ما يزال مشروع محمد أركون الفكري يثير ردود الفعل بين فريقين؛ فريق يراهُ عالما في الإسلاميات، وأحد الأعلام الذين كان يُعوَّل عليهم ليطرحوا مشروع انخراط الأمة في عالم الحداثة، أو لنقل كانوا ينظرون إليه بإكبار شديد لأنّه يريد ربط الأمة بمستقبلها، وفريق يرى فيه أنّه مهدّد لمنظومة القيم الإسلامية برمّتها.
الدكتور اليامين بن تومي
وُجد أركون ضمن سياق كولونيالي أثَّر على شخصيته المعرفية بشكل لافت، حيث أعجب بالنزعة العلمية للاستعمار، وليس بالاستعمار ذاته الذي بغضه بغضا شديدا، أي أن الفكر الأنواري الذي اتّكأ عليه الاستعمار هو الذي دخل من خلاله أركون إلى نقد العقلين الغربي والإسلامي، فهو من النُّخب التي تخرّجت من عمق الجرح الوطني، وهذا ليس عيبا؛ إنّه ظرف يجيز له أن يتعلّم وأن يصبح إطارا وطنيا يدافع عن أمّته في عمق ذلك التناقض، هنا فقط يمكننا أن نتحدث عن تلك الاستقلالية التي يمكن أن يتمتّع بها الباحث المفكر في عمق تلك المأساة، لذلك يصعب الفصل بين صورتي الاستعمار في ذهن بعض المتحاملين على أركون؛ صورة المعلم الذي منحه التفكير أو أجازه عليه، وصورة الجندي الذي اغتصب إرادة الشعب. ونحن نعرف أن أركون لم تكن له علاقة مباشرة بالثورة التحريرية، بل كان يرى أنها كانت عائقا في وجه نهضة البلاد حينما اعتبر الثورة المجيدة شكل من أشكال الحرب الأهلية بين الجزائري وأخيه، لذلك ستقوم هذه الورقة بإعادة تأمل موقف محمد أركون، ومن ثمة إعادة مفهمة مشروعه في ضوء ما يلي:
– موقفه من الاستقلال الوطني الذي يتعلق بمسألة الإنسانيات المختلفة التي تراكمت على الجغرافيا الوطنية .
– موقفه من المسألة الأمازيغية التي كانت دافعا مهما عند المفكر الذي انفتح فيه على العقل الإسلامي، بدل العقل العربي.
أي أنّ القراءات الجاهزة والمعلَّبة التي قدّمت أركون لم تنفذ إلى عمق مشروعه الفكري الذي يرتكز على هاتين المسألتين. مسألة الاستقلال الوطني ومسألة العرق أو لنقل القضية الأمازيغية، وما شكّلته من مُحفِّزٍ لأركون لينخرط في تحليل إشكاليات العقل الإسلامي برمّته. ونحن نعرف أنّ أركون لم تكن له علاقة مباشرة بالثّورة التّحريريّة، وإنّما قام على عاتقه واجب أخلاقي أكبر وهو تصفية الأساسيّات الّتي يمكنها أنْ تكون عائقا أمام التعايش الإنسي، ومن ثمّة القيام على مختلف المعضلات الّتي تكون حائلا دون استكمال مشروعه الذي يهدف إلى بناء إنسية متوسطية جامعة على هذه الجغرافيا، فاتجه أركون اتّجاها نضاليا مع الأفكار السّلبيّة الّتي كانت تضخ قراءتنا للتّراث برمّته، بيد أنّ السّؤال المنغّص الّذي انطلق منه أركون في دراسة العقل الإسلامي هو وضعيّته الأنطولوجيّة كـ “أمازيغي” / غير عربي، كان يبحث عن مسوغ أخلاقي لدحض كل الأطروحات التي جاءت بها الثقافات الأمبراطورية التي سلبته كينونته الأمازيغية.
يقول: “إنّ انتمائي إلى مجموعة الأقليّة القبائليّة في الجزائري فتح عيني باكرا جدّا على الثّمن البشري الباهض المدفوع من قبل اللّغات والثّقافات المهمّشة، ويصل الأمر بهذا التّهميش إلى حدّ تصفيتها كليّا من فكر اللّغات والثّقافات الامبراطوريّة العليا”.
أتصوّر هذا الشّعور المعقّد اتّجاه كونه أمازيغي جعله يبحث عن الممكنات القصوى لزعزعة تلك الإمبراطوريّة العربيّة الّتي صدرت نفسها في خانة المهيمن، لذلك بحث أركون في شخصيّة طه حسين عن منابت أو أساسات تلك الزّعزعة الّتي يريدها ويبحث عنها، ولكن يبدو أنّ طه حسين بقدر ما قدّمه، لم يحقّق له تلك الرّغبة على مواجهة تلك التّناقضات الأساسيّة لتتراكم طبقات الاستلاب الّتي تعرض لها الجزائري في تاريخه.
يقول: “بل قل ذلك القلق الّذي شعر به جزائري شاب راغب في أنْ يجد في الدّراسة العلميّة للّغة العربيّة والإسلام بدايات الأجوبة على التّساؤلات الدّينيّة والتّاريخيّة والسّياسيّة والثّقافيّة الّتي أصبحت ملحّة إلى حدّ الهوس في ظلّ المناخ الكولونيالي المتوتّر إلى أقصى الحدود، كنت أريد أنْ أفهم وضع الجزائر وتاريخها بشكل علمي دقيق، ولكن ما أحد ساعدني على ذلك”.
أيْ أنّ حساسية أركون اتّجاه الوضع؛ معقّدة ومربكة اتّجاه ثقافتين طبعتا عقله أو مساره، وهي جزء من محاولة فهم الهويّة الدّاخليّة للجزائري على هامش الامبراطوريّات التي اغتصبته وأثرته في آن واحد.
– إشكاليّة الاستعمار ومناهجه المعرفيّة، وكيف يمكنها أنْ تقدّم إجابات جذرية وعقلانيّة للأزمة النفسية للمُستَعمَرِ.
– إشكاليّة الثّقافة العربيّة الّتي طبعت على المجال الجغرافي نوعا من الإرادة التّاريخيّة ليصبح الأمازيغي مجرّد هامش على ضفافها.
أمام هذه التّحدّيات، عمل أركون على إعادة تشييد ذلك الاغتصاب من خلال الانفتاح على ثقافته وعدم الإغراق والتوقّع على ثقافته المحليّة / الأمازيغيّة، أيْ أنّ السّؤال العرقي عند أركون جعله يتجاوز الإطار السّياسي للمسألة لينفتح على سؤال الإنسيات وما تعرض له تاريخ المهمّشين على هذه الجغرافيا، لينخرط أركون بذكاء حاد وبعمق في ممارسة نوع الطّهر أو الخلاص الدّاخلي الّذي وسم عذابه اتجاه الأمازيغيّة.
لعلّ سؤال الأمازيغيّة سيفتّت بعمق جميع البنيان المعرفي لمشروع أركون، حيث علينا أنْ نجيب عن ثلاثة أسئلة جوهريّة لم يسبق أنْ طرحت على مشروع أركون:
– علاقته بالمسألة الأمازيغيّة؟
– علاقته بالثّورة التّحريريّة المباركة؟
– علاقة المسألة العرقية بالمداخل التّأسيسيّة لمشروعه في نقد العقل الإسلامي والانفتاح على الإنسيات المختلفة.
إنّ أركون عاش ونبت في القرية نفسها التي خرج منها “مولود معمري”، صاحب رواية “الهضبة المنسيّة” الّتي علّق عليها طه حسين، حيث مثّل هذا الأخير مجال بحث لمحمّد أركون في مرحلة الليسانس، وسم موضوعه بـ “الدّعوة الإصلاحيّة لطه حسين” الّذي فتح ذهن أركون على دور المؤسّسة الدّينيّة في إهدار الوعي الوطني والقومي. لكنّ الباحث لم يلازم ذلك، وإنّما أراد العودة لفهم الواقع الثّقافي والأنثروبولوجي لمجتمعه، لكن الحرب التّحريريّة كانت مانعا من إتمام مشروعه، فتغيّر السياق وتبدّل الحال جعل أركون يذهب إلى دراسة قضايا معرفية تتعلق بقضية الإنسيات في جيل التوحيدي ومسكويه، وهنا نطرح سؤالا توجيهيا لهذا البحث ليس الغرض منه الحط من مشروع أركون، وإنما إعادة فهم رؤية الباحث وفهم الممكنات القصوى التي جعلت أركون لا يتحمّس في بداياته للثورة التحريرية المباركة، وها هنا نسأل:
هل كان محمد أركون واعيا بأهمية المسألة السياسية للاستقلال أم غلبت المسألة العرقية التي قادت فكره، وأَغمَتْ عليه في فهم السياق النضالي والتحرري الكبير؟
يبدو أنّ المسألة واضحة بالنسبة لي كعربي يحاول أن يقرأ أمازيغية محمد أركون في تأثيرها على بنية المشروع وعقل أركون بشكل عام، يجب أن نفهم بشكل جيد أن محمد أركون كان يتصور أن الوجود العربي يمثل سلسلة لا متناهية من الاستعماريات التي أرهقت الثقافة الأمازيغية تاريخيا، وبالتالي فموقفه من الاستعمار الفرنسي هو نفس موقفه من الوجود العربي، أي أنّ رؤيته ليست عمودية يحاول من خلالها التفريق بين أشكال هذا القدر التاريخي بقدر ما يقدم نظرة كليانية للإستعمار ذاته.
من هذا الموقف العام لا يمكننا أن نحصل على إجابة دقيقة بقدر ما يعمل أركون على الاغراق في تبرير عدم فهمه للوضع العام للتحرير الثوري، ويقر بذلك حين يقول “وحتى لو كنت أعرف بعض الأشياء والوقائع، إلا أنّي لم أستشعر ما يحصل فعلا إلا بعد أن غادرت الجزائر ووصلت إلى فرنسا 1954 كطالب”. وهنا نجده يستغرق الحديث عن واقع النقاشات التي كانت تدور حول استقلال الجزائر، ولا يقر أنه كان يحضر حتى تلك الاجتماعات وإنما كان يرقبها من بعيد”، وفي ذلك الوقت كانت حرب التحرير قد دخلت سنتها الثالثة، كانت المناقشات حامية في المبنى الواقع على عنوان 115 من الشارع الكبير المدعو بالسان ميشال، هناك كان مقر اتحاد الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا حيث يجتمعون ويتناقشون حول القضايا السياسية”.
بل إن محمّد أركون يرى أنّ الثّورة التّحريريّة الكبرى هي بمثابة الحرب الأهليّة الأولى الّتي فتّتت المجتمع الجزائري، وقامت باستعباد عنيف لكلّ العناصر الإنسية الأخرى المكوّنة لهذا المجتمع حيث يقول: “لأنّي أعتبر حرب التّحرير الوطنيّة بمثابة الحرب الأهليّة الأولى”، فالثّورة التّحريريّة في مفهوم أركون متحيّزة للعنصر العربي، عملت على تفتيت عنصر التّنوّع الأثني الّذي كانت تزخر به الجزائر، وقامت بتثبيت نموذج واحد عن شكل الجزائر، ممّا جعلها تفقد خاصيّة الثّورة لتصبح في تصوّره مجرّد حرب أهلية، لأنّه يعتبر المكون الفرنسي في صورته المسيحيّة جزءاً من الواقع الثّقافي الجزائري.
يقول: “ينبغي العلم بأنّه كان يوجد في الجزائر كما في المغرب يهود ومسيحيّون جزائريّون عديدون، كان العالم المتوسّطي ممثّلا بشكل جيّد في البلاد (…) كان يمكن للأمور أنْ تجري بشكل مختلف عمّا جرت عليه بعد الاستقلال، حيث لم يبق إلّا لون واحد أي جزائريّين في مقابل جزائريّين، أقصد مسلمين في مقابلة مسلمين، لقد انتهى عهد التّنوّع…”.
إنّ هذا التّوصيف الأركوني للثّورة التّحريريّة يعطينا موقفه السّلبي منها لأنّها قوّضت في تصوره البنيان التّعدّدي لمختلف الإثنيات والأعراق، ولأنّها جعلت الأمازيغي صوتا هامشيّا، هذا الشعور العميق بالتّهميش يعكس صورتين تبخيسيتين له في تاريخ علاقته بالجزائر؛
– وضعه الوضيع عمّق تراتبية المجتمع الأمازيغي؛ بحكم انتماء محمد أركون إلى عائلة فقيرة تسكن سفح الجبل الأمازيغي.
– وضعه العرقي كأمازيغي من دولة ما بعد الاستقلال.
أمّا الإقصاء الأوّل كان في عمق قريته حيث كان لا يزال شابا، ودعي لإلقاء محاضرة من قبل صديقه مولود معمّري، ولكن القرية لم تتقبّل هذا الأمر باعتبار أنّ العمدة يمثّل رأس أشراف القرية، هذا الازدراء الذي تعرّض له أركون في عمق مجتمعه الأمازيغي جعله ينفر من تلك النظم والقوانين التي كانت تحكم هيكل القرية.
“وعندئذ هجم علي وهو يحرّك عصاه بعصبيّة للدّلالة على قوّته وهيبته ثمّ صرخ به قائلا أنت محمّد ابن لونس التوارب؟ لونس هو اسم أبي، والتوارب اسم عائلتي، بالنّسبة إلى أناس القرية العارفين فإنّه يذكرهم بأني أنتمي إلى أسفل القرية، أيْ إنّي أحد الموالين التّابعين المحتقرين من قبل الأسياد الكبار”.
ومحاولة أركون أنْ يربطنا ببعض النّصوص الّتي يعتقد أنْها تعطي انطباعا جيدا عن المجتمع الأمازيغي هما رواية “مولود فرعون ابن الفقير” ورواية “مولود معمّري الهضبة المنسيّة” الّتي يقول عنهما أنّهما: “تعبّر عن روح ثقافة عريقة لا يمكن محوها بسهولة كما يزعم العرب وكان يأمل المستعمرون الفرنسيّون”.
يتدارك الأمر بشكل عنيف ليعبّر عن موقفه من الوضع الثّوري الّذي يزعم أنّه صدر واجهة مرموقة متشدّدة، بل يزعم أنّ منطقة القبائل واجهت عنف هذا المنظور التّعريبي حين يقول: “ينبغي العلم بأنّ هناك تاريخ طويل من الصّراع العنيف الهادف إلى إخضاع منطقة القبائل البربريّة، وكذلك من أجل تعريبها وأسلمتها ومحقها من الوجود كليّا”.
“ومعلوم أنّ منطقتي القبائل وجبال الأوراس كانتا رأسي حربة الانتفاضة العارمة من أجل الاستعمار. ولهذا السّبب قاموا ببلورة تفسير قومي عربي متشدّد بغية مواجهة تأثير هاتين الرّوايتين المتمركزتين في الذّاكرة القبائليّة والثّقافة البربريّة”.
ثمّ إنّ الشّعور بهذا التّهميش هو السّبيل الّذي سلكته السّلطة السّياسيّة بعد الاستقلال ضد كل المفكرين الذين خالفوها قناعتها الإيديولوجية، لذلك فضّل هؤلاء الخروج من الجزائر. يقول: “لقد صدمت من البداية ببن بلا، لا أزال أراه رافعا يده بقوّة كديغول / مع فارق الحجم الأهميّة طبعا / وهو يردّد صارخا: “نحن عرب”، “نحن عرب”، إنّ مجرّد إبعاده للبربر القبائليين عن السّلطة على الرّغم من الدّور الكبير الّذي أدّوه في تحرير الجزائر كان بمثابة فضيحة، وهكذا بدلا من أنْ يفتح صدر الجزائر وقلبها لجميع سكّانها من أجل التّوصّل بهم إلى مواطنية مشتركة ومتساوية بدون الإحالة إلى دين محدّد وعرق محدّد راح يزرع بذرة الانقسام في البلاد، ويشعل الاندفاعات القوميّة الشوفينية والعصابات الطّائفيّة”.
إنّ هذه الأيديولوجيا القوميّة كما يسمّيها أركون عملت على زرع الانشقاقات والصّراعات داخل البلاد بين العرب والأمازيغ، بل إنّ أركون يرى أنّ هذا المنحى ضيَّع علينا كجزائريّين فرصة الانصهار في العالم الحديث، الّذي كان بإمكاننا الاستفادة من إنجازاته نتيجة تلك الإنسيات الّتي انغرست في عمق البلاد، لكنّ السّؤال الّذي أطرحه على أركون ألم يكن الاستعمار الإحلالي يعمل على إزاحة عرقي العرب والبربر باعتبارهما أساسين لهما نسمّيه جزائري، كان يحاول المفكّر أنْ يقنعنا بالهويّة الشّمال إفريقيّة تحت ضغط الأطروحتين؛
– أطروحة الجزائرانيين الذين كانوا يمثلون نخبة من الأدباء والفلاسفة الذين ولدوا بالجزائر أو عاشوا على أرضها من أمثال ألبير كامو.
– أطروحة فرنان بروديل التي نجد لها حضورا قويا في كتابات محمد أركون.
فلماذا كلّ هذا التّباكي على الإنسيات وهو نفسه سيردّ علينا فصول الازدراء الرّهيب للجزائري في عنصريه العربي والبربري، خاصة حينما يحكي بعض الفصول من العنف النفسي والجسدي الذي تعرض له الطلبة الجزائريون أو ما كانت تطلق عليهم فرنسا الإستعمارية الأنديجان يقول “لا أزال أتذكّر أنّنا كنا ستة طلاب جزائريين فقط، وأنّهم كانوا يخصّصون لنا طاولة على حده في المطعم الجامعي لكي نتناول الطعام بشكل منفصل عن بقية الطلاب، لم أحب هذه العادة أو ذلك العزل لنا عن بقية الطلبة، ولكنني لم أحتج عن ذلك اكتفيت بالسكوت”.
ولماذا يصف الثّورة التّحريريّة بكونها حربا أهليّة وهو يعلم أنّ العناصر العرقيّة الفرنسيّة الاستعماريّة، الفرنسيّين والمالط والبرتغال وغيرهم لم يكوّنوا عمق هذا المجتمع، بل تمّ بناء المجتمع الكولونيالي بشكل منظّم جدّا ليتم تزييف الوعي التاريخ لاثنيات هذا المجتمع، وهنا يقول الباحث رشيد خطاب: “يفهم من خلال ما سبق أنّه تمّ بناء المجتمع الاستعماري الّذي أقيم فيما بعد، وفقا لنظام تسلسلي احتلّ فيه الفرنسيّون الأصليّون المرتبة الأولى وتلوهم الأفراد المنتمون إلى الروافد الأوربيّة المختلفة – الإيطاليّة والإسبانيّة، الخالصة الّتي استوطنت الجزائر”.
بل لقد عملت تلك النّقاشات على إقصاء العنصر البربري، أو لنقل عدم الانخراط في المسألة التحريرية يعود إلى ذلك الإقصاء الّذي مارسه الطّابع القومي ضده وضد المجموعة التي ينتمي إليها، بل وشكّل قناعة راسخة لديه في عدم العودة إلى أرض الوطن، ويضرب مثالا على ذلك الإقصاء بقصّة مولود معمّري صاحب “رواية الهضبة المنسيّة”، حيث أدّى ذلك الشّكل الصارخ من الإقصاء إلى تّصفيته جسديا.
إنّي كباحث أجدني أمام جملة من النّقاط:
– أنّ أركون وقع أسير الأطروحة البربريّة.
– أنّ أركون كان جزءاً من الوعي الثّقافي المتوسطي، وكان متخلّفا عن الوعي التّحريري للثّورة التّحريريّة المباركة.
– أنّ دوافع أركون المعرفيّة في دراسته للعقل الإسلامي كانت بسبب وضعه كأمازيغي، وهنا نطرح سؤالا مهمّا: لماذا كان أركون يضغط على مقولة الإنسيات؟
إنّني أشعر أنّ أركون كان مضطربا ومشوّشا حين كتب عن قناعاته اتّجاه الثّورة التّحريريّة، بل حين كتب عن وطنه الجزائر بشكل عام، لأنّه لا يقرّ بشكل حاسم بمسألة الإقليم، إنّه يفضّل الحديث عن ما يسمّى شمال إفريقيا.
“لم يكن هناك أيّ تركيز على وجود أمة بالمعنى الواسع للكلمة، كانوا هناك، لم يكن هناك أيّ تركيز على وجود أمّة مغربيّة أو أمّة جزائريّة أو أمّة ليبيّة أو أمّة موريتانيّة، كنّا جميعا مغاربيّين وكفى”. ويضيف قائلا “لكنّنا نتحدّث عن إفريقيا الشّماليّة وننهمك في هموم إفريقيا الشّماليّة كلّها، وليس في هموم هذا البلد الخصوصي أو ذاك”.
لقد وقع محمد أركون تحت تأثير قوي لأطروحة الأمازيغي المقهور في ظل الدولة الوطنية، ويُقارب بين وضعين مريرين؛ وضعه كفرد وضيع في تراتبية المجتمع الأمازيغي، ووضع الأمازيغي بشكل عام في عمق الدولة الوطنية للاستقلال، ويساوي بين شخصية “بن بيلا” و شخصية “زعيم القبيلة”، أي إن أركون لعب على سيناريو مَضَاعف نتج عنه موقفه من الثورة التحريرية برمتها، والتي يرى أنها كانت ثورة عربية ضد كل الإنسيات المختلفة التي تراكمت في تاريخ الجغرافيا الوطنية؛ وبالتالي يعتقد أن الثورة التحريرية كانت مانعا من نهوض الجزائر، بل انتكست على مقولة العنصر الواحد والنهائي، هذا الوضع الذي جعل أركون يكتب تحت ضغط مدرسة الجزائرانيين Les algérianistes
وأطروحات فرنان بروديل عن الإنسان المتوسطي ليكتب عن هذه الإنسية الجامعة في كتابه المهم “نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية”،لكن يحاول في هذا الكتاب أن يتجاوز الجرح الذاتي إلا الجرح العرقي برمته حين يؤكّد على أصل شمال إفريقيا المتعدد، هذا الأصل الذي سرق من قبل السياسة المنتهجة بعد الاستقلال يقول “إنّ انتمائي إلى مجموعة الأقلية القبائلية فتح عيني باكرا على الثمن البشري الباهظ المدفوع من قبل اللغات المهمشة. ويصل الأمر بهذا التهميش إلى حد تصفيتها كليا من قبل اللغات والثقافات الامبراطورية العليا، الغنية من دون شك، ولكن المهيمنة أيضا، إنّني من أولئك الإنسانيّين الذين يتأسّفون للرحيل الجماهيري الضخم لليهود والمسيحيين من البلدان العربية والإسلامية غداة الاستقلال”.
يعترف أركون أنّ فيرنان بروديل أثر في أطروحته برمّتها يقول: “ينبغي الاعتراف بأنّ فيرنان بروديل أثّر فيّ كثيرا في تلك الفترة بالذّات”، هذا التّأثير الّذي جعل أركون يرافع من أجل أطروحة الإنسان المتوسّطي أو سمّاه “التّفكير في الفضاء التّاريخي للمتوسّط”.
ماذا يريد بالضّبط من هذا التّفكير؟ وما هي مخلّفاته أو نتائجه؟
مراجع الدراسة
– محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام؛ مقابلات مع رشيد بن زيد و جان لوي شليجل، ترجمة؛ هاشم صالح، المركز الثقافي العربي ،مؤسسة مؤمنون بلا حدود. الدار البيضاء / بيروت الطبعة الأولى 2003. ص: 249.
– المرجع نفسه. ص 361.
– المرجع نفسه. ص 33.
– المرجع نفسه. ص 33.
– المرجع نفسه. 10.
– المرجع نفسه. ص 11.
– المرجع نفسه. ص 13.
– المرجع نفسه. ص 25.
– المرجع نفسه. ص 23.
– المرجع نفسه. ص 23.
– المرجع نفسه. ص 35.
– المرجع نفسه. ص 2.
– رشيد خطاب، الخاوة والرفاق (قاموس بيوغرافي ذوى الأصل الأوروبي واليهودي والحرب التحريرية الجزائرية 1954-1962)، ترجمة؛ محمد رضا بوخالفة ونسرين لولي، دار خطاب 2013 الجزائر ص 8.
– محمد أركون التشكيل البشري للإسلام. ص 37 / 38.
– المرجع نفسه. ص 33.
– المرجع نفسه. ص 33.
– المرجع نفسه. ص 34.
– محمد أركون، تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي بيروت الطبعة الأولى 2011. ص 349.
– محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام. ص 140.