في هذا الحوار، تتحدّث الناقدة والباحثة الأكاديمية الدكتورة آمنة بلعلى، عن علاقتها الوطيدة حدّ التورط بالنقد، وعن بدايات هذا التورط مع عالم النقد بكلّ سياقاته ومناهجه ومصطلحاته وإشكالاته، وعن مجموعة من الاِنشغالات والإشكالات النقدية والأدبية، منها إشكالية المصطلحات الوافدة و- التي ترى أنّها كانت ولا تزال إشكالية لصيقة بالنقد العربي المُعاصر.
تخوض في النقد العربي الّذي ظلّ يغرف وينهل من النقد الغربي ومن مدارسه ومصطلحاته وتجاربه. وعن هيمنة المناهج والمدارس النقدية الغربية، وإلى أي حد اِستوعب واستفاد النقد العربي من النقد الغربي ومن مناهجه ومصطلحاته؟ ولماذا في ذات الوقت لم يخلق النقد العربي تجاربه النقدية ومناهجه ومصطلحاته الخاصة؟
كما تطرّقت الدكتورة بلعلى، وفي ذات السياق دائمًا لدور النقد في الجزائر، وما مدى إحاطته بالنماذج الروائية الجزائرية، خاصة ما تعلق بالإحاطة القرائية والمعرفية إلى جانب الإحاطة الفنية. بلعلى خاضت في كلّ هذه النقاط وفي إشكالات أخرى كثيرة ذات صلة بالنقد والمنهج والمصطلحات والرواية والأدب، بكثير من التحليل والعُمق النقدي والمعرفي. نكتشف كلّ هذا من خلال هذا الحوار الشامل.
أنا جزء من حركة النقد الجزائري، ولذلك أنا دومًا أتحدّث عن محنته وأسئلته التي لم نجد لها أجوبة
للإشارة، الدكتورة آمنة بلعلى، أستاذة التعليم العالي قسم اللّغة العربية بجامعة مولود معمري/ تيزي وزو، أستاذة النقد والسيميائيات، مديرة مخبر تحليل الخطاب في نفس الجامعة. وإلى جانب كِتابها “المُتخيّل في الرّواية الجزائرية: من المتماثل إلى المُختلف”، لها أيضا مجموعة من الكُتب من بينها: “أبجدية القراءة النقدية” الصادر العام 1995 وهو دراسات في الشّعر المُعاصر، “مشروع البعث والاِنكسار في الشّعر العربي المعاصر”، “أثر الرمز في بنية القصيدة المُعاصرة” العام 1995، “تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج المعاصرة” العام 2001، “أسئلة المنهجيّة العلميّة في اللّغة والأدب” العام 2005، “سيمياء الأنساق: تشكلات المعنى في الخطابات التراثية” 2010 عن الاِختلاف/الجزائر والدار العربية للعلوم ناشرون/لبنان. وغيرها من الكُتب النقدية المهمة. الدكتورة بلعلى لها أيضا إسهامات في الترجمة، منها ترجمتها لرواية “القديس أوغسطين في الجزائر” لكبير عمي، والتي صدرت عن منشورات آلفا بالجزائر العام 2008.
لعلّ أهم ما أمدتنا به الثقافة الجديدة أنّها مكّنتنا من طرح أهمية المنهج في تحليل النصوص
أنتِ أستاذة المناهج النقدية وتحليل الخطاب بالجامعة الجزائرية واهتماماتك تنصب على النقد وإشكالاته وخطاباته ومقارباته. علاقة وطيدة حدّ التورط ليس من باب التخصّص فقط، ولكن من باب الشغف ربّما وحب هذا الحقل. فكيف كانت بدايات التورط مع عالم النقد بكلّ سياقاته ومناهجه ومصطلحاته وإشكالاته؟
آمنة بلعلى: حين دخلنا الجامعة قبل أربعين سنة من الآن، كُنا عايشنا الصراع بين المتشبعين بالثقافة المشرقية وأولئك الأساتذة الذين درسوا في فرنسا وجاؤوا محمّلين بأفكار جديدة ومصطلحات جديدة وطرائق مُغايرة في تحليل النصوص. وكُنا نُعايش ذلك الصراع الّذي وجّه نشاطنا العلمي طلبة منذ منتصف الثمانينات وكان طبيعيًا أن ترجح الكفة في الأخير لصالح الجديد، وأصبحنا نسمع في كلّ سنة عن منهج جديد وأسماء ومصطلحات جديدة، ولعلّ أهم ما أمدتنا به هذه الثقافة الجديدة، أنّها مكّنتنا من طرح أهمية المنهج في تحليل النصوص، وكنا قبل ذلك نكتفي بشرح النص لغويًا واستخراج الأفكار والاِنتهاء إلى ما أراد الشاعر قوله كما نريده نحن، كما وجّهت اِهتمامنا نحو الرواية التي عرفت اِزدهارها في الثمانينيات وبروز روائيين جُدد كواسيني والزاوي والسايح وخلاص وبقطاش ومفلاح إلى جانب الطاهر وطار وبن هدوقة وغيرهم، وكنا مزهوين بهذا الاِنتصار على التقليد وبكثير من الاِرتباك والغموض، حين صادفتنا كُتب، واستمعنا إلى مصطلحات أحالتنا إلى قراءة النقد الفرنسي، ووجدنا أنفسنا بالصدفة داخل هذا التيار الكبير، الّذي عنوانه المناهج النقدية المعاصرة وفي مقدمتها البنيوية والسيميائيات السردية، التي كانت لها ملتقيات دولية تعمل على تسويقها كملتقى عِلم النص منذ العام 1990 في كلّ سنة في جامعة الجزائر، يتدارس المشاركون المنهج تأريخًا وتطبيقًا.
وعندما سافرت إلى فرنسا سنة 94 لتحضير الدكتوراه توطّدت تجربتي مع المناهج النقدية المعاصرة، ووجدت في جامعة السوربون رواجًا هائلاً لمصطلحات مُتعلقة بالسّيميائيات والسرديات والتداولية وتحليل الخطاب، وأساتذة كفليب هامون ويوسف صديق وباتريك غيوم وجمال الدين بن شيخ ومحمّد أركون ولخضر سوامي، فأخذتُ من كلّ واحد منهجًا مختلفًا، في نقد النص التراثي والرواية بمناهج معاصرة. وفي بداية الألفية أسّسنا مخبر تحليل الخطاب الّذي كان فضاءً لتداول هذه المعرفة المعاصرة في شكل فرق اِهتم بعضها بالتداولية وبالسيميائيات وتحليل الخطاب بعدما تراءى لنا أنّ حل إشكال هذا الزخم المفاهيمي والمصطلحي والتمثل الصحيح لهذه المناهج يكمن في توجهنا إلى النصوص التراثية لنحللها وفق المناهج المعاصرة ولذلك كان قسم اللّغة العربية رائداً في التحليل السيميائي والتداولي.
وهكذا توطّد الشغف بالنقد يومًا بعد يوم نظريًا بمعايشة إشكالية النقد العربي، وتطبيقيًا بممارسة هذه المناهج على النصوص المُختلفة سواء النصوص التراثية شِعراً ونثراً كالخطاب الصوفي أو النصوص السردية كالرواية.
إشكالية المصطلح في اِعتقادي تلخّص إشكالية النقد العربي وإشكالياتنا نحن مع نصوصنا
لا شك أنّ كلّ تجربة مستوردة لها إكراهاتها على المُتلقي، ويبدو أنّ التورط في النقد، لا يُمثل إشكالية بقدر المصطلحات الوافدة التي لا شك أنّها كانت ولا تزال إشكالية لصيقة بالنقد العربي المُعاصر. كيف واجهتِ هذه المشكلة، وهل تُطرح بهذه الحِدة في الثقافات الأخرى؟
آمنة بلعلى: يبدو أنّ إشكالية المصطلح والنقد مُرتبطة أكثر بثقافتنا المُعاصرة، وخاصة منذ منتصف القرن الماضي وبداية دخول المناهج الحداثية إلينا؛ لأنّها اِرتبطت بظاهرة التبعية وعدم القدرة على مسايرة ما يُنتج في الغرب من معارف ونظريات ومناهج ومنظومات اِصطلاحية، نظراً للتطور المُذهل لتلك المعارف في الغرب ولطريقة اِستيراد هذه المنظومات المُتعدّدة. فإذا نظرنا إلى التراث العربي، نجد أنّ علماءنا في مختلف التخصصات أنتجوا نظريات وعلوما، واستنبطوا المعايير من الظواهر المدروسة، ثمّ صاغوا لها منظومتها الاِصطلاحية التي تعني ما أرادوه بالفعل من تلك المصطلحات، وخصوماتهم العارفة كانت من أجل الإضافة وتطوير المفاهيم ولم تطرح قضية المصطلح كإشكالية أو أزمة عامة لأنّ المصطلحات كانت تجسيداً للمفاهيم التي اِبتدعوها وتتويجًا للمعارف والعلوم التي أنتجوها، بل إنّهم كانوا يقومون بإعادة تدوير بعض المصطلحات فتنتقل من مجال إلى مجال آخر لنفس المقاصد كعِلم النحو وأصول الفقه، والبلاغة، والتصوّف.. إلخ.
وكذلك الأمر في الثقافة العربية في النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث كانت تهيمن الثقافة والنقد في مصر ولم يكن هناك من يعارضها، وعلى الرغم من الجدل الّذي وقع بين النُقاد حول تبني المناهج الغربية كالتاريخي والنفسي والنقد الجديد إلاّ أنّ ذلك لم يخلّف إشكالية في المصطلح لاِعتبارات مختلفة قد يرجع بعضها إلى اِرتباط هؤلاء بالمدوّنة التراثية، أو لكون هذه المناهج كانت تركّز على المضامين أكثر من الشكل. كما قد تعود إلى محدودية المناهج الوافدة آنذاك، وقلة المصطلحات مقارنةً بالثورة المنهجية التي حدثت مع المناهج النسقية؛ ولذلك يبدو وكأنّ الفوضى والإشكالات لا تحدث إلاّ مع التعدّد والكثرة والتنوّع والاِختلاف.
وهو الأمر نفسه لدى الغرب، فمنذ بداية تدريسي للمناهج النقدية من الشكلانيين الروس إلى البنيوية إلى السيميائيات إلى التداولية، إلى البلاغة الجديدة، لم ألاحظ ما له علاقة بفوضى المصطلح، وذلك راجع لأنّهم منتجو المفاهيم التي يضعون لها المصطلحات المناسبة ويراجعون المفهوم فإذا ما تبيّنَ لهم بأنّ هذا المفهوم أُضيفت له حمولة معرفية جديدة يُعيدون صياغة مصطلح آخر لا يُناقض المصطلح السابق كما نتوّهم نحن، ولكنّه يُعبر عن فهم أكثر تطوراً. ومراجعة بسيطة للمصطلحات في المعاجم المعروفة والتي تُرجم بعضها إلى العربية يجد بأن لا يُناقض بينها، وإن وجد مصطلح واحد مشترك، فهو يعني كذا عند فلان وكذا عند آخر أو في مدرسة أخرى وهكذا. ولنا في كلّ المصطلحات النقدية الغربية أمثلة كثيرة، في حين توجد إشكالات في تعدّد المقابلات العربية لهذه المصطلحات وغموضها وتناقضها بين المترجمين ولذلك سنظلّ نتحدث عن أزمة النقد وفوضى المصطلح ولعلّ إشكالية المصطلح في اِعتقادي تلخص إشكالية النقد العربي، وإشكالياتنا نحن مع نصوصنا.
ظلّت الكتابة تمتحُ من تجارب الغرب كما أنّ النقد نفسه ظلّ يتطوّر ويتحوّل في كلّ مرحلة اِستناداً إلى ما تخلقه المدارس النقدية الغربية
النقد العربي ظلّ يغرف وينهل من النقد الغربي ومن مدارسه ومصطلحاته وتجاربه. هل يمكن الحديث هنا عن هيمنة المناهج والمدارس النقدية الغربية؟ وإلى أي حدّ هذه الفكرة ذات أسئلة مشروعة؟ وإلى أي حدّ اِستوعب واستفاد النقد العربي من النقد الغربي ومن مناهجه ومصطلحاته؟ وفي ذات الوقت لماذا برأيك لم يخلق النقد العربي تجاربه النقدية ومناهجه ومصطلحاته الخاصة؟
آمنة بلعلى: اِختار النقد العربي الذهاب إلى النقد الغربي، ولم يفرض عليه، مثلما فُرضت شروط الاِنخراط في النظام العولمي على السياسيين من الحُكام العرب، ولم يكن النقد العربي ليقع تحت طائلة هذا النوع من الإكراه الداخلي لولا الإحساس بالفراغ نتيجة القطيعة مع التراث، وعدم القدرة على اِستئناف المبدعين والنُقاد موروثًا حكائيًا تمتد أرجاؤه من منامات الوهراني ورحلات اِبن بطوطة غربًا إلى مقامات الهمذاني وحكايات ألف ليلة وليلة شرقًا، وركامًا من المفاهيم التي تعجُ بها كُتب النقد العربي القديم. فقد ظلت الكتابة تمتحُ من تجارب الغرب، كما أنّ النقد نفسه ظلّ يتطوّر ويتحوّل في كلّ مرحلة اِستناداً إلى ما تخلقه المدارس النقدية الغربية التي تُراجع مقولاتها ومناهجها بطريقة مُذهلة فرضتها التحوّلات الفكرية ذاتها، لتترك فجوّة بيننا وبين النظريات الغربية قد تمتدّ إلى عشرات السنين، ونظراً إلى ضُعف حركة الترجمة، لم يستطع النقد العربي أن يُساير تلك التحوّلات، ويتمثل منظومة المفاهيم والمصطلحات، ولذلك عكف أصحابه في الأغلب الأعم على التمرن على تطبيق المناهج على النصوص العربية، واستبدالها بنفس السرعة التي تمّ بها تحصيلها، ولهذا لم يخلق النقد تجاربه النقدية، ولا مشاريع أصيلة تفكر في وضعية الأدب العربي المعاصر، وتطرح السؤال الفلسفي الّذي يُمكّن من إنتاج المعرفة التي تسهم في بلورة النظريات، كما أنّه لم يتم اِستئناف النقد التراثي لكي يستطيع أن يطوّر مفاهيمه، وعلى الرغم من أنّ هناك محاولات للرجوع إلى التراث النقدي، غير أنّ أغلبها اِرتبط بنوع من المقارنات الضحلة بين الفكر النقدي العربي القديم والغربي، ومن ثمّ وفي المساحة التي أُعطيت لنا كنُقاد، لم نتمكن من تحصيل جيد للمناهج الغربية فظللنا نجرب وننتقي، دون القدرة على الخروج من اللعبة المنهجية والجري وراء المناهج واستبدال بعضها ببعض، ولذلك ظلّ الناقد العربي تابعًا لم يستطع أن يخلق فضاءه الخاص، ولذلك نحن لا نتحدث عن نقد عربي إلاّ تجاوزاً أو لكونه يُكتب باللّغة العربية أو يُعالج نصوصًا عربية. وقد انجرّت عن هذا الأمر إشكالات كبيرة لا تزال قائمة وفي مقدمتها إشكالية المصطلح التي أشرنا إليها سابقًا وهي لسان حال هذه الأزمة.
ظلت الرواية العربية ولا تزال تتطوّر وتختلف اِستناداً إلى التحوّل الّذي يحدث في الرواية الغربية
وهل هذا يعني أنّ الأدب العربي والرواية تطوّرا اِستناداً إلى نفس المسار الّذي سار عليه النقد؟
آمنة بلعلى: بالتأكيد، مثلما بدأت حركة الحداثة الشِّعرية مسارها في التجديد اِستناداً إلى طروحات الحداثة الغربية، فاتّخذت من مفاهيمها أدوات لتغيير حالة الشِّعر، وإحداث القطيعة مع القصيدة التقليدية، دأبت الرواية أيضا وهي النموذج المستورد من الغرب على أن يُؤتى أصحابها حظًا وافراً لكي يضاهوا روائيي الغرب، وظلت الرواية العربية ولا تزال، تتطوّر وتختلف، اِستناداً إلى التحوّل الّذي يحدث في الرواية الغربية، ولذلك ظلت ثنائية المحلية والعالمية البائسة التي كبّلت النُقاد، ظلت، أيضا، تسيّر طموحات الروائيين لكي يصلوا إلى ما وصلت إليه الرواية الغربية فيما ظلوا ينجذبون إلى واقعهم ومحلّياتهم، وظلت الرواية تحمل بداخلها هذا الصراع، بين إحساسٍ بالعجز عن مُسايرة الروايات الغربية، والرغبة في تأمين الرواية من خطر المحلية التي لا توصلهم إلى العالمية، وفي ظل هذا الصراع فَهم بعض الروائيين أنّ الوصول إلى العالمية يقتضي تغيير اللّغة، فسارعوا للكتابة باللغات الأجنبية، ثمّ قدروا ووجدوا أنّ الترجمة إلى اللغات العالمية يمكنها أن تُخفّف من أعباء الذات والثقافة المحلية، لينصرفوا بها إلى نوعٍ من الترف الظاهري في إعادة إنتاج الروايات العالمية، وهو جزء من إستراتيجية التخلّص من الموقف الصعب الّذي تضعهم فيه الرواية، وخاصة بعد أن تحوّلت لدى الغرب إلى مؤسسة لا تختلف عن المؤسسات الاِقتصاديّة والسّياسيّة، وهو ما دفع كثيرا من الروائيين العرب إلى الاِختباء وراء مظلة التراث، فلجأ بعضهم إلى اِستلهام التاريخ والموروث الحكائي والتصوّف، كأسلوب للخروج من كراهية الأنا، وتتحوّل الرواية بهذا الصنيع إلى وسيلة من وسائل التنفيس عما لحق الروائي من أساليب الهيمنة، ولذلك كانت كلّ الشروط مواتية له لكي يصبّ غضبه على الأنظمة وبعدها على القيم وكلّ السرديات، وتمّت إعادة تشكيل المركز لتصبح الرواية العربية نموذجًا للصراع على الهوية.
صحيح نحن جزء من الرواية العالمية، ولكن لا يمكن أن نتحدث عن الرواية العربية ككيان واحد في كلّ البلدان العربية وهذا لاِعتبارات تاريخية، مرتبطة بالحقبة الاِستعمارية، ولاِختلاف السياقات والحاجات التي أنتجت الرواية في هذا المجتمع أو ذاك في فترة زمنية دون أخرى، وكذا طبيعة الأنظمة السياسية في كلّ بلد، بعد قيام الدول الوطنية، فالمجتمعات الخليجية التي لم تعرف النظام الاِشتراكي أنتجت رواية اِجتماعية تختلف عن الرواية الجزائرية في السبعينات أو حتّى الرواية اللبنانية والمصرية، وانفتاح المجتمع أو اِنغلاقه ساهم في جعل الكتابة الروائية تختلف من مجتمع إلى آخر، بل حتّى ما يُسمى كتابة روائية نسوية، يُكتب بطريقة مختلفة على الرغم من أنّ الاِنقلاب على مؤسسة العائلة ونقد المجتمع الذكوري ظلَّ مُهيمنًا وسمة من سمات الرواية النسوية. ولذلك وجدنا النقد العربي يُوَجّه في أغلبه إلى الرواية، بعد تراجع الاِهتمام بالشِّعر، ومقاومته للمناهج المحايثة، إلاّ عند القليل مِمَن تشبث بالأسلوبية التي كانت تنويعًا على الدراسات البلاغية وفي أحسن الأحوال نظرية الاِنزياح. وصرنا نستنسخ صورا شتى من تمرينات جوفاء لمناهج شكلية لا تقول الكثير عن النص بل تساوي بين النصوص جميعًا.
للأسف الرواية الجزائرية ظهرت في سياق إيديولوجي اِرتبط بالتحوّلات الفكرية والثقافية في الغرب، فتمّت دراستها اِستنادا إلى تلك التوجّهات الإيديولوجية
برأيك هل أحاط النقد في الجزائر بالنماذج الروائية الجزائرية إحاطة وافية، قرائية ومعرفية إلى جانب الإحاطة الفنية، أم أنّ الاِنسياق وراء المناهج النقدية هو الغالب؟
آمنة بلعلى: للأسف ظهرت الرواية الجزائرية سواء تلك التي كُتبت باللّغة الفرنسية في بداية خمسينات القرن الماضي أو تلك التي أَسست للرواية المكتوبة باللّغة العربية، ظهرت في سياق إيديولوجي اِرتبط بالتحوّلات الفكرية والثقافية في الغرب، فتمّت دراستها اِستنادا إلى تلك التوجّهات الإيديولوجية، كتلك التي نظرت إلى الرّواية كجزء من خطاب المقاومة الوطنية، أو تلك التي جعلت منها فضاءً لتجسيد مشروع التحديث الوطني بعد الاِستقلال. وكلا التوجّهين لم يتمكّنا من تقديم رؤية نقدية تستجيب لما كانت الرواية الجزائرية تطمح إليه وهي تنخرط في سياق جنس جديد في الكتابة كان عليه أن يُوظف كلّ إستراتيجياته من أن يكون بديلاً عن الشِّعر الإصلاحي وشِعر الثورة ليقدم نفسه خطابًا يمكن أن يستثمر كلّ الطاقات الإبداعية لتشكيل نص مختلف وحساسية جديدة، وذائقة أيضا جديدة، وفعلاً ذلك ما حدث حين هيمنت الرواية منذ سبعينات القرن الماضي على الذوق العام، واستطاعت أن تكون مؤثرة على أجيال ولا تزال، غير أنّ النقد الأكاديمي الّذي ورثته الدراسات النقدية مع منتصف الثمانينات، قدّم خطابات واصفة أبعدت الدرس النقدي والرواية عن حقل المُساءلات الفكرية والمعرفية التي تجعل منها كيانًا لغويًا قادراً على كشف الوجود الإنساني الجزائري بكلّ حمولاته التاريخية وحاجاته النفسية، ورؤاه المستقبلية، وعوض أن تدفع المناهج النقدية بالرواية إلى أفق وجودي أرحب مِمَا تجده في الواقع، راحت تُراهن على كفاءتها الوصفية، لتبتعد شيئًا فشيئًا عن النص الروائي وعن المعنى، ويرتكز السباق حول مدى اِستجابة المنهج للنص الروائي لكي تكون القراءة دليلا على حسن تطبيق المنهج، وخاض النقد في تجارب فارغة من المحتوى غارقة في الشكلية، غيبت الكثير من عطاءات الرواية، وساهمت في تعميق الاِبتعاد عن القيمة، فغاب معها السياق، وتمّ ما يُشبه عولمة النقد الّذي رأى الرواية الجزائرية في أنماط سردية واحدة وأزمنة مُتماثلة، وبدت كلّ الروايات برامج سردية تبدأ لتنتهي ليخرج المنهج منتصراً، وذلك ما عبرت عنه بالاِنسياق وراء المناهج الغربية في توجهاتها المحايثة.
كان حظ الأدب الجزائري من النقد ضعيفًا، وحظ النقد من معرفة نفسه أضعف؛ لأنّنا لم نهتم بأدبنا، ولا نكاد نعرف تراثنا الإبداعي
كيف هي قراءتك للمدونة النقدية الجزائرية مقارنةً بمثيلتها في العالم العربي؟
آمنة بلعلى: أنا جزء من حركة النقد الجزائري، ولذلك أنا دومًا أتحدّث عن محنته وأسئلته التي لم نجد لها أجوبة؛ لأنّ هذا النقد، وعلى الرغم مِمَّا قدّمه الجزائريون منذ أن تعلموا اللّغة العربية وأحبوها، وهو يُؤسس لمنعطفات كبيرة منذ عبد الكريم النهشلي وابن رشيق والمقري وغيرهم، إلى العصر الحديث مع الزاهري والركيبي ولكنّنا لم نستطع أن نُحافظ على هذه الرموز؛ ولذلك كان حظ الأدب الجزائري من النقد ضعيفًا، وحظ النقد من معرفة نفسه أضعف؛ لأنّنا لم نهتم بأدبنا، ولا نكاد نعرف تراثنا الإبداعي الّذي لا يزال مادة خاما وبعضه اِستولى عليه الآخرون ونسبوه إليهم، ولذلك نحن اليوم نعتقد أنّنا لم ننجز سوى نقداً للرواية، كما نعتقد أنّ الرواية اليوم تُشكل مادة إلهامية بالنسبة للناقد، لكنّها في الحقيقة هي علاقة غير مُنتجة على الرغم من الكتابات النقدية الكثيرة عن الرواية، لأنّنا لم نطرح الأسئلة الجوهرية حول الرواية، والمُتعلقة أساسًا بالكشف عن الكُليات التي تنتظم هذا الركام الكبير، وتقديم توصيفات لائقة تسمح لنا بمعرفة المتشابه والمختلف والنموذج المعرفي الّذي تُؤسس له الرواية وحتّى الشِّعر الجزائري الّذي يُلاقي هجرانا أمام هيمنة الدراسات التطبيقية والبُعد عن السؤال المعرفي الإبستيمي.
وأنا حاولت منذ بداية علاقتي مع الأدب الجزائري أن أتعامل معه ليس باِعتباره نصوصًا للتمرن على المناهج النقدية المعاصرة، ولكن من أجل أن أقف على هذه الكليات التي تنتظم الرؤية فيه، فكتبتُ عن الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف، لأنّي بصرت بهذا النموذج المعرفي الّذي سارت عليه الرواية المكتوبة بالعربية منذ السبعينات إلى بداية الألفية الثالثة، كما أنّني تابعتُ ولازلت أتابع حركة الشِّعر الجزائري من منطلق اِشتغالي على الشِّعر العربي الحديث لأرصد أيضا النماذج المؤسسة للّحظات الفاصلة في بناء النموذج الشِّعري، سواء في كتابي خطاب الأنساق أو فقه الشِّعر، وقراءتي للأدب الجزائري ليست رد فِعل عن قراءتي للتراث الصوفي أو الأدب المشرقي لأنّني أنطلق من فكرة أنّ النصوص كلّها، هي مادة الناقد التي تجعله قادراً على صناعة رؤيته النقدية وإضافته في مجال النقد، ولذلك، فأنا لا أفاضل بين النصوص، وإنّما أتقصّدها بِمَا تمليه علي هواجسي النقدية لا غير، فكلّ قراءة أقدمها عن نص روائي أو شِعري عربي أو جزائري، أنطلق من سؤال إشكالي وأحاول أن أربح الرهان الّذي حالت دونه النظرة الجزئية للنصوص لدى كثير من النُقاد، لتصبح علاقتي النقدية بالنصوص علاقة معرفية وثقافية أكثر منها أداتية.
وأنا أراقب اليوم كيف أصبح مفهوم العربية الّذي يلحق بالرواية والشِّعر في البلاد العربية مفهومًا هلاميًا لا يقول شيئًا أمام بروز دعوات قطرية لهويات إثنية واجتماعية وطائفية تفرض منطقها على الإبداع، وتدفعنا إلى التساؤل ليس عن الأسباب لما يعتقد البعض أنّه تشتّت للوحدة؛ لأنّ التوجّه إلى الهويّات الضيّقة ليس مشكلة في حد ذاته، بل لمعاينة ظاهرة عودة المعنى والقيمة والثقافة والتاريخ باِعتبارها مطلبًا وجوديًا عامًا لحماية الإنسان من الماديات، ومن هيمنة المؤسّسات السّياسية في كلّ قطر عربي، بعد الإمعان في الخروج من الذات.
النّص الأدبي لا يكون قابلاً لدراسة موضوعية جادة إلاّ إذا أخذ حيّزه داخل منظومة التلقي والاِستقبال
هل التراكم الموجود للمتن الروائي الجزائري يسمح بتشكيل أحكام نقدية موضوعية للرواية الجزائرية؟ وما هي علاقة الناقد بالروائيين الشباب الذين كثيرا ما يشتكون من إقصاء النُقاد، والعمل على تكريس روائيين بعينهم؟
آمنة بلعلى: العلاقة بين الروائيين والنُقاد تقوم على توصيفات يُقدمها هؤلاء عن أولئك، فالروائيون الشباب يُلاحظون بأنّ اِهتمامات النُقاد منصبة على الكبار، وهو وإن كان صحيحًا جزئيًا، أمر طبيعي، لأنّ النص الأدبي لا يكون قابلاً لدراسة موضوعية جادة، إلاّ إذا أخذ حيّزه داخل منظومة التلقي والاِستقبال، وفرض نفسه بتقديم الجديد والمختلف، فهذا الطاهر وطار مثلاً لم يدرس في الجزائر في حينه، فقد كان النُقاد يدرسون قبله جيلاً آخر من مجتمعٍ آخر هو جيل طه حسين والعقاد، وكان ذلك أمراً طبيعيًا لم تستطع فيه الرواية الجزائرية أن تفرض نفسها على الذائقة. ويبدو أنّ الروائيين الشباب يستعجلون الظهور والوصول، كمن يريد أن يُولد في شهره الخامس، وهم في اِستعجالهم الظهور يعتقدون أنّ النُقاد هم حجر عثرتهم.
من جهة أخرى هناك مشكلة لا علاقة لها بالنقد الأكاديمي، وهي مرتبطة بغياب حركة نقدية عامة لها منابرها الإعلامية من مجلات وجرائد، وصفحات خاصة، وإذاعة وقناة ثقافية تؤدي وظيفة إظهار كلّ المبدعين وكلّ جديد وتُمكّن من الحراك النقدي الضروري الّذي يسبق النقد الأكاديمي. ومن ثمّ، لا يمكن أن يتهم الناقد بعدم الاِهتمام بالمبدعين الشباب، إذا كانت الساحة الثقافية غير مهيّأة أصلاً للنقد، كما هو الحال في بلادنا، وإذا كان النقاد والقراء عمومًا لا يملكون المنابر التي يتعرّفون فيها على الجديد ويتناقشون حوله ويتابعون أشكال الكتابة، وهو أمر نجده في بلاد أخرى تتمتع بحراك ثقافي تُجند له وسائل الأعلام واتحادات الكُتّاب والنوادي الأدبية والمكتبات والقنوات الثقافية التي تُساير الحدث الإبداعي في حال ظهوره، والملتقيات والمسابقات، لكنّه يغيب عندنا لغياب سياسة ثقافية تجعل من صناعة الثقافة والمثقفين هدفًا أساسيًا.
مهمة الناقد تكمن في البحث عن عادات قرائية جديدة ترتبط بالنص الجديد
مع التطورات التكنولوجية الجديدة ووسائل التواصل، نلاحظ أنّ الكُتّاب الشباب يبحثون عن أشكال جديدة ومواضيع جديدة وكذا تقنيات سردية مختلفة في الرواية، ولا يلتفتون إلى المراحل السابقة. ما هي رؤيتكِ للموضوع؟
آمنة بلعلى: حين لا ندرك أين يكمن الإشكال، فإنّنا نطرح أسئلة لإشكالات أخرى قد لا تكون موجودة أصلاً، ووهمية في الغالب كمسألة الإغراق في التجريبية وغيرها. إنّ مهمة الناقد تكمن في البحث عن عادات قرائية جديدة ترتبط بالنص الجديد، ومع كُثرة النماذج الروائية وتعدّد تقنياتها، فعلى الناقد أن يصغي للهويات الجديدة وهي تتشكل، ويقف عند الإضافات التي يمكن أن تسهم في تغيير الذائقة الإبداعية وتغيير الحساسية، وبِمَا أنّه لا يمكن أن يُوجد نمط مثالي يُتبع في الكتابة الروائية والدليل على ذلك التسميات الجديدة التي ترد كلّ يوم علينا مِمَا لا حصر له من أنماط الكتابة الروائية، فهذا يعني أنّ الناقد مطالب بمتابعة نشأة الأشكال وامتلاك السؤال النظري الّذي يجعله يتجاوز التمرن على تحليل النص بالاِستناد إلى منهج سابق، يقيس عليه النصوص اللاحقة. إنّ الرواية تشهد أساليب متنوعة ومختلفة وثرية ومنفتحة على عوالم إبداعية قد لا تكون في الحسبان، وهي في تحديث وتجديد مستمر، لأنّها من جهة تواكب التحوّلات التاريخية المعاصرة للمجتمعات، ومن جهة أخرى لأنّها تأبى أن تكون لها هوية معروفة، فهي تحقّق هويتها في الوقت الّذي توجد فيه، وأمام هذا الاِنفتاح والتجديد المستمر، فإنّ الناقد مطالب برصد مواطن الاِبتكار والجدة والأصالة التي تجعل حركة التحديث والتجريب خرقًا لما سبق وتجاوزاً.
وفي ظل التغيرات العالمية وهيمنة الثقافة العولمية، كان لا بدّ أن تنشأ ردود أفعال تنسحب على الروائيين، فتبرز وجهة نظر تؤمن بالاِنفتاح على الآخر، والتفاعل معه، كما تؤمن بضرورة إيجاد إطار موحّد يشتغل من خلاله المثقفون ويُبدعون في إطار القيم التي تدعو إليها العولمة والجماليات ما بعد الحداثية، فكتبوا عن قضايا عالمية كحرب أفغانستان وعن 11 سبتمبر وعن فلسطين وحرب الخليج وعن التاريخ فأوّلوه اِستناداً إلى القيم الجديدة كالتسامح والحوار مِمَا يُؤسس لإحساس مُشترك بالمصير الإنساني المشترك الّذي جعل الروائي جزءا من هذا الحراك نحو التفاعل مع الآخر، والتواصل مع الحضارات الأخرى والتصالح معها. وهناك من جهة أخرى من اِستقبل هذه القيم الجديدة بنوع من التخوّف اِعتقاداً أنّ الاِندماج في خطاب العولمة يعني التنازل عن الهوية وهدراً للخصوصية الثقافية، وأنّ القيم الإنسانية موجودة في ذواتنا ومرتبطة بعاداتنا وثقافاتنا الخاصة، وكلّ توجه من هذين الاِتجاهين يعكس موقفًا ورؤية للوجود ولعلاقة الذات بالآخر، كما يعكس واقعًا يعيشه الروائي والمثقف بصفة عامة والإنسان المعاصر ذاته في ظل ثورة التكنولوجيا والاِتصال الجديدة التي تعمل على تقريب المسافات والثقافات والقيم، وهذا جزء من مطالب العولمة وما بعدها التي جعلت الإنسان يخرج من تاريخه الخاص ليدخل تاريخًا عامًا، ليعود إلى هويات بائدة يعتقد أنّها تاريخه المنسي، وبِمَا أنّه لا توجد إمكانية لا إلى تنميط العولمة فيقال للروائي أكتب وفق قيم العولمة، ولا إلى التنكر للواقع الّذي تفرضه عليه، فيقال له أكتب ضدها، فإنّ مع أو ضدّ ليس هو ما يُحدّد هوية الإبداع الروائي، ولا هوية النص الجمالية، بل هي أصالته الإبداعية والقيم الجمالية الجديدة التي يخلقها.
نحن اليوم وفي ظل التكنولوجيات الجديدة نعيش عصر الاِنفتاح والتحرّر من كلّ أشكال الرقابة
لازالت المحظورات الثلاثة تثير الكثير من الحساسية، رغم أنّه تمّ تقويضها بفعل الاِنفتاح الّذي أتاحته التكنولوجيا. هل يمكننا الحديث عن حدود في الإبداع أو تسقيف يفرض في معالجة المحظور؟
آمنة بلعلى: المحظورات أو الطابوهات مقولات اِشتغل بها النقد الحديث عندما كان مفهوم الإبداع يقيم اِستناداً إلى قضايا الإبداع في علاقته بالإيديولوجيا، فهي ذات صلة بقضايا سياسية واجتماعية ودينية أرادت أن تلعب بعض المؤسسات بها دور الرقيب على الفن، ونحن اليوم وفي ظل التكنولوجيات الجديدة نعيش عصر الاِنفتاح والتحرّر من كلّ أشكال الرقابة أمام الفرص التي تمنحها هذه الوسائل للروائي لكي يكتب ما يريد وينشر ما يريد في هذا المكان أو ذاك إن تعذر عليه هنا أو هناك. وهذا الأمر جعل مفهوم الطابو ذاته يتغيّر، ولا أعتقد أنّ ناقداً واعيًا سيحاكم روائيًا أو رواية ما اِستناداً إلى هذا النوع من المقولات، لأنّه لا يمكن أن يقول للروائي أكتب عن هذه القضية أو تلك ولا تكتب عن أخرى، بقدر ما يهمه كيف تَمثل هذه القضية أو تلك حتّى وإن كانت الجنس بطريقة إبداعية تخلق بلاغتها الخاصة وتُضيف جديداً إلى قضايا الإبداع. قد يُحاسب الناقد روائيًا أوقع نفسه في الاِبتذال ونقل الواقع كما هو وسقط في التقرير والركاكة والتعبير المُباشر عن بعض العُقد، ولكنّه لا يمكن أن يُحاكم روائيًا جعل من الجنس أو الدين أو السياسة تمثيلاً رمزيًا للصراع وتشخيصًا لخطابات اِجتماعية وتعبيراً عن قيم ذهبت أو أخرى تُهيمن. وتبقى القضية مُرتبطة بالمستوى الإبداعي الّذي يُحققه الروائي، والرؤية التي تحكم نصه.
كتابة السيرة الذاتية وفي أقدم أشكالها كانت ولا تزال جزءاً من تمثيل العالم الداخلي الّذي ليس إلاّ شكلاً من أشكال الموقف من الواقع
نشهد عودة لكتابة الذات كالسيرة الذاتية والمذكرات وغيرها، هل يمكن اِعتبار هذا النوع من الكتابة تراجعًا عن تمثيل الواقع والاِهتمام بقضايا المجتمع؟
آمنة بلعلى: الأدب عامة والرواية على وجه الخصوص هي ذاك الجدل القائم بين الذات والواقع، أحيانا يُهيمن الواقع والخارج بكلّ حمولاته الثقافية وإكراهاته الإيديولوجية والتاريخية، فيكتب الروائيون روايات تشخص المجتمع وتمثل صورة الأحداث، وقضايا فترة تاريخية معينة. وأحيانا أخرى يترك المجال للتعبير عن هواجس الذات، وتسجيل مواقف الروائي الشخصية، فيعكف على تاريخه الشخصي. وكلاهما يشكل موقفًا إبداعيًا من الحياة والوجود. وهذا هو المسار الّذي نُلاحظه في تاريخ الرواية ذاتها، حيث يكون الموقفان أحيانًا متزامنين وفي أحيان أخرى ينسحب موقف لحساب الموقف الآخر عند جيلٍ معين أو عند كاتب معين، فإطلالة بسيطة على الرواية الجزائرية تجعلنا نرى هذا التناوب في المواقف ففي أربعينيات القرن الماضي لاحظنا رواية السيرة الذاتية النسائية عند فاطمة آث منصور في قصة حياتي، ولاحظنا أيضا تعبيراً عن أزمة الهوية الاِجتماعية المركبة عند طاوس عمروش في “ياقوتة سوداء”، وغلب على رواية الخمسينات الواقع الاِجتماعي عند مولود معمري وفرعون ومحمد ديب، وفي الستينيات لاحظنا التعبير عن قضية المرأة عند آسيا جبار، وهي تجمع بين السيري والواقعي، وطغى على روايات السبعينات بالعربية الواقع والإيديولوجيا وهكذا يفرض الواقع والذات أبجديات الكتابة، وأحيانًا يتماهى الموقفان وفي أحيان أخرى يبرز أحدهما كما هو الحال في الآونة الأخيرة مع بروز رواية السيرية لاِعتبارات مرتبطة بالمهمش، دون أن يعني ذلك تراجع التعبير عن الواقع. إنّ هذا الجدل هو الّذي يُؤسس للإبداع الروائي، وستظل الذات تنتج والواقع ينتج أيضا، كما يظلان مصدرين من مصادر الأدب وإنتاج الجمال، وكتابة السيرة الذاتية وفي أقدم أشكالها منذ اِعترافات أوغسطين كانت ولا تزال جزءاً من تمثيل العالم الداخلي الّذي ليس إلاّ شكلاً من أشكال الموقف من الواقع، قد تسهم ظروف تاريخية واجتماعية في جعله يخفت لكنّه يظل النسغ الّذي لا ينضب في عملية الإبداع.
النقد الثقافي يسمح للناقد بأن يحيط بكلّ الجهات ولذلك هو يستثمر كلّ المناهج لكي يحيط بالجوهري في النصوص، كما أنّه منفتح على كلّ المعارف التي تسمح للناقد بأن يفسر لا أن يحكم
كيف تفسرين نظرية “موت النقد/والناقد الأدبي“، وبروز “النقد/والناقد الثقافي“؟ وهل هي صحيحة أم متجنّية؟ ومن أي زاوية أو سياق يمكنك قراءة مثل هذه النظريات؟
آمنة بلعلى: قبل ذلك بودي أن أطرح الإشكال المرتبط بقضية موت النقد الأدبي بالسياق الّذي نشأت فيه فكرة موت النظريات والنهايات والما بعديات فقد أدت الثورة العلمية إلى ظهور منظومة التخصّصات التي اِرتبطت بنشأة العلوم المختلفة، ومن بينها العلوم الإنسانية، كعِلم النفس والاِجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات. واستطاعت هذه العلوم أن تنتج نظرياتها ومنظوماتها المفاهيمية ومصطلحاتها الخاصة. وكان هذا التوجه سببًا في تراجع الفكر الموسوعي، وبروز السعي الأحادي الّذي عكس نوعًا من العقل التبسيطي القائم على منظومة الكيانات المغلقة مثل الماهية والخطية والوظيفة والبنية والنص والذات والموضوع، وكان قيامها على المنهجية العلمية التي تتسم بالجزئية والاِختزالية في وصف الوحدات الأولية التي تكوّن الظاهرة، قد أسس لمنظومة لعبت كما يقول إدرغار موران دور التحقيقي لحارس الحدود، من خلال التمركز حول الظاهرة.
عبّرت هذه المنظومة، في الغرب، عن إشكالية معرفية سرعان ما شرع الداعون إليها في تجاوزها، واستبدالها بمنظومة أخرى قائمة على العقل الإنتاجي والقرائي المركبين “يتضمن مبدؤها الاِعتراف بالروابط الموجودة بين المعارف والكيانات والظواهر المختلفة، وتفطنوا إلى مقولة باسكال التي تُؤكد أنّ جميع الظواهر والأشياء ترتبط فيما بينها كلها عبر صلة طبيعية حتّى الظواهر الأكثر تباعداً واختلافًا” وبدأ الحديث عن باراديغم جديد في الأُفق هو ابستيمولوجيا التعقيد التي تطوّرت فيه المناهج النقدية الغربية مابعد البنيوية الّذي اُعتبر فتحًا عظيمًا في الثقافة الغربية، في محاولتها تجاوز البراديغم القائم على التبسيط والتجزيئية والاِنغلاق مثلما عكفت عليه الدراسات البنيوية الشكلية، وحصل الاِنفتاح على الحقول المعرفية الأخرى؛ كعِلم النفس المعرفي، والتأويلية، والذكاء الاِصطناعي، والأنثروبولوجيا الثقافية، والدراسات الثقافية، والبينية، وغيرها واستدرجتها إلى نظامها الابستيمولوجي الأمر الّذي أسهم في ثراء منظومتها المفاهيمية والمصطلحية، وظهر عهد جديد وثقافة جديدة قائمة على نوع من الاِنفجار الإعلامي والمعلوماتي الّذي نستطيع أن نقيسه بذلك الكم الهائل من العلامات التي وإن كنا بحاجة إليها فإنّها فرضت نفسها وأحدثت اِنقلابات جذرية في تصورات الإنسان المعاصر للعالم ولعلاقاته مع الآخرين ومن ثمّة تصوره للوجود، وأصبحنا نشهد منظومتها اِصطلاحية سريعة التشظي تتجاوز الحدود المرتبطة بالنماذج التي تحقّقت من قبل في عصر التخصصات.
إنّ بارديغم ابستمولوجيا التعقيد وبروز الدراسات الثقافية وما يُسمى بالبينية أدخلت النقد عندنا في طريق مملوءة بالأفخاخ، ولذلك تعد اللّغة الواصفة النقدية العربية اليوم من الإشكاليات المعقدة والكارثية، حيث نقرأ كتبًا ورسائل جامعية ولا نفهم ما يقول أصحابها بل تدخل القارئ في نوع من الدوار والخطل والخبل. ولعلّ هذا ما يدخلنا فيه النقد الثقافي منذ أن بدأ الغذامي يتحدث عنه ويجعله بديلاً للنقد الأدبي، وها نحن اليوم نقرأ لكلّ النُقاد وهم يكتبون كلهم عن الأنساق المضمرة في النصوص ويختزلون الأمر إلى مجرّد وصف المعنى يذكرنا بِمَا كان يتداول قبل اِنتشار الدراسات البنيوية بماذا أراد الشاعر أن يقول.
والحقيقة أنّ سؤال الخروج من الذات والعودة إليها، وإلى المعنى والقيمة الّذي أشرت إليها سالفًا، هو ما يسعى إليه النقد الثقافي في اِعتقادي، الّذي لا ينبغي أن نضعه وجهًا لوجه في مواجهة النقد الأدبي فنروج للفكرة القائلة بموت النقد الأدبي، وموت الناقد كموت المؤلف، لأنّ الّذي أمات النقد الأدبي هو العقل الأداتي، كما يقر نقاد الغرب أنفسهم، هي الحداثة والعولمة منذ أن تمّ السعي إلى تعميم نظرة واحدة على كلّ النصوص ومحاولة صياغة نموذج علمي يركز على كيف قِيل النص، لا عمّا قِيل ومن قاله وما السياق الّذي تمّ إنجازه فيه، فكان الضحية الكُبرى في هذا التوجه الّذي تبنته المناهج المحايثة، هو المعنى والقيمة، والجمال وهو ما كان يُمارسه النقد الأدبي قبل أن يتحوّل إلى دراسة وقراءة وتحليل نص وغيرها من المصطلحات. ومن ثمّ فالنقد الثقافي جاء كرد فعل على المناهج المحايثة وعولمة الفكر والثقافة، فأراد أن يُنبه إلى الاِختلاف والخصوصيات والأنساق المضمرة التي تقوم عليها النصوص الأدبية، ولأنّ في الثقافة نجد المعنى والإنسان والتاريخ، سيكون محتمًا على النقد مهما كانت التسمية أن يُعاين كلّ هذا، دون الاِكتفاء بجزء من النص لأنّ النص الأدبي مثل المكعب لا يمكن أن نفهمه بالنظر إلى جهة واحدة، والنقد الثقافي يسمح للناقد بأن يحيط بكلّ الجهات، ولذلك هو يستثمر كلّ المناهج لكي يحيط بالجوهري في النصوص، كما أنّه منفتح على كلّ المعارف التي تسمح للناقد بأن يفسر لا أن يحكم.
المنهج الّذي نستورده لا ينبغي أن يكون صالحًا في ذاته فقط، بل ينبغي أن نسأل هل ستكون له جدوى في واقعنا، وهل ينسجم مع حركة التاريخ الّذي يخصنا
وهل النقد الّذي تُمارسه الدّراسات الثقافية هو نوعٌ من النقد الثقافي؟ وما هي القواسم المُشتركة بين النقد الثقافي والدّراسات الثقافية؟
آمنة بلعلى: بعيداً عن الخوض في تنظيرات الغرب واختلافاتهم في تسمية مناهجهم أعتقد أنّه لا ينبغي أن تُطرح المشكلة بشكل ميتافيزيقي متعال عن التاريخ وحركة التاريخ وواقع المجتمع الّذي نعيشه، فما الّذي نجنيه اليوم من الجدل حول الفرق بين مصطلحين يعبران عن حالتين فكريّتين وصلا إليها الغرب واشتغلوا في إطارها وكانت لهم دوافعهم السّياسيّة والإيديولوجية كتلك التي أدت إلى نشوء الدراسات الثقافية….
فالمنهج الّذي نستورده لا ينبغي أن يكون صالحًا في ذاته فقط، بل ينبغي أن نسأل هل ستكون له جدوى في واقعنا، وهل ينسجم مع حركة التاريخ الّذي يخصنا. بعض النظريات أو الطروحات والأجناس الأدبية لم تكن لها جدوى لها في مجتمعاتنا ولذلك لم تستمر حتّى وإن وجدت، الدادائية، الفن للفن، العبثية، الرواية البوليسية، الأدب الرقمي، ما بعد الحداثة كلها لا يمكن أن تكون لها جدوى في المجتمع العربي حتّى وإن وجد من يروجون لها لأنّها ضدّ القيمة والمعنى، وبالتالي الذين يُراهنون على هذا النوع من المعرفة هم متوهمون. ولذلك فالمستقبل سيكون بعودة الوعي التي بدأت بالتاريخانية الجديدة وعِلم الاِجتماع والدراسات الثقافية والبحوث المعرفية التي تفرض علينا أن نُعزز علاقتنا بالعلوم الإنسانية واستعادة دورها وعلاقة الأدب والنقد به، ليكون لنا نقداً عربيًا، ومن هنا فقط يمكن أن نتحدث عن دور الدراسات الثقافية التي كُنا كمجتمعات مستعمرة جزءا منها لأنّنا كنا جزءا من موضوعاتها المستهدفة بدءا من الدراسات الأنثروبولوجية التي بدأها الغرب اِنطلاقًا من المجتمعات المستعمرة. ولذلك ينبغي أن نستفيد من النقد الثقافي لكي نعيد الوعي بالذات وبالثقافة في النص والنص في الثقافة.
ما يُحدد النشاط النقدي عند الناقد ليس هو النص قديمًا أو حديثًا، وإنّما طبيعة الرؤية النقدية التي تنبع من السؤال الأساس الّذي يُؤرق الناقد، وهو القيمة الإنسانية والفنية للنص الأدبي
أنتِ من الباحثين الذين نشأوا في ظل أزمة النقد وقد بدأت بشِعر الرواد، أدونيس والسياب وخليل حاوي وعبد الصبور، ثمّ اِنتقلت إلى الخطاب الصوفي البسطامي والحلاج وابن عربي، ثمّ إلى الرواية ثمّ إلى الأنساق التراثية. لماذا هذه المراوحة بين القديم والحديث وهل كان للمناهج النقدية دور في ذلك؟
آمنة بلعلى: ربّما أختلف مع بعض النقاد الذين يلومون نقادا آخرين في مراوحتهم بين القديم والحديث وبين الشِّعر والسرد، أو الرواية والمسرح، لأنّني أعتقد أنّ ما يُحدد النشاط النقدي عند الناقد ليس هو النص قديمًا أو حديثًا، وإنّما طبيعة الرؤية النقدية التي تنبع من السؤال الأساس الّذي يُؤرق الناقد، وهو القيمة الإنسانية والفنية للنص الأدبي التي تُشكل خبرتي الجمالية بهذا النص أو ذاك وفي كلّ مرّة بطريقة مختلفة، وكذا السؤال الفلسفي المسؤول عن هذه القيمة. والمناهج التي اِعتمدتها في مسيرتي المتواضعة كانت بالنسبة لي بمثابة العكاز الّذي أتكئ عليه وأنا أغير موقعي أمام النص الّذي يبدو لي كالمُكعب لا يمكن لنا أن نرى وجوهه كلها دفعةً واحدة إلاّ إذا غيرنا مواقعنا. ولذلك يمكن أن أُؤكد أنّ المناهج النقدية المُعاصرة قد ساهمت في تشكيل هذه الرؤية، وحدّدت ملامحها على الأقل بالنسبة لي أنا، رغم أنّ مشروع أي ناقد لا يمكن أن يكتمل إلاّ عند مماته، فغريماس الّذي بدأ لغويًا معجميًا ثمّ تحوّل إلى سيميائي سردي يرى أنّ المعنى شكل ولا يمكن أن يكون إلاّ بوصفه شكلاً، يكتب في سنة وفاته سيمياء العواطف حيث يرى أنّ حالات الرّوح تُؤثث النصوص ويمكننا أن نصفها ولو بقي حيًا لكان اليوم صاحب منهج معرفي أو ثقافي أو غيره.
وأما المصطلح بالنسبة لي فهو مرتبط بالمنهج وأعتقد أنّني حرصت على أن لا تتحكم المصطلحات في لغتي الواصفة إلى حدٍ كبير وأجعل النص أوّلاً هو الّذي يتكلم، كنتُ دائمًا أقول للطلبة ينبغي أن ننصت إلى النص الّذي كنت أتحدث عنه ولا زلت وهو أن أفهم لغته وطريقة تشكيلة وكيف تنبني الدلالة فيه، وخاصة الرؤية التي تدفعه لكي يُؤثر ويجعلنا نبذل جهدا مُضاعفًا أثناء عملية تأويله، ومن هنا فالتأويل يظل هو الطريق الأسلم لمقاربة النص، في اِعتقادي، لأنّه الوحيد الّذي يجعل الناقد يختار من هذا المنهج أو ذاك ما يُلائم السياق يلجأ إليه أثناء التحليل، أمّا التعامل مع نص بِمَا نعتقد أنّه تعاملاً ثنائيًا بين الناقد وبينه، فهو محض سقوط في الاِنطباعية، والاِنطباعية لا تُؤسس لنقد حقيقي، وخاصة في الوقت الحالي حيث أصبح مؤسسة بل إمبراطورية بحد ذاتها.