من المحن التي تجتاح الأمم الغفلة عن عقولها المفكرة، سهوا أو نكرا واللهث خلف ظلال الأوثان المشيّدة بعرق العبيد ودماء الأحرار أحيانا.
بهذا المنطق البروميثيوسي تُشحن النفس بصخب الثورة الكافرة بكل طلاسم التهريج وتقديس الجهل على حساب طلائع أنوار المعارف، المنبجسة عن إكسير الذوات المفكّرة.
منذ سنوات قبرها تزاحم الأيام، وانثالت إلى ما وراء الورى كنت، وكان الحرّ في شهر الصيام، جلت والفضول رفيقي، اختلفت إلى مكتبات العاصمة، حتى إذا ولجتُ إحداها كان بواحد من رفوفها بعض نسخ من كتيب، عنوانه باللغة الفرنسية “تاريخ الأبجد منذ المنشأ إلى اليوم”، تفرست فإذا هو لصاحبه عبد الرحمن بن الحفاف (1881-1957).
تدافعت الخيلاء بذهني وتزاحمت، فتشت في حفريات التذكّر لعلّ تسعفني رواسب علقت بطمي قراءاتي السابقة، حتى أستخلصه لنفسي عن سبيل وساءلت بعض من رأيتهم ثقاة بمعرفة التراث عن الرجل، فعاد سؤالي حسيرا.
عكفت بعد تردّد وتوجّس أترجم مؤلفه السالف الذكر، وحسبه أنه كمن يغوص في لجج من معارف شتى، تاريخا، وحفريات وفقه لغة، ونحو، ولسانيات دَرَسَ بعضها وحُنط ومانع البعض الآخر فاستعصم.
غير أن الفضول استدرجني إلى البحث عن ترجمة ابن الحفاف، وإكتناه ما خطّ يراعه من مؤلفات، وما خاض من معارك في حقول معرفية يصّوب فيها ما حُرف، ويميط الخزّ عما تنوسي فيحييه، ويبدع فيما إنقدح لعقله الوقاد ليتعهّده بالاجتهاد والتدوين.
لكن باستثناء النزر القليل عما كتب عنه، وعن مسيرته العلمية، ومآثر أسرته الوطنية لم نقف على رصيد المعلومات التي تغطي مختلف جوانب حياته. لكن شفعت لنا مؤلفاته المعلومة الأربعة باللغة الفرنسية وهي:
1- مقدمة في دراسة الإسلام [نشر سنة 1921].
2 – تاريخ الأبجد منذ المنشئ إلى اليوم [نشر سنة 1948].
3 – منابع الحضارة الكونية [نشر سنة 1952].
4 – حواشي عن إصلاح القضاء [يُعنى بالمرأة] أسهم معه فيكتور سبيلمان، في تأليفه. فضلا عن مقالات متفرّقة، بما في ذلك تلك التي حرّرها لمجلة “الشباب المسلم” التي كان يديرها في خمسينيات القرن العشرين، الدكتور “أحمد طالب الإبراهيمي”، وبعض ما تفضّل به فقيد الجزائر وتاريخها “أبو القاسم سعد الله” عن هذا العالم.
إن من يتدبّر فكر الرجل في مؤلفاته تتبدى له موسوعيته ومنهجه العلمي وسلطة حججه وشجاعته في المنافحة عن قيم أمته الإنسانية، وفي مقدمتها نبي الرحمة “محمد صلى الله عليه وسلم”، باستنطاق الحكمة من لدن العلماء على اختلاف لغاتهم ومشاربهم، وانتماءاتهم العقدية والثقافية. إن في أثره ما يعزي النفس الشائقة لمزيد التروي والارتواء، فتقرأ عصره بين سطور يراعه، وبين ثنايا أفكاره، ومن خلال ملحمته الناعمة المؤتلقة بالقرائن العلمية في أدق الاختصاصات.
أسرة بن الحفاف
ينحدر عبد الرحمن بن الحفاف من أسرة عاصمية ذائعة الصيت في مجالي الفكر والثقافة والإفتاء على المذاهب الإسلامية الأربعة، وكذا الجهاد في سبيل عزة الجزائر وعتقها من لوثة الاحتلال الفرنسي الغاصب.
بل ورد ذكرها المأثور في أواخر عهد العثمانيين في الجزائر ضمن دوائر حملة الفكر والإفتاء عاصر والده الشيخ علي بن الحفاف (1809-1889) الأمير عبد القادر الجزائري، والتحق بصفوف من رابطوا على ثغور ثورة هذا القائد الفذّ “فارس السيف والقلم”.
فكان إلى جانب كاتب الأمير الشخصي “قدور بن رويلة” والخليفة “محمد بن علال” أصيل القليعة، الذي استشهد في منازلة جيوش المحتل الفرنسي سنة 1842.
هذا ونذكر بأن “أحمد بن رويلة”، ابن أخت على بن الحفاف، اعتقل عند سقوط زمالة الأمير بين أيدي العدو وكان سنّه 14 عاما، إلى جانب نجل “بن علال” خليفة الأمير عن مليانة، وفي ذلك ما يدل عن انصهار الأسرة في جهاد المحتل والتصدّي لمظالمه.
عاد المفتي علي بن الحفاف إلى العاصمة حوالي 1844، لمزاولة مهمة الإفتاء بها وبالبليدة، فألقى أملاكه وثروته، استولت عليها فرنسا وصادرتها، وأتلفت بعضها الآخر، فسعى إلى ترميم هذا الخراب، واستبسل عالما واعضا، ومدرسا إلى أن آتاه اليقين وما بدل تبديلا.
وإن من أوائل شهداء مجازر المحتل الفرنسي سنة 1945 في حق الجزائريين كان أحد أفراد أسرة بن الحفاف.
كما أن بيت هذه العائلة الماجدة بقصبة الجزائر، ظلّت قلعة لثورة التحرير، يأوي إليها الفدائيات والفدائيون بمن فيهم الشهيد الرمزّ “العربي بن مهيدي 1957”. كابد أهلها أهوال همجية المحتل ومجرميه أمثال الجنرال ماسي، وبيجار، والنقيب قرازني وجوهود، والنقيب ليجي..
التحصيل العلمي لعبد الرحمن بن الحفاف
تخرّج الطالب عبد الرحمن من المدرسة الثعالبية بعد أن أتقن العربية والفرنسية واللاتينية، وأخذ بطرف من اللغات القديمة، المسماة بالسامية، تبحّر في الأدب العربي والعالمي، وعلوم الدين الإسلامي والقانون، والتاريخ والعلوم الدقيقة، والطبيعيات وحتى علوم الحفريات، والإثنيات وما إليها.
شغل وظيفة “باش عدل”، مدة قصيرة، ثم ثار على سياسة الجور والاستبداد وخاصم رئيسه القاضي المرتشي، فاستقال إراديا، ليتولى مسئولية الإشراف على دار الحبوس بالجزائر العاصمة.
لم يكن اختياره لهذه الوظيفة اعتباطيا، إذ غدا بها حِلس مكتبة، وجليس كتب، وفضولي نهم، يعب من كل ما حوته الحبوس من وثائق ومؤلفات، ومآثر السلف والحدث، حتى فلحت نفسه بما يزينها، وتعبأت قواعده بالمعارف، وتفتّحت مداركه بمختلف ألوان الأفكار والاختصاصات في التأصيل والتحديث. عندها رسم لنفسه المعالم الكبرى لمشروعه الموسوعي.
انطلق بن الحفاف في رؤيته الكونية للمأثر الإنساني من المصادر والمتن، لعلمه بما قد لحق هذا الأثر من تحريف وتشويه على أيدي ما يعرف بمركزية الغرب على ما سواه من الأطراف، انكب في البدء على دراسة الإنجيل، أو الأناجيل حسب تعاقب واضعيها وشراحها حتى نخلها وأفناها، ثم انبرى لدراسة التاريخ المقارن للأديان.
وما اعتراه من تأويل ومطارحات واجتهادات، فوقف على بعض هرطقات المستشرقين، وما روّج له الكتاب والصحافيون بشأن الإسلام، من أباطيل لا عليمة، وإنما إيديولوجية، فأصدر مؤلفه “مقدمة في دراسة الإسلام” سنة 1921، وَشَحَ غلافه، جهبذ المنمنمات الفنان العالم، “عمر راسم”، أسوة بما أقدم عليه، الفنان “إتيان ديني” (1861-1930) دفين بوسعادة، هذا الذي أنفق حياته في خدمة الإسلام والتبشير به، بعد أن اهتدى بصدق سريرته لدين الحق، فخلد مسيرته الغرّاء بمؤلف تخير عنوانه “حياة محمد” ووشى غلافه برسوم من ريشته عبر فنّ التجريد المحض، المتسامي عن التجسيد الوثني.
مهر بن الحفاف كتابه هذا بحجج العلم، قبل أن يمهره بنفحة الدين، وجاء موضوعه من أبواب متفرقة.
ففضلا عن الاستشهاد بأكثر من متن عربي، أغناه بقراءة ما طفح به الإنجيل وبما دبجه ثقاة علماء المسيحية، والحانقين على حد سواء، فنزع اللّبس، ودمغ الباطل بالحق، فأبلغ وأفصح، حتى إذا خرج كتابه على الناس، شغل العقول، واستعذبته المهج.
جاء ردّ الفاتيكان بسخط يموج، محذرا المؤمنين من المسيحيين ألا ينساقوا وراء ما تضمن كتاب بن الحفاف. غير أن من الذين ناصروه، العالم الفرنسي الشهير:
– كريستيان شارفليس – [1858-1926] عندما وسمه بما يلي: “..إن بن الحفاف، رجل منطقي لم يهمل المعرفة، ولا الإحساس بلغة منشئه، هو مسلم مثالي وبالنظر إلى كل هذه الشمائل، يظل بالنسبة للإنسان الأوروبي، ولأبناء ملته جديرا بالتفكير والدراسة”.
من المفارقات أن “شارفليس” هذا العالم المؤمن الذي يعدّ صنوا “لأوغيست كونت” ودون أن يتعرّف إلى ابن الحفاف، تفضّل بتقديم كتابه سنة 1921، وأفاض بتقريض نوّه فيه بالكتاب وبصاحبه.
وقد ردّ ابن الحفاف جميل هذا العالم المنصف بعد أن توفاه الله بنص تهراق من عباراته آيات النبل والعرفان حيث قال: “إلى عزيزنا السيد “شارلفليس” الذي لم يعرفني شخصيا، وتفضّل مشكورا بمراجعة وبتقديم كتابي لم يعد اليوم من دنيانا”.
هذا الرجل الذي كان مبدؤه “فرنسا الإسلام” قد أفنى أعزّ أيام حياته في سبيل تجسيد أغلى أمانيه من خلال تشييد مسجد باريس، ولكن أوَاه، لم يسعفه القدر ليشهد تدشين إنجازه الأدهى في كل ذلك أن اسمه لم يذكر حتى في هذا اليوم الأغرّ. نعم ثمة أسرار يصعب التكهّن بها في الطبيعة. فإلى ذاكره ترتفع تكريمات كل مسلم وفاءً وعرفانا، ومني شخصيا إليه الشكر الأزلي “و داعا أيها المعلم”.
ثمّة دين على الباحثين الجزائريين، يستوجب الوفاء به، وذلك بضرورة تقدير وتثمين مواقف بعض من تجاسروا بكلمة حق، وبموقف شجاع في أوقات حالكة الظلام، أمام الغلاة، من أمثال “شارفليس” الذي اعتنق الإسلام عن علم وطهّر سريرته، واستمات في الدفاع عن حقوق المستضعفين ممن أهدرت نفوسهم، وديس على مقدساتهم، وسلبت أرزاقهم، الأمر الذي تداعت له نفس “إيتيان ديني” الفنان العالم والمسلم الصرف، لأن يهدي كتابه “الشرق بنظرة الغرب” للفقيد “شارفليس”.
تاريخ الأبجد منذ المنشئ إلى اليوم
هذا عنوان الكتاب الثاني لعبد الرحمن بن الحفاف، الذي نشره سنة 1948. لقد عثرنا على ما يؤكد أن فكرة الكتاب، انبجست لديه خلال محاضرة ألقاها باليونان، وباللغة العربية حوالي سنة 1913.
ثم تبحّر لاحقا في الموضوع، حتى بلغ تعداد صفحاته الثماني مائة صفحة، ولكن تعذّر عليه طبعه بهذا الحجم، وأشفق على قرائه منه، فاختزله دون ابتسار إلى حوالي المائة صفحة وبعض المزيد، ولكن ضمنه من التكثيف والتركيز والتدقيق. ما يضني القارئ المختص، أما عن تعريبه فضرب من الشنق، وهو ما حملنا على ترجمته بعناء وشقاء، ويصدق فينا بالقياس القرآني الشريف، مع حفظ التأدب والانصياع لسلطان الديان في قوله جلّ من قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. [الأحزاب:72]
ثورة بن الحفاف العلمية
قلب بن الحفاف منظومة المعرفة بتاريخ الأبجدية في الحضارة الكونية رأسا على عقب، فأبان بمختلف العلوم الوسيطة [الحفريات، التاريخ، الفلك، وفقه اللغة، علم الأديان…] أن الأبجد منشؤه بابل القديمة و رج له الفينيقيون فيما بعد.
فهاجر مع قواربهم إلى الآفاق الأربعة لكوكبنا، و كان الملك “كادموس” وأخته عروبا الفينيقيين، قد حملاه مع علوم وفنون ذلك العصر إلى ما يعرف بالقارة العجوز، فدأبت أوروبا تكتب بهذا الأبجد العربي من اليمين إلى اليسار، وتبدل لأسباب تقنية محضة، ليكتب من اليسار إلى اليمين، ثم عاد إلى حالته الأولى، إلى أن استقر له المقام بعد تحوير في شكله، ليغدو كما هو عليه اليوم مكتوبا من اليسار إلى اليمين.
وما “ألفا- بيتا -جاما..” إلا حروف عربية بابلية أشاعها عرب فينيقيا، بعد رحلة شاقة استغرقت قرونا من الزمن.
وأن كل لغات الدنيا تتشكّل من اثنين وعشرين حرفا وحسب، وكل ما زاد فيها، أو نقص عنها، إنما هي أصوات، والفضل فيها للعرب دون سواهم.
وقد اختص بن الحفاف علماء الغرب من الموضوعيين بأن أشهدهم على ما ذهب إليه من القول، حتى لا يتحيّز لعلماء الشرق، فتقوم عليه عواصف الانتقاد، وتنهال عليه معاول التشكيك والهدم. ثم قفى على هذا الكتاب بمؤلف آخر سماه “مصادر الحضارة الكونية” ونشره سنة 1952.
بسط بن الحفاف في هذا المؤلف معارف شتى، خصّ بها بابل وفينيقيا، ثم شمال إفريقيا، بما في ذلك بلادنا الجزائر، مرتجعا بحساب المقابلات إلى الحقب الغابرة موظفا الأرقام، معتمدا ما تجلى من الحفريات.. مستقصيا سحيق الأزمنة، وأجنّة الماضي السّرمدي.
قال عن موضوع بابل القديمة، في الفصل الأول من الكتاب، يَنسب التاريخ تشييد بابل إلى ملكين هما الأحدث في الزمن “نينوس” وسميراميس”، قبل ألفي سنة (2000) عن ميلاد المسيح، وهو أمر خاطئ بلا شكّ، يمكن أن نعزو لهما إسهامات تتعلّق بترميمها وتوسعتها وإتحافها، أما أمر بنائها فمستحيل.
ومرد ذلك إلى وجود تواريخ عديدة سابقة عن حكم هذين الملكين، تؤكد يقينا عراقة المدينة، هذا فضلا عن كون العلم والفلك سابقين عن عهدهما، بحيث إن مواقع الرصد الفلكي يشهد بها التاريخ في المدينة (بابل)، ومن ثمّ لا يصح القول، بأن هذه المواقع أنشئت قبل تشييد المدينة”.
يقيّم بن الحفاف الحجة عن التاريخ بعلم الحساب، باعتبار الحساب القرينة المعيارية الأكثر يقينية، فيذكر أن الإسكندر الأكبر المقدوني” غزا بابل سنة 331 قبل الميلاد، وأن جنراله “كاليستان” أرسل إلى الفيلسوف اليوناني الشهير”أرسطو” ألواحا عن المشاهدات الفلكية للبابليين، تعود إلى 1903سنة قبل تاريخ331، (علما أن هذا الفيلسوف كان معلم ومستشار الإسكندر).
ثم يقيّم بحسابات بينية تحديد التاريخ الصحيح كما يلي: 301 + 1903 = 2234 + 1945= 4179 سنة.
نشير إلى أن إضافة رقم 1945 م، هو تاريخ كتابة هذا المؤلف، الذي سينشره صاحبه بعد سبع سنوات أي سنة 1952.
ليس هذا فحسب، إذ يذكر المؤلف أن “ساراغون” الأقدم، وهو من مشاهير ملوك بابل، قد حكم منذ 3800 ق م، وعليه يمكن تقييم هذا التاريخ قديما وحديثا، بعملية حسابية بسيطة كما الآتي: 3800 + 1945 = 5745
وحتى لا نجاري استنتاجات بن الحفاف في كتابه، نتوقّف عند تاريخ رآه الكاتب جديرا بالتصديق عن عراقة بابل، مفاده عشرة آلاف سنة (10.000) ق.م، مضاف إليها تاريخ عهد الكاتب 1945 سنة، لنحصل على مجموع رقم 10.000 + 1945 =11.945.
وأن تاريخ هذه المدينة ذات الحدائق المعلّقة قد يغور أكثر في الماضي، وهو السبب الذي ملك على الإسكندر الأكبر نفسه، ليتخذها مع أسرته مقاما له حتى وفاته، بعد أن غزا أرجاء العالم وركّع متساكنته قهرا.
من بين ردود بن الحفاف المفحمة على أشباه العلماء، من الذين يؤجرون فضائل العلم لأغراض عنصرية باسم الإثنية العرقية واللسانية، والتمايز بين البشر على أسس التنميط الكاذب بين شعوب راقية، وأخرى منحطة، وهي بعض ما مارسته مؤسسات الدولة الفرنسية، ضد الجزائريين لأغراضها الاستعمارية الهيمنية المقيتة.
يقول في الفصل الثالث من هذا الكتاب بعد أن عاد الكاتب إلى جذور بعض الكلمات الدالة على العرق والإثنية في اللاتينية والعربية، مبينا مأتاها ومدلولها، فأكد بأن “كلمة عرق “راس” باللاتينية، لا وجود لها في العربية، إذ في كل بلد أو تجمّع سكاني يتكلم أهله لغة نفسها، هي من إنتاج الأرض التي يعيشون عليها.
غير أن الكبر (العجرفة)، هو من ابتدع كلمة العرق بمعنييه الرفيع و الدنيء”، ويستدل على ذلك ببعض آراء كبار علماء فقه اللغة واللسانيات الغربيين، وهذا لدحض آراء من يتجلببون بمعطف العلم لتبرير تراهة العرقية، من أجل أهداف سياسية ونفعية وعدائية تجاه الآخر، وهو دأب الاستعمار الغربي، الذي تفنّن في تنميط الشعوب على أسس عدة من التمييز العنصري.
يستشهد بن الحفاف بالعالم “جوليان هكسلي” في قوله: “إن هذه الوضعية المؤسفة، نراها تختص بالعرق، إذ ثمّة مجال واسع لشبه العلم البيولوجي العرقي جرى الترويج له، وما هذا الأمر إلا تبريرا لطموحات سياسية، ولأغراض اقتصادية، وبسبب أحقاد اجتماعية، ومغالطات عرقية”.
اعتقد وثوقا، أن ما في هذا الكتاب وغيره من آراء لابن الحفاف، ما يمكن أن يبلور العديد من الإشكاليات التي يساء طرحها اليوم في شأن الهوية، واللغة واللهجات في بلادنا، وفي منطقتنا وبالعديد من البلدان المتخلفة تحديدا، التي لم تنتبه إلى حقول الألغام الذهنية والثقافية، التي دسّتها الكولونيالية المعرفية، وغلفتها بمسوح العلوم الزائفة المفبركة على المقاس.
وأن لنا كذلك في آراء ومواقف المفكر السياسي والإيديولوجي، والمناضل الشجاع “عمار أوزقان” ما يميط اللثام عن مفاسد الاستعمار الفرنسي، وتلاعبه بهوية الجزائريين، ويا ليت من يتنابزون اليوم بالألقاب بألقاب، يعودون إلى آراء هؤلاء المرابطين على فلول الحق، أيام العسر والمظالم، يدرؤون المكاره عن الوطن في وحدته الترابية، والشعبية والعقدية والمصيرية، من أمثال بن شنب، وابن الحفاف وأوزقان، وبن نبي، والدكتور الخالدي، والشريف ساحلي، و محند طازروت، ولفيف كبير من أخيارنا، عدا غيرهم في جمعية العلماء المسلمين، وعديد المفكرين الأحرار والمجتهدين الكثر.
وفاة بن الحفاف
توفي العلامة “الشيخ عبد الرحمن بن الحفاف” بعاصمة الجزائر، خلال أعنف مراحل ثورة التحرير المباركة ومقارعتها لدولة الاحتلال سنة 1957، بعد أن عاش ستا وسبعين عاما (76) مرابطا على ثغور المعرفة الحقّة وما بدّل تبديلا، وقد مشى خلق غفير في جنازته، علت فيها التكبيرات والدعاء للراحل العظيم، حتى صمّت آذان المحتلين الذين يعلمون أن المسجى في تابوته، قد دكّ إسفينا في نعوشهم المؤجلة إلى حين، قبل أن يأتيه اليقين.تلك بعض من مآثر الرجل العالم المنتظر إحياؤها قاطبة.