يتحدّث الكاتب، الناقد والمترجم الدكتور محمّد ساري، عن مسارات متعدّدة ومتنوّعة ومختلفة، تقاطعت فيها الحياة، الدراسة، والكتابة بكلّ أنواعها وفروعها، من الشِّعر في البدايات الأولى وتنوع القراءات والمرجعيات الثقافية واللغوية، إلى القصة والرواية، والمقال والنقد والترجمة. بكثير من الكثافة والعُمق، تحدث صاحب “الغيث” عن مساره الأدبي: الروائي، النقدي، الترجمي. كما خاض باِستفاضة في الحديث عن المؤسسة النقدية والحرية الأكاديمية. ومن جهة أخرى كانت إشكالية الرّواية والأزمة حاضرة في الحوار، وكيف واكبت الرّواية أزمة ومحنة الجزائر خلال العشرية السوداء، وهل اِستثمرت فيها إبداعيًا أم فقط تناولتها من سياقها التوثيقي بعيداً عن الجمالي والفني والمخيال الإبداعي؟ بمعنى آخر هل اِفتقدت الإقناع الفني وجاءت في شكل شهادات، وأحيانًا كتابة مسترسلة تشبه كتابة اليوميّات. ما جعلها تُوصف بـ “الأدب الاِستعجالي”. الدكتور ساري، خاض في شؤون ثقافية وأدبية أخرى ذات حساسية وإشكالية.
التّنوّع في الكتابة والاِنتقال بين مختلف الفروع الأدبية أملته ظروف مهنية وذاتية
محمّد ساري، روائي وناقد ومُترجم أدبي من الجزائر، من مواليد 1958. أستاذ النقد الحديث ونظرية الأدب والسيميولوجيا بجامعة الجزائر 2، خرّيج جامعتي الجزائر والسوربون بباريس، يكتب باللغتين العربيّة والفرنسية، شارك في ملتقيات أدبية كثيرة في الجزائر وخارجها، نشر الرواية والنقد وترجم زهاء عشرين رواية من الفرنسية إلى العربية، إلى جانب ترجمات أخرى في مجالات النقد والفكر والفن والتاريخ والسياسة، فقد ترجم روايات كثيرة من الفرنسية إلى العربية لكُتّاب جزائريّين أمثال مليكة مقدّم، أنور بن مالك، بوعلام صنصال، ياسمينة خضرا (4 روايات)، سليم باشي، مايسة باي، جمال سويدي، حميد سكيف، مالك حدّاد (سأهديك غزالة)، رشيد بوجدرة (رسائل جزائرية)، وثلاثية الشمال (سطوح أُرْسول، غفوة حوّاء، ثلوج من رخام) لمحمد ديب، وروايتين لأنطوان دي سانت إكسيبيري (أرض البشر والأمير الصغير)، بالإضافة إلى قصص قصيرة لكُتّاب عالميين أمثال لوكليزيو الحاصل على جائزة نوبل للآداب، إلى جانب كُتب أخرى في النقد الأدبي (عناصر لتحليل الخطاب لإليا صرفاتي) ودراسات في السيميولوجيا وسوسيولوجيا الأدب والفن التشكيلي وموضوعات ثقافية عامة.
نشر روايات عديدة بالعربية: على جبال الظَهْرة (1983)، السعير (1986)، البطاقة السّحرية (1997)، الورم (2002)، الغيث (2007)، القلاع المتآكلة (2013)، حكاية أسفار: قصص في الأسفار والحياة (2016)، حرب القبور(2018).
وبالفرنسية: Le labyrinthe (2000) و Le naufrage (nouvelles) 2010 Pluies d’or (roman 2015 : prix Escale littéraire d’Alger 2016 ), Aïzer : un enfant dans la guerre -2018- .
اِشتغل في النقد الأدبي منذ السنوات الأولى للدراسة الجامعية، وذلك بنشر المقالات النقدية في الصُحف والمجلات الجزائرية والعربية والمُشاركة في الملتقيات الأدبية. وقد نشر كُتبًا عديدة: البحث عن النقد الأدبي الجديد (1984)، محنة الكتابة (2007)، في معرفة النص الروائي: تحديدات نظرية وتطبيقات (2009)، الأدب والمجتمع (2010)، وقفات في الفكر والأدب والنقد (2013)، في النقد الأدبي الحديث (2014).
حوار: نـوّارة لحــرش
الترجمة جاءت كضرورة حتمية جرّاء قراءاتي باللّغة الفرنسية وللمعرفة النقدية والأدبية العالمية
بين القصّة، الرّواية، المقالة، النقد والترجمة، تندرج اِشتغالاتك واهتماماتك الثقافيّة والأدبيّة. أين تجد طقسك ومناخك أكثر؟
الرّوائي، النّاقد والمترجم الدكتور محمّد ساري: إنّ التنوع في الكتابة والاِنتقال بين هذه الفروع الأدبية الثلاث أملته ظروف مهنية وذاتية خلال أربعين سنة من الكتابة التي بدأتها في القسم الثانوي بالشِّعر. وباللّغة الفرنسية نظراً لأنّ التعليم في الجزائر بعد الاِستقلال كان مُفَرنسًا، وقراءاتي الأدبية الأولى كانت باللّغة الفرنسية وهي قصص فرنسية وعالمية مترجمة إلى الفرنسية تلقّيتها كجوائز نهاية السنة مثل “البؤساء” لفيكتور هيغو و”الحرب والسلم” لليون تولستوي في نسخ موجّهة للشباب، زيادةً على الشِّعر الفرنسي الرومانسي للقرن التاسع عشر. حينها أيضًا اِكتشفتُ الرواية الجزائرية باللّغة الفرنسية في مكتبة الثانوية وبالأخص مولود فرعون، محمّد ديب وآسيا جبّار. في تلك السنوات، في القسم الداخلي، كتبتُ رواية بالفرنسية أيضًا ولكنّها لم تُنشر بخلاف القصائد التي تمكّنتُ من نشرها وأنا لا أزال أدرس بالقسم الثانوي. بعد البكالوريا سجّلتُ في قسم اللّغة العربية لأُعمّق معرفتي باللّغة العربية، وقد تزامن ذلك مع موجة تعريب التعليم التي اِنتهجتها السلطة لتتخلّص من الإرث اللغوي الاِستعماري. في الجامعة اِكتشفتُ النقد الأدبي عبر ما كان يُكتب في المجلات الجزائرية والعربية والجرائد عبر ملاحقها الأدبية والثقافية، فبادرتُ إلى المشاركة بمقالات صحفية أوّلاُ ثمّ بدراسات أكاديمية حول قضايا الأدب (عِلم الاِجتماع الأدبي والبنيوية التكوينية أساسًا) عامةً والأدب الجزائري خاصةً، وكانت مقالاتي الأولى حول روايات الطاهر وطار “الزلزال” ومالك حداد “سأهديك غزالة”.
أمّا الترجمة فجاءت متأخّرة نسبيًا، سنة 2002، مع أوّل ترجمة وهي “الممنوعة” لمليكة مقدّم، لتليها مجموعة كبيرة من الروايات لكُتّاب جزائريين (ياسمينة خضرا، محمد ديب، بوعلام صنصال…) وفرنسيين. ومع ذلك بقيت الرواية هي شُغلي الدائم والهاجس الأساس في كتاباتي، فكلما أنهيتُ رواية إلاّ وانشغلتُ بأخرى، برغم التوقفات التي كانت تحدث وتُؤخر إتمامها الّذي قد يستمر سنوات لبعضها.
جاءت الترجمة كضرورة حتمية جراء قراءاتي باللّغة الفرنسية وحاجتي كطالب أوّلاً وكأستاذ ثانيًا للمعرفة النقدية والأدبية العالمية، فكنتُ في البداية ألخّص الدراسات إلى اللّغة العربية قبل أن أمارس الترجمة بمعناها الاِحترافي. بقيَت هذه الروافد الثلاثة تُلازمني وتتصارح بداخلي لأنّ كلّ محور إلاّ ويأخذ مني الوقت الكثير، ويصدني على الاِنتقال إلى الثاني. كان الإبداع يتنافس مع النقد، أشعر بنفسي مبدعًا، ولكن ما أكتبه في النقد يُثير إعجاب القُرّاء ومسؤولي النشر. (نشرتُ أوّل كِتاب في النقد: البحث عن النقد الأدبي الجديد، دار الحداثة بيروت 1984) وكنتُ قبلها أي في 1982 نلتُ جائزة الرواية في الذّكرى العشرين للاِستقلال ولكن نشر الرواية تأخر إلى غاية 1988. وقد نشرتُ روايتي الثانية “السعير” في دار نشر خاصة (لافوميك) في 1986. فأشتغل بالتناوب، تارةً في النقد وتارةً في الإبداع، ثمّ أضفتُ الترجمة إلى اِنشغال أدبي يومي، وترجمتُ نصوصًا روائية لكُتّاب كبار وأنا عاشق لفن القص بجميع أنواعه.
فعوّضتْ لي ترجمة الرواية ما اِفتقدته في مجال إبداع الرواية، وفي كلّ مرّة أتّخذ قرارا نهائيًا بترك النقد والترجمة والإخلاص للرواية، اِنشغالي الأوّل. وقد أفادني هذا التعدّد والتناوب كثيرا، فكلّ محور يخدم ويثري الآخرين. لقد قلّت كتاباتي في السنوات الأخيرة في مجالي الترجمة والنقد، وانكببتُ على الإبداع الروائي بالعربية والفرنسية.
الأديب عبر التاريخ وجد نفسه يتصادم مع السياسي الّذي يريد دوماً تسخيره لأيديولوجيته، ولكن حرية الأديب أقوى وإن تعرض صاحبها إلى القمع، وأحيانا إلى الأسر والنفي، بل وحتّى إلى القتل
برأيك ما حدود تدخّل المؤسّسة النّقدية في ما يُسمّى بالحرية الأكاديمية؟ وهل يمكن الحديث عن مؤسّسة هي “المؤسسة النقدية” كنوع من الاِرتهان للخطاب السياسي الإيديولوجي بوصفه مرجعًا أو عقبة..؟
جوهر الكتابة الأدبية والنقدية هو الحرية، وجوهر السّياسة هو النظام وترسيم الحدود لكلّ شيء. فالأدب أشمل بكثير من السياسة وإن كان مُلتصقًا بها دومًا لأنّه يخترق تلك الحدود التي ترسمها السياسة، الأدب هو الحياة بتنوع تناقضاتها، الأدب هو السفر في ظل المُمكن الّذي لا تراه السياسة خاصةً تلك التي تُمارَس في الوطن العربي. لا يترعرع الإبداع إلاّ في كنف الحرية، لأنّ المبدع يغوص في حياة الإنسان، الاِجتماعية والذاتية في آن واحد، كما يغوص في أحلامه ورغباته المكبوتة التي قمعتها السياسة. لهذا السبب وجد الأديب نفسه عبر التاريخ يتصادم مع السياسي الّذي يريد دوماً تسخيره لأيديولوجيته، ولكن حرية الأديب أقوى وإن تعرض صاحبها إلى القمع، وأحيانًا إلى الأسر والنفي، بل وحتّى إلى القتل. فالأدب لا يتطوّر إلاّ في جوّ من الحرية، بدليل أنّ المجتمعات التي تسود فيها أنظمة قمعية يفقر فيها الأدب، وما على الكُتّاب إلاّ الهجرة والعيش في مجتمعات أرحم. نرى مثلاً بأنّ عدداً لا يُحصى من الكُتّاب العرب والعالم الثالث كأمريكا اللاتينية يعيشون في الغرب لأنّه يُوفر لهم حرية الإبداع، ولكن ليس معنى ذلك أنّهم لا يخضعون بدورهم إلى توجيهات أيديولوجية، تُمارسها عليهم وسائل الإعلام، ويفرضها الناشرون. ما نقوله أنّ الكاتب العربي في الغرب أحسن حالاً في مسألة الحرية من قرينه داخل المجتمعات العربية، دون أن نحتسب المشاكل الاِجتماعية والاِقتصادية والنفسية المعيقة للإبداع.
عوائق ضعف الترجمة مالية بالأساس، قبل أن نتكلّم عن نقص اِحتراف المترجمين
قمت بترجمة مجموعة من الأعمال الأدبية مثل “ثلاثية الشمال“ لمحمّد ديب وغيرها. كيف هي نظرتك أو رؤيتك للترجمة؟ كيف تعيش حالاتها، طقسها وطقوسها، وإلى أي حد تكون الترجمة عندك إبداعًا على إبداع وفنًا على فن، لا ترجمة منزوعة الفن والإبداع من أجل الترجمة وفقط؟ وكيف هو واقعها وراهنها وما هو أكبر وأكثر ما تصطدم به الترجمة من معوقات وإشكالات مختلفة؟
** جئتُ إلى اِحتراف الترجمة متأخراً نوعًا ما، برغم أنّني كنتُ منذ الصغر أنتقّل بين لغات عديدة في اليوم الواحد. نشأتُ في أسرة أمازيغية، نتكلم القبائلية داخل البيت، ثمّ دخلتُ وعمري أربع سنوات إلى الكّتّاب عند الشيخ لحفظ القرآن، وكنا نردّد السور دون أن نفقه شيئًا من معانيها، نحفظ السور ونردّدها فخورين بعلمنا الجليل دون أن تُضيف إلينا زاداً معرفيًا أو لغويًا. إنّ الذين لم يدخلوا المدرسة أو غادروها في السنوات الأولى، يصبحوا أُميين بأتم معنى الكلمة، ولا يحتفظون إلاّ بالسور القصيرة التي يستعينون بها يوميًا لأداء الصلاة، ودون أن يفقهوا معانيها، وأعرف منهم الكثير. ثمّ مباشرةً في السادسة من العمر، دخلت إلى المدرسة (1963) وكانت الدروس بالفرنسية، هناك اِنفتحنا على لغة ثانية، ودرسنا الحساب وتعرفنا على العالم. حصل في تلك الفترة أن رحلت عائلتي من القرية الصغيرة إلى المدينة (شرشال) وهي مدينة معرّبة، فبدأتُ تعلّم العربية الدارجة باِحتكاكي مع الأطفال في ساحة المدرسة، ثمّ في السنة الثالثة اِبتدائي، بدأت دروس اللّغة العربية، لأتعلّم العربية الفصحى شيئًا فشيئًا، تلك التي تُشبه سور القرآن التي توقّفتُ عنها عند رحيلنا مباشرةً. إذاً منذ الصغر وأنا أنتقل بين لغات متعدّدة: القبائلية في البيت، العربية الدارجة في ألعاب الأطفال، الفرنسية داخل القسم، والعربية الفصحى في دروس العربية التي كانت ساعاتها قليلة مقارنةً بساعات اللّغة الفرنسية (لغة، حساب، جغرافية، علوم…). لذلك، جاءت الترجمة تلقائية، أوّلاً اِستعنتُ بالترجمة في دروسي بالجامعة. بعد الليسانس، اِستفدتُ من منحة دراسية إلى فرنسا، وانتميتُ إلى جامعة السورْبون لتحضير رسالة الدكتوراه، وبعد العودة مباشرةً، اِنتسبتُ إلى هيئة التدريس بالجامعة وعملتُ على تدريس الدروس نفسها التي تلقيتها في السورْبون خاصةً في مناهج النقد الأدبي وتحليل الخطاب، ولم تكن الكُتب موجودة آنئذ (1984). فكانت الترجمة عبارة عن تلخيص حر لتلك النظريات، ما يسمح لي بهضمها وتدريسها، ومن ثمّة جاء كتابي النقدي الأوّل: “البحث عن النقد الأدبي الجديد”، الصادر في بيروت سنة 1984 عن دار الحداثة، في شقّه النظري حول البنيوية التكوينية عند لوسيان غولمان، ونظرية الرواية وعلاقتها بالملحمة عند جورج لوكاتش. وبعد ذلك وبدفع ظروف مواتية، بدأت الترجمة لكِتاب “عناصر لتحليل الخطاب”، وهو كتاب تربوي أكاديمي لطلبة الجامعة في سنة 2000، ولكن فشلت التجربة مع الناشر ولم يُنشر الكِتاب إلا في 2014. مباشرةً اِنتقلتُ إلى ترجمة الرواية مع “الممنوعة” لمليكة مقدم و”العاشقان المنفصلان” لأنور بن مالك. ومع نجاح الترجمتين، بدأتُ أتلقى طلبات الترجمة تباعًا إلى أن وَصل عدد ترجماتي الخامسة والعشرين كتابًا، أغلبها روايات لكُتّاب جزائريّين يكتبون بالفرنسية.
التّرجمة إبداعٌ ثانٍ لأنّ المُترجم يشتغل في لغة تختلف مفرداتها ومرجعياتها الثّقافية عن لغة النصّ الأصلي الّذي يترجمه
تطرح الترجمة دائمًا إشكالات عديدة باِعتبارها “خيانة للنصّ الأصلي“، ألا تكون الخيانة بتجميل النصّ الأصلي على خلاف ما يشكو منه كثير من الكتّاب؟ وإلى أي حدّ يُساهم المترجم في كتابة النصّ موضوع الترجمة؟
الترجمة خيانة جميلة حقًا، وأمثلة المترجمين الذين جمّلوا وزيّنوا النصوص التي ترجموها كثيرة، وجاءت الترجمات أفضل من النصوص الأصلية (قصص إدغار آلا بو التي ترجمها شارل بودلير مثلاً)، ولكن أيضا هناك من المترجمين من يُشوِّه النصّ الأصلي ويُقوِّله نقيض ما قِيل. الترجمة اِحتراف مثل الكتابة الإبداعية تمامًا، وتحتاج إلى تخصص والتزام أخلاقي كي تُمارَس في أنضج وأبهى صورها، أمّا إذا دخلت التجارة والرواج السوقي فقد تفسد الترجمة، لأنّ الناشر في هذه الحالة لا يتعامل مع مترجمين محترفين، ويتسرّع لإصدار النصّ المُترجم، وتقع الاِنحرافات، وتصبح الترجمة غير قابلة للقراءة، وأمثلة الترجمات الفاسدة في الوطن العربي كثيرة. في رأيي الترجمة إبداعٌ ثانٍ لأنّ المُترجم يشتغل في لغة تختلف مفرداتها ومرجعياتها الثقافية عن لغة النصّ الأصلي الّذي يترجمه، فيضطر إلى البحث داخل لغته وثقافته عمَّا يُقابل اللّغة المُترجم منها. إذاً فهو دائم الاِشتغال في اِبتكار ألفاظ وجُمل بهدف تحقيق التوازي الدلالي، دون أن يُخِل بعناصر الدلالة والشكل داخل اللّغة التي يُترجم إليها. ولكنّي أطرح هنا أيضا مسألةً أخرى لَحَظْتُها في بعض الترجمات العربية من لغات أخرى، وهي حذف فقرات من النصّ الأصلي لأنّها تخص أفكاراً لا تتوافق مع أفكاره أو ما يتصوّره يُناقض تقاليد المجتمع العربي أو تخص مقاطع جنسية أو إيروتيكية دون الإشارة إليها، وهذه الرقابة تخل بالنصّ الأصلي وتُشوِّهه. أرى بأنّ تطوّر اللّغة العربية وإثراءها وتحديثها لا يمكن أن يمر إلاّ عبر الترجمة من اللغات الأخرى ومن مختلف العلوم. الواقع مثلاً أنّ طلبتنا في الجامعات العربية بحاجة ماسة إلى الترجمة كي يطلعوا على العلوم ومناهجها والآداب المعاصرة، وبِمًّا أنّ هذه الترجمات قليلة جدا، فلم يبقَ على الطلبة والأساتذة إلاّ اللجوء إلى قدراتهم الخاصة في معرفة اللّغة الفرنسية أو الإنجليزية للاِستفادة منها، ومن لا يملك هذه القدرة يكون تكوينه ناقصًا جداً. من هنا ضرورة تكثيف الجامعات لفِعل الترجمة لتوفير المراجع الحديثة للطلبة.
من واجب الكُتّاب الجزائريّين أن يعودوا إلى العشرية السوداء ويروون أحداثها كي تبقى راسخة في أذهان الأجيال حتى لا تقع الجزائر، ومعها البلدان العربية والإسلامية في مثل ذلك المأزق مستقبلا
الرّواية والأزمة، برأيك هل واكبت الرّواية أزمة ومحنة الجزائر خلال العشرية السوداء كما يجب؟ هل اِستثمرت فيها إبداعيًا أم فقط تناولتها من سياقها التوثيقي بعيداً عن الجمالي والفني والمخيال الإبداعي؟ بمعنى آخر هل ترى أنّها اِفتقدت الإقناع الفني وجاءت في شكل شهادات وأحيانًا كتابة مسترسلة تشبه كتابة اليوميات، ما جعلها تُوصف بـ “الأدب الاِستعجالي“؟
** ينبغي أن نعرف بأنّ حيوية المجتمع والصراعات التي يعيشها عادةً ما تكون حافزاً كبيراً على الكتابة، لا ننسى أنّ أوّل ملحمة في التاريخ (هوميروس) تحكي عن الحرب، الحرب موضوعٌ محظوظٌ في الأدب. عددٌ لا يحصى من الروايات موضوعها الحرب، لقد كَتبَ الجزائريون روايات وقصص عن حرب التحرير، والحرب الأهلية التي عاشتها الجزائر في التسعينيات كانت حافزاً للكتابة الأدبية، كان الوجع قاصمًا والمفاجأة صادمة، لذلك اِنساق كثيرٌ من الأفراد إلى التعبير عن هذا الألم المُفجع، ولكن أغلب الكِتابات هي شهادات فردية لا ترقى إلى مستوى “الرواية” التي تحتاج إلى حرفية ومعرفة دقيقة بفن القص وحيثياته، أمّا التعبير عن الرفض أو الاِستنكار أو التنديد أو الخوف من الاِغتيال، فهذا ليس فنًا ولا يرقى إلى فن الأدب. أتصوّر أنّني كتبتُ رواية عن “العشرية السوداء” مثلما تُسمى حياءً وهروبًا من المواجهة الصريحة بتسميتها بالحرب الأهلية بين الجزائريين حول مشروعي مجتمعين متعاكسين متناقضين: مجتمع إسلاموي سلفي مُحافظ لاهوتي وبين مجتمع عصري لائكي حداثي، ناهيك عن المسبّبات النفسية والمصالحية الأخرى، وهي رواية “الورم” التي كتبتها بالفرنسية أيضا تحت عنوان “المتاهة”، وهي تحتوي على جميع عناصر القص مثل الصراع والمواجهة وتحديد الشخصيات بمختلف أبعادها. والدليل أنّها إلى يومنا هذا ما زال القُرّاء يبحثون عنها رغم أنّ طبعتها الأولى قد نفدت، ومع ذلك لا أرى بأنّ الأدب تمكّن من رصد هذه المرحلة بكلّ مآسيها وأسرارها، وستبقى هذه الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر المعاصر ملهمة الكُتّاب والسينمائيّين خاصةً، مثلما لا تزال حرب التحرير تلهم الكُتّاب والسينمائيّين. إنّ روايتي القادمة التي أنا بصدد إنهائها تدور أحداثها حول هذه “الحرب الأهلية” المُدمّرة. وقد تصدر في نهاية هذه السنة.
الأدب أوفر حظّا من الفلسفة وأسمى مقامًا من التّاريخ لأنّه يروي الكلي بينما يروي التّاريخ الجزئي
وماذا عن الرّواية التاريخية في الجزائر؟ إلى أي حدّ ترى أنّها حقّقت مشروعها التاريخي والجمالي؟
إنّ الرواية التاريخية لا تكتفي برصد تفاصيل شخصيات تاريخيّة مثلما وقعت فعلاً، فهذه ليست رواية ولا فيلمًا مثلما حدث مع فيلم “بوعمامة” الّذي يُعتبر فيلمًا وثائقيًا مصوّراً. على أساس أنّ تلك الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر لم تعرف الكاميرا ولا المصوّرين، وإلاّ لَمَا اِحتجنا إلى إعادة تصوير تلك المشاهد بالألوان.
الرّواية فنٌ قائم على قواعد أساسيّة لا تستقيم بدونها، ومنها الصراع الدرامي والحبكة والتشويق والتحوّل والتعرّف التي تقيم جسراً بين القارئ أو المُتفرّج يتمثل في الفرجة والإمتاع والإدهاش، لا نقرأ كِتاب تاريخ كما نقرأ رواية تاريخية. لننظر إلى روايات جرجي زيدان أو والتر سكوت أو ألكسندر دوماس، أو صالومبو لفلوبر وحديثًا أمين معلوف (خاصةً سمرقند) لنتأكّد من قوّة هذه الروايات التخييلية والجماليّة والعُمق الوجداني والوجودي برغم اِرتكازها على عناصر تاريخية وشخصيات وُجِدت فعلاً. ولكن حجم الخيال فيها والإضافات المُتعدّدة يفوق بكثير ما يُوفره التاريخ من مادة خام، لا يكفي رصد معالم شخصيات تاريخية مثلما تفعل السينما الجزائرية (فيلم بن بولعيد مثلاً) لإنجاز فيلم تاريخي، فإنّها إلى الروبورتاجات أقرب. لنقارن بين فيلم “الأفيون والعصا” المُقتبس من رواية مولود معمري وبين الفيلم المذكور أعلاه، رغم أنّ محتوى الفيلمين يحملان قيمًا مشتركة حول النضال من أجل الاِستقلال.
إنّ الأخلاق والأيديولوجيا والقيم النبيلة لا تصنع روايةً (أو فيلمًا) بأتم معنى الجمال والأدب والفن، حتّى وإن كان مرتكزاً على حقيقة تاريخيّة مُؤكّدة، ذلك أنّ أحداث التاريخ جزئية دائمًا وغير تامة، ولا تُشكل قطعة مُكتملة تحوى على جميع جوانب الحياة، من حرب وبطولة وحب وصراع وخيانة وتسامٍ وانحطاط، والكُل مرتبطٌ ومنسجمٌ في حكاية تشبه الحياة والتاريخ، ولكنّها ليست الحياة ولا التاريخ مثلما وقع فعلاً وإنّما هي الحياة والتاريخ مثلما يحلم به الكاتب وعبره الإنسان مختزلاً تجارب البشرية جمعاء. إنّ جمال سويدي (في رأيي) هو من تمكّن فعلاً من كتابة رواية تاريخية جزائرية بمختلف أبعادها التاريخية والجمالية والفنية، ألا وهي “أمستان الصنهاجي“ (بالفرنسية وقد قُمتُ بترجمتها إلى العربية وصدرت في 2009)، حيث يُوفّر النصّ جميع شروط الكتابة الأدبية التي تستمد مادتها من التاريخ. لا يمكن الحديث عن علاقة الرواية بالتاريخ دون الرجوع إلى ما قاله أرسطو قبل قرون عديدة، حيث أكّد أنّ التاريخ يلتزمُ بِما وقع فعلاً بينما الشِّعر (أي الأدب) يروي الأحداث المحتملة الوقوع. لهذا، فالأدب أوفر حظا من الفلسفة وأسمى مقامًا من التاريخ لأنّه يروي الكلي بينما يروي التاريخ الجزئي. يتضح من قول أرسطو أنّ الرواية تتجاوز التاريخ بالضرورة لأنّها لا تكتفي بسرد تفاصيل الشخصيات التاريخية مهما كانت أهميتها وقيمتها التعليمية والتغييرية إلى اِبتكار تفاصيل أخرى خيّاليّة تمنح للوجود اِكتماله، وتُغلّف الحياة بأحلام الإنسان التي قد لا ترى النّور أبداً. لهذا تكتسي الرواية التاريخيّة أهمية كُبرى لِمَا تُضيفه للحادثة التاريخية من فلسفة وبُعد أنطولوجي.
لا يمكن لموضوع الرّواية أن يمنح شرطا مقبولاً للتحديد لأنّه ليس إلاّ تنظيمًا أدبيًا صرفًا لا يملك مع الواقع التجريبي إلاّ علاقات تعاقد اِفتراضي
ما هي أسئلة الرّواية راهنًا؟ ومن جهة أخرى ما هي الأسئلة التي يجب أن تطرحها الرّواية والتي تلح في طرحها؟
في نظر الروائي، تستمد الرواية قوتها من حريتها المطلقة، أمّا عند الناقد، فإنّ هذه الحرية تشكّل فضيحة بشكلٍ من الأشكال، فهو لا يقبلها دون أن يضع لها بعض الحدود التي يعتمد عليها لاحقًا ليستبدل القوانين التي تنقصه بأحاسيسه، بأذواقه، بأمزجته، الشيء الّذي يفعله دومًا دون اِنتباه جلي، فيحوّل ذوقه إلى قانون. من هنا صعوبة إيجاد تحديد للرواية يُحظى بالإجماع، فمرّة، إنّ الرواية هي قصة مكتوبة نثراً يبحث فيها مؤلفها عن إثارة اِهتمام القارئ عن طريق تصوير الأهواء والعادات أو فرادة المغامرات، ولكن القصة تُثير دائمًا إشكالاً حينما نربطها بالواقع، فيطرح السؤال: هل أحداثها واقعية أم متخيلة؟ ما هي العلاقة بين الحقيقة الروائية والحقيقة الواقعية؟ أين وجه الشبه؟ كيف ننتقل من الواحد إلى الثاني؟ ولكن المُنّظِرين المحدثين تركوا فكرة الواقع وتشبّثوا بالخيال، وأصبحت لفظة الرواية مرادفة للفظة الخيال. ومع ذلك لا يزال النقد ينظر إلى الرواية باِعتبارها تصويرا للواقع بغرض نقده، والتنديد ببعض السلوكات التي يعتبرها المؤلف من السلوكات المنحرفة. ولكن مهما كانت الطبيعة الواقعية للحدث الروائي، سواء تأسّس على حادثة حقيقية أم اِخترعه الروائي بكلّ حرية، فليس الموضوع هو الّذي يُشكّل الرواية، لأنّنا في جميع الأحوال لا يمكن أن نُميز بين الحقيقي والمُتخيل، حتّى في الروايات التاريخية القائمة أساسًا على شخصيات عاشت فعلاً في فترة تاريخية مُحدّدة. إنّ درجة واقعية رواية ما ليست بالشيء الّذي يمكن قياسه، فلا تشكّل إلاّ الجزء المُتخيّل الّذي يتسلى الروائي بالتلاعب به. سواء كان الحدث واقعيًا أو مُتخيّلاً، مهما كانت اِدّعاءات علاقاته مع الواقع، فلا يمكن لموضوع الرواية أن يمنح شرطا مقبولاً للتحديد لأنّه ليس إلاّ تنظيمًا أدبيًا صرفًا لا يملك مع الواقع التجريبي إلاّ علاقات تعاقد اِفتراضي، كما تملك الرواية خصوصية حرية اِختيار الشخصيات في إطار وظروف اِجتماعية بمميزات وحدها المؤلف يختارها ويُحدّد آثارها حسب هواه. تُحدّد بعض القواميس الرواية كتأليف خيالي نثري، طويل نسبيًا، ينسج ويحرّك شخصيات يقدّمها على أساس أنّها واقعية، ويُعرفنا بسيكولوجيتها ومصائرها ومغامراتها، كما لو كانت فعلاً شخصيات إنسانية عاشت في مكان وزمان محدّدين، بل يتعمّد كثير من الروائيين اِستثمار أماكن ومُدن وشوارع معلومة ليُمَوقع شخصياته بهدف إيهام القارئ بأنّ تلك الأماكن اِحتوت فعلا تلك الأحداث التي يتكلم عنها، مثلما فعل جيمس جويس في رواية “أوليسيس” حتّى أضحى الإيرلنديون يحتفلون سنويًا بالرابع جوان في شارع دوبلين الشهير على أساس أنّ شخصية الرواية عاشت فعلاً في ذلك الشارع. وفي المقابل، هناك من الكُتّاب (كافكا مثلاً) يرفضون أي علاقة بالواقع، بل يُعلنون صراحةً الطابع المُتخيّل لشخصياتهم وعوالمهم، يُؤسِّسون حقائقهم على إنكار التجربة المُشتركة لصالح الفنتاستيكي والوهمي، دون أن يكفّوا عن كونهم روائيين يعالجون قضايا الإنسان وهمومه الوجودية العميقة. لهذا السبب ينكر كثير من النُقاد على الرواية أن تشكّل جنسًا أدبيًا محدداً، ويُؤكّدون أنّ الرواية مادة أدبية واسعة ومتنوّعة ومختلفة الأشكال، ولا يمكن اِعتبارها جنسًا أو نوعًا أدبيًا. لهذا، يتخلّون عن إيجاد قالب تنظيري للرواية وقوانين عامة يمكن أن تستوعبها، فلا ينظرون عندئذ إلاّ للرواية الواحدة أو لمجموعة محدودة من الروايات تشترك في الشكل والموضوع كأن نقول الرواية البوليسية، رواية المغامرات، رواية الخيال العلمي..