إنّها مدينة مكابرة لا تشتكي أو تتأوّه، ولا تقبل الاِنهزام أو التراجع، حتّى في أعقد الأوضاع أو في أشد المناخات رهبةً وخشيةً، فكم اِمتحنت روحها وقوتها أمام الخوف والموت، وكم خُيّرت بين الذل أو الحياة، وكم قايضوها بين الخضوع والبقاء. لكنّها دومًا تخرج من عُنق الزجاجة مُنتصرة غير راضخة.
تلك المدينة الباذخة في الفرح والقرح، تعطي وتجزل في العطاء، ولا تنتظر مقابل لقاء ذلك. يُقال باللّغة المحكية: “عنابة حلاّبة”؛ حقيقة من دخلوها لم يبقوا كما كانوا، فكم تفتحت من عيون، وكم توقّدت من عقول، وكم اِستيقظت من أفهام، وكم تغيّرت من أحوال، وكم وكم…، وتبقى تمنح باِستمرار غير مبالية بالعواقب، لا ينقطع ولا يتوقف حبل سخائها الممدود لكلّ من قصدها، فلا تمنع عطاءها حتّى لمن خذلها.
بقلم الدكتور بومدين بلكبير / روائي وأكاديمي
ما زالت البنايات والعمارات والفيلات ذات الطراز الأوروبي شامخة لغاية يومنا هذا؛ محطة القطّار، والسوق المُغطّى في وسط المدينة، ومقر دار البلدية (1884)، والمسرح الجهوي (1854)، ومقر البريد المركزي، ونزل الشرق (1854)، وقصر العدالة (1882)، والمطحنة، والمدارس، وغيرها، ما زالت صامدة ولم ترضخ للزمن وللبشر، ما زالت بنقوشها وبمنحوتاتها شاهدةً على حقبة زمنية من تاريخ المدينة. كما لا يزال العمران الأندلسيّ الأصيل مُحافِظًا على جماله الآسر (يُصارع من أجل البقاء والحياة) في المدينة القديمة التي جزء كبير منها آيل للسقوط، بسبب الإهمال والتقصير في البدء في أشغال الترميم والإصلاح.
تبقى الأحياء العتيقة مكانًا لبهجة الصغار ومصدراً لحنين الكبار؛ ففي “لا بلاص دارم” (ساحة السلاح La Place d’armes) و”لاكولون” (La Colonne) و”كعبار عدرة” و”البورمة” و”لوغيغوز” (Laurier-rose) و”
لوغونجغي” (L’Orangerie) و”سبعة رقود” و”جبّانة اليهود”…يمسك الأطفال بخيوط الفرح وأضواء البهجة، وهم يتقافزون تارةً، ويختبئون طوراً، ويلعبون حينًا، وينشدون أحيانًا في تلك الأمكنة العتيقة. ويُعيدهم الحنين وهم كبار لتلمس بقايا حكاياهم مع الأبنية، ولاِستنشاق ماضيهم الجميل؛ في عبق علاقات الجيرة القديمة، ورائحة القهوة المحمّصة المنبعثة من المحامص الصّغيرة، و”قلب اللوز” التي تشم رائحته الشّهيّة على مسافات بعيدة، و”الميل فاي” (Mille-Feuille) الّذي يستلذه الكبار والصغار، سيد المرطبات وهدية التزاور بين العائلات. وبُخار الأطعمة المُتسرب من نوافذ البيوتات المفتوحة وفراغات أبوابها يذكي أنوف المارين والجالسين في ظلال الأسوار والمباني.
المُتجوّل في أحياء المدينة يشم رائحة المأكولات والأطعمة التقليدية المنبعثة من المطاعم الشعبيّة، تلك المطاعم التي أغلق الكثير منها أبوابه، بسبب منافسة مطاعم الأكل السريع والبيتزا التي غزت شوارع وأحياء المدينة. ومؤخراً اِنتشرت مطاعم “الشوارمة” والأكل الشامي، وقد لقيت إقبالاً كبيراً في أوساط النّاس، إذ تجدها ممتلئة على آخرها بالزبائن. وعلى الرغم من شدة المنافسة بين المأكولات الوافدة (شامية أو تونسية)، إلاّ أنّ المدينة لا زالت مُتمسّكة بوجباتها التقليدية “كالكُسكس”، “الشخشوخة”، “الشوربة”، “المحجوبة” والأسماك بمختلف أنواعها. والعربات المتنقّلة التي تبيع “الفوقاز” و”القسطل” الّذي يُطهى على الجمر…وعلى رأس المأكولات التقليدية التي حافظت على حضورها “البوراك”؛ الّذي أصبح رمزاً من رموز المدينة، فلا يدخل زائر للمدينة من دون أن يتذوّقه، وهو الأكلة التي لا تُغادر موائد العنابيين في كلّ المواسم والفصول.
أولئك الذين يتدفّقون على المدينة من الولايات المُتاخمة والمناطق المُجاورة مع كلّ صباح ولا يُغادرونها إلاّ مع كلّ غروب شمس، تستهويهم البضائع والسلع المعروضة على تنوّعها واختلافها، كما تستهويهم شوارع المدينة الواسعة، ومبانيها الشّامخة، ومحلاتها الجاذبة، ومقاهيها الكثيرة، ومطاعمها المنتشرة في كلّ ركن أو زاوية. يقتنون الألبسة وكلّ ما يحتاجونه، خصوصًا تلك المنتوجات وألعاب الأطفال والألبسة التي تُباع على الأرصفة بأثمان بخسة، وكذلك تجذبهم المحلات التي تبيع السلع والمنتوجات الصينية المنشأ بأسعار مقبولة وفي المتناول.
وما أن يغادروا المدينة ويقفل الباعة المتجوّلون راجعين إلى بيوتهم وتغلق المحلات، حتّى تمتلئ المدينة بالأكياس، وعُلب الكارتون الفارغة، وبقايا الخُضر والفواكه الفاسدة، في اِنتظار عُمال النظافة الذين يُعيدون للمدينة رونقها وبهاءها ليلاً كي تستعد لاِستقبال يومٍ جديد، وهكذا دواليك.
مع المغيب تنعكس الأضواء في شوارع وأحياء المدينة على الأرصفة المُبللة بحبات المطر في منظر مثير لكلّ مشاعر البهجة والفرح، لا يزيده إلاّ الاِختلاط مع عبق الياسمين ومسك الليل المُنبعث من حدائق البيوت والفيلات سحراً وبهاء. خصوصًا مع نسمات البرد التي تلفح الوجوه وتزيّنها بحمرة زهرية تنعشُ الرّوح والفؤاد.
تفرغ أحياؤها ليلاً عن بكرة أبيها، عدا رصيف الكورنيش الّذي يعج بالمارّة جيئةً وذهابًا، مستمتعين بنسمات الهواء القادمة مع أمواج البحر، وبكلّ مظاهر الحيوية والحياة التي يضفيها سهر العائلات وبقاؤهم لوقت متأخر يتسامرون ويتفسّحون في جو من البهجة والفرحة. وكذلك الأحياء العتيقة في المدينة القديمة، وحي “لوغيغوز” وأحياء قليلة أخرى، منها حتّى الجديدة التي تأبى أن يُغمض لها جفن.
المدينة المفتوحة على كلّ الاِتجاهات الجغرافية
يُقال إنّ لكلّ المُدن أسوارا تحميها، إلاّ عنابة؛ فهي المدينة ذات الأسوار الواطئة، تفتح أبوابها على مصاريعها مع كلّ صباح جديد لكلّ من يقصدها، طالبًا الحماية، أو باحثًا عن حياة كريمة، أو قاصداً طلب العِلم، أو ناويًا مراكمة ثرواته، أو مهاجراً خلف إطفاء رغبة عابرة. فالمدينة لا تبخل بالعطاء على قدر طاقتها لكلّ من يَمَّمَ وجهه شطرها، ظلّت أبواب المدينة غير موصدة في وجه من يطرقها، مهما كان اللون أو النسب أو الاِنتماء، لا تُبالي حتّى بمن تنكر لها ذات زمن، ﻷنّها المدينة المترفّعة والمتجاوزة عن تلك التفاصيل الصغيرة، فتاريخها الغني الضارب في الأعماق، وجغرافيتها المتنوعة من حيث الطبيعة والأمكنة جعلا منها تتسم بالاِنفتاح والتفتح؛ فهي المدينة المفتوحة على كلّ الاِتجاهات الجغرافية، المتفتّحة على كلّ تيارات الرأي والمنفتحة على كلّ المشارب الثقافية.
من يدخل المدينة يلحظ “لالة بونة” (كنيسة القديس أوغسطين) وهي تطل من ربوتها العالية على مسجد ومقام “سيدي إبراهيم بن تومي المرداسي” (المتوفى في العام 1676 ميلادي)، الراقد باِطمئنان، في مشهد من مشاهد اِنفتاح مدينة مسلمة العقيدة على ممارسة أقلية أجنبية (الأجانب من موظفي قنصلية روسيا وفرنسا والطلبة الأفارقة خصوصًا وموظفي بعض الشركات الإسبانية والفرنسية والصينية…إلخ) لمعتقداتها الدّينيّة. هذا المسجد الدائري (أو القبّة) المتربّع على مساحة استراتيجية تجعل أي زائر للمدينة يلتفت صوبه على الرغم من فضائه المحدود مكانيًّا. وتاريخيًّا كان المسجد له فتحات عديدة تطل على اِتجاهات مختلفة، وخلف كلّ فتحة يُرابط حارس بفوهة بندقيته. وبعد دخول الاِستعمار الفرنسي تغيَّر الأمر وسدّت تلك الفتحات، واستحالت إلى مزار محفوف بالشموع ترتاده النساء للتبرك والدعاء، لأنّهنَّ يعتقدنَّ أنّ بركة الوليّ تفكّ السِّحر وعقدة العنوسة والعقر. ليعود بعد الاِستقلال إلى مسجد تؤدّى فيه الفروض الخمس.
كما يمتدُّ تاريخ المدينة إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وقد عرف اِسم المدينة تغيرات عديدة؛ من “هيبون” (HIPPONE) التي تعني الخليج والماء، إلى “بونة” (BUNA) كتعريب لاِسمها في العهد الإسلامي، ثمّ إلى “عنابة” (ANNABA) نسبة لاِنتشار أشجار العِنّاب، وكذلك أطلق عليها الاِستعمار الفرنسي اِسم بون (BONE) (أهم أربع تسميّات أُطلقت عليها على مر تاريخها).
ولا تزال تلك المجسّمات التي تُزيّن أمكنتها، أشبه بمشاهد بقت شاهدةً على تفاصيل ذلك الزمن من تاريخ المدينة؛ اِبتداءً من مجسّم “صائد الصدف” الّذي يقع بين البريد المركزي وفندق سيبوس الدولي، ومجسّم “ديان الصائدة” أو الغزالة في حي لاكولون. وهناك الكثير من الآثار والأطلال والنقوش والأدوات الرومانية التي تمّ اِكتشافها، والتي تنم على وجود مجتمع مدرك لشروط الحضارة وعارف بأنماط الإدارة وفنون التنظيم، ومتحكّم بشؤون الحياة المدنية ومتطلبات الزراعة والصيد؛ كلوحات الفسيفساء التي تصور مشاهد متنوعة (كصيد الوحوش، والصيد في البحر، ومنظر عام للمدينة والبحر، وملائكة في حقول العنب). والمدينة الرومانية الأثرية بِمَا فيها من آثار أعمدة منتدى هيبون مقر اِجتماع مجلس الشيوخ، وساحة المسرح الروماني ببقايا مدرجاتها، وما بقي من آثار الحمام الكبير (الحمامات الشمالية) الّذي شُيِّد في القرن الثالث للميلاد، وبقايا الفيلات والجدران والأسوار من حي الواجهة البحرية، والسوق، والمقابر، ومعبد الآلهة الاِثنا عشر، والتماثيل (أفروديت، وإسكولاب، وتمثال النصر لهيبون)، والطنافس، والأطباق، والمصابيح المسيحيّة البرونزية بمختلف تصاميمها وأشكالها، والعُملات الذّهبيّة البيزنطية والنقوش الوندالية والصحون المصنوعة من سجيل والمزينة برسوم دينية كمنظر أضحية إبراهيم عليه السلام. وفي أعلى الربوة أين تقبع كنيسة القديس أوغسطين، التي بُنيت في زمنه وأُعيد ترميمها بالكامل في فترة الاِستعمار الفرنسي، لأنّها كانت منهارة بدرجة كبيرة. وتحوي الكنيسة على بعض رفات القديس أوغسطين وعلى تمثاله البرونزي. بالإضافة إلى اِكتشاف مجموعة من الآثار والمقتنيات الإسلامية كالعملات (الدينار المرابطي)، والمصابيح الإسلامية (التي تعود للقرن التاسع والعاشر)، وأجزاء من صحون حمادية وكسور من الفخار الفاطمي والحمادي وغيرها على محدودية هذه الاِكتشافات.
المدينة تفتقد لأسواقها القديمة (سوق الجزّارين، سوق النجارين، سوق الجيارين، سوق الحوكة، سوق الحدادين، سوق الخرازين، سوق الفخارين، سوق الحجّامين، سوق العطّارين). وقد كانت من أغنى المُدن في عهود تاريخية قديمة، وهي اليوم لها أهمية اِقتصادية، نظراً لتمركز مجموعة مهمة من المؤسسات والشركات الاِقتصادية في مناطقها الصناعية المتعدّدة (من أشهرها مصنع الحديد والصلب)، وكذلك لاِحتوائها على ميناء يعتبر من أهم الموانئ، كما يتوّفر بالمدينة مطار (رحلات داخلية ودولية محدودة)، ومحطة قطارات، وشبكة طُرق برية متنوعة. وتُعدُ رابع مدينة من حيث الحجم وعدد السكان. وتزخر بالعديد من الأقطاب الجامعية ومدارس التعليم العالي في تخصصات شتى.
فلم تهتم المدينة فقط بالجوانب التجارية (من خلال أسواقها والتجارة البحرية)، والزراعية (زراعة سهولها الخصبة بالقمح والثمار)، والحربية (تحصيناتها الدفاعية وأسوارها المنيعة). بقدر ما اِهتمت كذلك بالثّقافة والأدب والمعرفة والعلوم، فمن أهم العلماء ورجال العِلم في المدينة؛ كلٌ من الشيخ الفقيه أبو مروان عبد الملك الأندلسي الأصل، وأبو عبد الله محمّد الهواري في القرن الخامس الهجري، والعالم أحمد بن علي بن يوسف تقي الدين البوني المٌتخصّص في الرياضيات والكيمياء، وأبو عبد الله محمّد بن إبراهيم التمتام الّذي استدعاه السلطان المريني بفاس كمستشار له، والمؤرّخ أبو العباس بن فارح الضرير الّذي اِمتهن الطب، والمؤرّخ أبو الحسن علي بن فضلون البوني صاحب الكلل والحلل، والفقيه المفتي أحمد بن قاسم بن محمّد ساسي البوني، والأُسقف القديس أوغسطين.
مدينة التّناقضات والحياة
هي المدينة التي تجمع بين كلّ المتناقضات كلوحة رائعة من لوحات (رامبرانت هارمنستزون راين)؛ تكاد تمتلئ على آخرها بالحشود البشريّة المتدفّقة عليها من كلّ حدبٍ وصوب، حركة المرور لا تكاد تهدأ من المركبات التي تعجُّ بها الطُرق والشّوارع، فضاؤها على وشك الاِنفجار؛ من ضجيج الباعة، وأصوات النّاس، وصراخ الأطفال وتلك الجلبة التي يحدثونها وهم يركضون في أزقّتها العتيقة، وتوسّلات المتسوّلين على أبواب المساجد وتضرّعاتهم في الأعياد والمناسبات الدّينيّة. وتلك النقاشات والضحكات المختلطة مع غيوم الدخان، التي تنفثها أنوف وأفواه الجالسين في المقاهي المكتظة على آخرها بروّادها من الموظفين والبطالين والمتقاعدين. والفوضى التي يُسبّبها فضول النّاس لَمَا يحتشدون لرؤية عراك ينشب لسببٍ من الأسباب، أو حادث يقع جراء اِصطدام بين سيارتين لم يُراعَ أحد السائقين اِحترام مسافة الآمان، أو مطاردات الشرطة للباعة غير الرسميين. والموسيقى التي تصدح من نوافذ البيوت ومن قاعات الأفراح، ومنبهات السيارات وأبواق الاِحتفالات اِبتهاجًا باِنتصارات كروية، أو بنجاح، أو بعريس في ليلة زفافه. ولياليها الساهرة والصاخبة بألوان أخرى من الجنون.
كما هي المدينة المسكونة بالحنين لمساجدها العتيقة والتراثية (كمسجد أبي مروان المشيد في القرن الحادي عشر ميلادي كجامع للتعليم والصلاة وقلعة للحراسة تواجه البحر ومدخل المدينة، ومسجد الباي الّذي بني في نهاية القرن الثامن عشر)، وزواياها الرّوحيّة والصّوفيّة (كزاوية الشيخ إبراهيم بن تومي، وزاوية الشيخ بلعيد وزاوية أخيه عبد القادر، وزاوية بن عبد الرحمان التي تهدّمت جراء قصف الحلفاء عام 1942، والزّاوية العلويّة)، ومبانيها التّاريخيّة والقديمة، ولعادات وتقاليد “ناس زمان”، وأحيائها العتيقة.
المدينة المستلقية على كف بحرها الهادئ لما تفر منها إليها، هربًا من الصخب وضجيج الحياة. المدينة الغارقة في أحلامها وفي سحر العشق، لما تعانق “جبل الإيدوغ” الشامخ، لحد الرعشة وجنون الجاذبية، كحبيب وفيّ ظلّ يُلازمها في كامل حالاتها وتقلّباتها، ثمّ تضع رأسها في دلال وحنو على غيوم سمائها الزرقاء، مستسلمة لأحلامها ومناماتها المُبهجة التي ترفعها إلى حالة عالية من الوجد والنشوّة. المدينة السابحة في جنان غاباتها المُخضرّة، هربًا من أدخنة وسُحب التلوث المنبعثة من مصانعها ومعاملها، والمنتعشة بنسمات الهواء العليل، التي تُداعب خصلاتها، تحت ظلال أشجارها الباسقة في مرتفعات “سرايدي” وأعالي مرتفعات “عين بربر” وغابات “شطايبي” و”بوقنطاس”، لما تراقص الفراشات على وقع أغاني العصافير وخرير المياه المتدفّقة من شقوق الصخر (الينابيع المنتشرة) وحفيف الأوراق المتساقطة. المدينة المحلّقة بكلّ روح تهرب من ضجر الحر وقيظ الصيف الرطب، بمتعة منقطعة النظير فوق قمة “رأس الحمراء”، أين تقف المنارة بثبات شامخة تُضيء درب السفن والبواخر.
المدينة التي تجمع بين البحر والسهل والجبل؛ حيث يطل جبل إيدوغ الشامخ بظلاله على سطح البحر من علو يتجاوز ألف متر، حتّى أنّ قمته تُعانق الضباب في مشهد ساحر. الجبل العامر بأشجار الصنوبر والبلوط والفلين والضرو، وشجيرات الريحان والعِنّاب والتوت والفاكهة وغيرها. ويحد الجبل والبحر سهلٌ خصب يمتدّ لعشرات الكيلومترات، يشقّه “وادي سيبوس” بكلّ ثقة بطول يتجاوز مائتي وثلاثين كيلومترا. هذا السهل الخصب بالقمح والحبوب الجافة كالعدس والفاصوليا والحمص والفول، والذُرى وعبّاد الشّمس ومختلف الثمرات والفواكه كالطماطم والحوامض والأعناب والأخشاب والكتان وغيرها.
البحر الأزرق الفيروزي مشرع على مصراعيه بشواطئه الرملية والصخرية وخلجانه الواسعة؛ “فيدرو”، “القطارة”، “سان كلو”، “شابوي”، “الخروبة”، “طوش”، “المنظر الجميل”، “عين عشير”، “رأس الحمراء”، “واد بقرات”، “عين برر”، “عكاشة”، “الرمال الذهبية”، “النافورة الرومانية”…إلخ. ذاك البحر الّذي ترزحُ في قاع أعماقه كلّ الأسرار والحكايا، كلّ الخيبات والنجاحات، كلّ الآلام والآمال، كلّ الخسارات والاِنتصارات. يقصده النّاس للاِستجمام والسياحة، للتأمل والبوح، للهرب من غربة الوطن على قوارب الهجرة غير الشرعية، طمعًا فيما يجود به من خيرات وأسماك. تواصل أمواجه الوفاء بذلك العهد الّذي قطعته على نفسها، أن تروي ظمأ الشطآن بمائها الأجاج وأن تُعانق غربة الصخور الصلدة في منافيها، تواصل أمواجه رحلتها، ذهابها وإيّابها غير آبهة أو مبالية بهدوئه وصخبه، بمدّه وجزره، بصفائه وزبده. الأمواج هي لحن الأعماق عزفه البحر ذات مساء.
المدينة الجليلة العامرة على البحر
هناك مدنٌ لا تستهوي زوّراها ولا تُحرّك لهم في النّفس ساكنًا، في حين هناك مُدن أخرى تزلزل كلّ السّواكن وتخلخل كلّ اليقينيّات الجامدة، تلك المُدن التي نمرض بها، لدرجة أنّ بدونها تستحيل الحياة كلها بلا معنى. فكم أسرت عنابة من قلب وكم خطفت من لب، فكلّ من يزورها يعز عليه فراقها، وكلّ من عرفها تعلَّق بها. إنّها المدينة الفاتنة التي لا يخضع لجمالها وسحرها كلّ من رآها فقط، بل يُتَّيَّمُ بها حتّى من سمع عنها ووصله صيت أخبارها، فقد وصفها عماد الدين المعروف بأبي الفدى (صاحب حماة) بأنّها مدينة جليلة عامرة على البحر، خصبة الزرع كثيرة الفواكه، رخيّة وبظاهرها معادن الحديد، ويزرع بها كتّان كثير وفي بحرها المرجان، ولها نهرٌ متوسط يصب في البحر من جهة الغرب. وبأنّها مدينة وسطة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، وهي على نحر البحر. وكانت لها أسواق حسنة وبساتين قليلة وأكثر فواكهها من باديتها. وفي بداية القرن السادس عشر يحدّثنا حسن الوزّان (ليون الأفريقي) عن مدينة عنابة قائلاً: بونة مدينة أولية أنشأها الرومان على نحر البحر الأبيض المتوسط. وكان القديس أوغسطين أسقفًا بها. وتغلب عليها الغوط، ثمّ فتحها عثمان بن عفان ثالث خليفة بعد محمّد (عليه الصلاة والسلام).
ثمّ يستطرد في الوصف: ويُسمّي أكثر النّاس هذه المدينة الحديثة بلد العناب لكثرة هذه الثمار في هذا الموضع. ويُجفّف النّاس العناب ويأكلونه في الشتاء. ويُوجد بالمدينة مسجد جميل مبني على نحر البحر، والرجال بها ضرفاء. وتأتي البواخر من تونس ومن جربة ومن جميع الساحل، وأيضا من جنوة لشراء القمح والزبدة من بونة (في حين اليوم الجزائر تحتل المركز الثاني كأكبر بلد مُستورد للقمح): وكانوا يستقبلون بطيبة قلب. ويُقام السوق كلّ يوم جمعة خارج المدينة قرب السور ويستمر إلى المساء.
وقد وصفها جاسوس وجندي أسير من جنود (Charles Quint) يُدعى مرمول كربخال في ملاحظاته؛ بأنّ العرب يسمونها موضع العناب، لوفرة هذه الثمار. ويسمّيها المسيحيّون بون (معناها الحسنة باللّغة العربية) بحق، لأنّه أحسن وأخصب موطن في بلاد البربر، أين الهواء أصح. وهي مسورة ولها باب البحر، والآخر باب القصر. وقبل اِحتلال (Charles Quint) وقبل حلول خير الدين بها كان أهل المدينة في حدٍ كبير من الثراء والكبرياء. وقد أتقن بناء المساكن بهذه المدينة. وهناك بساتين جميلة في أسفل القصر وديار نزهة وريّاض عديدة بها أشجار ذات الثمار الجميلة. وبجنوبي وغربي المدينة ترتفع الجبال المريحة والبهيجة متصلة بجبال قسنطينة، تكثر فيها العيون والفواكه وجميع أنواع الصيد. وغربي المدينة روابي طويلة خصبة بالقمح تمتد من الشرق إلى الغرب مسافة ثمانية وعشرين ميلاً على عشرة أميّال عرضًا. ويسوح في أرجائها العرب والأمازيغ. وبها عِدَة عيون يتوّلد منها بعض الوديان التي تجري عبر البلاد وتصب في البحر.
في حين أعجب بها الماركيز دي موندجار (Marquis de Mondejar)، لأنّها تجمع بين عِدة مزايا تنطبق مع اِسمها، فهي حسنة الاِرتكاز على أرض سهلة. ومرساها محمي من الرياح، وهناك واديان يسقيّان مساحة واسعة من الأراضي الزراعية التي لا تقل خصبًا عن ريف قرطبة. كما يُوجد متّسعٌ تحتلّه بساتين بقرب المدينة، وبالجبل مراعي جيّدة للبقر على الجوانب المطلة على البحر. والمنطقة الجبلية كثيرة الصيد فيوجد بها الأسود والضرابين والخنازير والأرانب وطيور الحجل. كما يزخر الواديان بالأسماك حتّى أنّها تُصطاد بالعِصي.
تُوصف مجازاً في اللّغة المحكية بأن سورها واطئ (كما سبق وذكرنا) كناية على كرمها وأبوابها المفتوحة في وجه جميع النّاس بدون اِستثناء؛ ولا يعني ذلك إطلاقًا أنّ المدينة لم تعرف الأسوار في تاريخها المتنوع. فقد عُرِفت في العام (1958) بتشييد سورها الّذي يُوصف بالمتانة والعلو، وبأبراجه المتعدّدة والمتوجّهة نحو البر. كما كان للمدينة ثلاثة أبواب ينفتح بها السور على المحيط الخارجي وباب ينفتح على البحر (باب بالجهة العُليا يفضي إلى القصبة، وباب من الجهة السفلية يقود إلى البر، وباب آخر في الطرف الجنوبي، وبابٌ رابع ينفتح على البحر).
هي المدينة المتحدية والمستمرّة رغم كلّ الخيبات والخسارات، فهي تنبعثُ من رماد الحروب التي أحرقتها: (الرومان، الوندال، الإسبانيين، الأتراك، الفرنسيين)، وتنجو من الفيضانات التي أغرقتها (لم تسلم أحياء المدينة من السيول الجارفة والفيضانات العارمة حتّى منذ العصور القديمة كأحياء “لاسيتي” و”لاكولون” و”الجسر الأبيض” و”الصفصاف” و”سيدي حرب” و”بوحديد”). مهما كانت آلامها وجراحاتها فهي لا تتوقف عن آمالها وأحلامها، ومهما كانت ظروفها فهي لا تترك فرصة لأوهامها وهلوساتها كي تنال منها. إنّها المدينة المُتجدّدة التي ترمي بكلّ أثقالها وأحزانها وهمومها وخبلها ويأسها من أعالي قنطرة الهواء في مشهد اِنتحاري، اِنتصاراً لاِستمرار جذوة الحياة مشتعلة.