ايلينا فرانتي اسم ذاع صيته مؤخرا على وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي وهذا لكونها منحت دفعة قوية وانتعاشة للأدب الإيطالي الذي يمرّ كل فترة بحالات خمول وأيضاٌ للانتشار الواسع لمؤلفاتها في العالم اجمع. من مواليد مدينة نابولي سنة 1943.
تكتب باسم مستعار بناءً على اتفاق مسبق مع ناشرها. ورغم المحاولات العديدة للفضوليين من إعلاميين وباحثين، لم تكشف عن اسمها الحقيقي ولا عن أبسط تفصيل يخصّ حياتها مكتفية بالنزر القليل من الحوارات المكتوبة، كما أنها تجيب عن أسئلة قرائها من مختلف الفئات ومن ربوع العالم . بدايتها الأولى كانت سنة 1993، بروايتها الحب المقلق. اشتهرت برباعية نابولي والمؤلفة من أربعة أجزاء “صديقتي المذهلة / حكاية الاسم الجديد / الراحلون الباقون /حكاية الطفلة الضائعة /” بالإضافة إلى أعمال أخرى مثل ليالي الهجران / حكاية طفلة غامضة، وآخرها حياة البالغين الكاذبة والتي صدرت عن دار الآداب اللبنانية في سبتمبر من السنة الماضية.
في أغلب الأعمال الروائية يكون بناء الشخصيات الرجالية مكتملا ويكون البطل الرجل هو المتفوّق وله الصدارة في كل تفاصيل النص، بينما الشخصيات النسائية قلّما تكون في هذه المرتبة من البطولة المطلقة فقط في حالات نادرة حين تفتك النساء البطولة المطلقة في العمل الأدبي كرواية “جين اير” لشارلوت برونتي، مثلا أو رواية “بنات حواء الثلاثة” لاليف شفاق. لكن “ايلينا فرانتي” قوّضت هذه المسلّمة وبنت رباعية كاملة على امرأتين “رافايلا تشيرلو” و”الينا غريكو” اللتان جمعهما الحي النبوليتاني والذي لم تسمه الكاتبة، لكن الناقدة السينمائية الايطالية “لويزا بردينتينو”، رجحت لأن يكون حي لاريوني المتواجد في الضواحي النابوليتانية لتطابقه مع حي إلينا وليلا. دون نسيان جميع النساء اللواتي أثثن مشاهد السلسلة من (ايماكولا والدة ايلينا، نونتيسيا والدة ليلا، ميلينا كابوتشو ماريا والفتيات كارمن، ادا، بينوتشا وغيرهن تقابلهن النساء المتعلمات والمثقفات كالمعلمة اوليفرو”، والاستاذة “غالياني” وابنتها و”ايديلي ايروتا” وابنتها “ماري روزا”).
ميزان الصداقة بين كفتي الحضور والغياب
في أكثر من ألفين صفحة ترصد “الينا فيرانتي” حيوات*** وتقاطعات مصائر فتاتان من خمسينيات القرن الماضي إلى بداية الألفينيات والبداية كانت من النهاية حين تتلقي “ايلينا غريكو” وهي كاتبة في الستين من العمر مكالمة من ابن صديقتها “رافايالا تشيرلو” يخبرها بالاختفاء المفاجئ لوالدته دون ترك أي أثر لها و”محو الأثر”، كانت السمة البارزة التي تميزت بها “ليلا” (وهو الاسم الذي تناديها به الينا وذات الشيء بالنسبة لهذه الأخيرة التي تطلق عليها اسم لينا) التي طوال علاقتها بلينا، فلقد كانت طوال فصول الرواية ساحرة تتفنن في ممارسة ألعاب الخفة بحضور مكثف يليه انقطاع مفاجئ والأمر برمته شبيه بمعادلة رياضية معقدة بتوصيف الكاتب العراقي علاء الدين شهاب وهو ما يمنح النص بعدا متاهيا يغيب عنه القارئ عن مسرح الأحداث وتضيق به لتكهن أو التبصر بالأحداث القادمة.
بعد يأس لينو من ظهور صديقتها قررت فتح حاسوبها وباشرت التاريخ لهذه الصداقة الراسخة والممتدة عبر عقود مستحضرة طباعهما، تجاذبتاهما وتجليات هذه العلاقة المُلغزة التي تعلق روحيهما على حبل متماسك تارة ومنقطع تماما تارة أخرى . فـ”رافايالا تشيرلو” الفتاة الذكية ذات الحضور الكاريزماتي، والتي تؤلف قصةٌ بديعة اسمها “الساحرة الزرقاء”، وهي طفلة متأثرة بكتاب “نساء صغيرات”، لكن المعلمة لم تعرها اهتماما ليحرمها أهلها من إكمال دراستها بسبب الفقر وتتوّرط في سن صغيرة بزواج فاشل مع “استيفانو” اللحام لكن مع هذا تنتصر لذاتها وتصبح سيدة أعمال ناجحة، مثقفة بقراءتها النهمة وأفضل بكثير من نساء أكملن تعليمهن كما تظلّ السند القوي لصديقتها لينا والدافع الأكبر لها لتدرس وتتفوق في حياتها وتصبح كاتبة مشهورة أما لينا فكانت النقيض لصديقتها بطباعها الرتيبة والمفرغة من الشغف والتي لا تقوم بالأشياء إلا بمقتضي الواجب أو لأنه محتم عليها لأن تقوم بذلك لتخرج من أجواء الحي النبوليتاني، إنها ليست سوى فتاة مهزوزة، ممتلئة بالفراغات والتي لا يتوهّج بريقها ولا تنطلق إلا بحضور ليلا وغيابها يضعها في حالة من الارتياب واللاكتمال “اليوم وأنا أكتب مازلت أشعر بضرورة هذه اللسعة، أريد أن تكون موجودة بين هذه الصفحات فعلا، بل إني أكتب في سبيل ذلك أريد منها أن تمحو وأن تضيف وأن نتعاون في نسج حكايتنا وأن تسكب فيها من قريحتها كل الأشياء التي تعرفها والتي قالتها أو التي تكون فيها”الصفحة 133 الراحلون الباقون.
نابولي المتعدّدة الأوجه
تدور ثلاثة أرباع إحداث الكتب الأربعة في نابولي بتركيز أكثر على حي “لاريوني” والذي تنحدر منه البطلتان والمتواجد بالضواحي النابوليتانية، هذا المكان الهامشي والذي ينقسم سكانه بين أكثرية مسحوقة تكابد شظف الحياة مثل عائلة “تشيرلو” الاسكافي و”غريكو” الحارس و”بيلوز” النجار و”ميلينا” المنظفة وأقلية مُترفة وتمثل رؤوسا من مافيا “الكامورا” كالإخوان سولار ووالدتهم “مانويلا” المرابية وعائلة” كاراتشي”، هذه الصورة القاتمة التي رسخت في بواطن ذاكرة كل من ليلا والينا أو الوجه القمئ المشحون بالعنف المتوارث والتصفية الجسدية دون ردع أو محاسبة هذه الأجواء المُحبطة جعلت كل من لينا وليلا تحلمان منذ طفولتهما الباكرة بحي أنظف واهديء وأناس جميلين ولطفاء لا يتفوهون بالبذاءات ولعلى مغامرتهما خارج أسوار الحي لرؤية البحر كانت كفيلة، لأن تضعهما وجها لوجه مع زاوية أكثر جمالا وسكونا للمدينة بمنتزهاتها ومطاعمها الراقية وأيضا الأشخاص كانوا مختلفين تماما عن أهل الحي تلتها صدمات أخرى تلقتها ايلينا كلما تدرجت في الدراسة او عرفت أشخاص مختلفين عن بيئتها سواء بقربها من أستاذتها غاليني أو انتقالها الى جامعة بيزا وحتى بعد زواجها واحتكاكها “بال ايروتا” ثم إقامتها في فلورنسا وأسفارها جعلها تناضل لأن تؤسس حياتا ومستقبلا منفصلا عن نابولي والحي المشبوه برغم من أنه كان مادة خصبة لكتابتها ومنحها الثراء والمكانة الاجتماعية المرموقة، بخلاف ليلا التي لم تغادر أبدا مدينتها والتي كانت شاهدة على انتصاراتها ونجاحاتها وحتى تلك اللحظات التي جعلت منها مجرد عاملة كادحة في مصنع اللحوم لأحد رؤوس المافيا والذي خرجت منه بتجربة مريرة صقّلتها وجعلتها ترمّم ذاتها وتنطلق من جديد. وفي شيخوختها كانت تغيض صديقتها أيلينا مفاخرة بأنها لم تبرح نابولي أبدا، لكن العالم أنت***** إليها نتاج ازدهار المدينة وانفتاحها على العالم وعلى البشرية جمعاء. ولعلى أبهى مسح طوبوغرافي لنابولي ومعالمها كان من إخراج ايما ابنة إيلينا
وليلا في مسائلة للأمكنة والتاريخ من اجل كسر تلك الصورة المشوّهة للمدينة التي تسكن ايلينا، المتناسية لرسوخ المدينة في كتب التاريخ وأحداثه الكبرى “الجوهري في نموذج ليلا، هو طرح التساؤلات من هم الشهداء؟ إلى ماترمز الآسود؟ ومتى اندلعت المعارك؟ ومتى علقت المشانق؟ وفتح درب السلام ونحت تمثال العذراء وتمثال النصر. تترابط الحكايات في سياق ما قبلها وما بعدها وما نتج عنها”. الصفحة 546 حكاية الطفلة الضائعة.
انتصار الأصالة على الضحالة
منذ صدور الكتاب الأول لرباعية نابولي “صديقتي المذهلة” سنة 2011، إلى آخر أجزاءها تضاعف الإقبال على قراءتها وبجميع اللغات برغم من أن الكاتبة ايلينا فرانتي تكتب باسم مستعار ولا معلومات عن حياتها أو حتى مقابلات تلفزيونية أو حضور على منصات التواصل الاجتماعي، كما هو الحال لمعظم كتّاب العالم، أي نعم هناك صعوبات يصادفها المترجمون بالعمل على نصّ يجهلون هوية صاحبه والأمر شبيه بدخول غابة موحشة كما ذكر مترجمها إلى العربية “معاوية عبد المجيد” في إحدى حوارته ومع هذا كانت ترجمته فاخرة وثرية يتجدّد القارئ لغة وفكرا بعد أن يغادرها. إن هذه الكاتبة تنتمي لعصر آخر تؤمن بأن الكتاب الجيد يغرض نفسه وهي ليست في حاجة لتسوّل الترويج من وسائل الإعلام أو إطراءات النقاد الكاذبة وهي التي صرّحت مرة في أجوبتها الكتابية على أسئلة قرّائها، “كلما قرّرت أن أنشر كتاباتي، رجوت دائما أن تبتعد عني قدر المستطاع وأن تسافر وتتحدّث بلغة مختلفة عن تلك التي كتبت بها”، وبالفعل ما كتبته “ايلينا فرانتي” لم يحصر في نطاق محلي أو وطني بل امتطى بساط الريح وسكن قلوب القرّاء الشغوفين في ربوع العالم منتصرا للكتابة الأصيلة والرصينة في حقبة التتفيه والتسطيح.
أسماء جزار