اِرتأت مجلة “فواصل” نشر مقتطفات منتقاة من حوار مطوّل، أجرته نـــوّارة لحـرش، مع صاحب “طيور في الظهيرة”، الأديب مرزاق بقطاش (13 يونيو 1945 / 2 يناير 2021)، وصدر في كتاب بعنوان “ذلك الّذي حكى البحر”، عام 2019، عن منشورات “الوطن اليوم”.
النقد الأدبي في الجزائر شرح على الشرح
بين القصة والرّواية والمقالة والترجمة تندرج اشتغالاتك الفكريّة والأدبيّة والثقافية، أين تجد طقسك ومناخك أكثر؟
مرزاق بقطاش: الأشكال الأدبيّة كلّها تعجبني على الرغم من أنّني لا أرتاح للنقد الأدبيّ، خاصة ذلك الّذي يُكتب عندنا، لأنّه ما زال في معظمه شرحًا على الشرح، وليس إبداعًا على غرار ما كان عليه في العهود الزواهر. أقرأ عبد القادر الجرجاني وقدامة بن جعفر وابن طباطبا وغيرهم من أفذاذ النقد الأدبيّ العربيّ فأرى في كتاباتهم إبداعًا على الرغم من أنّها في معظمها عبارة عن شروح وتفسيرات.
القصة فنٌ جميلٌ، والرّواية فنٌ أجمل وأروع، والمقالة الأدبيّة بين بين وهكذا دواليك. ولَمَا كنت أرى أنّ الإبداع الأدبيّ حالة نفسية في المقام الأوّل، فإنّه يروقني أن أقفز بين هذه الأشكال الأدبيّة كلّها، وأضيف إليها الترجمة الأدبيّة التي أعتبرها عشقًا وتصوّفًا بالدرجة الأولى، بمعنى أنّني لا أُترجم شيئا لا أحبه، ولا أتواصل معه. ويمكنني القول أيضا في هذا السياق، إنّ القصة أشبه ما تكون بالألوان المائية، أي إنّني أضعها دفعة واحدة على الورق، تمامًا مثلما يفعل الرسام التشكيلي الّذي يعمد إلى اِستخدام الألوان المائية، وكذلك الشأن بالنسبة للمقالة الأدبية التي لا تستغرق مني أكثر من عشرين دقيقة في معظم الأحيان. أمّا الرّواية فهي في نظري زبدة المعرفة الإنسانية. إنّها البحث المُستمر في سبيل الحصول على شيء جميل مُتناسق متناغم، ولذلك فإنّني أكتبها بلا اِنقطاع، أي إنّني أكتبها دون أن يكون بين يدي موضوع أعالجه، فالمهم فيها هو الحياة. وما أكثر عدد الروائيين الذين لم يكتبوا طوال حياتهم سوى رواية أو روايتين لكنّهم ظلوا يعيشون الكتابة الروائية باِستمرار. أحسب أنّني واحد منهم.
الرّواية زبدة المعرفة
“ليس بالضرورة أن أجسد نفسي في رواياتي”، هكذا تقول، برأيك من يجسدُ الروائي أكثر؟ وبالنهاية أليس الروائي صوت الأنا والآخر غالبًا؟
مرزاق بقطاش: أكرّر قولي: “الرّواية زبدة المعرفة” حسب مفهومي الخاص. إنّها مجموعة أصوات معرفية، وهي تزداد اِتساعًا في أيّامنا هذه بحكم اِتساع نطاق الحياة. الّذي يكتب رواية يكون مشغولاً بالبحث على الدوام، وإلاّ فإنّه يكتب روبورتاجا ويكتفي بذلك. والروائي الّذي يتحدّث عن نفسه، قد يكتب رواية أو روايتين، وقد ينتهي به الأمر إلى التوقّف بعد ذلك. أمّا ذلك الّذي يغوص في بحر الحياة، وفي أعماق نفسه ويتأمّل حركة التاريخ والمجتمع، وينشد في الوقت نفسه هدفًا جماليًا، فإنّه قلّمَا يقف عند حدود نفسه، ومن ثمّ، فهو في حالة مخاض مُستمر.
عندما كتبتُ روايتي الأولى (طيور في الظهيرة)، كنتُ أتصوّر أنّني البداية والنهاية، ومن ثمّ، أدرجتُ فيها الكثير من عندياتي، أي من نفسي، بحكم أنّ البطولة فيها أُسندت إلى طفل، وكنتُ يومها طفلاً يرصدُ حركة الثورة الجزائرية، لكنّني تعلمتُ بعد ذلك أنّ الرّواية أعظم من ذلك، بل هي أعظم من الفن الملحمي، ذلك الّذي لم يكن فيه إلاّ بعدٌ واحد، هو البُعد البطولي.
أجمل ما في فن الرّواية هو الإسقاط النفسي والتاريخي والاِجتماعي والاِقتصادي والفلسفي. والروائي لا يمكنه أن يكون مُلِمًا بهذه الجوانب كلّها على الرغم من أنّه يتعيّن عليه أن يُعالجها جميعًا، أن يُقحم فيها ذاته. ولذلك، نقرأ على صفحات الجرائد تصريحًا لهذا أو ذاك يتحدث فيه عن روايته الفلانية أو الفلتانية زاعمًا أنّه جمعَ فأوعى. أمّا فيما يخصني، فأنا أقرأ باِستمرار وأكتب باِستمرار وأتأمّل الحياة باِستمرار، وعلى القارئ أن يضعني في هذه الخانة أو تلك.
واقعية محمّد ديب ما تزال تحتل مرتبة عالية وكذلك كتابات مولود معمري
الواقعية، الرمزية، السحرية، الغرائبية، تيارات ومناخات للرّواية، أي تيار يشدّك ويسحرك أكثر، وهل مازلت وفيًا للواقعية؟
مرزاق بقطاش: الواقعية بمفهومها العادي، وليس بمفهومها الإيديولوجي. وأنا في الحقيقة أحب جميع هذه التيارات الروائية، خاصة في المناطق التي نشأتُ فيها، أمّا أن تكون مُقحمة هنا وهناك، فذلك ما لا أرتاح له مطلقا. قد يكون التجريب أمرا مُحببًا في الفن الروائي، لكنّه ينبغي أن يكون بمقدار في العالم العربي على سبيل المثال. التيارات الروائية عبارة عن تجارب مختلفة نشأت في مناطق معينة، والأخذ بها قد يكون محموداً، لكن شريطة أن يأتي الكاتب الروائي بشيء جديد. واقعية نجيب محفوظ جميلة جدا، رمزية وتجريبية الطيب صالح شيء جميل، النفس الملحمي لدى عبد الرحمن منيف شيء جميل هو الآخر. والشيء الّذي أمقته في الكتابة الروائية هو أن يكتب أحدهم على طريقة الأوربيين، وأعني بذلك الكتابات الجنسية الفاضحة المفضوحة. واقعية محمّد ديب عندنا في الجزائر ما تزال تحتل مرتبة عالية، وكذلك كتابات مولود معمري.
وبتعبير آخر، الواقعية هي الواقعية السردية، أي تلك التي يتحدّث عنها الروائي الأمريكي جون شتاينبك حين يصف العمل الروائي بقوله: “أنا لا أتصوّر روائيًا دون أن تكون قبالته مجموعة من الأوراق وفي رأسه حكاية يريد سردها!” وأنا مع هذا الرأي الأخير، هذا النوع من الواقعية هو الّذي يُريحني، وأنا بطبيعة الحال لا أريد أن أفرض رأيي هذا على أحد، ذلك لأنّ الأدب الأصيل هو الحرية.
لحظة الكتابة عندك هل تخضع لرقابة ذاتية/داخلية، وهل الرقابة الذاتية ضرورية أم لا؟ بمعنى آخر: هل يمكن للكاتب أن يمارس الرقابة ضدّ نفسه وضدّ إبداعه هو الّذي يشتكى من الرقيب الخارجي السلطوي والسياسي والديني في كثير من الأحيان، ومن الرقابة الخارجية التي تمارسها هذه الجهات ضدّ الكاتب وضدّ الإبداع عموما؟
مرزاق بقطاش: على الرغم من أنّني كنتُ صحفيا في زمن صعب، أي زمن أحمد بن بلة وهواري بومدين، ثمّ الشاذلي بن جديد، إلاّ أنّني لم أمارس على نفسي أيّة رقابة. ولعلّها كانت تلقائية فيما يتعلّق بكتابة الأخبار والتعليق عليها، أمّا الكتابة الأدبية، فلا أحسب أنّني أخضعت نفسي لرقابة ما. حقا، أنا لم أعالج مواضيع قصصية أو روائية تتناول السلطة رأسًا، وهو في نظري أهم موضوع ينبغي أن يُعالج في الجزائر وفي الساحة العربية عمومًا، لكنّني كتبتُ ما كتبته بكلّ تلقائية، وأعترف أنّني لم أتلق أي شكل من أشكال التهديد أو التوبيخ من السلطة نفسها في مجال التعبير الأدبي، على حين أنّني واجهتُ بعض المشاكل من جانب السلطة في هذا الشأن السياسي أو ذاك، ولكن بصورة مُهذبة.
الصحافة تُوفر لمن يُمارسها فرصة التعبير، وذلك ما لسمته فيها خلال عملي الصحفي الطويل، وكان من حُسن حظي دائمًا وأبداً أن أنزلق منها إلى الأدب والكتابة الأدبية
قِلّة من الكُتاب من استطاعوا التوفيق بين الصحافة والأدب، كيف كنت تعيش التجربة المزدوجة، وهل ترى أنّ الأديب فيك انتصر للأدب على حساب الصحافة، أم العكس؟ ألم تشعر مرّة مثلا أنّ الصحافة قد استنزفت وقتك أكثر من الأدب؟
مرزاق بقطاش: لقد أقمتُ ما يشبه جسرا أو معبرا دائمًا ما بين الأدب والصحافة منذ أن انتميت إلى العمل الصحفي يوم 6 ديسمبر من عام 1962. أنتقل بين هاتين العدوتين دون مشقة أو عناء ذلك أنّ الكتابة من حيث هي كتابة موجودة فيهما معًا مع اِختلافات جوهرية فيما بينهما. لم يمر عليّ يوم واحد دون أن أقرأ فيه أو أكتب حتّى عندما أصوغ الخبر الصحفي والتعليق السياسي أو التحقيق أو أقوم بترجمة هذا التصريح أو ذلك الإعلان السياسي. ما كان في وسعي أن أصير مُعلمًا في مدرسة أو في ثانوية، ذلك أنّني كنتُ دائمًا وأبدا في أمسّ الحاجة إلى التعبير حتّى وإن لم أكن مُهتمًا بالموضوع الّذي أعالجه في العمل الصحفي.
الصحافة تُوفر لمن يُمارسها فرصة التعبير، وذلك ما لسمته فيها خلال عملي الصحفي الطويل، وكان من حُسن حظي دائمًا وأبداً أن أنزلق منها إلى الأدب والكتابة الأدبية. والجميل في هذا الشأن هو أنّني كنتُ على الدوام أجد المادة التي أصوغ منها مقالاتي، بالإضافة إلى أنّها ظلّت تُزودني في الكثير من الأحيان بما أحتاج إليه من معلومات وأفكار وأحاسيس.
وعليه، فأنا لم أجد حرجًا أو إحراجًا في العمل الصحفي، ثمّ إنّني كنتُ كثير القراءة، نَهِمًا بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من حب للتطلّع والفضول. أقرأ في أثناء تأديتي لعملي الصحفي، ويستحيل ألا يكون الكِتاب إلى جانبي في أثناء عملي. وقد تسنّى لي أن أطالع أُمهات الروايات العالمية في أثناء العمل، وذلك يعني أنّني كنتُ أنعزل عن غيري بأفكاري وأحاسيسي حتّى وإن كنتُ في قلب قاعة التحرير. وما أجمل أن يتمكن الكاتب، أي كاتب، أن ينعزل عن غيره من النّاس حتّى وهو معهم، أو في قهوة، أو في مطعم، أو حتّى وهو يركب حافلة مُكتظة بالركاب. ذلك ما كنتُ أفعله في جميع الحالات، وعليه، فأنا لا أحسب أنّ الصحافة اِبتلعت وقتي أو طغت على اِهتماماتي الأدبيّة.
أنا من عائلة بحّارين، تحترفُ البحر، ولا غرابة في أن تكون العلاقة بيني وبينه وطيدة من حيث الواقع ومن حيث الرمز
كأنّك ولدت وعشت لتحكي البحر أو لتخلّده في نصوصك، كأنّك تحترف البحر كما لو كنت تحترف الحياة؟
مرزاق بقطاش: لقد حكيتُ البحر، وحكيتُ عنه وما زلتُ أحكيه، وسبق لي أن قلتُ غير ما مرّة: أنا من عائلة بحّارين، تحترفُ البحر من عام 1915. والبحر هو الخبز أوّلاً، ثمّ، هو الرمز الكبير الّذي يتسع مداهُ كلّما نظرتُ إليه. أنا أجد فيه كلّ شيء. أسكن قُبالة البحر، ويستحيل أن يمر عليّ يوم دون أن أُصّبِحه وأمسيه. فلا غرابة في أن تكون العلاقة بيني وبينه وطيدة من حيث الواقع ومن حيث الرمز. وأنا لا أتصوّر حياتي دون بحر، ولا يمكنني أن أعيش في مدينة دون أن تكون لها إطلالة على هذا العالم الرحب الفسيح. وذلك ما يُبررُ وجود البحر في جميع كتاباتي.