إذا كان موضوع “النساء والهجرة” في فرنسا قد أخذ حيّزا معتبرا من الاهتمام منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فإن موضوع المعتقد الديني للنساء المهاجرات قد ظل مغيبا ومسكوتا عنه، وقد نتج عن هذا التهميش ظهور هالة من التساؤلات حول فكرة “تأنيث المهجر” في ظل التركيز عما يعرف و يتعلق بـ”لم الشمل” أو التجمّع العائلي.
الشيء الذي أدى ـ منذ تلك الفترة ـ إلى ظهور نزوع نحو أمثلة وتمجيد الدور الذي لعبته النساء المهاجرات في فرنسا والمتمثل في حضانة ورعاية الأطفال في ظلّ تجاهل وضع المهاجرات الأرامل والمطلقات اللواتي فاق عددهن أربع مرات عدد الرجال عام 1982، حسب تقارير المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية INSEE.
تأليف: سيمونا ترسيني ترجمة: وسيلة بوسيس
كان المعتقد الديني في إطار الهجرة الشمال إفريقية وما بعد الكولونيالية مدروسا من زاوية نظر المهاجرين الرجال خاصة في علاقة هذا المعتقد مع فكرة إنشاء أماكن العبادة، ومدروسا كذلك من طرف النساء سليلات العوائل المتدينة بالدين الإسلامي.
إن ندرة الأبحاث حول موضوع إسلام المهاجرات، ليحيل إلى تحوّل مزدوج في أنظمة التمثيل، الأمر الذي يستدعي استنطاق دور العلوم الاجتماعية حول “بناء مواضيع للدراسة قبالة تصنيفات ملفقة من أجل إرساء هرم للتراتبات الاجتماعية؛ التحوّل الأول يعود إلى زحف الأقليات الداخلية إلى الخارج، ثم يعود إلى “المهاجر” وبعدها إلى “المسلم”.
يشرح أليفي Allievi فعل تغيّر المواقع المرتبط بهذه التصنيفات بناء على الظروف المصاحبة (سواء تعلّق الأمر بتحوّل أوضاع الهجرة في أوروبا أو ببزوغ محرك جوهري هو الدين الإسلامي)، إضافة إلى التطورات التي ارتبطت على المدى الطويل بفكرة الاستخدام المتزايد للفئات التفسيرية المؤسسة على خلفية دينية، من هذا المنظور يشكّل الإسلام الحالة المثلى لهذا الاستخدام. أما التحوّل الثاني فيحيل إلى الرؤية الحديثة التي اكتسبها الخلف االنسوي المسلم عن السلف الرجولي المسلم. حدث هذا التغيّر الأخير في ظرف علمي خاص ومحدّد كان خلاله خَلَف العائلة المهاجرة من المسلمات قد توقف عن استدعاء الدين من أجل شرعنة مسعى الدعوة إلى تنفيد المطالب الشعبية التي تتكىء على المرجعية الدينية.
في الوقت الذي تقوم فيه العلوم الاجتماعية بتحليل علاقة النساء المسلمات مع فكرة الإيمان من خلال معجم تحديد الهوية وتحديد الممارسات والالتزامات، فإن هؤلاء المسلمات الشابات يؤكدن أرضية مطالبهن المرفوعة من خلال الاتكاء على خلفية حقوق الإنسان وفي الواقع، فإن الظهور المعاصر الفائق للمعتقد الديني لدى الخلف المسلم من النساء ما هو سوى “تتابع سلاسل عدم الظهور المتشابكة”، للدين أو اللادين لدى النساء المهاجرات في سوسيولوجيا المهجر الفرنسية، هذا الحقل المعرفي الأخير الذي عُرِف منذ البداية بغياب الأعمال حول الممارسات الدينية في المهاجر، خاصة المتعلقة بجنس النساء (1960-1985) والذي انتهى إلى اعتبار الموضوع الديني موضوعا مشروعا وقابلا للبحث من خلال استنطاق وبحث دور النساء المهاجرات. كان لابد أن ننتظر السنوات الأولى للألفية الثانية 2000، لكي نطّلع على أعمال لمختصين في علم اجتماع المهجر طرحت وبشكل صريح مسألة التماثلات القائمة بين الجنسين: رجال/نساء حول موضوع المعتقد الديني وكذا مسألة التخطيط الاستراتيجي الديني من زاوية نظر المنظومة الجندرية: جنس- نوع.
لم يمنع تأخر تناول البحث الاجتماعي في فرنسا لمسألة الدين داخل المهاجر من اللجوء إلى اعتبار الدين وسيلة لتصنيف الأقوام المهاجرة، غير أن التحليل السوسيولوجي يكتفي بإقرار فكرة اعتبار النساء المهاجرات عبارة عن تشكيلات من العناصر البشرية المهمشة غير تامة الفعالية .
سننطلق من الفكرة السائدة أن “الأقلية هي بدورها محرك جوهري في عمليات التصنيف والترتيب وبالتالي التشكيل الهوياتي”، القائمة على أشكال متداخلة من الاضطهاد، متعرضين إلى مفهوم فاعلية النساء المهاجرات على الصعيد الديني، ثم عرض مستفيض يضبط فكرة التقسيم على أساس جنسي لمجال العمل الديني وهامش المناورة في هذا المجال لدى المهاجرات انتهاء إلى المحطات الثلاث الأخيرة التي هي فكرة الربط بين الفاعلية النسوية والوصاية الذكرية المحتكرة لدور نشر الفكر الديني داخل المهجر، الربط بين طريقة نشر الفكر الديني الخاصة بالجيل المسلم الصاعد الموروثة عن الخلف وحدود التصرف في ابتكار الطرق الجديدة، وأخيرا الربط بين نقل الفكر الديني الإسلامي عن طريق المصدر الذي هو (الأم) وهامش المنافسة مع المصدر الآخر الذي هو (الزعيم الديني)
أولا مفهوم الفاعلية من زاوية نظر دينية لدى النساء المهاجرات في ظلّ ألوان متشابكة من الاضطهاد
تقدّر كثير من الباحثات المختصات في التاريخ النسوي، أن نطاق نشر الفكر الديني والممارسات المتعلقة به من طرف النساء قد اتّسع على حساب نظيره الرجولي في الوقت الذي تصرم فيه حبل العلاقة بين السياسة والدين. في فرنسا حدث اشتباك بشأن حقوق النساء بين تيارات علمانية حول كيفيات تنظيم تقاطع المجالين السياسي والديني ترتّبت عنه آثار اجتماعية مسّت التوازنات داخل منظومة النوع الجندرية، رغم وجود أرضية المعطيات هذه لم يستجب لمؤثراتها حقل البحث الفرنسي المتعلق بمسائل الهجرة والعلاقات بين الإثنيات الذي لم يشهد خلال مسيرة تقدمه التدريجي أبحاثا تتعلق بمسألة علاقة النساء المهاجرات مع عوالم الماوراء (الميتافيزيقية) كما لم يتطرّق إلى العقبات التي اعترضت طريقهن سواء من طرف المجتمع أو من طرف جماعتهن الدينية أو حتى من طرف المهاجرين المشتركين في ذات الانتماء الديني.
على يد أخرى ساهمت كثير من الأبحاث في استنطاق الصورة السلبية اللصيقة بالنساء المهاجرات في مجالات البحث التي عالجت مسائل: العمل، المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والمواطنة، لكن مع ذلك يبدو أن تحليلا يطال النساء والرجال معا في البيئة المهجرية سيأخذ طابع الشمول والاتساع حين ينفتح على الأسئلة والقضايا الدينية. علاوة على ذلك، فإن وضع المهاجرين من الجنسين – بالنظر إلى التزامهم الديني وخضوعهم إلى تصنيفات تتكئ على خلفية دينية – يدفع إلى التساؤل حول مختلف مظاهر قبول أورفض الخلف المسلم من النساء لعلاقتهن القائمة مع مصدر التوريث الديني الأبوي، هل يقبلن أم لا ميراثهم الديني المادي والمعنوي؟ بصيغة أخرى كيف تتمّ إعادة استثمار هذا الميراث في سياق إثنية العلاقات الاجتماعية التي تحيلهن إلى أصولهن الثقافية والدينية؟ يفرض هذا التساؤل قطيعة أولى مع إجابة منغلقة تتعلق بوجود اضطهاد حتمي يحوم حول علاقة النساء بالدين كما يفرض في الوقت نفسه قطيعة ثانية مع فكرة أن تكون هذه العلاقة، علاقة توافق وانسجام في حالة نساء المهجر، فإذا كانت النساء المهاجرات أو سليلات السلف من المهاجرين المسلمين أو الملحقات بتصنيفات ذات طابع ديني توصلن إلى خلق علاقة نوعية وخاصة إزاء المعتقد الديني، فإن ذلك يعود إلى المكانة الخاصة التي تحتلها هؤلاء النسوة في إطار العلاقات الاجتماعية، فالوضع الاجتماعي هو الذي يتحكّم في المكانة المحتلة داخل المجال الديني.
إن الطرح الرابط بقوة بين العلمانية وحقوق النساء قد تأسس في سياق أوروبي علماني، حيث كان الدين رافدا يغذي المخيال الذي يحكم إدراك الذات والآخر وهنا نستعيد قولا بليغا لمنذر كيلاني، مفاده أنه كان هنالك “ثبات للعامل الديني باعتباره مقولة كبرى في ترجمة وتفسير أشكال الاختلاف الثقافية”، هذا المخيال الديني ليس بالضرورة مكونا بانيا للمحتوى الديني أو العقدي، إنه مخيال كاشف للهوية التاريخية والثقافية. في هذا المستوى من التمثيل يمكن تعيين من ينظر إليهم على أنهم دخلاء وطارئون على المجتمع من الجنسين بواسطة تسميات وألقاب دينية في حين أن هذا التعيين لا ينطبق على كثير منهم، إذ نجد بعض الأفراد من أصول دخيلة (جنوب أوروبا، أوروبا الغربية، المغرب العربي، افريقيا الغربية، الشرق الأدنى) أُلحِقت بهم مسبقا تصنيفات متكئة على الخلفية الدينية. إن هذه الترميزات التصنيفية لاتهمهم بالضرورة ولكنهم مع ذلك اتخذوا إزاءها بعض المواقف من خلال خلق أشكال من الفاعلية تتجاوز مفهوم الحرية والمساواة التامة.
إن الاشتغال على موضوع تقسيم المهام الدينية على أساس جنسي يستدعي عدم التقليل من حجم الاضطهاد والظلم بأشكاله المتداخلة الذي طال النساء المهاجرات وسليلاتهن من الخلف المسلم، كما لا يجب نسيان الوضع المتميّز بالتنافر واللاتجانس لكل من “الطبقة الاجتماعية، السّن، الجيل، الجنسية، إلصاق تهمة “الإثنية”، التعيين على أساس عرقي، الوضع القانوني، المكانة داخل منظومة الأسرة، الممارسات الاجتماعية والسياسية”.
ثانيا: التقسيم على أساس جنسي لمجال العمل الديني وهوامش المناورة الأنثوية
إن الفاعلية باعتبارها نزوع إرادي نحو الفعل والتموقع فرديا، جماعيا، سياسيا لا تستثني من حقل الدراسة موضوع التقسيم على أساس جنسي لمجال العمل الديني في المهجر بناء على مبدأ التداول في الموارد الدينية (الثقافية عموما) المكتسبة داخل الأسرة بفعل تكييف أفرادها مع طابع الحياة الجماعية. هذا التقسيم على أساس جنسي لمجال العمل الديني الذي تشغله الأقليات في الفضاء المهجري يمكن أن يظهر مجددا داخل الفضاء العمومي خلال تقاطعات معيّنة غير منتظرة، لا هي من صميم السلوكات التأملية المسؤولة من قبيل وضع الخمار، ولا هي من صميم تقسيم الأنشطة تقسيما جنسيا، كما هي الحال في سياق العمل الجمعوي النضالي.
من جهة أخرى، فإن التداخل بين التاريخ العائلي والالتزام الديني في إطار ما واجهنا على هامش البحث كثيرا ما يطفو إلى السطح دون أن يصوغه الباحثون المهتمون في أطر مفهومية، بالمقابل فقد ركّزنا على طريقة الأمهات في إدراج الممارسات بما في ذلك الممارسات التي يبتعد عنها أو يدّعي القطيعة معها الفاعلون الاجتماعيون (الخلف/ الأبناء)
يشير المقال المميّز لجوليان فريتل Julien Fretel، الذي يتمركز حول المناضلين الكاثوليكيين للتجمع الديمقراطي الفرنسي UDF – وإن كان لا يعني بشكل مباشر المهاجرين وأبناءهم – إلى وجود دور”تربية أبوية دائمة الاستمرار”، أثّرت على مستقبل التكيف الاجتماعي / السياسي لمن تبناها.
تمكن زاوية نظر فريتل – في تركيزها على رأس المال الديني النضالي – من تشريح دور الأمهات داخل مجال التكيّف الاجتماعي / الديني داخل المهجر، فإذا كان جوليان فريتل يقتصر على استعارة مفهوم “التنئشة الاجتماعية القائمة على اللامبالاة” لجاك ميتر، فإنه يبدو أن مختلف أشكال التوريث وعدم التوريث الأنثوية التي تؤثث الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تكون مفصولة عن التشكيلات الإيديولوجية والإحساس بشرعيتها وعدم شرعيتها ولا عن التنظيم الاجتماعي الناتج عنها.
لهذا فإن إيعازات التوريث المختلفة التي يخضع لها المهاجرون وكذا ممارسات الهيمنة المنوطة بها هي المحور الذي تدور حوله منظومة الجنس – النوع، الشيء الذي ينزلق بالتحليل من الميدان المختص بالهجرة صوب العلاقات العبر إثنية. يبزغ هنا السؤال عن التوريث من جانب أولئك اللواتي يمارسنه (الأمهات) وليس فقط من جانب أولئك الذين واللواتي يتلقونه، كل ذلك في ظل الإمساك بالرابط الذي يصلنا بأنظمة الاستعادة المؤسساتية (الذكورية خاصة) للاستقلالية الدينية التي تكون النسوة قد اخترقنها شيئا ما، ذلك أن المساهمة المعقدة للمهاجرات في التوريث الديني قابلة للتحليل على مستويين: الأول هو الانتماء الرمزي إلى “خط عقدي” – بمعنى يقترب من مدخل تطبيقي إلى تجربة دينية ذات طابع عاطفي – والثاني كنوع من تحصيل معرفة خاصة سواء اتصلت أم لم تتصل بالمؤسسات الدينية.
ثالثا: الفاعلية الذاتية والوصاية الذكرية على التوريث الديني في المهجر
إن تحديات مجموع الممارسات المساهمة في توالد الكائنات البشرية على مستوى العمل المنزلي في شكلها المنوط بمسارات التكاثر الجسدي (الرعاية الصحية، التكيف الاجتماعي مع المعايير الثقافية، التعليم..) هي تحديات تتعلق بمجموع الأفراد المجتمعين تحت نفس الأنماط: الشمال أفارقة، العرب، البور، المسلمون. إننا نشهد بشكل ما نوعا من التركيز على واجبات المرأة من قبيل (تحضير الوجبات، رعاية الأطفال في السن المبكر، المحافظة على أدوات البيت) وكذا واجب التوريث. في إطار بحوثنا في سلك الدكتوراه في أكتوبر، ذهبنا إلى مدينة العلوم والصناعة “لافيلات- باريس” أين التقينا بباحثات في المركز الوطني للبحث العلمي كن قد اقترحن نقاشا في أعقاب بث شريط تمّ تصويره في رمضان وكذا على هامش عيد الأضحى .لاحظنا أن هنالك أمهات يعلمن بناتهن قلب خبرة الكسرة على الطاجين الساخن وكذا تحضير أطعمة للمناسبات وخاصة مشاركة الوجبات بعد تدخل إثنولوجية شابة في غضون النقاش، روت امرأة ادعت أنها قبائلية كيف أنها كانت مجبرة من قبل أمها على الاعتناء بإخوتها وأخواتها في البيت رغم رغبتها الشديدة في التعلم والتثقف في المدرسة خلال فترة مراهقتها، كانت أمها تعلمها كيف تتحول إلى زوجة صالحة.”كنت شابة ثائرة في السبعينات أصررت على إنهاء دراستي رغم أن ذلك لم يكن أولوية أبوي”، إلا أن أمها لم تعلمها بشكل جيّد اللغة القبائلية التي تعلمتها من تلقاء نفسها لكي تعلمها لابنتها لاحقا بدلا من الطبخ (“ستتعلم الطبخ ذات يوم إن كانت تلك هي رغبتها)…كانت ابنة هذه المرأة بجانب أمها وقد أقرت علنا: ما هو مهم بالنسبة لجيلي هو طريقة تلقيننا”، فإذا كان التحدي قديما هو قبول المرأة الشابة من قبل عائلة الزوج فإن التحدي اليوم مختلف كما تقول: لست مجبرة على أن أحاسب من قبل أي شخص، حتى الطبخ سنطبخ بشكل مختلف” ثم إن المرأة وابنتها متفقتان بأن المهارة تورث بعيدا عن كل أشكال الإكراه سواء من خلال النظر والملاحظة أو من خلال مختلف المكالمات من أجل الحصول على طرق تحضير أطباق الأمهات . كانت هنالك امرأة في القاعة ذكّرت بأنه يتم أحيانا تنظيم جلسات جماعية لتعليم الطهي أثبتت جدارة عالية وأثبتت خاصة بأن الطبخ التقليدي ليس متروكا تماما، حتى وإن كان سبيل تعلم هذا الطبخ بعيدا عن مطبخ الأم إذ يتم على هامش حفلات جماعية كما يقول أحد المتدخلين في القاعة: وذلك حتى في الحالات التي يملك فيها الأبناء إمكانيات واسعة للتكوين في الحياة من قبل أمهاتهم” إن هذا المتدخل ينتهي من خلال مداخلته إلى رفض سلوك هؤلاء الأمهات اللواتي يمتنعن عن القيام بدورهن في السياق المهجري، كما يرى، أي المحافظة على قيم البيت وقيم توريث الدين الإسلامي، إنه يهين المرأة وابنتها في نفس الوقت مؤكدا الدور الثانوي للرجال خاصة أثناء الحفلات أين يبدو دورهم محدودا.
فعلا فالتركيز على النساء ليس له ما يقابله إذا ما عاينا المهارات الرجالية على هامش الشعائر وخاصة فيما يتعلق بالأضحية، بل إن هنالك من الرجال من يتمتع بتعليم النساء جهرا كيف تتم بعض الأعمال المنزلية وكذا بتعيين ما هو جدير بالتوريث من عدمه، وذلك حسب ما لاحظنا من نقاشات كثيرة منظمة لم يكن موضوعها أصلا مسألة التوريث. إن للنساء -المسلمات – مسؤوليات كبيرة في عملية التمثيل الثقافي داخل جماعاتهن وفي رسم الصورة المرتبطة بمكانتهن وسط أغلبية الفاعلين الاجتماعيين.
في بحوثها المجراة في وسط عائلات السفارديم في منطقة سارسيل تُجلي أني بنفنست Annie Benveniste ، مفارقة نجدها أيضا اليوم في كنف العائلات المنحدرة من أصول شمالية افريقية، فالأمهات المهاجرات يواصلن المحافظة على القيم العائلية وإعطائها معنى. بالمقابل فإنه، إذا كانت الأمهات ضامنات للتقاليد الثقافية داخل البيت وخاصة من خلال ضمان تربية الأطفال في سنوات مبكرة وكذا المحافظة على الممارسات الغذائية، فالملاحظ هو أنه غالبا ما يتم تجاوزهن من قبل الأبناء الذين يدّعون معرفة هذه التقاليد خيرا منهن . نتيجة لذلك فإن هؤلاء الخلف يحاولون فرض استراتيجيات هوياتية متعددة جديدة ومبتكرة على أمهاتهن من خلال إحلال سنن قيمية تعيد ابتكار أشكال جديدة لهذه التقاليد، يمكننا هنا أن نستحضر استهلاك اللحم الحلال أو نظام الحياة المرتبط بوضع الخمار . يحدث لأدوار السلطة فيما بين الأجيال أحيانا أن تنقلب بواسطة تواصل ديني استرجاعي سواء عند السفارديم وعند العائلات المسلمة . إن الوعي الأصولي للإسلام قد حوّله إلى ديانة غير متماشية مع مبادئ الجمهورية ولا مع الحداثة، ونتج عن ذلك خطر على مستوى الاندماج الاجتماعي في فرنسا عموما ، وعي نراه ينتقل إلى هذا الخلف وفي حين نجدهم يتمتعون بالحق في الإدراج الاجتماعي لديانتهم نجد الصورة المنوطة بهم هي أنهم جماعة لا ولاء لها إلا للعقيدة الإسلامية التي من مخرجاتها القاعدية غلبتها على باقي مكونات الميراث الثقافي، الاعتقاد في مرحلة ما بأن هذه السلبية إزاء التواصل بين الأجيال لم تكن كذلك إلا أن الواقع هو أن هذا الخلف المهاجر المسكون بهاجس الولاء الإسلامي، بعيدا عن الوعي العالم والعارف بقواعد الدين ، ليصبح الولاء للجماعة (مسلمو فرنسا، العرب، المغاربة، أبناء شمال افريقيا، ومناضلون متنوعون) مرتكزا على الاستقلال التام في القرارات المبنية على الإسلام بعيدا عن قرارات الآباء والأمهات وعن حق الأبوة عن الأبناء.
يعتبر سليمان (مراهق في عمر 13 سنة، ولد في مدينة نانتير من أم جزائرية أقامت في المهجر منذ أن كانت في السادسة عشر من عمرها) ابن إحدى محاوراتنا على هامش بحوث الدكتوراه بأنه ينبغي على الفرنسيين في أيام العيد ألّا يُظهروا أية علامة من علامات الاستنكار لمشاهد ذبح الأضاحي ..يقول: “إننا نشعر بأننا هنا فقي فرنسا لسنا مواطنين تامين، ولسنا في بيتنا” لكي يستطرد فيما بعد معلّقا على قواعد النظافة والصحة العمومية المرتبطة بالأضاحي، بل إنه ينتهي إلى أن يقول بأنه غالبا ما يمتنع عن أكل اللحم في تلك الفترة بسبب الروائح القوية أما عن رؤيته للإسلام فإنها ـ من دون وعي منه – مأخوذة مباشرة من المواقف الرسمية التي اتخذها ممثلو مسجد باريس ودافعوا عنها في نهاية الثمانينيات، مواقف تسير في مسار الرؤية الغالبة للسكان الأصليين (جزء لا يتجزأ من رؤية سليمان تذكر بموقف الراحل عباس الشيخ عميد المعهد الإسلامي في باريس. ففي عام 1987 ، جادل علنًا بأن ذبح الأضاحي يدين حكمًا سلبيًا على الإسلام وليس له مكان في فرنسا. من خلال اقتراحه على المؤمنين استبدال تضحيات الأغنام بـ”ذبح الدجاجة في المنزل”، طلب ممثل الإسلام من جمهور المسلمين “المحافظة على الجزء الروحي الحميم والانفصال عن الجزء الظاهر منه”. بالاختيار بين ما يمكن أن ينتقل في إطار الحياة الفرنسية وما من شأنه أن “يصدم” غير المسلمين. تشكل الدعوة التي وجهها هذا العميد إلى المسلمين نوعًا من الامتناع المزدوج المرتبط بنظرة المجتمع الفرنسي؛ الامتناع عن التضحية بالأغنام يعني هنا نوعين من “الاختزالية” للمسلمين. فمن ناحية ، يتعلق الأمر “بالتأنيث” من خلال التضحية بالدجاج الذي يرتبط غالبًا بالطقوس النسائية الشعبية ذات النظام الديني السحري. ومن ناحية أخرى ، فإن هذا يعني فقدان الخبرة المتعلقة بأداء طقوس قاعدية مثل ذبح الخراف للأضاحي في مواجهة قيم الإسلام نفسه ، بقدر ما يتعلق بوضع الأب؛ رب العائلة و بمسؤولية سلطته المتدفقة مباشرة من المصدر الإلهي). وبهذا رأينا بأن ظاهرة حياء الشابات المسلمات (اللواتي يضعن الخمار) ينبني تحت النظرة المتأقلمة للأمهات. بل إن مفهوم التعاليم اليومية التي أدّت إلى تشكل هذا الحياء يبلغ أحيانا حد إدهاش هؤلاء الأمهات أنفسهن بل إن بعض هؤلاء الأخيرات يبلغن درجة الصدمة ويرين في سلوك بناتهن مبالغة معينة، من ذلك مثلا فكرة أن هؤلاء البنات يملن إلى المحافظة على حجابهن حينما يجدن أنفسهن بعضهن مع بعض وحتى داخل البيت.
بالفعل فقد لاحظ كثير من الباحثين، بأن في توريث الإسلام للأبناء غالبا ما يجد الآباء المهاجرون – ذوي التجربة المحدودة على مستوى الوعي العلمي بالإسلام- أنفسهم متجاوزين من قبل الأنشطة الجمعوية والدعاة الدينيون النشطون جدا في إطار الحاجات السوسيوثقافية للتنشيط وخاصة في مدارس الأحياء الخاصة.
علينا أن نلاحظ من جهة أخرى بأنه قلما تم وضع اليد على مدى الدور الذي يتم لعبه في خلق المسافة التي نحن بصددها بين الجيلين ولو على المستوى التواصلي من خلال لوم يتم إلقاؤه على الآباء سواء من قبل الأبناء ومن قبل الدّعاة والمشايخ والمؤسسات المذكورة أعلاه. والحاصل هو أن تموقعات الأبناء بالنسبة للإسلام يمكنها أن تعيد رسم خريطة التديّن على مستوى الآباء.
على مستوى خاص لوحظ أن بعض الأمهات قد طوّرن آليات خطابية وممارساتية تعدّ إسلامية وتندرج في إطار توريث الدين على شكل أدوات وشهادات مضادة للتيار المذكور أعلاه. فالاحتفال بالمولد النبوي في مقرات جمعوية تابعة لناد من نوادي الرعاية بمنطقة نانت Nantes المشتغل عموما في الميدان الشبه مدرسي يشكل نوعا من الحياد عن الدعم المدرسي الذي يقدّمه رجال بقندورة ولحية وحذاء رياضي نايك Nike يستجيب لنداء آخر صيحات الموضة، فبالنسبة لبعض الأمهات من أصول تونسية جنوبية ومن أصول وهرانية ، يعد إحياء المولد بمثابة ضربة إعلامية تستجيب لحسابات دينية حقيقية تسمح لهن بممانعة التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للمشايخ والقادة الدينيين من خلال التذكير بدور الأمهات اللواتي يلدن ويربّين مسلمي الغد ” لايهم إن لم يكن هذا الاحتفال مدرجا ببرامج الاحتفال بمكة لأننا نحن نحتفل به دائما في البيت” في الواقع فإن هذه الاحتفالات موضوع لجدل واسع بسبب أن كثير من المسلمين لا يعترفون بها ويعدونها مجرّد تقليد أو حتى بدعة ..إن المولد النبوي، بصفته احتفالا تقوم به الأمهات المسلمات ويعلي من شأنهن ، وبصفته عادة شعبية أكثر منه عبادة لايدخل أبدا في دائرة المطالب الاجتماعية
المولد النبوي إذن احتفال هامشي لدى بعض الأقليات لا يندرج ضمن الصالح الجماعي كما يحدده مناضلو الحركات الجمعوية المسلمون وكما يحدده الممثلون الرسميون للإسلام في فرنسا. تكمن إذن أهمية المولد في إعطاء فسحة للظهور على المستوى المحلي للمغتربات، وفي إضفاء شرعية لمقاربة غير علمية ولا فقهية للفكرة الدينية، دون أن يقف خلف ذلك المبتغى الذي هو جعل هؤلاء المغتربات مواطنات مسلمات.
خلاصة القول
إن ملاحظة عدم التوازن بين الأعمال المنجزة حول الممارسات والتحركات المنوطة بتديّن المهاجرين ثم تدين خلفهم من جهة وكذا الأدبيات المرتبطة بإسلام المهاجرات من جهة أخرى، قد لعب دورا في توجيه تحرير هذا النص في عملية رصد دقيق لأبناء عائلات العمال والمغاربة المولودين في فرنسا بناء على قانون لم الشمل، فإن كل من بريفيجليري وستافو دوبوج()…، يشيران إلى مجاميع من النصوص السوسيولوجية تسمح بظهور أشكال كثيرة للتبعية وحتى السّحق المسلطين على استقلال الأطفال. إن الاستبداد الأبوي للمهاجرين، وكذا الهيمنة التي يمارسها الإسلام بحكم مطالبته بالانخراط التام لهي ظواهر جديرة بالتأمل فيما وراء الخطر الذي يشير إليه المؤلفان بريفيجليري وستافو دوبوج والمتعلق بمسألة انهيار تقدير الذات لدى جيل كامل من الشباب قد يصاب في ثقته بنفسه وبقدرته على الاعتناء بنفسه. بالفعل إن الثقافة والدين الأصليان على اعتبار كونهما عقائد يمكنها أن تساهم في تشكيل المفاهيم التي يستعملها المعنيون في تحديد مختلف الأوضاع ، كل ذلك مواضيع لم تخضع لميكانيزمات التفكيك الكافية خصوصا من وجهة نظر المهاجرات الحاضرات في اللعبة الاجتماعية كأمهات حاملات لاستعدادات خاضعة للتحول ، فهن في الواقع لازال ينظر إليهن على أساس قدرتهن على إعادة إنتاج أشكال قيمية بلا صلة مع الصلات الاجتماعية وبصفة مستقلة عن سياق الهجرة. إن تحدي المغتربات المسلمات يتموقع تحديدا بالنسبة إلى المسافة المحققة من قبل الأبناء إزاء الميراث الأمومي الذي يندرج ضمن العلاقات الاجتماعية بين الجنسين، ففي أصل تموقعات كثير من الشباب المسلم توجد دائما صور ذكورية – سواء كانت بطولية كما هي الحال مع القواد والمشايخ ذوي الكاريزما أو كانت مؤسساتية كما هي حال عميد المعهد الإسلامي لمسجد باريس –
إن إسلام المهاجرات المؤمنات مبدئيا لا هو إسلام سلفي في حد ذاته ولا هو ضد إسلاموي في المطلق، ولا شعبي ميتافيزيقي خرافي .
إن مسألة التموقع بالنسبة للسلوكات والخطابات لهذه الوجوه الإسلامية الفرنسية المعاصرة، في مقابل الإلزامات الذكورية ومتطلبات المجتمع الأصلي ذي الغلبة العددية هي المسألة الحاسمة أثناء تحديد المغتربات لفهمهن للدين، إنهن يفعلن ذلك بشكل جماعي ( على هامش تبادلاتهن في السوق أو على هامش الأشغال الجمعوية والجماعية في أحيائهن السكنية ، وكل ذلك وسط إمكانيات للجدل والصراع) ، كما يحدث أن يفعلنه بشكل فردي على هامش ممارسة هذا التوريث الذي يكتسب شيئا فشيئا كثيرا من الوعي بالأوهام التي قد تجرّها العادة والتكرار.
-
المقال الأصلي
Simona Tersigni :Catégorisations des migrantes par le religieux et agentivité autour de l’islam.Cahiers de la Méditerranée,Vol.78, 2009.pp119-129.