يثير الكاتب نورالدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في المانيا.
عندما خرجت من الجهة الشّرقية من المسجد الجامع كان الوقت ضُحى، وكانت السّاعة تشير الى الثّانية عشر. تذكّرت أنّي لم أتناول فطور الصّباح الى هذه السّاعة.
ذهبت الى مقهى صغير في أحد الأزقّة، وطلبت فنجان قهوة وشريحة خبزٍ وعصير برتقال طبيعيّ، هذا ما أعتدت تناوله من فطورٍ منذ عشرين سنة لم أغيّره، لا في ترحالي، ولا في اقامتي.
نقدتُ صاحب المقهى الثّمن المتوجّب ثمّ ولّيت على أعقابي أبحث عن دار الإمارة الإسلاميّة، أو قصر الملوك النّصارى في الجهة الغربيّة من المسجد حتّى عثرت عليها.
كانت أشعّة الشّمس تُلهب المكان، ومع ذلك إلتزمت بالتّعاليم الصّحيّة التي أعطيت لي فوقفت في الطّابور وجعلت بيني وبين غيري من الزَّائرين مسافة، لم أعْبَه بمن كان حولي من الزّائرين ولم ألتفت إلى أجناسهم ولا إلى ألوانهم، فقط كنت أتحرّك اذا تحرّك الطّابور وأتوقّف اذا توقّف، وأشبعُ ناظري بالنّظر الى أسوار القلعة وأبراجها، وأنقل الصّورة إلى فكري فيبحث في ذاكرة التّاريخ، ويرسل لي من الحقائق ما يوفي طلبي.
بقيت على حالي هذه برهة من زمن، جسدي متشبّثٌ بالمكان، وروحي تحلّق في غابر الأزمان، لولا أن أدركني وعيي لحظة، فانتبهت الى ما حولي، فبدت لي حركة غريبة أمام مدخل دار الإمارة كان بعض السّيّاح يُظهرون أوراقًا، وبعضهم يُظهرون هواتفهم النّقّالة، وكان المراقب الّذي على الباب يفحصها فيسمح لمن يشاء بالدّخول، ويردُّ الآخرين عن الباب. وكان كلُّ من يخرج من الطّابور تظهر عليه علامات التّذمّر والأسف.
انقبض صدري وطارت الأفكار من رأسي، ولم أعد أدري ما أفعله، أو ممّن أستوضح الموضوع وشاءت الأقدار أن تسعفني مرّة أخرى.
كان قبلي في الطّابور عائلة عربيّة عرفت من لكنتها أنّها مغربيّة، فتخطّيت الرّقاب التي قبلي إليها وسألت صغيرها إن كان هناك موزّع آلي للتّذاكر عند مدخل القصر، أم لا؟ فأجابني أنّ حجز التّذاكر يجب أن يكون مُسبقًا، وأنّهم حجزوا يوم أمس عن طريق النّات، فأسديت لهم شكري وخرجت من الطّابور متغيّر الوجه والمزاج، وقد تغشّت غشاوة من الحيرة على فكري، ورأيت أنّ حٌلمًا من أحلامي تلاشى، ولم أدرما أفعله، فلم تكن هذه العقبة في الحسبان.
كيف لي أن أحجز عن طريق النَّات، وشريحة هاتفي النّقّال لا تعمل في أرض اسبانيا، كما أنّي لا أستطيع أن أتواصل مع البنك الّذي أنا زبونه في ألمانيا.
عدت أدرجي إلى باب الجسر بين القنطرة، والجامع، وفي طريق عودتي لمحت وكالة سيّاحة، هرعت إليها أسأل إن كان بإمكاني أن أحجز عن طريقها تذكرة دخول إلى دار الإمارة، فأخبروني أنّه بإلإمكان ذلك شرط أن أنضمّ إلى مجموعتهم، وأن أتّبع إرشادات الدّليل، وأسمع إلى شروحاته، وأتركه يقصّ عليّ تاريخ دار الامارة، فلم ترضَ نفسي، واستهجنت الأمر، وكيف لها ترضى أن تصغي إلى من يزيّف لها التّاريخ، ويمسخ لها الحقائق.
لقد عاينت بنفسي التّزيف في هذين اليومين، عاينته في اسم المسجد الّذي حاولوا طمسه من ذاكرة المدينة ومن دفاتر الأرشيف، وعاينته في اسم دار الخلافة الّذي تحوّل الى “قصر ملوك النّصارى” وعاينته قبل كلّ ذلك في الرّوايات والنّصوص والملاحم والأحداث التاريخيّة، ثمّ ما عساني أن أفعل اذا سمعت المُرشد يزيّف الأحداث، ويزيّف التّاريخ، أأصمت أم أهيج؟
معركة واحدة..
لقد حدث معي مثل هذا الأمر قبل عشر سنوات في غرناطة. كنت أتجوّل صباحًا أمام الكاتدرائيّة التي تقوم على أرض المسجد الكبير بالمدينة، وسمعت مرشدة سيّاحيّة تكلّم مجموعة الزَّائرين عن تحرير المدينة من الغزاة، وأي غزاة! وتملّكتني ساعتها مشاعر الاحتقان والغضب، ولكنّي لم أقدر أن أردَّ عليها، وقلت في نفسي ربّما خانتها الكلمات فهي اسبانيّة ومجموعة السّيّاح ألمانيّة، غير أنّي بعد ذلك تأكّدت أنّ مسخ هويَّة الأندلس، وتزييف وعي السّياح، والزّائرين، وحتّى السّاكنين بهذه الأرض سياسة رسميّة ممنهجة، اتبعتها الكنيسة الغربيّة، وأسمتها حرب الاسترداد كي تبرّر بها غزو ممالك الشّمال لأرض الأندلس.
إنّه من السُّخريّة أن يصدّق الانسان أنّ 12 ألفًا جنديّا من البربر حديثو عهدٍ بالإسلام والعربيّة اجتاحوا شبه الجزيرة الايبيريّة في ثلاث سنين وبعد معركة واحدة هي معركة وادي لكّة فرضوا الإسلام، وبنوا حضارة، ونشروا لغة وسط 10 ملايين من السّكان الأصليين، لم تسمو البشريّة الى مُستوى ذوقها وفكرها وتسامُحها الى اليوم، وأنّ هذه الـ10 ملايين من السّكان المغلوبة على أمرها بقيت خاضعة لهذه القوّة العسكرية مدّة 8 قرون.
خرجت من وكالة السّيّاحة محبط النّفس، مبلبل الفكر، ومن شدّة وطأة خيبة الأمل فقدت إحساسي بنفسي، وادراكي لما حولي، فلمّا ثاب إليّ رُشدي، أجهدت نفسي وأنا أدوّن هذه الأسطر والكلمات كي أستوضح ما مرّبي في هذا اليوم، إلاّ أنّي لم أستطع أن أتذكّر من همس في أذني وأشار عليّ بالذّهاب الى ديوان السّياحة بالمدينة. لقد خشيت على نفسي من أن تُحرم من رؤية من قبع في خيالي، وسكن في روحي سنينا.
دلفت الى داخل الدّيوان، واتّجهت الى شبّاك في إحدى الزّوايا، قلت للموظّفة بعد أن أسهبت في حكاية قصّتي وقصّة رحلتي من ألمانيا من أجل قرطبة، وقد فقدت السّيطرة على كلماتي ومشاعري، فبرزت علامات التوتّر والاضطراب على محياي:
ــ إنّ كلّ مناي من هذا الحجّ الى قرطبة، وفي هذا الزّمن العصيب أن أرى الزَّهراء وأرى المسجد وأرى دار الامارة!… يجب أن أدخل دار الامارة، ويجب أن أزور “مدينة الزّهراء” بأيّ ثمن”!
ردّت الموظّفة في هدوء وبرودة:
ــ هذا مكتب استعلامات وليس مكتب حجزٍ للتّذاكر، يُمكنك أن تحجز على النّات مباشرة!
فأجبتها: ــ لا أستطيع! هاتفي النّقال لا يعمل في إسبانيا، ولا أدر ما السّبب، فأرجو المُساعدة؟
رقّت الموظّفة لحالي وقبلت أن تحجز لي تذكرة دخول صباح يوم الغد على أن أدفع ثمنها عند مدخل باب الإمارة، كما حجزت لي تذكرة سفر الى “مدينة الزّهراء” دفعت ثمنها في الحال.
انشرح صدري وعاد الهدوء الى نفسي، فخرجت من الدّيوان وقد حلّت مشاعر الفرح والاغتباط محلّ مشاعر الخوف والقلق. أخيرا يا زهراء!
رُحت أبحث عن موقف الحافلة التي ستنقلني الى مدينة الزّهراء في يوم الغدّ. أذكر أنَّ موظّفة الدّيوان قالت: أنّه ليس بعيدا عن قصر الملوك الكاثوليك مثلما تّسميها هي ودار الامارة مثلما أصرّ أنا على تسميّتها.
لقد طرأ على برنامج رحلتي شيئٌ من التّعديل، نظرًا للملابسات التي جدّت، ألغيت زيارتي لإشبيليا من برنامج الرّحلة، لقد وجدت في إجابة الموظّفتين تأكيد على وجوب حجز تذكرة الدّخول للقصر العربي عن طريق النّات، وسيكون من العبث الذّهاب الى هناك ثمّ لا أدخل الى القصر. إنّه لشيء مُؤلم ولكن ليس أشدّ ايلاما من أن لا أرَ الزّهراء ودار الملك.
عدت إلى الباب الشّمالي من المسجد المَعلَم الّذي صار نقطة الانطلاق في تجوالي في المدينة. كلّ الّذين سألتهم لم يستطيعوا أن يدلّوني على السبيل الى موقف الحافلة إلى الزّهراء، فصرت أتردّد من واحد الى واحد، حتّى لمحت عيني رجلاً ذا ملامح عربيّة مشيت اليه واستوضحت منه فوجدته سائحًا مثلي، غير أنّه كان برفقة ولده الصّغير فاستغاث به فأغاثني.
طلب منّي هاتفي النّقّال، وفتحه على تطبيق غوغل خرائط، فكتب اسم الشّارع، ثم قال اتّبع ارشادات غوغل، ففعلت مثما أمر حتّى وصلت بعد أكثر من نصف ساعة قد أرهقني المسير الى الموقف.
لم يكن الموقف بعيدًا عن باب المُدوّر إلاّ مسافة خُطوات، ولا عن دار الإمارة إلاّ دقائق معدودة. ولم تُخطئ معي الموظّفة عندما قالت إنّه ليس بعيدًا من هنا، ولا أخطأ لطّفل الصّغير ولا غوغل وإنّما أنا الّذي جنيت على نفسي بسبب توتّري واضطرابي، فأجهدتها وزدتها نصبًا على نصب، وتعبًا فوق تعب.
عدت إلى الفندق عند السّاعة الثّالثة، رددت عليّ باب الحجرة واستلقيت على سريري، عسى أن أتخلّص من التّعب والارهاق الّذين انهكا جسدي، وأتخلّص من التّاريخ الّذي أقلق فكري وأعود إلى زماني هذا فإنّي منذ أن جئت إلى أرض اسبانيا، وفي كلّ مرّة أنزل فيها إلى المدينة القديمة إلاّ وينفرد بي الخيال فيتلاشى الواقع من أمامي وتغوص روحي أحقابًا في زمن المجد الإسلامي.
لم أعد أطيق قيظ الصّيف، ولا وطأة حرّ نيران الشّمس المتأجّجة التي غشيت أرجاء قرطبة، فآثرت البقاء في الفندق هذا اليوم فلم أغادره إلاّ عند السّاعة السّابعة مساءً، ولم أذهب في تجوالي بعيدًا عن المدينة القديمة. عدت الى باب المسجد الشّمالي، ومنه انزلقت بي قدماي الى باب الجسر، ثمّ الى قنطرة الوادي الكبير.
تأمّلت قوائمها الشّاحبة بلون الطّين وماء الوادي الكبير المُصبغ بالخُضرة حُمت حول القلعة الحُرّة التي بناها الموحّدون، وتوقّف بي المسير أمام نافورة أبي العافية على الضّفّة اليُسرى من الوادي، نظرت إليها طويلا، ونظرت إلى ربض قرطبة القبلي، فزدت أسى جديدًا الى مآسيّ وحُزنًا الى أحزاني، بدأت الزّفرات والآهات تصّاعد من أعماقي، فلكلّ سورٍ وحصنٍ في قرطبة حكاية، وفي كلّ زاوية ملحمة وبطولة.
صارت الشّمس على وشك الغروب، ولم يعد الوقت يأذن بالإسترسال في التجوال. فولّيت على عقبي الى المدينة الحديثة، واشتريت ما يقيم أودي، ويسدّ جوعتي، ثمّ مضيت الى الفندق. لبثت في غرفتي ردهًا من زمن أفكّر في كلّ شيء، وفي لا شيء، ودون أن أدوّن في دفتري أيّ كلمة. فقط يجب أن أهيّئ نفسي لرحلة الغد، ففي الغد موعدي مع دار الامارة، ومدينة الزّهراء
***
في صبيحة يوم الجمعة الثّالث عشر من أغشطش استيقظت من نومي مبكّرا، لكنّي بقيت في فراشي زمنًا يسيرا، غادرت بعده الفندق صوب دار الإمارة، بدا لي المكان خاليًا من السّيّاح، كان موعدي المُسمّى على السّاعة التّاسعة، فانتهزت الفرصة ومِلت الى المقهى الّذي اعتدت تناول فطوري فيه، طلبت فنجان قهوة وقطعة خبز، دفعت الحساب، ثمّ تسلّلت الى باب المدوّر عند مدخل المدينة الرّئيسي. وعندما أنهيت فنجان القهوة، أحسست بدفقة من الحياة تكتسح فكري، وأنّ وعيي قد عاد لي بعد غيبوبة طويلة، فانطلقت الى دار الإمارة.
“باب العطّارين”
دلفت إلى دار الخِلافة من باب إشبيليا أو مثلما تُسمّيه المصادر الإسلاميّة “باب العطّارين”، ويتكوّن المدخل من بابين أحدهما داخلي والآخر خارجي، وهذا من الإبتكارات المعماريّة التي أدخلها المهندس القرطبي في عهد عبد الرّحمان النّاصر لتدعيم النّظام الدِّفاعي للمدينة، فأضاف إلى الأبواب الخارجيّة أبوابًا داخليّة توازيها، يُمكن للبوّابين تثقيفها وإحكام إغلاقها، ومُضاعفة الحراسة عليها، وأمّا ما تبقّى من أسوارها سواءً في الدَّاخل أو الخارج، فله طابع فنّ بناء الأسوار الموحّدي.
أوّل ما يقابلك بعد أن تتجاوز البابين الدّاخلي والخراجي، هو تمثال الملك فرديناند الثّالث الّذي ضمّ قرطبة الى مملكة قشتالة سنة 1236م. وعندما تتحوّل شمالاً فإنّك ستلج قصر الملوك الكاثوليك عبر أحد الدَّهاليزا لعربيّة، وهو في الأصل بهو متواضع، كبير بعض الشّيئ لا يظهر عليه ما يوحي أنّه قصر. فقط الفسيفساء التي يتزّين بها جداره الشّمالي، وبقايا حجارة الأسوار التي يُمكن أن تُشاهدها من نوافذه وشرفاته، توحي أنّ البناء يعود الى العصر الرّوماني، وأنّ تعديلات كثيرة أدخلت عليه في الحقبة الإسلاميّة.
هذه التّعديلات نلاحظها في تغيّر طريقة البناء من أسوار بصخر وأعمدة غليظة، إلى أعمدة هيفاء، وجدران بقطع حجارة صغيرة، وخفيفة، تشدّ بعضها بعض بطابية متينة من الكلس والرّمل والصّلصال والحصباء.
لا تحتاج الى وقت كبير لتتجّول في هذا البهو، إن هي دقائق معدودة، وتجد نفسك لم تفعل أكثر من أنّك ألقيت نظرة فاترة من دون أن يُداخلك أيّ شعور بالانبهار والذّهول، وتقول ليس هنا ما يسترعي الانتباه، فترجع وراءك وتدخل دهليزا آخر على شمالك،
“حدائق الموريسكيّين”
وتنزل الدّرج لتجد نفسك وسط فناء صغير من الرّخام مثل أفنية قصور الحمراء، تتزوّع بين جنباته أشجار البرتقال واللّيمون وبعض النّخلات، يتوسّطهنّ حوض مائيّ صغير، ونافورة يتسرّب منها الماء إلى السّواقي فيسقي حديقة القصر، عندها ستشعر أنّك بدأت تغوص وتغرق في تاريخ قرطبة وتعود قرونا الى زمن المجد المفقود.
وعندما تخرج من هذا الفناء الصّغير ستجد نفسك في المنتزه الّذي بناه عبدالرَّحمان الأوسط وهو على طول مدّ بصرك، ولا زال إلى اليوم يحمل اسم “حدائق الموريسكيّين” ولسوف تّشبع حقًّا ناظرك من عبق حفيذات الزّهور التي غرسهنّ عبدالرّحمان الأوسط، ومن عبق التّاريخ الزّاهر لهذه المدينة خالدةً. وستسمع لسنفونيّة رقرقة المياه وخريرها تتبدّل نغماتها كلّما امتدّ الحوض أو انكمش طوله، ولن تُحسّ بقيظ النّهارو لا بثقل الخُطا ما دُمت تتظلّل بأفنان أشجار النارنج واللّيمون، وستنتهي بك الخُطوات عند تماثيل من إسمنت لملكين ومغامر، إنّهما الملك فرديناند وإيزابيلاَّ وأمّا المغامر فهو الجنوي كريستوف كولمبس وعندها ستتساءل ما الّذي يفعلونه هنا.
وستأتيك الإجابة من كتب التّاريخ أنّه في هذا المكان قدّم كولمبس مشروعه للإبحار الى الهند عبر المُحيط. وستنبئك كتب التّاريخ أيضًا أنّه من هذا القصر خطّط فرديناند وايزابيلاّ لغزو مملكة غرناطة، آخر ما بقي للمسلمين من حصون على أرض إيبيريا.
وبعد تخلّي الملكين الكاثوليكيين عن القصر سنة 1492م وانتقالهما الى الحمراء بغرناطة، سلّما القصر لمحاكم التّفتيش، فحوّلته الى دهاليز وأقبية وقاعات للتّعذيب.
في الحقيقة أنا لم أرَ دار الإمارة بل رأيت جزءًا صغيرا منها، فدار الإمارة في أصلها كانت تصل إلى المسجد الجامع ولها باب يُسمّى باب السّاباط ومنه كان أمراء بني أُميّة يدخلون الى المسجد ليؤدّوا فيه فرض الصّلاة، أو ليأخذوا البيعة من المسلمين.
كما أنّه ليس هناك في القصر ما يغري عين المُشاهد غير الفناء المويسكي، ومنتزه عبد الرّحمان الأوسط وأسوار القصر وأبراجه الأربعة التي بناها أمراء بني أميّة، وجدّدها الموحّدون.
إنّه مهما حاول المنتصرون في الحرب طمس هويّة المدينة، واستبدال اسم دار الامارة باسم قصر الملوك الكاثوليك، فإنّ الحجر الّذي بقي متراصًّا، أو تهشّم جزءه، والبرج الّذي بقي معاندًا وشامخًا، والسّور الّذي بقي صامدًا كلُّها دلائل ناطقة لمن يُحسن السّماع أنّ المنهزم كان أعظم فنًّا، وأرقّ ذوقا، وأرهف وجدانًا وأجمل خُلقَا.
أجل إنّ المنتصر أمكنه أن يقوّض حضارة قويمة من غير أن يقيم مكانها حضارة أخرى، واستطاع أن يُطفئ نور سراج وهّاج كان يُستضاء به، لكنّه لم يستطع أن يُشعل مكانه ولو شمعة.
جاء في آخر صفحة من كتاب “قصّة العرب في اسبانيا” لكاتبه ستانلي لي بول”..بقيت اسبانيا قرونًا في حكم العرب وهي مركز المدنيّة، ومنبع الفنون، والعلوم، ومثابة العُلماء والطّلاّب، ومصباح الهداية والنّور ولم تصل أية مملكة في أوربَّا إلى ما يقر بمنها في ثقافتها وحضارتها، ولم يبلغ عصر فرديناند وإيزابيلاّ القصير المتلألئ، ولا إمبراطويّة شارل الخامس الأوج الّذي بلغه المُسلمون في الأندلس، وقد بقيت حضارة العرب إلى حين بعد خروجهم من اسبانيا وضّاءة لامعةً، ولكن ضوءها كان يشبه ضوء القمر الّذي يستعير نوره من الشّمس، ثمّ عقب ذلك كسوف بقيت بعده إسبانيا تتعثّر في الظّلام”.
متحف الزّهراء
بلغنا متحف الزّهراء قبل السّاعة الحادية عشر والنّصف، بدا لي الأمر مُستغربًا ومُحيّرا، فلم ألحظ أيّ أثر للزّهراء، ولا أيّ طلٍّ من أطلالها، ولا نقضًا من أنقاضها، فساورني الشّك والقلق ومع ذلك داريت نفسي ومشيت في أثر الزّائرين الّذين استقلّوا معي الحافلة حتّى دلفت من باب المتحف، ووقفت في الطّابور أنتظر دوري في الاستزادة من توجيهات مكتب الإستعلامات، وعندما تقدّمت بي الخطوات الى المكتب لمحت عيني فجأة لوحةً صغيرة مكتوب عليها بأربع لغات أوربيّة:
ــ “دار الملك مُغلقة بسبب التّرميمات”.
لم أصدّق ما قرأته فبقيت أتملاّه وأعيد تكراره مرّات ومرّات، وبجميع اللّغات، ثمّ حاولت أن أداري نفسي فقلت لها:
— إنّ في الأمر خطأ ما !
فلمّا مثُلت أمام العاملة في المكتب سألتها بنبرة حيرة وخوف:
ــ هل حقّا أنّ دار المُلك مغلقة؟
فجاءني ردّها صادمًا:
ــ أي نعم مغلقة!
كتمت حزني ومررت إلى داخل المتحف أستكشف ما عثر عليه علماء الآثار من أشلاء وأنقاض وما كان مطمورًا تحت تُرابها عشرة قرون، من أواني، وأباريق ومواعين فخاريّة ومرمريّة، وزجاجيّة وبقايا أعمدة وعقودٍ، وبلاطات، وفسيفساء، وزخارف، لم تُكتشف إلاَّ سنة 1910م.
لم أتجوّل كثيرًا داخل المتحف، فجُلّ المعلومات التي يُقدّمها كنت مُلمًّا بها من مطالعاتي في كتب تاريخ الأندلس، وكذلك لأنّ قلبي كان مشغوفًا بما سيرى عندما أخرج من المتحف.
بحثت عن مخرجٍ إلى الزّهراء فلم أتبيّن شيئًا، فعدت أدراجي الى مكتب الإستعلامات أسأل عن الباب المؤدّي إلى المدينة، ففوجئت بردّ العاملة تقول لي أنّ هذا متحف آثار الزّهراء، وأنّ الزّهراء على مسافةٍ قريبة من هنا، وأنّ هناك حافلة خضراء اللّون تنقل السّيّاح من أمام المتحف كلّ ساعة إلى مدينة الزّهراء عند سفح جبل العروس…
الوقت وقت هاجرة، والسّاعة تشير إلى الـ12.32 أخيرًا وصلت إلى مُناي وإلى الأمل الّذي كنت أبغي الوصول إليه. أخيرًا وصلت إلى مدينة الزّهراء. لست أدري أي مشاعر انتابتني لحظتها، فقد وجدت نفسي عاجزة عن التّعبير عنها، وانعقد من فرط الدّهش لساني عن النّطق بما أكنّ صدري. أي وربّي إنّها لمشاعر كثيرة، مشاعر العاشقين، ممزوجة بمشاعر الدّهشة والذّهول، ومشاعر الغبطة والفرح ممزوجة بمشاعر التّأثّر والإعجاب.
فهذا يوم لا يشبه باقي أيّام السّنين التي طُويت من عمري، إذ نسيت أهوال السّفر في الحرّ وعذابات الطّريق، وسُهاد اللّيالي. وكان الوقوف على أطلاها عِوضًا لي عن همّ الغربة، وشدّة كرب البعد عن الأهل والوطن، وتنفيسًا لمشاعر الإبتئاس والانقباض التي تسلّطت عليّ، فإنّي لم أذق طعم الرّاحة منذ الـ8 من أغشطش، ولا داعبَ النّوم جفوني، ولا غشيني نعاس بحقّ منذ ذلك اليوم.
وقفت على أطلال الزّهراء من جانب سورها الشّمالي المقابل لجبل العروس، قبل أن أدلف الى المدينة من الباب الشّمالي.
للأسف لم يكن الوقت مناسبًا لزيارة المدينة فلم أرى الكثير ممّا كنت أحلم برُؤيته، وجدنا دار الملك ومجلس الأنس الذين بناهما عبد الرّحمان النّاصر مغلوقتين، كما مُنعنا من الوصول إلى بوابات المدينة الرّئيسيّة، وإلى أنقاض المسجد عند أسفل دار الملك ولم نتمكّن إلاّ من التّجوال بين دواوين موظّفي الدّولة الكبار، ومن هذه الدّواوين ديوان جعفر المُصحفي حاجب الحكم الثّاني وبعض غرف الحرس، ومرابط الخيل، وأحواض لبيوتات المقرّبين من الخليفة، ولم ألمح فناء المسجد وبعض جدره إلاّ من بعيد، وآخر ما وقفت عليه هو خزّان الماء خارج أسوار المدينة والّذي كانت تُروى منه ساكنتها، وتُسقى حدائقها،
لقد آلمني أنّي لم أرَ ما كنت أتمنى أن أراه بالزّهراء، لقد آلمني أنّي لم أرَ دار الملك من داخلها ولم ألقف بين يدي عبد الرّحمان النَّاصر، وأنا الّذي جرّني هواها إلى هذه الأقاصيَّ فهاجرت أهلي ووطني ومكانيّ لأجلها. لولا أنَّ هاتفًا إنبعث من أعماقي يواسيني:
“عسى أن يجعله اللّه خيرًا، فتحجج إلى قرطبة، والى الزّهراء مرّة أخرى!”
عندما تقف على أطلال المدينة ستحدّثك بسخاء عن تاريخها، وستستحثّ فكرك ليبحث في الذّاكرة، فيطوي لك قرونًا من الزّمن حتّى تتعايش معه بخيالك، فيتبدّى لك كلّ من ترك أثرًا في أرجائها.
سيتبدَّى لك عبد الرّحمان النّاصر وإبنه الحكم المُستنصر، أمّا الأوّل فهو من شرع في بناء المدينة في سفح جبل العروس، وأمّا الثّاني فهو من أشرف عليه وأتمّه بعد موت أبيه. وسيتبدّى لك الحاجب جعفر المُصحفي اذا أنت وقفت بين أنقاض ديوان الحاجب، وستستحضر النّكبة التي نكّبه بها الحاجب المنصور، وكيف جعله يتمنّى الموت فلا يُدركه، وهو أوّل من مدَّ له يد العون وجعله يرتقي في المناصب حتّى قاسمه منصبه ثمّ خلعه وسجنه ونكّل به.
عندها ستقلّب طرفك في أرجاء المدينة حتّى يتبدّى لك حانوت محمّد بن عامر المعافري عند بوّابة المدينة الكبيرة، يسترزق من كتابة الرَّسائل والشكاوى.
كما سيتبدّى لك الملوك والوزراء والرّسل الّذين وفدوا على النّاصر وابنه الحكم يزدلفون إليهما، ويطلبون السّلم من الخليفة ويبرمون معه عهود ومواثيق الصُّلح، ويدخلون في طاعته.
وسيتبدّى لك إن أنت أحسنت التّأمّل والقراءة والمُقارنة أنّ الزّهراء هي بحقّ من عظيم وعجيب ما أبدعته العبقريّة الإسلاميّة بعد المسجد في عهد عبد الرّحمان النّاصر، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق، فهي بعكس المسجد الّذي مازال قائما يُمكننا أن نتحسّس جماله بأعيننا، وحواسنا.
أمّا هي فلا يُمكننا أن نتلمّس جمالها ولا عظمتها إلاّ بخيالنا، ومن خلال ما إستجمعته كتب التّاريخ من آثار، وما نظمه الشّعراء عنها من شعر، ثمّ نربط بينه وبين ما ابرزه علماء الآثار في عصرنا الحديث من حفائر أثريّة، وجعلوه مشاهدًا على عظمة المدينة وعظمة بانيها.
جاء في كتاب نفح الطّيب من غصن الأندلس الرّطيب: ” وأمّا الزّهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرّحمان النّاصر لدين اللّه.
وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر… وأنّ النّاصر لمّا بنى قصر الزّهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق النّاس على أنّه لم يُبن مثله في الإسلام البتة، وما دخل إليه قطّ أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد، ورسولٍ واقد، وتاجر جهبذ، وفي هذه الطّبقات من النّاس تكون المعرفة والفطنة، إلاّ وكلّهم قطع أنّه لم يرَ له شبهَا، بل لم يتمثّل كن مثله، حتّى إنّه كان أعجب ما يُؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النّظر إليه، والتّحدّث عنه…”.
ويقدّم لنا ابن حيّان صورة عن عظمة الزّهراء فيقول أنّ ملك النّاصر في الأندلس كان في غاية الضّخامة ورفعة الشّأن…وأنّه لم تبق أمّة سمعت به من ملوك الرّوم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلاّ وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية، ومن جملتهم رُسل ملك بيزنطة فهالهم ما رأوا، وبهرهم هول المجلس… وأنّ النّاصر جلس به ليحيّي رُسل ملوك الرّوم الّذين بعثهم إلى حضرته، وقعد للقائهم يوم السّبت لإحدى عشر ليلةً خلت من ربيع الأوّل 338ه في المجلس الزّاهر مقعدًا حسنًا نبيلاً، وكان قد أمر رجال الدّولة وقُوّاد الجيش أن يعدُّوا لهذا المقابلة خير إعداد، وكان البهو في أكمل زينة، والعرض في وسطه يلمع ذهبه، وتتلألأ نفائس جواهره، ووقف إلى يساره أبناؤه، فالوزراء على مراتبهم يمينًا وشمالاً، ثمّ الحُجّاب من أهل الخدمة، وأبناء الوزراء، والموالي، ورجال خاصّة القصر وغيرهم”.
ولقد فُرش صحن الدّار بعتاق البسط، وكرام الدّرانك. وظلّلت أبواب الدَّار وحناياها بظُلل الدّيباج ورفيع السّتور، فوصل رُسل ملك الرّوم حائرين من بهجة المكان، وفخامة السلطان، ثمّ تقدّموا خُطوات وقدّموا كتاب مليكهم صاحب القسطنطينيّة العُظمى”.
روايات عربية..
وحصرت الرّوايات العربيّة باعث بناء النّاصر للزّهراء في باعثين إثني، أحدهما سياسي وعَقدِي محض وهو أقرب إلى الحقيقة، وأرجح عند العاقل، وتنقل لنا الرّواية أنّ عبدالرّحمان الثّالث أعلن في الثّاني من ذي الحِجّة سنة 316ه (جانفي 929م) نفسه خليفة للمسلمين وتسمّى بأمير المؤمنين النّاصر لدين اللّه.
ودُعي له من أّوّل جمعة على منبر المسجد الجامع بقرطبة بدعاء الخلافة. وهذا بعض ما جاء في نصّ المرسوم النّاصري: “… وقد رأينا أن تكون الدّعاء لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنّا وورودها علينا بذلك ــ إذ كلّ مدعوّ بهذا الإسم غيرنا منتحلٌ له، ودخيل فيه، ومتّسمٌ بما لا يستحقّه منه، وعلمنا ترك الواجب لنا من ذلك حقّ أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فمُرِ الخطيب بموضعك، أن يقول به، وأجر مخاطبتك لنا عليه إن شاء اللّه. واللّه المستعان.” ثمّ رأى النّاصر أنّ قرطبة صارت تضيق بما تتطلّبه الخلافة من مرافق، فأمر بإنشاء مدينة ملوكيّة تليق بعظمة الخلافة، ومقام الخليفة، وأسماها الزّهراء. ويُنسب له في هذا أبيات من الشّعر:
ـــ هِممُ الملوك إذا أرادوا ذكرها… من بعدهم فبِألسُن البُنيان.
ـــ أوما ترى الهرمين قد بقيا وكم… ملكٌ محاه حوادث الزّمان.
ـــ إنَّ البناء إذا تعاظم شأنه…أضحى يدلّ على عظيم الشّان.
وأمّا الباعث الثّاني فعاطفي وهو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
وأقرب إلى قصص ألف ليلة وليلة منه إلى الواقع. تقول الرّواية، أو الأسطورة أنّ جارية للنّاصر ماتت وتركت مالاً كثيرا فأراد أن يفكّ بذلك المال أسرى المُسلمين، فطلب في بلاد الإفرنج أسيرًا فلم يوجد، فقالت له جاريته الزّهراء وكان يُحبّها كثيرًا: لو بنيت لي به مدينة وسمّيتها بإسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها عند سفح جبل العروس.
وهي رواية تتنافى مع الذّهنيّية السّياسيّة والاستيراتيجية النّاصر ومع حكمته وعزمه، وما كان متفرّغا له من الغزو والحكم وبناء الدّولة. يُحكى أنّه وُجد بخطّ يده: أنّ أيّام السّرور التي صفت له دون تكدير، يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا، وعُدّت تلك الأيّام فكانت أربعة عشر يومًا. فسبحان ذي العزّة القائمة، المملكة الدّائمة.
إبتدأ النّاصر في بناء الزّهراء سنة 936م وأوكل إلى إبنه الحكم الثّاني الإشراف على البناء.
وذكر ابن عُذارى المرّاكشي أنّه كان يُصرف فيها كلّ يومٍ الصّخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التّبليط في الأسس، وجُلب لها الرُّخام من قرطاجنّة إفريقيا، ومن تونس، وكان فيها من السّواري 4313 سارية،… وكان يعمل في جامعها حين شُرع فيه 1000 عامل، حتّى أنّه إستتمّ بنيانه في مُدّة 48 يومًا، واستغرق العمل في الزّهراء إلى آخر عهد النّاصر، ومُعظم عهد ابنه الحكم نحو 40 سنة.
وتُقدّم لنا المراجع العربيّة أرقامًا خيالبّة عن عمّا إستهلكه البناء من سواري، حجارة وأبواب، وأرقاما عن عدد العاملين بها، وعدد الدّواب التي سُخّت لإنجاز هذا الصّرح الضّخم. وإلى جانب هذه الأرقام أضاف المؤرّخون أوصافًا خياليّة، وأسماءً رومانسيّة للقصور والمجالس، والمنتزهات التي كانت بالزّهراء، رُبّما كنّا لن نُصدّقها لولا وقوفنا على أطلالها، وعلى ما بقي من البيوت الأندلسيّة بالمدينة وهندسة بنائها وزخرفتها، وأخيرا حجم الأشعار في وصف هذه القصور والمنتزهات.
ورغم حروب النّاصر المستمرّة مع ممالك النّصارى في الشّمال، ومع الثّوار الّذي أرادوا زعزعة إستقرار مُلكه، إلاّ أنَّ ذلك لم يمنعه من مواصلة البناء في قرطبة وتعمير الزّهراء والإنفاق عليها، فورد في كتب التّاريخ أنّ النّاصر كان كلفًا بعمارة الأرض، وتخليد الآثار الدّلة على قوّة المُلك، وعزّة السُّلطان، وصرف مبالغًا خياليّة في البناء، حتّى إستفزّ ذلك قاضي القضاة منذر بن سعيد البلّوطي فقام يوم الجمعة على المنبر خطيبًا يُنكر عليه فعله.
تقول الرّواية أنّ النّاصر إستفرغ وسعه في بناء الزّهراء، وتنميقها، وزخرفتها حتّى عطّل شهود الجُمعة بالمسجد الّذي إبتناه بها ثلاث جمعٍ متواليات، فأراد الإمام الإمام لمنذر بن سعيد البلّوطي أن يُذكّره بجنايته، فصعد المنبر يوم الجمعة، وقرأ في خُطبته قوله تعالى: “أتبنون بكلّ ريع آيةً تعبثون. وتتّخذون مصانع لعلّكم تخلدون. وإذا بطشتم بطشتم جبّارين. فأتقوا اللّه وأطيعون. وأتّقوا الّذي أمدّكم بما تعلمون. أمدّكم بأنعام وبنين. وجنّاتٍ وعيون. إنّي أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم. قالوا سواءٌ علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين”.
ثمّ مضى في ذمِّ تشييد البُنيان، والإستغراق في الإنفاق عليه، وأتبعه بالدّعوة إلى الزّهد في هذه الدّار الفانية، والحضّ على إعتزالها والنّدب إلأ الإعراض عنها. حتى رقّ من حضر الصّلاة وخشع قلبه، فانقلب سكون المسجد إلى بكاءٍ ونحيب، وضجيج، ودعاء، ففطن النّاصر إلى أنّه المقصود بذلك، فبكى مع الباكين، وندم على سوء فعله، واستعاذ باللّه من سخطه.
إلاّ أنّه وجد على منذر بن سعيد لغلظ ما قرّعه به، فشكا لولده الحكم وقال: واللّه لقد تعمّدني مُنذر بخطبتهِ، وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ وأفرط في قرعي، ولم يُحسن السّياسة في وعظي وكاد بعصاه يقرعني، ثمّ أقسم أن لا يُصلّي خلفه جمعةً، وجعل يلتزم صلاتها خلف أحمد بن المطرّف بجامع قرطبة. فقال له الحكم: وما الّذي يمنعك من عزله، فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره، وعلمه يُعزل لإرضاء نفسٍ ناكية عن الرُّشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون.
غير أنّ الأقدار لم تكتب للزّهراء أن تُعمّر أكثر من 75 عامًا. فبدأ نجمها في الأفول مباشرة بعد وفاة الحكم المُستنصر باللّه، وبداية بزوغ نجم محمّد بن عامر الملقّب بالحاجب المنصور الوصيّ على الخليفة الصّغير هشام الؤيّد ذي الإثنى عشر ربيعًا.
تقول الرّواية المتواترة أنّ أوّل عمل قام الحاجب المنصور أن حجر على هشام، واستجمع كلّ السّلطة في يده، وحطّم كلّ معارضة ومقاومة لمُلكه، ثمّ بنى مدينة جديدة سمّاها بالعامريّة على نهر الوادي الكبير شرقي قرطبة لتكون مقرّا لملكه، ونقل إليها دواوين الدّولة، فصارت الخلافة إلى شبح باهت، وصارت الزّهراء الى دارٍ من غير ساكنين، اللّهم إلاّ من هشام وأهله.
أدّى إدخال المنصور لبربر شمال افريقيا الى الأندلس الى إستياء كبير في البيوتات القرطبيّة العريقة، سواءً العربيّة منها، أو البربريّة، أو الموالي الاسبان، لكنّ شدّته وبطشه بها ومطاردته لرجالها، تركها عاجزة لا تجرؤ على القيام عليه.
عندما تعود إلى المدخل الشّمالي للزّهراء عند سفح جبل العروس، وتتأمّل أطلال المدينة، وأطلال قصورها ودورها من عالٍ، وترى حجم الخراب والدّمار الّذي لحق بها، لابُدَّ أن تتوارد عليك مشاعر الأحزان والحسرات، وتنهال عليك الخاطرات والأشعار، فتجد نفسك تردّد رثاء الشّاعر السّميسر للزّهراء دون وعيٍ منك:
ــ وقفت بالزّهراء مُستعبرًا… معتَبرًا أندُب أشتاتا.
ــ فقلت يا زهرا ألا فأرجعي… قالت وهل يرجع من ماتا؟
ــ فلم أزل أبكي وأبكي بها… هيهات يُغني الدّمع هيهات.
ــ كأنَّما آثار من قد مضى… نوادبُ يندبنَ أمواتًا.
ولابُدّ أن يسري إلى خاطرك هذا السّؤال: ما الّذي جرى للزّهراء، وماذا حلّ بها، ولن يُسعفك في هذه حال إلاّ ما دوّنه ابن عذارى المرّاكشي، وابن خلدون والمقري عن دور المنصور في هجران النّاس المدينة، ودور ابنه شنجول، والمهدي بن هشام في اندلاع الفتنة الكبرى في قرطبة وكيف أتت على كلّ شيئٍ بالزّهراء، وأكثر من ذلك إلى زوال حضارة الإسلام من الأندلس، فكلّهم أجمع أنّه:
رغم الأمجاد العسكريّة التي حقّقها المنصور وما أسبغه حكمه على قرطبة من أسباب السّكينة والأمن والرَّخاء، إلاّ أن ذلك لم يُنس المدينة توقها لعودة السّلطة الأمويّة الشّرعية التي قضوا تحت حكمها أكثر من ثلاثة قرون، فما أن أعلن عبد الرّحمان شنجول ابن المنصور، أنَّ هشام المؤيّد عيّنه وليًّا للعهد، حتّى قوبل هذا الإعلان بالرّفض الشّديد من البيوتات القرطبيّة، وثارت العامّة بالمدينة، وشفت غليلها بنهب الزّاهرة مقرّ حكم المنصور، وانتهبت ما فيها من الكنوز، ثمّ تركت المدينة للنّيران.
ثمّ إنثالت إلى أولئك البربر الّذين جاؤوا من عدوة المغرب فأعملت في ديارهم التّدير والنّهب وقتلت كبراءهم، وهتكت حريمهم فاشتعلت الفتنة بقرطبة بين العامّة والبربر وبين البربر، والفتيان العامريّين سنين، وتوالت الخطوب على قرطبة حتّى وصلت الى الزّهراء فتداول على نهب خيراتها وتدميرها وإحراقها البربر الّذين جاؤوا من عدة المغرب، والفتيان الصّقالبة، فبيعت حجارتها وأبوابها وكلّ ما زُيّنت به جدرانها، كما بيع ما نجا من مكتبة الحكم المستنصر من أجل سدّ العجز المالي للدّولة أيّام الفتنة.
ذكر ابن عُذارى أنّ قوّات من البربر زحفت مع سُليمان المُستعين على قرطبة، وإقتحمت في طريقها مدينة الزّهراء ففتكت بساكنتها وعاثت في أحيائها، وأحرقت المسجد والقصر الملكي، وتركت المدينة قاعًا صفصفا، وأطلالاً دارسة بعد أن كانت وحيًا للشّعر والخيال. ثمّ انطمرت المدينة تحت التّراب، ولمّا احتلّت قشتالة النّصرانيّة مدينة قرطبة سنة 1236م كانت الزّهراء قد نُسيت وانمحت ذِكراها. وكأنّي بالقدر ألهم المنذر بن سعيد فإستشعر مآل المدينة. فنطق شعرًا:
يا باني الزّهراء مُستغرقًا… أوقاته فيها أما تُمهل
للّه ما أحسنها رونقًا… لو لمّا تكن زهرتها تذبلُ
لم يُشرع في البحث عن الزّهراء إلاّ بعد أن تُرجم كتاب أحمد بن محمّد المقّرّي “نفح الطّيب من غُصن الأندلس الرَّطيب” إلى اللّغة الإنجليزيّة في بدايات القرن الـ20. وأنّ الّذي أكتشف إلى حدّ الآن لا يتجاوز الـ10% من حجم مساحتها.
أنهيت جولتي بين أسوار الميدينة، وبين جدران بيوتها تحت لفح الشّمس الحارقة، ثمّ عُدت إلى موقف الحافلة أمام السّور الّذي يحوي خزّان الماء الّذي كانت ترتوي منه ساكنة المدينة، ومنه تسقي جنانها، وركبت إلى قرطبة.
عندما وصلت إلى قرطبة كانت السّاعة قد تجاوزت الثّالثة بقليل، وكنت أنوي أن أصلّي الجمعة في مسجد الأندلُسيّين، غير أنّ الوقت فاتني، فآثرت اللّجوء إلى الفندق لأحتمي به من قيظ هذا اليوم، وأخفّف بعضًا من وعثاء ترحالي.
لم أذهب في تجوالي مساء هذا اليوم بعيدًا، ولم أفعل جديدًا، اللّهمّ إلاّ أنّي زرت الرّبض الجنوبي وراء قنطرة المدينة، ونافورة أبي العافية ثمّ عدتُ بعدها أدراجي فوق قنطرتها إلى مأواي.