياسية لا تزال تراوح مكانها وتعيدُ إنتاجَ البنيات الاجتماعية الطائفية من خلال “الانتخابات الحرة والنزيهة”.
كتب نيتشه في مُؤلَّفهِ البيوغرافي الشهير “هو ذا الرجل” Hecce homo قائلا: “إنَّ الأخلاقَ هي سيرسه Circé الفلاسفة”. ويعلمُ الكثيرون أنَّ سيرسه هي تلك الساحرة الحسناء المذكورة في “أوديسة” الشاعر اليونانيِّ الخالد هوميروس والتي كان لديها القدرة على تحويل البشر إلى خنازير – الشيء الذي فعلته مع بعض رفقاء أوليس عندما نزل ضيفا عليها أثناء رحلة عودته العاصفة إلى موطنه. لقد كان فيلسوفُ “إرادة القوة” يرومُ تحريرَ الإرادة وغرائز الحياة القوية من أسر العدمية التي أوقعت الأخلاقُ فيها الإنسانَ وكبَّلته وجعلته يُنكرُ العالمَ ونداءاتِ الأرض ويهفو إلى الماوراء والعوالم الوهمية المفارقة. فهل يمكننا – على غرار الفيلسوف الألماني – أن نعتبرَ بعضَ صور ثقافتنا الموروثة والسَّائدة، مؤسَّسيا واجتماعيا، سيرسه عربية تدجِّنُ الإنسانَ العربيَّ وتكبحُ جُموحَه ومحاولات انفتاحه على العالم الحديث برحابة عقل وروح؟ ألا يمكننا أن ندرك كيف يتحوَّل الإنسانُ إلى مسخ بائس وطرفٍ في معارك فُرضت عليه منذ قرون ولم يتمكن من إعادة النظر في شرعيتها – فكريا وثقافيا وإنسانيا – في ضوء ما تراكم من معارف وتجارب مُضيئة ومُحرِّرة مع الحداثة الكونية منذ قرنين على الأقل؟ إنَّ الشرنقة التي تحضنُ اليرقة هي ذاتها التي تصبحُ عائقا لها بعد نموِّ أجنحتها. كذلك هو الشأنُ مع الهوية الثقافية والتراث. لا نفكرُ أبداً خارج مرجعيةٍ تراثية معيَّنة بكل تأكيد، ولكننا لن نبدعَ إلا بمقاومة أصداء الذات الجماعية فينا لينبثقَ صوتُ فرديَّتنا المُتميِّزة. هذا ما جعلني أتفقُ، شخصيا، مع كل المفكرين والباحثين العرب الذين رأوا أنَّ أزمتنا الحضارية العميقة تكمنُ في عدم قدرة ثقافتنا السَّائدة والمكرَّسة على عتق شرارة “الكوجيتو ” العربي من رماد القرون. أقول هذا وأنا لا أقصدُ، بطبيعة الحال، استنساخ تجارب الغير دون أصالةٍ ذاتية أو حاجةٍ أصيلة فينا إلى الإعلان عن جنون الحياة وصبواتها وتطلعاتها من خلالنا. فضلا عن هذا أقول، إنَّ التثاقفَ اليوم أمرٌ عولميٌّ كما أنَّ المرجعياتِ الثقافية لم تعُد جُزراً معزولة عن بعضها البعض كما كانت في الماضي وإنما هي متداخِلة ومُخترَقة وهجينةٌ بالمعنى الإيجابي، وهو ما يُتيحُ لنا أن نتكلم عن الكونية بوعي نقديٍّ يعصمنا من السقوط في شَرَك المركزيات المهيمنة بالطبع.
أحمد دلباني
كاتب