دفاعا عن المسلمين.. من كتاب “Pour les musulmans” لإديوي بلينيل
الأولى. لم يكن ذلك اِقتراحا هامشيا، إنّما مقترح الشاهد الكبير، وضيف التّحرير لهذا اليوم، ليُغرق أسماعنا دون مُعترِض، بالهوس الذي حلّ محلّ فكره. مضيفا بمحكم السُّلطة المعنويّة التي منحه إيّاها وضعه كضيف يعتدّ به: “أنّها همٌّ من هموم الحضارة” لاغرو “مشكلة الإسلام” هذه، متأسّفا على تركها بين أيدي “الجبهة الوطنيّة”. فقد دعى إذًا، أحزاب الحكومة، اليساريّة واليمينيّة على السّواء، إلى تبني أجندة حزب اليمين المتطرّف، من دون أدنى اِحتراز.
من المعروف “أنّ معظم النّار يبدأ من مستصغر الشرر”، ومستصغرها هنا صدف الرزنامة. لقد كان يومها فعلا هو اِثنين عنصرة، هذا العيد المسيحيّ، الذي يحيي ذكرى نزول الرّوح القدس، خمسين يوما بعد عيد الفصح، على حواريي مسيح النّاصريّة، مردفا عيد نزول التوراة، وهو أحد أعياد الحجّ الثلاثة في الديانة اليهوديّة، التي تلي دورة الحصاد العريقة. فقد أخذ الرّوح القدس حسب الرواية المسيحيّة شكل ألسن ناريّة جاءت من السّماء في ريح عاتية، كلّما لامست حواريّا، كلّما أنطقت لسانه بعديد اللّغات. فكيف لم نسمع منه مع أنّه أحسن من يعرف عن الشموليات المهيمنة والمضطهدِة التي اِنجرّ عنها غرق العالم، من هذا الحدث المسيحيّ الضاربة جذوره في القدم صدى الاِختلاف والعالم، واِحترام التعدّد، وهموم الآخر؟
لم يكن ثمَّ شيء من هذا القبيل في ذاك الصباح، إذ لم أسمع إلاّ لغة واحدة، منغلقة عن اللّغات الأخرى، لغةَ رفض وإقصاء، لغة عنف غير مسبوقة تتخفّى تحت دثار التّحفظ. إنّها اللّغة جدّ القاطعة للميز؛ ولغة الجهل التي تحشر مجموعة من الرّجال والنساء والأطفال، وترميهم بسبب ديانتهم، مهما كان اِختلافهم وتعدّدهم؛ ولغة الأحكام المسبقة التي تصنع غرابة الأجنبيّ بتنميط جماعات بشريّة بسبب أصولها، وثقافتها، ومعتقدها، واِنتمائها، ومولدها…
يسيء التفوّق لصاحبه أكثر ممّا يفعل به الهرم، نرى ذلك في التّشريفات التي تُبرقع التّنازل، وذاك التّمييز الذي يعلن التّخلي عن المبادىء. فهذا المقترح الممجوج أكثر من كونه ضارا كان في الواقع بلسان الأكاديميّ ألان فينكلكراوت (Alain Finkielkraut) الذي اُنتخب غير بعيد واحدا من “الخالدين”. والنّاطق الرسميّ الذي نصّب نفسه نائبا عن “عليّة الفرنسيين” في صراعهم ضدّ تهديد “التّبديل الكبير”، والذي كان نظّر له شريكه في التراجع خوفا من الأجانب رونو كامو (Renaud Camus)، فالباحث لا يكتفي بأن يكون اِمتدادا لفكرة محافظةٍ مقرّعا الحداثة بكلّ أشكالها. إنّما هو أيضا الضامن المحترم للنّزعات العنصريّة الأكثر تداولا، مرافقا بذلك نقص اليقظة المناهضة للعنصريّة ضدّ الساميّة وحدها، والذي سيكفي ترك تناميها الواضح إلى تحويل اليمين المتطرّف إلى حزب مقبول اِجتماعيّا.
غير أنّه كان أقلّ ضمانا، وبالتّحديد في أحداث الشّغب في 2005 والتي نقّب الصحافيون والباحثون بشكل موسّع في تسلسل أحداثها بين الشّرطة وأسبابها الاِجتماعيّة. ففي حوار تزامن والأحداث على صفحات جريدة هارتز (Haaretz)، كان الأكاديميّ رغم تراجعه عن أقواله، دقّ ناقوس الخطر وهو يرى “البرابرة” على أبوابنا، فاضحا “ثورة ذات طبيعة عرقيّة دينيّة”. مستنتجًا من خلال ذلك “أنّ فكرة الحرب الرحيمة ضدّ العنصريّة تتحوّل شيئا فشيئا، وبصورة مرعبة إلى إيديولوجيا كاذبة، فمعاداة العنصريّة ستكون في القرن الواحد والعشرين ما كانته مقاومة الشيوعيّة في القرن العشرين”، ما يعني أنّها ستكون إيديولوجيا مجرمة.
ليس صدفة، إذا سارع من لم يكن حينها إلاّ وزيرا للداخليّة، والذي لم تدّخر هيأته الناريّة وقعها السيّء في تنامي أحداث الشغب، أمام الاِحتجاج الذي تسبّبت فيه هذه التصريحات إلى نجدة هذا “المثقف الذي شرّف العبقريّة الفرنسيّة”. فقد كان نيكولا ساركوزي (Nicolas Sarkozy) يرسي حينها لازِمَاته ضدّ “تسّلط المشاعر الطيّبة”، وهي صيغة حمّالة أوجه بما أنّها تحض على دعم نظام المشاعر السيّئة، الفخورة ببغضها وإقصاءاتها، المستهزئة بالطيبة، التي تُفقد الكرم أهليته. “مثقف لا يمكن تجاهله” سيذهب الأكاديميّون بدورهم إلى الإعادة، الأكاديميون الذين سينتخبون في 2014 مؤلِّف “الهويّة التعيسة “L’Identitémalhureuse* “أحد ألمع مثقّفينا” هكذا سيقوّي نيكولا ساركوزي موقفهم بدعمه لهم، ساركوزي الذي بالإضافة إلى رصّ القضايا القانونيّة، سيبقى كأوّل مخترع لوزارة للهويّة الوطنيّة.
إنّ “ثمَّ مشكلة الإسلام في فرنسا”…لقد سمعت للمرّة الألف هذه اللازمة، التي بلا عائق، تضع فرنسا في حرب ضدّ دين، وتُؤقلمها مع الأحكام المسبقة، وتعوّدها على اللامبالاة، وتعوّدها باختصار على الأسوأ، وهو ما جعلني أقرّر تأليف هذا الكتاب. وكذلك بسبب تتفيه المثقّفين لخطاب شبيه بذاك الذي، قبل الكارثة الأوروبيّة، كان يؤكّد وجود “مشكلة يهوديّة” في فرنسا، فقد أردت أن أردّ آخذا بكلّ حزم جانب أبناء بلدنا ذوي الأصول، والثّقافة، والعقيدة الإسلاميّة ضدّ من ينصّبونهم كبش فداء لتوتّراتنا وشكوكنا.
إنّ من هم في الأعلى، هم من يهمّونني، مادام شغف رُهاب الأجانب، لا يولد بين عشيّة وضحاها، فإنّه يُبعث ويُحافَظ عليه من خسارات أكثر أهميّة، أي خسائر الفكر، التي لا عذر لهم فيها من نحو الظروف أو الجوار، والفقر، والمحنة، أمام عماهم، غير المغفور من أساسه. فقد كان الأولى لهم أن ينيروا، ويربّوا، ويرفعوا، عوض أن يُحرِّضوا، ويثيروا، ويهيِّجوا الأعصاب. فمن يدّعون المعرفة، يضمنون التّفكير ويريدون التسيير؛ قد حوّلهم العصر، بتحدّياته وشكوكه، إلى جهلة، ومعتوهين وخطرين بسبب اِفتقارهم إلى المعرفة والتّفكير والسّلطة، لم يعد لديهم ما يقترحون غير شغف قاتلٍ تحت غطاء وسوسة رُهاب الإسلام: شغف عدم المساواة البائس، والتّراتبيّة، والميز. إنّه الشّغف الكاسح الذي في النّهاية، لا يحابي أحدا، مادام يستطيع بلا نقاش أن يصفّي، ويفرِّق وينتقي ممّا نتقاسم من إنسانيّة. إنّه الشّغف الرجعيّ والمهدّم الذي يجعل الأمل والتّحرّر أطلالا، والذي كان وقوده دائما عدم المساواة.
لزمتنا الكارثة الأوروبيّة لحربين عالميتين بجرائمهما ضدّ الإنسانيّة، حتى ندوّن في المادة 1 من مقدّمة الدستور الفرنسيّ – دستور الجمهوريّة الرابعة، المحفوظ من الجمهوريّة الخامسة – والذي مايزال ساري المفعول: “غداة النّصر الذي أحرزته الشّعوب الحرّة على الأنظمة التي حاولت اِستعباد واِحتقار الإنسان، فإنّ الشّعب الفرنسيّ ينادي مجدّدا بأنّ كلّ إنسان، بلا تمييز عرقيّ، أو دينيّ، أو عقَديّ، يملك حقوقا مقدّسة وغير قابلة للتصرّف”. إنّ هذا الوعد، والحكمة المُحصّلة بطريقة مؤلمة، في خطر اليوم داخل هذا التعوّد على البغض، والميز، والإقصاء، والرفض، والعنف…إلخ الذي يستقرّ بفرنسا مع تحقير الخطابات والممارسات ضدّ المسلمين.
في 2013 ذكرت اللّجنة الوطنيّة الاِستشارية لحقوق الإنسان (CNCDH) “جذوةَ عنفٍ” في تقريرها السّنويّ عن التمييز العنصريّ، ومعاداة الساميّة، ورهاب الأجانب. وفي جذوة العنف هذه، كان تصاعد التّعصّب ضدّ المسلمين، والقطبيّة ضدّ الإسلام، المعطى الأكثر ثباتا ورسوخا. “لو نقارن فترتنا بتلك التي ما قبل الحرب، سنستطيع أن نقول إنّ المسلم اليوم، متبوعا بالمغاربيّ، قد عوّض اليهوديّ في تمثّلات وبناء كبش الفداء” بتعليق علماء الاِجتماع وعلماء السّياسية الذين اِلتمست اللّجنة آراءَهم.
عام من بعد هذا، وبالتّحديد في 2014، رفعت نفس (ل.و.إ.ح.إ) مستوى تحذيرها، بملاحظتها عودة “تمييز عنصري وحشيّ، وبيولوجيّ، يجعل من الغريب كبش فداء”، مرفوق بارتفاع قويّ لأفعال عنيفة ضدّ المسلمين. لا صدفة في هذا إن كان التّراجع، الثابت من حينها بخسارة اِثنتي عشرة نقطة خلال أربع سنوات، من المؤشر الكلّي لتسامح المجتمع الفرنسيّ المقاس من اللّجنة، في 2009، وهي سنة النّقاش المزعوم حول الهويّة الوطنيّة، وتكريس سنتين مناهضتين للبيداغوجيا الساركوزويّة. الميز العنصريّ ورهاب الأجانب لا يُولدَان بين عشيّة وضحاها، بل هما نتاج سياسة تترك الحبل على الغارب. “فالطّريقة التي نتكلّم بها عن المهاجرين والأقليّات، وسرعة الدفاع عنهم، ومقاومة مقترحات رُهاب الأجانب، لعَناصرٌ مهمة لمنع الأفراد من أن يسقطوا في فخّ الأحكام المسبقة”، هذا ما سطّره هذا التقرير السنويّ لـ 2014، محذِّرا من تتفيه رُهاب الإسلام، تحت غطاء الصراع العلمانيّ المزعوم.
لاحظت (ل.و.إ.ح.إ) “أنّ تغييرات عميقة طرأت على أنموذج التمييز العنصريّ في سنوات ما بعد الاستعمار، وذلك بالاِنزلاق من تمييز بيولوجيّ إلى تمييز ثقافيّ”، فمصطلح “رهاب الإسلام” المتنكّر في الزيّ الجديد قد اُستغلّ من طرف جماعات سياسيّة لضمّ عدد أكبر من المنتَخِبين والمطالبة بالحقّ في التّعبير عن كره الديانة الإسلاميّة، والمسلم. إنّ أكثر ما يقلق، هو أن تتعدّى طائفة متطرّفة عتبة الخطاب إلى الأفعال. فرهاب الإسلام وفق منظورهم، يتأتّى من الحقّ في حرية التّعبير، ومنه، فمظاهراتِ الكراهيّة التي سيلهمها، سواءً أكانت ضدّ الديانة الإسلاميّة أو أتباعها، لا يمكن لها أن تقع تحت طائلة قانون العقوبات. باتّباع هذا التّفكير الخطير، لن يكون التّحرّش بامرأة مختمرة، إلاّ عملا نضاليّا ضدّ عبادةٍ محكوم عليها بأنّها شكل من أشكال اِضطهاد النساء”.
إنّ (ل.و.إ.ح.إ) بوقوفها ضدّ هذا الاِنحراف الجهنميّ كانت إذًا تمنّت “تسمية وكشف ما نصْبُو إلى مقاومته”. وعليه إنّ رهاب الإسلام، ونعني به هذه الظاهرة التي تعني الإسلام والمسلمين، والتي تظهر “من خلال آراء وأحكام مسبقة سلبيّة، هي منبع الرفض، والإقصاءات، والميز، والمقترحات المهينة أو التشهيريّة، والتّحريض على الكراهية، وهدم ممتلكات تحمل قيمة رمزيّة، قد تصل أحيانا إلى تحرّشات”.
لابدّ إذًا من رفع الصّوت، بما أنّ التّحذيرات المؤسساتيّة لم تستطع أن تمنع اِنتشار الحكم المسبق المناهض للإسلام على أمواج إذاعة فرنسا أو في مقاعد الأكاديميّة الفرنسيّة. علينا أن نرفع الصّوت ليس دفاعا عن المسلمين وحسب، ولكن دفاعا عن كلّ الأقليّات الأخرى، التي يضعها التّعوّد على كره الآخر في خطر، ويشهّر بها، ويجعلها فئة هشّة. إنّ الجرائم المعادية للساميّة، وتحرّشات رهاب السّود، والعنف ضدّ الغجر، تغذّي في هذه الآونة، يوميّات اللاّتسامح القاتل، وهي غير منفصلة عن التّسامح المتنامي مع الخطاب اليوميّ، أو أعمال الميز العادية، والإقصاء، الموجّهة للمسلمين في فرنسا.
فالتمييز العنصريّ دمية روسيّة متوحّشة، لن تستبعد أيّ فريسة إذا ما تحرّرت. لكنّها عن طريق تتفيه دورها نحو المسلمين، تحت غطاء رفض دينهم، اِستطاعت أن تستقرّ في عقر دارها مجدّدا، وصار مسلما بها. وصارت مقبولة، ومحترمة، وممكنة المعاشرة. إنّ الِامتداد الحاليّ لمجال الكراهية الذي نحن شهود ذاهلون عليه، من أولوياته هذا الِانتشار القاطع للتمييز ضدّ المسلمين، والذي يحتلّ المكان الشاغر الذي تركته النقمة على معاداة السامية التي وصلنا إليها لحسن الحظ، ولو متأخّرة.
منذ نهاية العشرية الأولى من 2000، تشرح المؤرخة فاليري إيغوني (ValérieIgounet) في كتاب مرجعيّ عن حزب اليمين المتطرّف إنّه “لم يعد اليهوديّ هو العدو عند الجبهة الوطنيّة، إنّما الفرنسيّ المسلم”. “فمؤشر رهاب الإسلام حلّ محلّ مؤشر معاداة الساميّة”، أكّدت محدّدة في حوار لها مع ميديابارت (Mediapart). لقد أعيد سياق الرّسالة ويمكن تمريرها بهذه الكلمات: إنّ الخطر الإسلاماويّ يتعارض وقيم اللائكيّة التي يمجدّها وطننا، وأسس الجمهوريّة الفرنسيّة. وهي أيضا طريقة لمجانبة التّشريعات المناهضة للعنصريّة: فالحديث عن الإسلام هو “شكل من الحديث عن الهجرة دون الوقوع تحت طائلة القانون”.
إنّ الفخ فظ، لكنّه يظلّ فعّالا، للأسف. فاليمين المتطرّف لم يغيّر أبدا أسلوب تجارته المتمثّل في المخاوف والكراهية المتأجّجة، وكباش الفداء المعيّنة، لكنّه غيّر هدفه، بحدسه أنّ، الخلط الذي يعرفه العصر واِضطراب الأذهان، من المرجّح أن يمكّن حركة رهاب الأجانب من حقّ الاِحترام، إذا ما اِبتعد قليلا عن معاداة السامية. إنّه “الشيء الذي كان علينا تفجيره”، أسرّ نائب رئيس الجبهة الوطنيّة للباحثة لوي أليوط (Louis Aliot). “الشيطنة لا تمسّ معاداة السامية فقط”، واصل محدّدا دون حرج. “بتوزيع منشورات في الطريق، لم تكن لا الهجرة ولا الإسلام سقف الزجاج الوحيد الذي كنت أرى، فهناك من هم أكثر سوءا منّا بخصوص هذا الموضوع. إنّ معاداة الساميّة هي ما يمنع النّاس من اِنتخابنا، لا يوجد إلاّ هذا، فانطلاقا من فكّ هذا القفل الإيديولوجيّ، ستفكّون الباقي”.
الباقي إذًا، أي كلّ هذا الباقي الذي نتركه يقول ويتحرّك، بترك هذه الطرائد للصّمت، واللامبالاة، والخفاء. فالزّمن يسابقنا ولن يمكننا أن نتحجّج بأنّنا لم نُعذر. فوطننا اليوم أصبح اِستثناء أوروبيّا بهذا اليمين المتطرّف الذي يتوسّط النّقاش العام إلى درجة اِستعداده إلى الغزو من أجل السلطة، يمين منحلّ أخلاقيا، ومصاب بالتوهّم الإيديولوجيّ، والإبتزاز الاِقتصاديّ، ويسار في وضع مزرٍ، لم يعد إلاّ أقليّة مقسّمة وضالة أكثر من أيّ وقت. فبعيدا في أوروبا، وتحديدا في اليونان، وإسبانيا، وإيطاليا، تُبرِز الأزمة الماليّة والِاقتصاديّة، والاِجتماعيّة، والبيئيّة الأوروبيّة…إلخ، محاولات مختلفة وجديدة، تجسّد المواجهة الضروريّة والتي لا يمكن تجنّبها، للمجهودات المُبكِرة والمخاوف المتأجّجة. بينما يظل مكان فرنسا شاغرا، إذ تمنح عودة غير متوقعة لإيديولوجيات عدم المساواة، التي في ظلّ تشنّج الهويّة، كانت قد دمّرت قارتنا في القرن الماضي.
فلأوّل مرّة منذ هزيمة 1945، التي فرضت على اليمين الفرنسيّ أن يتحوّل إلى الجمهوريّة، وقد كانت حينها مطلبا دستوريا “ديمقراطيّا واِجتماعيّا”، ها هم يخرجون بشكل دائم من هوامش الأقليّة المعتادة، ليفرضوا على باقي الحقل السياسيّ هيمنة بلاغتهم القديمة: الهويّة ضدّ المساواة. الوضع الثابت للأولى ضدّ الحركة المبدعة للثانية. هويّة الاِنغلاق والاِقصاء ضدّ مساواة التّفتّح والتّواصل؛ ومبالغة الجانب الوطنيّ ضدّ الأخوة الاجتماعيّة؛ وتراتبيّة الأصول، والمظاهر والاِنتماءات، والعقائد والثقافات، ضدّ أفق الحقوق والممكن المتجدّد دائم التّحصيل للجميع.
بحجة الحماية من الأجنبيّ، والتّهديد الخارجيّ، والذي حتما يأخذ وجه العدو الداخليّ (يهوديّ الأمس، والمسلم – أو بلا تمييز العربيّ – اليوم)، إنّ إيديولوجيّة التّفضيل هذه التي تزعم الوطنية، وتقترح السّعادة المسمومة لأن نرمي على السويّة، بما في ذلك فرنسا كما هي وكما تعيش. وما هي في الحقيقة إلاّ حجة واهية للسيطرة المقترفة والمعزَّزة: فعندما يشنُّ الظالمون الحرب باِسم الأصول، فإنّه لا محالة السّلام من أجل صفقات المضطهِدين، والمقصود بالصّفقات منافعهم الشّخصيّة على حساب الرّوح العامة؛ إنّه السّباق المجنون إلى تكديس رأس المال، حيث تُحفر كما لم يحدث قبلا، لا مساواة لا تطاق.
إنّ هذا الصعود المظلم وإن كان يتغذّى من أزمة الثّقة في أوروبا تسير مطأطئة الرأس، وتخسر شرعيتها الشّعبيّة لفرط تماهيها مع المنافسة الاِقتصاديّة، فإنّه ليس تاريخا فرنكو فرنسيّا إطلاقا، فقد بدأ منذ ثلاثين سنة بالضبط، في 1984، السّنة الأولى للاِختراق الاِنتخابيّ ذي المعنى للجبهة الوطنيّة. كان الاِتّحاد الأوروبيّ وقتها غير موجود على عكس الاِتّحاد السّوفياتيّ، ولم تكن المجموعة الاِقتصاديّة الأوروبيّة تعدّ سوى عشرة أعضاء (مع اليونان لكن من غير إسبانيا والبرتغال) بينما لم تكن ألمانيا تجرؤ حتى على مجرّد الحلم باتّحادها من جديد.
لم ينقطع تقريبا منذ ذلك الحين، هذا التقدّم ليمين متطرّف وفيٍّ لماضيه، وهو لا يدين بشيء للقدر، إنّما للسّياسات التي لم تكفَّ عن أن تمدّ له يد العون: التّنازلات الاِنتهازيّة لأحزاب يفترض أن تكون حكوميّة، يمينا ويسارا، مانحة لليمين المتطرّف “أسئلتها الحسنة” عن الأمن ورهاب الأجانب، لتُعارضه بأحسن ما تملك من أجوبتها، التي في نهاية الأمر، كانت فاعليتها الوحيدة إضفاء الشرعيّة على أولويّات الجبهة الوطنيّة. فأغلبهم يدافع، عن سياسة الخوف، أمّا بالنسبة لأكثرهم عماء، فيدافع عن حرب حضارات، أخطارُها مُثقلة بأحمال ماضٍ اِستعماريّ لم يدفع يوما دِيّته، إنّ هؤلاء السّحرة المتمرّنين يعرضون مصيرنا المشترك للخطر.
إنّ المصير الذي يكابده مسلمو فرنسا مرتبط في الحقيقة بمصيرنا، في كلّ شيء وبكلّ شخص، ما دام يملك مفتاح علاقتنا بالعالم اليوم، وبالآخرين، بحسب ما نعتمد من أساليب لفكّ عقدة التّوتّرات أو المبالغة فيها، وحسب تهدئتنا عن طريق العقل، أو إثارة الشّغف بواسطة مسألة إسلاميّة محتملة. وباختصار حسب تقديرنا (بأن نقبل وأن نحترم) مواطنينا المسلمين في اِختلافهم، أو بأن نُنمّطهم في كتلة واحدة، مُجمِّدين كلّ ما يخرج من الإسلام ممّا كثر أو قلّ، بتهديد لا يميز قد يشرّع إقصاءهم أو محوهم. إنّ اِختصار مسلمي فرنسا في إسلام اُختزل في الإرهاب والتطرّف لهو هدية تُمنح للتطرّف الدينيّ، في لعبة المرايا حيث تنميط رهاب الأجانب يبرّر تنميط الهوية، وهو أبعد ما يكون عن حمايتنا.
هذا ما أريد أن أنبّه إليه، في دفاعي عن المسلمين، داخل الاِختلاف الإنسانيّ بما ينضوي تحت هذه الكلمة من معنى. بالدفاع عن كلّ الذين واللّواتي تدمجهم وتعيّنهم هنا النزعات المهيمنة بدين هو نفسه يتماهى مع تطرّف ظلاميّ، فما أشبه اليوم بالأمس، لمّا نُمِّط بشر آخرون وسُخر منهم، واُفتري عليهم، داخل وحل إيديولوجيّ من الجهل واِنعدام الثّقة، وَحلٌ كان مهدا وثيرا للاِضطهاد.
إنّ الرهان لا يتعلّق بالتّضامن فقط إنّما بالوفاء. وبتاريخنا، وذاكرتنا، وميراثنا. فقد كُتب دفاعا عن المسلمين إذًا، كما لو كُتب دفاعا عن اليهود، أو الزنوج، أو الغجر، وأيضا دفاعا عن الأقليّات والمظلومين. أو بكلّ بساطة، دفاعا عن فرنسا.