أمحمد بن قطاف شيخ المسرحيين الجزائريين الذي أضاء دهاليز المسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي ردحا من الزمن.
أدار المسرح بحب تحذوه الرغبة والمسؤولية في جمع شمل أسرة المسرح.ويحفّزها لأمل في توسيع فضاءات أبي الفنون إلى جميع أرجاء الوطن. بما في ذلك الجنوب الجزائري الذي فكّ عنه العزلة، من خلال تظاهرة “أيام مسرح الجنوب”. ففتح أبواب هذا الصرح الثقافي الذي بات مزارا يقصده كل من سكنه سحر الخشبة فصار لا يطيق بعادا عن مهن عرضها.
خاض امحمد بن قطاف لسنوات تجربة التمثيل قبل أن يكون مخرجا وكاتبا، وإذا ما ساءل الباحث مساره المسرحي وسبر أغوار تلك الأعمال المسرحية المتميزة الجريئة التي تقمّص بها أدوارا في المسرح الوطني فيما بعد 1966. إلى جانب نخبة من المسرحيين أمثال مصطفى كاتب وعبد الحليم رايس وولد عبد الرحمان كاكي وعلولة وزياني الشريف عياد وغيرهم..
إن المتتبّع للخصائص الدرامية والفنية الجمالية لمسار المسرحي بن قطاف، لا محالة سيقف عند بعض المميزات التي تلتصق بسيرته الإبداعية.
وقد يأتي في بدايتها أن نصوصه التي تتسم بالحركية لتجمع فيما بين الأصالة والمعاصرة. إذ لا يكتفي بتوصيف اللحظة والأفعال الدرامية، لكن يتعداها إلى هندسة فضائه الخاص، وتوصيف الأحداث والوقائع.
علاوة على أن كتاباته ترتكز على شخصية محورية تكابد عناء حمل الأحداث على حساب الشخصيات الثانوية التي لم تكن تستعمل إلا بوصفها “إكسيسوارات”.
وتجدر الإشارة إلى أنه كان يتبنّى عناصر المسرح الملحمي وعلى رأسها التغريب بكسره للجدار الرابع. ودخوله في علاقة “ودية وعدائية” مع الجمهور بواسطة كسر الإيهام من خلال التعليق على كلام شخصياته.
مع العلم أنه اعتمد في “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” على شخصية “عمي العابد” القوال أو الراوي مع أنه كان يحتفظ في كل أعماله بعنصر الحكاية باعتبارها روح الدراما.
لم يوظف الراوي إلا ليجسّد التغريب مرة بفصله للمشاهد عما يراه مُمثلا أمامه على خشبة المسرح. ومرة بإعادة رواية الأحداث مما يضفي عليه طابع الاغتراب الزمني، ومرة أخرى بإشراك المتلقي عن طريق محاورته بصفة مباشرة في خطاب تواصلي تبليغي.
اتخذ الفنان ابن قطاف الراوي ليمنحه صفة “الجوقة” في الشهداء يعودون هذا الأسبوع ليتخلّص من تاريخية الموضوع إلى تكريس تقنية الإخبار، لأن الحاكي والممثل هو الذي يروي القصة، وحين يتحدّث هذا الراوي الذي يشكّل قناة التواصل، فإنه يستعمل لغة شعبية مفهومة، تنزع أحيانا صوب اللامعنى نظرا لحمولة الاغتراب التي تكتنفها، فتحتاج إلى بعض التفسيرات والإحالات وكأنها موجهة إلى متلقي غير عادي”. كما خلصت إليه الباحثة الدكتورة جميلة مصطفى الزقاي من جامعة تيبازة..
كتب امحمد بن قطاف بلغة ثالثة بطريقة تراثية محكمة كلها شعرية مشحونة بالإيحاءات والرموز التي تفيد في تطوير المعاني والأفكار.
وهي نابعة من عمق انتمائه إلى حي شعبي “حسين داي” بعمق العاصمة، ذلك الحي العريق المحاط بالأسواق والساحات العمومية على غرار ما ظهر في عمله “عقد الجوهر”.
كتب باللغة الفرنسية الممزوجة بالعامية الجزائرية، فكانت بسيطة تحمل بطياتها صورا كثيرة مستوحاة من الواقع الاجتماعي الجزائري وبدا ذلك واضحا في مسرحيته “الصباح الهادئ”.
وما أضفى الجمالية وتوثّب الإيقاع الدرامي في أعماله وكانت محل إعجاب المتلقين الجزائريين على اختلاف مشاربهم هو اعتماده على الغناء، حيث كان يستعمل في جل مسرحياته تقريبا مقطعا غنائيا، ولعلّ السبب يعود إلى ولعه بالغناء وامتلاكه لصوت غنائي وإذاعي جميل.
وفيما يلي وقفات إبلاغية تفصيلية كلها بوح وإفصاح عن المسار المسرحي الذي نسجه بإبداع لم يعرف التوقّف حتى أن بعض أعماله ترجمت إلى لغات كثيرة..
امحمد بن قطاف ممثلا
في البداية كان يحب الغناء: البدوي – الشعبي ـ الشرقي وكان أيضا يحب (الحاج محمد العنقى، الحاج مريزق، حسيسن، سيد درويش، محمد عبدالوهاب، الحاج منور..).
شجّعه الملحن مصطفى سحنون فنان الفرقة الفنية لجبهة التحرير على تقديم نفسه للدخول في مسابقة التجارب الصوتية، حين كانت التلفزة الجزائرية تعمل على تكوين أوّل كورال، وجد نفسه داخل الأستوديو أسندوا له:
– دور محامي
– إلقاء قصيدة شعرية
– قراءة مقال صحفي
ألقاهم بكل ثقة أمام الميكروفون، أعجبت اللجنة بصوته، وتمّ قبوله كممثل إذاعي، ألم أقل لكم في البداية أنه كان يحب الغناء؟
وقُبل كممثل متربص لمدة ستة أشهر، ثم ترسّم، وهكذا أصبح بن قطاف ممثلا، فدخل هذه المهنة ولم يخرج منها أبدا..
اكتشف طيلة مسيرته الفنية أن التمثيل مهنة استثنائية، مليئة بالسحر، من خلالها تعرّف على أناس بسطاء وعظماء مثلا الفنان: “محمد ونيش”، والذي بفضله اكتشف نصوصا كثيرة لأسماء كبيرة من المسرح العالمي.
فاكتشف الخالد شكسبير، وأدى أدورا في كل من مسرحياته المرجعية “عطيل” و”هاملت”، كما دخل عوالم أغاتا كريتسي السوداء، وصافح “بؤساء” الروائي الفرنسي فيكتور هوجو.
وفي نهاية سنة 1965، مثّل مع الفنان محمد حلمي في مسرحية “بلا عنوان” رفقة ممثلي الإذاعة الجزائرية، ورفقة كل من: الفنانة ياسمينة ومبارك صالح..
وكان من بين الحاضرين العملاق مصطفى كاتب، الذي كان وقتها يرغب في تطعيم فرقة المسرح الوطني الجزائري بعد تأميمه، بشباب يُتقنون اللغة العربية الفصحى، فكان له الحظ بل كل الحظ..
وقام بأول دور له في مسرحية “عنبسة” لرضا حوحو والمقتبسة عن الروائي الفرنسي فيكتور هيجو.
ومن هنا تحديدا يعتبر بن قطاف أن هذه المسرحية كانت انطلاقته الحقيقية، وبعدها مثّل في مسرحية “الخالدون” لعبد الحليم رايس، وبدأ يشارك في كل الانتاجات المسرحية، ويوزع في أغلب الأدوار الرئيسية.
الأسماء
المخرج الذي يعتبره بن قطاف مخرجا حقيقيا هو “علال المحب”، صاحب رائعة “برناردا البا”.. هذا المخرج الذي كان ينتج مسرحية في أربعين يوما.
فلو نعيد مشاهدة مسرحياته المسجلة في التلفزيون نكتشف أنه لم يصنع عرضا مسرحيا بامتياز بل كوّن على خشبة المسرح عائلة حقيقية، من أب وأم ـ يقول بن قطاف ـ، هو يعرف كيف يدير الممثل، ويجعله يغوص في أبعاد الشخصية، يحدّد له أهدافا ولا يتركه يتحرك على هواه. يمنحه الكثير من الحرية ولكن بشرط ألا يخرج عن المخطط الإخراجي الذي يرسمه هو. فهو يستطيع أن يستغل خطأ الممثل في لحظة ارتجال، ويوظفه لصالح العرض، يقول بن قطاف..
وعن “مصطفى كاتب” يقول بن قطاف، إن طريقة إخراجه تجذبك إليه، لا شيء مستحيل بالنسبة له، كل شيء يمكن فعله، يعطيك كل الوقت. ويجعلك تحسّ بالطمأنينة حين تعمل معه..
كان امحمد بن قطاف يتبّع نصائح مصطفى كاتب وإرشاداته، ويحفظ عن ظهر قلب كامل المسرحية ولا يكتفي بدوره فقط، فكان..
يعيش المسرحية..
يحلم المسرحية..
يتنفس المسرحية..
لقد لعب في مسرحية “البوابون” دون أن يكون موزعا فيها أصلا، وذلك بسبب غياب الممثل الرئيسي يوم العرض الأول. ربما الكثير يجهل خطورة غياب الممثل أو مرضه لحظة العرض الشرفي.. هي لعنة حقيقية تصيب المخرج وقد تدفن العرض إلى الأبد..
الكتب
كان يحب القراءة كثيرا باللغتين: الفرنسية والعربية، إنه مسكون بالكتب بل قل إنه فأر كتب بتعبير كولن ولسن، لذا استطاع أن يكون دراماتورجيا متعدّد المشارب..
من يدخل مكتب بن قطاف في المسرح الوطني الجزائري يرى قيمة الكتاب عنده، إن العناوين تبعث فيك الرغبة بسرقة بعض منها.. لقد حاولت مرة ولم استطع.. ومع إلحاحي وعدني أن يمنحني بعضها..
التجاوب
مثّل: مع علال المحب، مصطفى كاتب، مع سيد أحمد أقومي، سيد علي كويرات، العربي زكال، الطيب أبو الحسن، الطيب النمر، علي عبدون، كلثوم، وهيبة، لطيفة، ياسمينة، الحاج إسماعيل الصغير، محمد فراح، رويشد…
مثل ومثل ومثل ومثل..
أخذ عنهم ومنهم أسرار المهنة الخطرة، كان كل واحد وواحدة منهم يشكل مدرسة في الأداء.. وعمل مع جيل ثالث مختلف: تاجير عبد القادر – سليمان العايب – حاج شريف – بوقاسي عبد القادر – عبدالقادر سفيري – عمر معروف – ذباح.. كانواكلهم قريبين منه..
وكان أمحمد أول من يدخل بناية المسرح وكان أمحمد آخر من يخرج منها. “المسرح أخذ كل وقتي”، اعترف أمامنا يوما كان بيته الكبير.. مع لافتة مكتوب عليها: ممنوع التدخين.
من الترجمة إلى الاقتباس إلى الإبداع
أول عمل ترجمه للمسرح الجزائري هو “ايفانوفتيش” تحت عنوان “ابليس لعور كاين منو” متاثرا بـ”محمد ونيش” من حيث الأداء وطريقة الإخراج كما نوّه بأعمال علال المحب ومصطفى كاتب وكاتب ياسين وحاج اسماعيل وغيرهم التي ألهمته في مساره المسرحي..
أول مسرحية كتبها هي: “حسنة وحسان” وقدمها للممثل المتفرد سيد أحمد أقومي كي ينتجها في المسرح الجهوي عنابة بعد تطبيق سياسية اللامركزية. حيث أخرجها أقومي وأخذ أدوراها الرئيسة كل من جمال دكار وصونيا. وعبد الحميد رابيا.
وبعدها كتب “stop” أخرجها “البريختي” الحاج عمر وأدى أدوارها كل من: عز الدين مجوبي، صونيا، سليمان، ومصطفى عياد.
شخصيات هذه المسرحية ـ يقول عنها الباحث محمد بوكراس المتخصّص في عمل بن قطاف ـ إنها “قوية ناقدة ناقمة في وقت الأحادية والرقابة، شخصية المهدي في إحالة على المهدي المنتظر، وشخصية حورية في إحالة على الحرية. وهي المسرحية الأم التي خرجت من رحمها كل المسرحيات التالية”.
وبعدها كتب مسرحية “جحا والناس”، ومن ثمّة انطلق في عالم الكتابة، واستمر في إبداعاته حين وجد أن هناك جمهورا متذوقا لأعماله، وكان دائما يسعى لإيجاد وسيلة تجعل كل الناس يفهمونه، ليس فقط في الجزائر بل في العالم العربي.
يرى الباحث محمد بوكراس أن قوة بن قطاف تكمن في “العبارات الشعبية البسيطة بلغة بسيطة ولكنها مشحونة دلاليا.. “كلمات متحرّكة نابضة بالصور”، تكمن عبقرية بن قطاف أيضا في اختيار عناوين أعماله حيث لا مجال للعفوية أو الصدفة. بدءا من مسرحية قف، ثم كيشوت، العيطة التي تعني الصرخة والانفجار التي تنبّأ فيها بأحداث 05 أكتوبر 1988، مسرحية عقد الجوهر التي جاءت احتفالا بمناسبة مرور 30 سنة على اندلاع الثورة 1984.
الطاهر وطار
هو لم يتعامل مع الروائي الكبير الطاهر وطار بصفة مباشرة، وكل ما في الأمر أن “المخرج زياني شريف عياد” الذي كان المدير الفني آنذاك، اقترح عليه أن اقتباس قصة “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”،إضافة إلى نصّ للروائي العالمي محمد ديب ..
فاختار قصة الطاهر وطار واقترح على زياني الاقتباس الذي رآه مناسبا، فأضاف شخصيات غير موجودة أصلا في النص الوطاري، مثلا “خديجة”، كما طعّم النص ببعض الأغاني والقصائد الشعرية، فكانت قدرة بن قطاف في إعادة الكتابة رهيبة، إذ استطاع أن يبني حكاية أكثر واقعية، لا علاقة لها بالنص الأصلي..
تجربة تعاونية مسرح القلعة
يعترف بن قطاف بكل صراحة: “أنه لا يوجد مسرح حرّ في العالم اللّهم إلاّ الفرق التي تملك مسرحها الخاص. نحن في مسرح القلعة لم نكن مسرحا خاصا، بل كنا فرقة مستقلة، كنا فرقة حرة لا تنتمي لقطاع الدولة، لم تكن لدينا ميزانية دعم. كوّنا تلك الفرقة وكانت تموّل عروضنا مؤسسة خاصة”.
يعتقد بن قطاف أنها كانت مغامرة ناجحة، وربما كانت تستطيع أن تكون بابا مفتوحا تؤدي إلى مسرح آخر، ولكن مع الأسف حُلّت لظروف أتت على كل شيء وليس المسرح فقط.
بالرغم من هذا يؤكد بن قطاف أن مسرح القلعة منذ تأسيسه سنة 1989، إلى سنة 1994 عمل وأنتج العديد من المسرحيات هي: العيطة، باية، مونودرام فاطمة، آخر المساجين، حافلة تسير.. وغير ذلك من الأعمال، وحصلت على عدة جوائز، فمسرحية “العيطة” مثلا حصلت على الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج الدولي..
الجمهور الغربي
قال لي بوضوح ذات يوم أنه لم يذهب إلى فرنسا هاربا أو للاستقرار هناك، بل في إطار”منحة تفرغ” تحصل عليه، فذهب إلى هناك للعمل والكتابة..وكتب فعلا، ولكنه في تلك الفترة وجد نفسه محاصرا بمسرحيته “التمرين”، فانتظر حتى انتهت كل العروض المبرمجة ثم عاد إلى الجزائر، عمل في أفريقيا في بلجيكا وفي أمريكا، وأنتج حوالي ثلاث مسرحيات باسم مسرح القلعة “فاطمة ـ العيطة – باية. ونالت أعماله شهرة كبيرة في أوروبا وخاصة فرنسا.
وكتب بالفرنسية: MATIN DE QUIETUDE /QUICHOTTE / FATMA وغيرها بفرنسية بسيطة جزائرية الروح أيضا وشاعرية متضمنة لمقاطع شعرية باللغة العربية.
آخر مرة على الخشبة
وقف بن قطاف آخر مرة على الخشبة في مسرحية “التمرين”.. وهكذا وبعد رحيل الممثلين العمالقة الذين تركوا فراغا رهيبا في المشهد المسرحي الجزائري. عمل بن قطاف على استثمار الطاقات الشابة التي تخرّجت من المعهد العالي للفنون المسرحية. منهم على سبيل المثال عباس محمد اسلام، نضال وحيدر بن حسين وكمال بوعكاز، كافي.. كان إيمانه قويا بقدرة الشباب على بعث ربيع المسرح الجزائري..
الفنانة المسرحية في الجزائر..
أن تكون فنانا مسرحيا في الجزائر معناه أن تتحدى نفسك.. وإن تكون فنانة مسرحية معناه أن تتحدي الجميع (صمت للحظات كأنه يسترجع الصورة الحارقة الجارحة).
فعلا يقول بن قطاف “عديد زميلاته تحدين ووقفن على خشبات المسرح الجزائري، لا كممثلات لأدوار مسرحية فقط. ولكن للوطن. ولقد غامرت الكثيرات منهن بشجاعة كمناضلات ومجاهدات بالمدن وفي الجبال الجزائرية الشامخة.
كلنا يعلم أن المسرح علم التواطؤ الجميل، وكل منا يتورط محبة في الآخر، ولكنه أيضا فضاء نكتشف فيه أنفسنا، وخاصة بعضنا البعض، حين نخطئ في الحوار، أوحين نغيره أوحين تخوننا الحركات أو نخونها..”
تجارب عديدة وقفت من خلالها – يقول بن قطاف – هنا بركح المسرح الوطني الجزائري، مع العديد من الفنانات اللواتي حملن معهن أزيد من خمس وأربعين سنة، كلها عمق وعرق ومحبة واحترام..
أسماء تركت بصمتها على خشبة المسرح الجزائري، ونقشت أسماءها في الذاكرة الجماعية من (لطيفة، عويشة، ياسمية إلى كلثوم “الله يرحمهم”، نورية، وهيبة، فريدة صبونجي، فتيحة بربار، دوجة، فريدة عمروش عفيفة، نادية طالبي، فاطمة الزهرة ميموني، صونيا، دليلة حليلو، أمينة مجوبي، وغيرهن..).
سيدات “فنانات” مبدعات، تعلّم منهن الكثير، في كل مسرحية اشتركنا فيها، وفي كل حوار وفي كل لقاء: “شجاعة وصبر”، ومثابرة واحتراف وحب للمسرح حتى النخاع.
يحقّ للمسرح الجزائري يؤكد بن قطاف “أن يفتخر بسيداته اللواتي أوصلن الشعلة إلى جيل جديد من بناتنا..”.
جيل اختار مهنة العرض وهو اليوم يواصل صنع الحلم والسحر في عالم المسرح الجميل..
المهرجانات المسرحية العربية
يعتبر المهرجانات المسرحية محطة هامة وقوية في الخريطة المسرحية العربية، يضيفها المبدع إلى رصيده.
هي من المكاسب الثقافية التي علينا الحفاظ عليها لأنها رصيدنا الوحيد الذي يجمعنا في هذا الوقت العصيب لطرح الأفكار ومناقشتها بصدق وشجاعة لنبقى أوفياء لها ولأنفسنا. لأن الأسئلة المتعبة في اعتقاد بن قطاف تبقى واحدة من المحيط إلى الخليج. وهي كثيرة:
ما الذي حقّقه مسرحنا وأين أخفق أين حركتنا النقدية من مشهدنا المسرحي اليومي؟
أين نحن من أنفسنا ومن الأسئلة اليوم؟
والمواضيع نفسها:حرية التعبير، الديمقراطية، أزمة الكتابة، الاقتباس،إشكالية التكوين، مسرح الدولة و المسرح الخاص أو الحر.المسرح الهادف أو المسرح التجاري ، المد والجزر بين المسرح وجمهور مقبل تارة ومدبر تارة أخرى..
هذه كانت اهتمامات وهموم بن قطاف في آن واحد سواء كمسرحي عربي أو كمحافظ للمهرجان الوطني الجزائري للمسرح المحترف.
وهنا تجدر الإشارة أن لأمحمد بن قطاف شرف مدّ الجسور المسرحية مع المسرحيين العرب خاصة بعد دعوته لحضور فعاليات إحدى دورات مهرجان الشارقة وما لمسه شخصيا من دعم سمو الحاكم سلطان بن محمد القاسمي.
لقد كان الفعل الثقافي والفني رافدا مهما من الروافد التي غذّت المجتمع الجزائري وهو يؤسس مستقبله، ويواجه تحدياته على مدار القرون بل معظم الصراعات التي خاضها كانت ذات أبعاد ثقافية بالدرجة الأولى.
وإن البعد الثقافي والحضاري بقي إلى غاية اليوم بالرغم من التغني بالعولمة كخطاب إنساني يلغي الحدود، وهو المحرّك في ما يعرفه العالم من تجمع أو شتات.
وعليه فإن بن قطاف يرى أن أي إصلاح مجتمعي لا يعمل على تطوير منظومته الثقافية باستمرار، وضخها بدماء جديدة على كل المستويات يعتبره إصلاحا معوقا لا يضمن الوصول.
قوة الفعل الثقافي
استطاع الفعل الثقافي المحافظة على تماسك المجتمع الجزائري إلى فترة قريبة وما إن مسّ الضعف قوة هذا الفعل حتى انفتح الشارع الجزائري على أخلاق غريبة، وسلوكات أسست لانتشار العنف في كل تجلياته.
وعليه فإن بن قطاف يرى انطلاقا من موقعه كفنان وكاتب مسرحي متابع للحراك الثقافي الجزائري والعربي إن إعادة النبض للفعل الثقافي وربطه مباشرة بحياة المواطن أمر ضروري لاسترجاع ما فقدناه من التماسك على كل الأصعدة.
أما الخطوات العاجلة للإصلاح المسرح في الجزائر والدول العربية حددها بن قطاف في:
رسم سياسة ثقافية شاملة وواضحة المعالم والمنطلقات والأبعاد، يعوّل فيها على المنتجين الحقيقيين للفن والفكر وعلوم الإنسان وتراعي في فلسفتها أولا وأخيرا.
– الاستثمار في الإنسان بالأبعاد الثقافية المتعدّدة.
– سن قوانين تهدف إلى الحماية الاجتماعية للفنانين.
– إدخال المسرح واعتماده كمادة أساسية في المنظومة التربوية.
– تأسيس معاهد جهوية للفنون الدرامية.
– تكوين أساتذة المختصين في تدريس الفنون الدرامية.
– تكثيف التعاون مع دول العالم المتقدمة في المجالات الفنية.
– استقدام الخبراء والمختصين بصفة دورية.
– إرسال بعثات فنية و دراسية للمعاهد العالمية الكبرى.
عمر المهرجان الوطني للمسرح المحترف
لا يمكن وصف إحساس الشيخ بن قطاف وهو يتابع دقيقة بدقيقة عمر المهرجان الافتراضي، إحساس يقول عنه إنه مزيج بين الفرح والتقدير ونابع في اعتقاده مما قدم على هذه الخشبة للمسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي من عروض تنافسية.
توّجت بجوائز تحفز متوجيها على الاستمرار والإبداع وتقديم الأحسن، والذهاب نحو الأفضل لترقية التجربة المسرحية الجزائرية..
أو ما قدّم على خشبات موازية من عروض مختلفة عربية وجزائرية خارج المنافسة، لجعل المتلقي الجزائري يطلع على تجارب عدة بإمكانها أن تعطيه صورة شاملة ودقيقة عن إشتغالات وهواجس ومستوى صنّاع العرض المسرحي في الجزائر ودول أخرى.. وكلها موثقة بالصورة والكلمة في مجلة المهرجان.
كل هذه الحركية التي ضبطت في برنامج عام تمّ تحقيقها وتنفيذها بفضل تكاثف ومسؤولية الجميع وبرعاية كريمة لمعالي وزيرة الثقافة ـ سابقا- السيدة خليدة تومي.
لن أقول إننا وصلنا يعترف بن قطاف، لكن نتائج كل الطبعات السابقة تجعلنا نقول إننا نفتخر.. بدون أدنى نرجسية، لأننا قادرون على الوصول إلى الأهداف التي تأسس لأجلها مهرجاننا الوطني للمسرح المحترف..
إننا كما قال الشاعر الاسباني الكبير ماتشادو: أن الطرق الصعبة في الجبال تصنع بالمشي.. فقط علينا أن لا نتوقف ولا نغتر لأن الوصول ليس سهلا يحتاج إلى صبر ومثابرة وعمل جماعي، أليس هذه وظيفة المسرح؟؟؟
انتحار
“عندما تنظر إلى تاريخك المسرحي والمسارات الفنية، ترى أن المنصب الذي حظيت به كبيرا عليك هناك تموت، ولكن إذا أنت رأيت أن هذا المنصب صغيرا عليك لماذا تموت؟”.
هكذا أجابني حين سألته السؤال الصعب:
– ألا ترى بأن تعيينك مديرا عاما للمسرح الوطني الجزائري من طرف وزيرة الثقافة خليدة تومي هو مشروع انتحار المسرحي الكبير أمحمد بن قطاف؟
أ. عبد الناصر خلاف
إشارات:
-العنوان مستعار من رواية يوميات رجل غامر صوب البحر للروائي الكبير واسيني لعرج .
-هذا المقال كتب في حياة الفنان أمحمد بن قطاف قدمت شذرات منه أثناء تكريمه من طرف تعاونية كانفا بمدينة برج بوعريريج.