في هذا الحوار الذي خصت به الكاتبة أمل بوشارب “فواصل” نرحل معها إلى عبق مدينة دمشق، حيث نشأت ثم نسافر معها إلى مدينة الجزائر بتراثها وتاريخها العريق، ومنها إلى مدينة توران أين تعيش جزائريتها بامتلاء في كل لحظة من حياتها.
تحدثنا صاحبة “عليها ثلاثة عشر”عن دور ذلك الرجل الرائع الذي صقل موهبتها وحولها مع تلك المرأة النبيلة والراقية إلى امرأة شغوفة جدا بالكتب، رحلة هذه الروائية المتيمة بالكلمات تكشف لنا عنها من خلال أسئلة طرحناها متعلقة بالنسوية التي ترى أنها انتقلت ابتداءً من موجتها الثانية إلى مدارات انقلب فيها السّحر على الساحر.
وتحدثنا أيضا عن سبب اختيارها خوض غمار الكتابة البوليسية وأدب الخيال العلمي. وترى أمل بوشارب أن الأدب مهمته الإضاءة على مشاهد مفصلية من الواقع لأجل تفكيك علاقات الهيمنة. وتتحدث كيف اشترت الرأسمالية الزمن فأصبح الناس يعملون تحت ضغوط لم يعيشوها من قبل حتى يتمكنوا من شراء ما أمكن من الأشياء التي لا يحتاجون إليها، وتطرقت أمل بوشارب إلى دور المثقف وأهمية اللغة .
أمل بوشارب كاتبة ومترجمة جزائرية، ولدت يوم 8 أكتوبر 1984 بدمشق في سوريا، متخرجة من قسم الترجمة بجامعة الجزائر.
حاصلة على ماجستير في الترجمة تخصص عربي ـ إنجليزي ـ فرنسي. درست اللغة الإنجليزية بين عامي 2008 و2014 في قسم اللغة الإنجليزية بالمدرسة العليا للأساتذة آداب وعلوم إنسانية ببوزريعة في الجزائر.
أشرفت بين 2013 و2014 على رئاسة تحرير مجلة أقلام الصادرة عن اتحاد الكتاب الجزائريين. لها مساهمات نقدية منشورة في صحف ومجلات في موضوعات الترجمة والأدب، بالجزائر والوطن العربي، وتكتب باللغتين العربية والإيطالية.
اعتبرت كتبها من الأكثر مبيعا في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر في دورته العشرين. مع صدور روايتها “سكرات نجمة “عن منشورات الشهاب.
وظفرت روايتها “ثابت الظلمة” الصادرة عام 2018 عن منشورات الشهاب في إطار اللقاءات الأفرو-متوسطية للكاتبات الشابات بإقبال وصف بغير المسبوق. واعتبرتها الصحافة الجزائرية رواية صنعت الحدث في الدخول الأدبي لعام 2018 .
شكلت روايتها سكرات نجمة موضوع لرسائل ماستر في جامعات جزائرية مختلفة بين 2015 و2018. ووصلت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة محمد ديب الأدبية عام 2016 وجائزة آسيا جبار للرواية عام 2015.
أما روايتها الثانية “ثابت الظلمة “فوصلت للقائمة القصيرة لجائزة يمينة مشاكرة للرواية النسوية عام 2019.
كرّمت الروائية أمل بوشارب في الملتقى الدولي للرواية عبد الحميد بن هدوقة عام 2016 من طرف وزارة الثقافة الجزائرية. كما حصلت على جائزة مزغنة للإبداع الأدبي من إتحاد الكتاب الجزائريين عام 2013. وجائزة القصة القصيرة في المهرجان الدولي للأدب وكتاب الشباب عام 2008
ومن بين أعمالها الأدبية “عليها ثلاثة عشر” وهي مجموعة قصصية وصدرت عام 2014 عن منشورات الشهاب، ورواية سكرات نجمة” عام 2015 عن منشورات الشهاب.
وصدرت لها أيضا قصة للناشئة “من كل قلبي” سنة 2016 عن المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار والاتصال. ورواية “ثابت الظلمة ” عام 2018 عن دار الشهاب.
وترجمت المجموعة الشعرية “أشرطة كاسيت أزنافور “للشاعر الإيطالي نيكولا غراتو “وصدرت حديثا عن “ضمة “و صدرت لها رواية مؤخرا تحمل عنوان ” في البدء كانت الكلمة ” عن منشورات الشهاب. أما باللغة الإيطالية فصدرت لها قصة “الرائحة ” عام 2018 عن دار النشر الإيطالية بونديا بوكس وقصة “المتمردة “عام 2019 عن نفس الدار .
للمدن سحرها وعبقها الذي نحمله معنا، ولدت في مدينة دمشق، ما الذي بقي عالقا اليوم في ذاكرتك عن تلك المدينة ؟
عطر الياسمين الدمشقي في حديقة جدَيّ، رائحة التفاح الأخضر، ليالي الصيف العذبة… وتاريخ عريق موشوم في أصغر تفصيل الحياة الدمشقية.
وبالنسبة لـ “المحروسة ” كيف تقاوم أمل بوشارب سحرها في المهجر؟
شخصيا أؤمن أن المرء هو امتداد للثقافة التي نشأ فيها وللصور التي أثثت يومياته في الصّغر، نحن نفعّل كل يوم ذواتنا من خلال ما تشرّبناه في أوطاننا من قيم سواء كنا نعيش في داخلها أو خارجها. لا أشعر بصراحة أنني أعيش في “المهجر” لأنني أعيش جزائريتي بامتلاء في كل لحظة من حياتي.
“الأدب مهمته الإضاءة على مشاهد مفصلية من الواقع لأجل تفكيك علاقات الهيمنة والتحول لأداة مقاومة على طريقة المرآة العاكسة التي قد توقد شرارة ما إذا إستمر تركيز الطاقة على النقطة البؤرية المراد “إشعالها“.
كان لمكتبة والدك والتي احتوت العديد من الكتب في ميادين معرفية مختلفة أثر بالغ في صقل شخصيتك اليوم كامرأة شغوفة بالكتب، كيف تصفين علاقتك بوالدك ؟
علاقتي بوالدي علاقة خاصة جدا، إنه مرجعيتي في كل شيء. هو من زرع في نفسي قبل حب الكتب قيماً إنسانية أحتكم عليها في كل مناحي حياتي. ومنه انتقل إليّ شغفه الشديد بالكتب الذي طالما شكل بالنسبة له أسلوب حياة.
هل شكلت والدتك أيضا مصدرا لهذا الشغف الأبدي للكتب؟
والدتي هي بوصلتي الأخلاقية الأولى، جراحة أسنان طالما مارست عملها بإنسانية تماما كوالدي الذي لم يعتبر الطب يوما مهنة بل رسالة.
أمي امرأة فيها من الرقي والنبل ما يجعلها كتلة متنقلة في الإنسانية. في الأدب كنت أراها وأنا صغيرة تقرأ روايات دافئة إنسانيا كروايات حنة مينة، كما كانت ولا تزال من عشاق لطائف كتب التراث، الأغاني والعقد الفريد والحيوان، وكلها كتب كانت ولا تزال تزين بشموخ مكتبة منزلنا.
من بين الكتب التي قرأتها من مكتبة والدك، ما هو أكثر كتاب جذبك ولماذا؟
“الأم” لمكسيم غوركي، وجدانيا لا يمكنني تفسير الشحنة التي بثتها في نفسي هذه الرواية العظيمة. “الإستشراق” لإدوارد سعيد، أول كتاب فتح عينيّ على الزّيف الذي يكتنف هذا العالم.
في مجموعتك القصصية “عليها ثلاثة عشر “الصادرة عن منشورات الشهاب في 2014، وفي قصة (تواضع فكري) تطرحين علاقة الطالب بالأستاذ، ففي القصة تشعر الأستاذة الحاصلة على شهادة الدكتوراه في أوروبا بأنها أكثر كفاءة وتقدما من طلابها، ففي القصة تستخدم الأستاذة عبارات التعالي: (أنتم هنا ونحن هناك )(أنتم هنا انقطعت علاقتكم باللغة لأكثر من قرن …)(رسالتك ستتضمن ترجمة عدد معين من الصفحات من أي كتاب أجنبي وتعليقا بسيطا عليها … هذا كل شيء …لن تكون لديك إشكالية، بل ستكون لديك حتما مشاكل في اللغة… هل ترين أن على الكاتب نقل الواقع الاجتماعي ؟
بالتأكيد، هذه القصة بالتحديد تتناول ملمح سوسيولوجي مرتبط بالتركة الكولونيالية وما تركته من مخلفات على نفسية “التابع” بتعبير غاياتري شاكرافورتي سبيفاك.
الأدب مهمته الإضاءة على مشاهد مفصلية من الواقع لأجل تفكيك علاقات الهيمنة والتحول لأداة مقاومة على طريقة المرآة العاكسة التي قد توقد شرارة ما إذا استمر تركيز الطاقة على النقطة البؤرية المراد “إشعالها”.
ترسمين في قصة (سيجارتها) و(سمراء) و(ثورته”ن”) شخوصا تكشف عن تمرد المرأة ورغبتها في إثبات ذاتها خارج المجال الخاص ورغبتها في اقتحام المجال العام، مجال الرجل على حد تعبير حنة أرندت، هل تعتقدين أنه لا وجود لهذا التقسيم للمجالين بين المرأة والرجل؟
شخصيا أرى أن النسوية انتقلت ابتداءً من موجتها الثانية إلى مدارات انقلب فيها السّحر على الساحر حين زجت المرأة نفسها ضمن ثنائية ضدية وصراع أبدي مع الرجل كأنه الصراع الجوهري بين الخير والشر، وأصبح فيه الرجل هو النقطة المرجعية لقياس مدى تساوي طرفي المعادلة.
هذا عدا عن أن التصورات “الميتافيزيقية” والتنظيرات اللاعقلانية عن الألوهية النسوية مقابل فكرة الدونية النسوية القروسطية والتي انتهت بمقاربات متطرفة، أدت للأسف لتقويض منجزات نسوية الموجة الأولى التي لا يمكن لأي شخص أن يجادل في رصانتها ومشروعية مطالبها.
نسويات قصص “عليها ثلاثة عشر” يندرجن ضمن فئة نسوية الموجة الثالثة اللواتي ضيعن البوصلة كليا، ووصلن للتماهي في بعض القصص مع الرجل في انقلاب سريالي على ما يفترض أنه صميم الفكر النسوي وهو ما يفسر التخبط الإيديولوجي الذي تعيشه النسوية كحركة عالمية في السنوات الأخيرة، والتي أرى أنه من الملحّ تجاوزها بخطاب بعد نسوي نضمن من خلاله على الأقل الحفاظ على مكتسبات الموجة الأولى لهذه الحركة.
تعد قصة “أحلام بلهاء ” من أكثر قصص مجموعتك “عليها ثلاثة عشر “إثارة”، حيث تصفين ذلك الجانب في الأنثى والذي ارتبط بها، حبها وعشقها للتسوق. فبطلة القصة طالبة جامعية لا تكترث كثيرا للدراسة والبحث العلمي. وهمها أثناء المحاضرات هو التفكير في زيارة مركز تجاري لاقتناء أحذية جديدة وملابس فاخرة ومجوهرات، ألا تعتقدين أن هذه الصورة النمطية عن المرأة بأنها هي فقط من دون الرجل من يهتم بالتسوق هي من بين الصور التي تدعم التفاوت بين المواقع الاجتماعية للنساء والرجال وتضفي عليها السمة “الطبيعية “؟
هذه القصة تطرح عيوب المجتمعات الاستهلاكية وتحوّل النساء إلى ضحايا نظام اقتصادي لا يمكن لأحد أن ينكر أن المرأة هي الأكثر المتضررين منه.
الأمر لا يتعلق بصورة نمطية وإنما بإحصاءات على الأرض تشير أن النساء هن الأكثر إنفاقا على منتجات استهلاكية محددة بسبب بنية اقتصادية حولت النساء إلى آلة استهلاكية شرهة يفضل أن تكون منتجة أيضا (أي منخرطة في سوق العمل) حتى تتمكن من صرف راتبها على منتجات بلهاء تصنعها الأسواق الرأسمالية.
أي محاولة لإغماض أعيننا عن هذا الواقع بحجة تجاوز “الصور النمطية” لا يحولنا سوى إلى متورطين في تكريس نظام اقتصادي جائر ويصيّرنا لأنصار تحرر شكلي لا يرمي سوى لتحريك عجلة سوق متوحشة.
“علاقتي بالجزائر وأنا في إيطاليا. شعور عميق بالارتباط والعرفان لثقافة صنعت مني ما أنا عليه هو ما دفعني لإصدار أرابسك مع دار نشر Puntoacapo. العدد الأول من هذه السلسلة غني بالجزائر في مختلف أبوابه: باب الفن والقصة والرواية والتراث والحوارات كانت اختياراتي لها جزائرية بالكامل”.
في قصة “غانيات ” ترسمين واقعا مريرا عن الجامعة اليوم، عزوف الطالبات عن الدراسة واهتمامهن أكثر بالإثارة في حين أن الأستاذة تتعب لتحضر الدروس لإلقائها عليهن ويصل الأمر بالأستاذة لأن تقرر بأن تكف عن إمدادهن بمعلومات حتى تعودهن على البحث بأنفسهن، وفي القصة الأستاذة هي أيضا ترغب في أن تكون امرأة أكثر جمالا وتسعى إلى ذلك، هل المرأة حائرة بين الأمرين؟
هذه التفاصيل التي أثثت الكثير من القصص تعيشها كل النساء اليوم بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة، والتي كما ذكرت آنفا وجدت المرأة فيها نفسها هي الضحية الأبرز بغض النظر عن خلفيتها العلمية، وذلك بسبب السياسات الاقتصادية والإعلامية التي تستهدفها بالدرجة الأولى، حيث أنني في قصة “غانيات” أعود لتفكيك النمط الرأسمالي الذي سلّع معايير الجمال، وحولها إلى محض معادلة تجارية.
بالرغم من أن رواية “سكرات نجمة ” هي رواية عن تاريخ الجزائر وتراثها الممتد إلى آلاف السنين، حيث اجتهدت في هذا النص على تبيان ذلك، إلا أنك اخترت أن تكون رواية بوليسية، لماذا وقع اختيارك على هذا النوع الروائي ؟
لأنني أردته أن تأخذ إطارا “شعبيا”، أردتها رواية لكل من يود أن يستمتع بالقراءة كفعل أيا كانت مستوياته. بناءُ نص يراعي مستويات القراءة المتعددة كان ولا يزال هو التحدي الأكبر بالنسبة لي، لأنني لا أؤمن بأن على الرواية أن تأخذ شكلا نخبويا صرفا من شأنه أن يقصي أي قارئ حتى إن كان هو قارئ الأدب البوليسي المتهم بالخفّة.
يقول فيليب كوركوف في كتابه “الرواية البوليسية :فلسفة ونقد اجتماعي:”الرواية البوليسية تساعد القارئ في حل السؤال الجوهري:هل لحياتنا معنى في خواء العالم الحديث الذي نعيشه؟
تماما، لكن برأيي علينا أن نراعي فارق الثقافات في تقييم الأثر الذي تتركه الروايات في مقاربة الأسئلة الوجودية. لا أعتقد بصراحة أن الرواية في العالم العربي ولدت للإجابة عن أسئلة الفلسفة. الثقافة العربية بمرجعياتها الراسخة تمنح للقارئ إجابات وافية لا أزعم شخصيا أنني أقدر على مقارعتها ولا حتى أي روائي عربي آخر.
وعلى الروائي العربي أن يدرك ذلك حتى لا يعيش موهوما لوقت أطول بفكرة أنه آخر فلاسفة الشرق. بالنسبة لي الرواية البوليسية وروايات الثريلر بالمطلق تمنحني أدوات تتماهى مع الرغبة الفطرية للإنسان لتحفيز الأدرلانين، ورفع روح التحدي داخله للخروج من خيوط متاهة حبكة معقدة والوصول في النهاية إلى الحل.
لحظة الإثارة هذه هي ما أرغب في التقاطه من أجل تحفيز القارئ للتجرأ على مقاربة حبكات أخرى تلف العالم والخروج من متاهات أشد تعقيدا في الواقع. الرواية البوليسية ببنيتها المضبوطة رياضيا أجمل ما فيها هو الحل الذي تقدمه في النهاية، عكس الروايات التي لا تنطوي على بنية نصية يقينية، بداية واضحة أو نهاية محددة. لذلك تبقى الروايات البوليسية في الغرب هي الأكثر مبيعا لأن القارئ متعطش للإجابات اليقينية.
وهي رغبة فطرية يشترك فيها معه القارئ العربي مع اختلاف بسيط هو أن القارئ العربي لا يعيش هاجس العبثية والخواء في تفاصيل حياته اليومية بالعمق الغربي.
في رواية “سكرات نجمة “بعد أن يتنقل المحقق إبراهيم إلى مكان الجريمة للوقوف على ظروف مقتل الرسام “إلياس ماضي “، تثير فيه جثة القتيل الكثير من المشاعر المتناقضة :السكينة … الطمأنينة … الهول … الفجيعة … هل أمل بوشارب أيضا تريد للقارئ العربي أن يطرح أسئلة وجودية في طابع فلسفي عن معنى الحياة والموت ؟
كل الروايات هي روايات محفوفة بأسئلة الوجود المتناقضة، وهي تحاول بشكل أو بآخر تحفيز القارئ على التأمل في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة. الرواية هي أشبه ببوتقة مصغرة عن هواجسنا. وبرأيي براعة الروائي في عصرنا الحالي تكمن في عدم تحويل عمله إلى دروس فلسفية مباشرة.
ذكرت في روايتك “سكرات نجمة رموزا ثقافية في اللباس مثل ” الحايك ” هذا اللباس التقليدي العاصمي والذي لم يعد ضمن تشكيلة ألبسة المرأة الجزائرية اليوم، من خلال وصفك لقطعة “لعجار” في الرواية حين تقف “يما مريم “أمام العجوز الغامضة، وتتذكر ارتدائها للحايك في شبابها، نلمس أنك معجبة بهذا اللباس التقليدي، وذكرت أيضا في روايتك ” الأخيرة “في البدء كانت الكلمة ” ألبسة أخرى تقليدية: الكراكو والقفطان من خلال شخصية زوجة المحقق سليم، هل تحبين الألبسة التقليدية ؟
الألبسة التقليدية جزء من التراث المادي لأي شعب. التأثيث الأنثروبولوجي لبعض النصوص الروائية الراسخة في ثقافة المكان هي إحدى أدوات رسم الشخصيات. هل أحب عن نفسي الألبسة التقليدية؟ بالتأكيد، فهي تحمل كل تفاصيل التاريخ الحضاري للشعوب. لكن حتى إن كان الجواب لا، فهذا لا يعني أن ألغيها من خزانة الشخصيات التي أكتبها، بما أنها تشكل انعكاس لثقافة حية وفاعلة.
نجد في روايتك أيضا الكثير من الرموز الثقافية المتعلقة بالطعام خاصة الكسكس الذي يعد الطعام المميز لسكان شمال إفريقيا والذي يكنى عنه بلفظ “أوتشو “بمعنى الطعام بصفة عامة، وصورته فعلا في الرواية على أنه رمز لعالم الثقافة والجماعة البشرية القائمة على قيم التضامن والتحالف والتعاون. ففي الرواية “تخرج “يما مريم ” جفنة من الكسكسي صدقة على روح والد إلياس والذي حملها بنفسه إلى جامع الحي، وهناك رموزا أخرى ثقافية في الطعام مرتبطة بالتزواج الثقافي بين العرب والأمازيغ خلال الفتح الإسلامي ثم انتقالهم إلى الأندلس وعودتهم بعد سقوط غرناطة، ما هي الثقافة في رأيك ؟
الثقافة هي ابنة كل هذه التفاعلات الأنثروبولوجية التي أشرت إليها، هي ما يبقى من تاريخ الشعوب بمختلف تعرجاته، وما يرسخ في يومياتنا البسيطة منها والمعقدة. هي أسلوب حياتنا الذي ينعكس في أنماط التغذية، اللباس، التفكير وهو كل ما يصنع منا ما نحن عليه حتى من دون أن ندرك عمق كل الطبقات التي تنحت باستمرار هويتنا.
نلمس من خلال روايتك اليوليسية الأولى “سكرات نجمة ” والثالثة “في البدء كانت الكلمة” أنك تجاوزت بعض القواعد الكلاسيكية للرواية البوليسية، هل كان ذلك ضروريا من أجل التجديد في هذا النوع الأدبي؟
لا أعتقد أنني أتعمّد التجديد أو افتعاله وأنا أكتب الرواية. الحبكة تفرض نفسها وشكل الشخصيات يفرض انعطافات معينة في تقنيات السرد ولغة الرواية، وهو أمر يطلق عليها النقاد اسم تجديد، ولكنه ليس إلا انعكاس طبيعي لواقع مجتمعي غير ثابت ومتجدد، يفترض بالروائي مجاراته بشكل تلقائي إن كان يجيد الاستماع لنبض التغيرات المجتمعية ويصيخ السمع لما يدور حوله.
“اللغة تسهل التغلغل في أي ثقافة وتمنح المرء الشعور بالثقة وهو يحفر داخل أي مجتمع. أما “الغربة” فهي كلمة لا تنتمي لسبب ما لقاموسي. أعتقد أن الغربة شعور ذاتي بالدرجة الأولى لا يرتبط بالانتقال من الأماكن”.
اعتبر الناقد الجزائري محمد الأمين بحري روايتك “سكرات نجمة ” رواية تأسيسية في المتن الجزائري والعربي من حيث اعتمادك على تقنيات لم يتم التطرق إليها ورأى أن” سكرات نجمة ” بمثابة براءة ابتكار لك في هذا الجنس، وأن عملك مكون بنيوي جديد في مسار الرواية البوليسية الأدبية، كيف تنظرين اليوم إلى روايتك “سكرات نجمة ” بعد إصدارين روائيين آخرين؟
أنظر إليها كعمل كتبته بعد تراكم قراءات مكثفة، والمرور بتجارب حياتية هامة. الأكيد أنني كنت محظوظة بأن العمل تقاطع مع مشروع نقدي لأحد أبرز النقاد في الجزائر كالدكتور محمد الأمين بحري وهو ما ساعد في الإضاءة عليه. بالإضافة إلى أن اكتظاظ المشهد الأدبي حينها بالكتابات الشعرية أو السرديات التي تدور حول معاناة المثقف في العشرية السوداء ساهم في إظهار تميز الرواية واختلافها.
في روايتك الثانية “ثابت الظلمة ” نجد أمل بوشارب تتمنى أن تعود الذات الجزائرية إلى العقل والمعرفة لتمتلك قوة حقيقية ولتحقق النهضة، ففي الرواية نجدك تهتمين بثنائية: الفكر والمادة والأنا والآخر وثنائية القوة والضعف، هل تؤمنين بأن المثقف الملتزم بقضايا وطنه يجب عليه أن يواصل في هذا الطريق وأن لا يستسلم ؟
أؤمن جازمة أن المثقف لا ينبغي أن يكون انهزاميا، ولا أن يكون انعكاسا لأي فلسفة استسلامية.الروائي قد يجد نفسه يصوّر كل فئات المجتمع المنكسرة منها والمنبطحة والخاضعة، قد يشعر أنه هو نفسه تلك الروح الشاردة التي لا مبرر لوجودها في هذا العالم، لكن الكتابة هي بحد ذاتها فعل مقاومة، لذلك من العبثي أن نخوض في فعل جريء كهذا بعقلية الخاسر، والاكتفاء فيه بدور الضحية.
وظفت في روايتك “ثابت الظلمة” الكثير من النصوص الفلسفية الحوارية لأفلاطون لتؤكدي على عمق مأزق الفكر الجزائري والعربي ككل، لكن أفلاطون كان من أشد الفلاسفة اليونانيين اللذين أقصوا المرأة ففي محاورة (الجمهورية ) لم يدع إلى تحرير المرأة، أو إلى مساواتها بالرجل، فهو يعبر بالعكس عن احتقاره للمرأة ويضعها ضمن ممتلكات الرجل، فلماذا اهتمامك بفكر فيلسوف لم يدع إلى تحرير المرأة وربط بينها وبين انحطاط الحكم؟
مبدئيا لست من أنصار أي فكر راديكالي يدعو لإلغاء النصوص على أساس اختلافات أيديولوجية. مؤخرا طالب ناشطون في أمريكا بإلغاء نص الأوديسة لهوميروس من المقررات الدراسية لأنها تمثل نصا ذكوريا، وقبلها هناك من طالب بتحطيم تماثيل تاريخية في أمريكا لشخصيات وصفت بالعنصرية. رأيي في الأمر أنه مؤشر على انهيار وشيك للحضارة الغربية.
مشكلات العالم لا يتم حلها من خلال إلغاء التراث الإنساني. من الطبيعي أن يمر الفكر بتطور على مر العصور، بعد قرنين من الزمن سنُتَهم نحن أنفسنا من الأجيال اللاحقة بارتكاب فظاعات لا نشعر بها الآن.
أطفال يتم استغلالهم في التمثيل وبرامج المواهب والإعلانات التلفزيونية؟ لا أرى شخصيا الأمر مقبولا. ولا يبدو أن هناك من يندد به، هل ينبغي للأجيال اللاحقة أن تلغي نصوصنا لأننا لم نخرج في مظاهرات يومية لحماية الأطفال مما يحدث من تلاعب بهم في وسائل الإعلام؟ نحن نعيش لحظة تاريخية لم يحدث فيها الزخم اللازم لنسن فيها تشريعات محددة، هذا من جهة.
من جهة أخرى وعدا أنني لم أقدم أفلاطون كنبي منزّه في الرواية، فإن محاورته التي شكلت مرجعية هامة لثابت الظلمة (كريتياس) هي النص الوحيد في التاريخ الذي تحدث عن جزيرة أطلانطس التي اتكأت عليها الحبكة لذا كنت أوظفه لخدمة نصي في جميع الأحوال !
بدأت طريقك في الكتابة الإبداعية بالقصة القصيرة ثم ولجت عالم الرواية، أين نصيب الشعر في كل أعمالك؟
التنقل بين القصة والرواية هو تنقل في عوالم سردية لها أدوات محددة أزعم أنني مُلمّة بها لحد كبير، أما الشعر فهو عالم آخر له أدوات مختلفة، ومزاج محدد في الكتابة لا أعتقد أنه يلتقي مع مزاجي. لكن بحكم كوني مترجمة محترفة فإن الشعر دخل ضمن مشاريعي الترجمية في السنوات الأخيرة، دون أن أن يتسلل إلى أساليبي التعبيرية كنسق مستقل ولا أعتقد أنه سيفعل.
تخوضين تجربة تحرير مجلة (أرابسك ) الإيطالية لتقديم الثقافة العربية للقارئ الإيطالي حدثينا أكثر عن هذه التجربة ؟
ربما هذه التجربة هي ما قد تجيب عن سؤالك السابق حول علاقتي بالجزائر وأنا في إيطاليا. شعور عميق بالارتباط والعرفان لثقافة صنعت مني ما أنا عليه هو ما دفعني لإصدار أرابسك مع دار نشر Puntoacapo. العدد الأول من هذه السلسلة غني بالجزائر في مختلف أبوابه: باب الفن والقصة والرواية والتراث والحوارات كانت اختياراتي لها جزائرية بالكامل.
لذلك عمدت أن ترافقني المترجمة والباحثة الإيطالية يولندة غواردي في هذه الرحلة وهي المتخصصة الوحيدة في إيطاليا بالأدب والثقافة الجزائرية، وقد وقّعت للمجلة مقالا قيما عن البوقالات الجزائرية، الناقدة الفنية فلافيا مالوساردي قدمت للقارئ الإيطالي التجربة الفنية الفذة لباية محي الدين، وفي باب الحوارات حاور باولو غونزاغا الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، باولا روسي من جهتها حاورت الروائي الإيطالي البارز ماسيمو كارلوتو الذي تحدث عن زيارته للجزائر وروايته الشهيرة “مسيحيو الله” التي تدور أحداثها في العاصمة.
في باب السرد ترجمت سارة لامبيرتي قصة غير منشورة ليوسف بعلوج، وفي الرواية قدمنا ترجمة لفصل من رواية “الديوان الاسبرطي” لعبد الوهاب عيساوي. وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه للثقافة الجزائرية التي غالبت ما تسقط من خيارات البحث والترجمة للمستعربين الإيطاليين، والتي أحاول من خلال “أرابسك” أن أضعها في واجهة المشهد، رفقة الآداب العربية الأخرى لأن الجزائر الزاخرة بتاريخ ثقافي عريق تستحق المضادة والتقديم.
صدرت لك مؤخرا عن منشورات “ضمة “بالجزائر ترجمة للمجموعة الشعرية “أشرطة كاسيت أزنافور “للشاعر الإيطالي نيكولا غراتو، الذي يبحث في مفهوم “الرسوخ “بوصفه فعل مقاومة وتحدي لأنماط العيش والعولمة، إختيارك لترجمة هذه المجموعة الشعرية بالذات هل لكونها تحمل أبعادا فلسفية ؟
اختياري لهذه المجموعة بالتحديد يدخل في إطار التنويه بصحوة إيطالية على فداحة ما فقدته من أنماط عيش أصيلة في العقود الأخيرة بسبب التوحش الصناعي والنزوح نحو مدن الشمال الغنية، حيث يحتفي غراتو في هذه المجموعة بتفاصيل الحياة الريفية الصغيرة وما تمنحه لنا من امتلاء روحي لن نبلغه سوى بمقاومة غواية الهجران وتفعيل ثقافة العرفان في ذواتنا.
هل تعتبرين اللغة حصن يحمي صاحبه من التنقل بين الثقافات وأنها تكسر حاجز الخوف في الغربة؟
هي فعلا كذلك، اللغة تسهل التغلغل في أي ثقافة وتمنح المرء الشعور بالثقة وهو يحفر داخل أي مجتمع. أما “الغربة” فهي كلمة لا تنتمي لسبب ما لقاموسي. أعتقد أن الغربة شعور ذاتي بالدرجة الأولى لا يرتبط بالانتقال من الأماكن.
هل من السهل على أمل بوشارب العيش بين لغتين “العربية والإيطالية وبين بلدين” الجزائر وإيطاليا؟
أعتقد أن الأمر يشبه تماما ما يعيشه أغلب البشر الذين يعيشون على حافة ثقافتين. من الضروري أن تبقى متيقظا حتى لا تسقط إلى هوّة التيه وخسارة المشهدين. الانسحاب إلى داخلٍ أكثر ثباتا في المقابل قد يعطيك الشعور بالأمن، لكنه سيفقدك المشهد البانورامي البديع الذي تطل عليه. أعتقد أن كلمة السر هي في أن لا تغفل على موقعك. فهو على ما يكتنفه من جمال قائم على الكثير من الهشاشة.
هل ستواصلين في كتابة الرواية البوليسية؟
لا أدري بصراحة إن كنت أكتب ضمن “نوع أدبي”، لكن يبدو أنني صقلت أدواتي ضمن أسلوب سردي يلتقي مع أسلوب الكتابة البوليسية. أن يخرج الكاتب من أسلوبه أو يطوره أو يتجاوزه أمر لا يأتي بقرار، وإنما ينتج عن عمليات نحت متواصلة من خلال فعل الكتابة.