يبدو أن الحديث عن مصطلح – المسرحة ــ La theatralite ضمن ميدان الدراسات النقدية المسرحية، يجرّنا أولا الإشارة إلى التكوينية الأولى للمصطلح، من منطلق أسبقية مصطلح المسرح -le theatre- عنه، ذلك أن جيناته اللغوية / المعجمية / الدلالية / الاصطلاحية، مستمدة من صلب المسرح.
ما يعني أن مصطلح المسرحة، يمثل إفرازة مصطلحية ونقدية حديثة، ضمن مسارات الحركة النقدية المسرحية الحديثة، كل هذا جعل مصطلح – المسرحة – يرتبط أشدّ الارتباط بمختلف الدلالات المعرفية / النقدية، التي يحملها المصطلح – المسرح ـ، سواء على مستوى التشكيل اللغوي النصي أم التشكيل الإخراجي له، لذلك بات من الضروري،النظر في دورة حياة المصطلح لكل من: المسرح / المسرحة، مع التركيز على تتبع أهم المسارات المفهومية الاصطلاحية،التي أخذها كل من المصطلحين، سواء أكانت مضمرة أم معلنة، كل هذا – ربما – سيسمح لنا أن نؤطر فهما نظريا/إجرائيا – للمسرحة – من خلال تكوينييته اللغوية /الاصطلاحية / النقدية المسرحية، التي أشار إليها كل من: باتريس بافيس/ رولان بارث / كلود إيميه وغيرهم.
أولا: التكوينية الدلالية: اللغوية / المعجمية: المسرح / المسرحة:
1/ المسرح:
وردت كلمة/ لفظة في “معجم المعاني الجامع” بأوجه / صيغ مختلفة ومتعدّدة منها: مسْرح وهو: اسم مفرد وجمعه:َ مسارح وهو اسم مكان من:َ سرح، والمسرح مرعى السرح،والمسرح: هو مكان تمثل عليه المسرحية، ومسرح الجريمة: الحدث ومسرح الحادثة: المكان الذي ارتكبت فيه، وخشبة المسرح: المنصة التي يؤدي فوقها الممثلون أدوارهم، وأما رهبة المسرح: قوة التمثيل الجادة، أي المقرونة بالأداء والتحدث أمام الجمهور، وأما عامل المسرح: فهو الذي يقوم بتغيير المناظر/ المشاهد، كما يعدّل من الإضاءة، ومسرح العمليات، منطقة تتم فيها العمليات العسكرية1. وأما في: معجم الوسيط – فقد تجلى جذر لفظة المسرح بأوجه / صيغ متعددة/ متعدّدة / مختلفة / متباينة منها: مسرح اسم مفرد،وجمعه: مسارح، ومسرح الماشية: مرعاها. وأما مسرح التمثيل: المكان المرتفع، المبني من خشب – المنصة – المحدّد في قاعة معدّة لآداء تمثيليات مختلفة، والمسرح من سرح ومرعى، ومنه جاء قولهم: القرية مسرح طفولتي،
وعليه يمكن القول إن المفهوم اللغوي / المعجمي العربي – للمسرح – قد وقعت كلها ضمن المجالات الدلالية المادية / التقاطبية للمكان / الفضاء، اللذين من خلالهما تتجلى جماليات الخطاب المنجز: القولي / الفعلي، الذي تتمثله الذوات الدرامية ضمن فضاء العرض المسرحي.
2/ المسرحة:
لقد وردت كلمة / لفظة “المسرحة” في قاموس: المعجم الوسيط – بصيغ / تخريجات لغوية / معجمية مختلفة / متعددة، منها: أن المسرحة اسم مشتق من:َ سرح، التي جاء منها: المسرح، وهي على وجهين: المسرحة – بالفتح – تفعيل المكان للتمثيل / للآداء، وأما المسرحة – بالكسر – وهي اسم المكان،وعليه فهما مشتقتان من: المسرح – بالكسر – أي المشط،والمسرح – بالفتح – الفضاء الدرامي، والجمع: مسارح،والمسرح، المال السائم – الغالي – و قال الليث: هو المسرح،المال يسام في المرعى من الأنعام، وسرحت الماشية، تسرح،سرحا وسروحا، بمعنى: سامت، وسرحها هو: أسامها -مكانها السامي – ومنه جاء قولهم: أرحت الماشية، وسرحها سرحا، وفي المحصلة أنها وردت في قوله تعالى في – سورة النحل -: {وفيها تريحون وتسرحون}، أي تتلذذون، مما يعني أن المسرحة مشتقة من لفظة: سرح، ومستمدة لدلالتها من الاسم: مسرح، وقائمة في اصطلاحها النقدي النظري والإجرائي من دائرة العناصر المكوّنة للأفعال المسرحية والدرامية المتجلية ضمن مختلف فضاءات المسرح،أي أن دلالة المصطلح في تكوينييته المختلفة مستمدة من :الفضاء /الحيز / المكان الذي تشغله الذوات حين تقوم: اللعب: بمختلف الأدوار الوظيفية ضمن فضاء خشبة المسرح، ومنه تجلى مصطلح مسرحة المسرح – كما في المعاجم الغربية-
وبناء عليه يمكن التأكيد على مختلف الصلات الدلالية
/اللغوية/المعجمية / المصطلحية / الاصطلاحية، التي تربط المسرح بالمسرحة، مما يعني أن مصطلح – المسرحة – استمد دلالته المتعدّدة من مختلف الأكوان المعجمية / الاصطلاحية للمسرح، ولعلّ هذا ما سنحاول افتفاءه في هذه الدراسة الراهنة، التي تهدف للوصول إلى دراسة مختلف الأطر التكوينية: الدلالية / الاصطلاحية /المصطلحية: للمسرحة، لكن بالعودة إلى المعاجم الغربية، فإننا نلفي على سبيل المثال في معجم – لاروس -3 اتفاقا دلاليا مصطلحيا مفهوميا: للمسرحة، من منطلق أنها، موائمة / ملائمة لعمل المسرحي، مع مختلف العناصر الأساسية، التي تدخل في تركيب العمل الدرامي،هذا بالإضافة إلى إشارته لقضية الخصوصية المسرحية، التي لها علاقة بقضية المواءمة للعمل الدرامي مع ما تستدعيه العناصر البنائية للمسرح، مما يعني في جانب آخر أن المسرحة لها علاقة بنائية مع عناصر العرض المسرحي المختلفة أكثر من عناصر التشكيل النصي الأخرى، بمعنى آخر أن المسرحة تقوم جماليتها / شعرياتها الفنية /البنائية / من كون المسرح بالدرجة الأولى: استعراضا دراميا بامتياز، يقوم فيه الجمهور بتذوق العمل المسرحي، بخلاف النصّ المسرحي الذي يتلقاه الملتقى من منطلق مسرحته النصية الفنية الدرامية.
ثانيا / التكوينية المصطلحية / الاصطلاحية / النقدية: للمسرحة:
يبدو أن مصطلح: المسرحة، حديث نسبي، ظهر تداوله النقدي عند بعض البحاثة / النقاد / الممارسين في الساحة النقدية المسرحية الحديثة، على يد كل من: بافيس/ بارث / نيكولاي، وغيرهم، ذلك أن ظهور المصطلح ضمن حقل الدرس النقدي المسرحي العاصر استدعى من البحاثة إعادة النظر في الكثير من الأطر المفهومية /الإجرائية النقدية والمصطلحية المسرحية، بحيث أن دلالته – حسب هؤلاء – ملتبسة / متماهية / إشكالية مع كثير من المصطلحات النقدية المسرحية: كالعرض / الإخراج / المشهد وغيرها، بل إن دلالاته تجاوزت المجال المسرحي إلى الأدبي / الفكري / الحضار، كل هذا جعل دوائره في النقد المسرحي الحديث تتسّع لتشمل العوالم الإستعراضية / الإخراجية / المشهدية، إلى علاقاتها بمختلف مجريات الحياة الإجتماعية / الإنسانية / الثقافية / الحضارية،فالبحث في دورة حياة المصطلح – المسرحة – أو حتى في تكوينيته المصطلحية والنقدية، قد تبدو معقدة وصعبة في الوقت نفسه،وبخاصة ضمن مجالها المفهومي والمصطلحي النقدي المسرحي، ذلك أنها – وفي أحايين كثيرة – تتماها – كما قلنا – مع مختلف الأبعاد الدلالية / الاصطلاحية / النقدية المسرحية الحديثة، خاصة منها: المشهدية، وهذا ما أقره – صراحة – بافيس – في معرض دراسته للدلالة المصطلحية / الاصطلاحية / النقدية الإجرائية المسرحية لمصطلح: المسرحة من أنها: فعلا إشكالية / معقدة، بسبب انتقالها /تحولها من الدلالة الفضائية / المكانية – المسرح – إلى الدلالة الزمكانية – العرض – التي تؤطر للبعد الكرونولوجي للفضاء في علاقته بالحدث المسرحي على الخشبة، مما يجعل الخصوصية الجمالية للعمل المسرحي تتجلى من خلال فعل مسرحتها، هذا ما استدعى فيما بعد ضرورة التأكيد على الجماليات المفهومية للمسرحة،إنها جماليات: الإخراج على الخشبة – التي تتواءم مفهوميا مع الأطر الدلالية التعبيرية لمصطلح: المسرحة.
صحيح أن – بافيس – أدخل مصطلح المسرحة في قاموسه: معجم المسرح – معلنا ومقرا في الوقت نفسه، عن تداولياته النقدية المسرحية في الساحة النقدية المسرحية الحديثة من جهة وعن الحدود المفهومية النقدية المسرحية لبعض المصطلحات التي لها علاقة بمصطلح: المسرحة – من قبيل: التمسرح/theatralisation/مسرح/ممسرح، وغيرها، فالمسرحة – حسبه – تتواءم مع التمسرح، مما يعني أن هناك وشائج دلالية / لغوية / نقدية تتحكم فيها هذه التداوليات النقدية للمصطلح، كل هذا ربما صْعب – حسبه – وضع حد وقار له سواء على المستوى النظري أم الإجرائي، ذلك أن كليهما يحمل توصيفات مختلفة / متعدّدة من جهة ومتوائمة / متلائمة معها من جهة أخرى، ليصل في النهاية إلى وضع إطار مفهومي -للمسرحة – من أنها تعني: أن مسرحة حدث ما / نص ما، هو شرح / تفسير /ترجمة مسرحية، باستعمال خشبات وممثلين لإحلال / تحيين الموقف،فالعنصر المرئي للخشبة، وتموضع الحوارات، هما سمتا المسرحة،وعلى نقيض ذلك فإن الصياغة الدرامية والصراعات بين الشخصيات وفق دينامية الفعل الدرامي / الملحمي 4، مما يعني أن دلالته المفهومية – للمسرحة – يمكن انتشالها أساسا من مكون: العرض المسرحي “أي أن فعلها الإجرائي والجمالي، قد يتجلى من خلال عنصر” الحواري / الفضائي / المكاني / العاملي، إنه باختصار الفضاء الركحي الممتلئ بمختلف العلامات خاصة منها الجسدية، التي تكون في تفاعل مع مختلف عناصر العرض المسرحي سواء المادية أم المعنوية، وضمن سياق الحديث عن مفهوم المسرحة: أشار -بافيس – إلى قضية الفعل الجمالي للمسرحة، الذي يتلاءم مع مصطلح: مسرحة المسرح -RE-theatralisation du theatre-وهي على مستوى الإجرائي تمثل الفعل العضوي الدرامي، القائم بين مختلف العناصر / المكونات المادية والمعنوية للمسرح، وفي مقابل هذا الطرح المفهومي لمصطلح “المسرحة”، قدم – دورت – نموذجا مصطلحيا آخر، تمثل في مصطلح “العرض الممسرح”5 الذي يشكل تلك التجربة التي تحث المشاهد وتدعوه لإثارة غريزة المشاهد ـ اللذة /اللعب – اللذين يحققان المتعة / التطهير، على المستوى الفني وغير الفني، وتتحقّق هذه المتعة / المسرحة على الخشبة التي تحترم قواعدها المسرحية، من أجل احتواء الآداء المتعدد للممثل، الذي يستعمل طرائق استعراضية حينا ومنكرا إياها حينا آخر، وفي السياق نفسه، قدم – بريخت – مراجعة مفهومية للمصطلح، وهي:
“مسرحة المسرح”، التي تعني – حسبه – إعادة تأكيد إدراك الخشبة كفضاء ُعلامي للآداء والتمثيل والخداع، مع محاولة إعادته إلى ما كان عليه، في حقيقته المسرحية، كإطار ضروري للتمكن، من تقديم عُروض واقعية من الحياة المشتركة بين الناس”5، مما يعني أن -بريخت – أعاد صياغة مفهوم – المسرحة – ومقابلتها بمصطلح “التغريب”l.etrangete” القائم إجرائيا على البحث في الخصوصيات الغريبة، التي تجعل من العمل المسرحي، عملا دراميا بامتياز، وهو ما أشار إليه – بافيس – بمصطلح: الحالة المسرحية /l;etat-theatralle، القائم على مبدأ التعارض، بين: الأدب / الأدبية، الغريب /الغرائبية، المسرح / المسرحة، فهذه الأخيرة، تتجلى جماليا، إما على مستوى العرض المسرحي أم على مستوى التشكيل الدرامي للنص، ومن ثمة فهي تتحقق وبشكل فعلي / خاص في المشهد المسرحي، وبعيدا عن هذا السياق المفهومي للمسرحة، قدم -كلود إيميه – بديلا مصطلحيا شاملا، أسماه بـ: المسرحي -theatrique le- بحيث أن إطاره المفهومي الإجرائي يتماس مع مختلف العناصر / المكونات المسرحية، لكن وبالمقابل فإن مصطلح -المسرحي – قد تجاوز هو كذلك مجالات أخرى ، من قبيل: الأدبي /الفكري / السيميائي وغيرها، وبخلاف هؤلاء، ذهب – بيكولاي إفرينوف – إلى إعطاء بعدين لمفهوم – المسرحة – من خلال الدراسة التي قدمها عام: 1908، المعنونة بـ:Apologie de la theatralite “قمة المسرحة” ذلك أن جمالية الفعل الإخراجي للعمل المسرحي الممسرح، تتجلى على مستوى البحث في خصوصية المسرحة، من منطلق أنها انبثقت من صلب المسرح، ومن ثمة بقي مفهومها ذو طبيعة خاصة، في حين أن ارتباطها بمختلف مجريات الحياة الإنسانية / الاجتماعية / الثقافية، يكون البحث في الخصوصية المسرحية للمسرح. وفي مقابل هذا الطرح المصطلحي والنقدي المسرحي، قدم – بارث – مفهوما مغايرا لمصطلح “المسرحة” من خلال دراسته لبعض نصوص – مسرح بودلير – عام 1954، مركزا على البعدين الجمالين اللذين تتشكل منهما “المسرحة – وهما: الأول “وظيفي”، له علاقة بالأدوار الوظيفية التي يقوم بها الممثل – الذات /العامل – ويؤديها على خشبة المسرح، ومن ثم فهو، يقوم فوق كل ذلك، بعملية “المسرحة” أي يمسرح الأدوار الوظيفية. والثاني “مشهدي”، له علاقة بمكونات العرض المسرحي في المسرح، ومن ثمة تتجلى شعريات المسرحة أكثر ضمن العمل المسرحي، هذا ما يعني في جانب آخ إلى أن – بارث – حددْ مفهوم المسرحة من خلال أبعادها الإجرائية القائمة على خشبة المسرح، كما أنها في جانب آخر، تتجلى أكثر، على مستوى العرض من النص، بل وذهب إلى أكثر من ذلك أن – المسرحة -، مثلها مثل – الأدبية – تتجلى على مستوى الكتابة الدرامية، وهنا تتحدّد الفواصل الجمالية المفهومية بين الأدبي /المسرحي، من خلال عنصر النوع الفني.
خلاصة: ومما سبق يمكن التأكيد، على أن تجليات مفهوم مصطلح -المسرحة – عند البحاثة – النقاد، على اختلاف مشاربهم الفكرية /النقدية / الفنية، قد أعاد النظر في كثير من القضايا النقدية المسرحية منها الإشكال المصطلحي المسرحي الذي حفز على البحث والدرس في تكوينات المصطلحات الفنية منها “المسرحة” وهو مؤشر على ازدهار وارتقاء الفنون الدرامية والأدبية في مجال الدراسات النقدية الدرامية المعاصرة وبخاصة، إبان فترة الحداثة التي أعادت النظر في كثير من القضايا الفكرية / النقدية / المصطلحية، بدءا من الجماليات الفلسفية الهيجلية ثم الجماليات الأدبية، التي لخصها -جاكبسون – في الثورة التي أعلنها على معاصريه من المبدعين، وصولا إلى الجماليات المسرحية التي اختزلها – بافيس – في مصطلح “المسرحة/la theatralite “6 الذي يحمل في مدلوله النقدي المسرحي قضية الخصوصية الجمالية المسرحية للمسرح، وعليه يمكن القول، إن أية محاولة لوضع حدود مفهومية لمصطلح: المسرحة -يشكل في الأصل مغامرة لا تحمد عقباها ولا يمكن تجاوز عقباتها النظرية والإجرائية، كما أن التركيز على الفعل المشهدي المسرحي للعمل الدرامي، واستبعاد الفعل الفني للنص المسرحي في الوقت نفسه، قد يقلل من درجة جمالية المسرحة في المسرح، مما يعني أنها لا تخرج عن مساري: العرض المسرحي / النص المسرحي، اللذين يشكلان الفعل الجمالي للمسرحة في المسرح من خلال كل من: الجمهور / العرض/ الإستحضار.
بقلم: د/سليم بركان
جامعة سطيف2
الإحالات:
– 1 ينظر: جذر كلمة – مسرح – معجم المعاني الجامع / معجم إلكتوني/
– 2 ينظر: معجم الوسيط – جذر كلمة – سرح – مجمع اللغة العربية -القاهرة . ص: 380
– 3 voir dictionnaire larouss.ed.2009.p.288/289.
– 4باتريس. بافيس. معجم المسرح. تر: ميشال. ف. خطار. مكتبة الفكر.2007. لبنان. ص:536
– 5ينظر. باتريس. بافيس. معجم المسرح. ص:536
– 6 ذكرته. ماري إلياس. حنان قصاب. المعجم المسرحي – مفاهيم ومصطلحات المسرح – مكتبة لبنان. ناشرون.