تعتبر مدينة البويرة مدينة سلام وهدوء وتجانس فهي حاضرة من حواضر هذا البلد منذ تأسيسها سنة(850)على سهل يمتد من عين العلوي وسهل عين بسام غربا إلى الأسنام شرقا والهاشمية جنوبا، عُرفت بأسماء عديدة منها مدينة حمزة، سوق حمزة، ويطلق عليها بالامازيغية اسم “ثوبيرست”.
التصق بها اسم “البويرة” واختلفت الروايات حول هذا الاسم ومن أطلقه عليها. علما أن هذا الاسم يطلق أيضا على مدينة في فلسطين وفي الجلفة، فالكلمة عربية وهي تصغير لكلمة البئر، الغريب أيضا أن البويرة رغم أهميتها التاريخية وموقعها الاستراتيجي لكن الكتابات التاريخية عن المدينة تقريبا شحيحة جدا، فكتب بن خلدون وأبي العباس واحمد المقري. ومن أشهر الرحالة الذين مروا من البويرة وكتبها عنها الألماني هانريش فون مالتسان.
هي مدينة تاريخية بامتياز، قاومت العثمانيين مرارا من طرف الشعب والقبائل في كذا غزوة. كما شهدت المدينة عدّة مقاومات شعبية ضد الاحتلال الفرنسي منها ثورة المقراني.
عرّفها المؤرخ البكري في كتابه”المسالك والممالك”: سوق حمزة وهي مدينة عليها سور وخندق وبها آبار عذبة وهي لصنهاجة” وكان آخر هذه الآبار المندثرة في زمن قريب هو “عين قراوش” الشهير جدا. المتفق عليه من أغلب المؤرخين أن مؤسسها هو “حمزة بن الحسن بن سليمان العلوي” ويصفها عبد الرحمن ابن خلدون بأنها:” بلدة صغيرة بين بجاية وقلعة بني حماد” وكانت بالفعل صغيرة، ويضيف أيضا أن الأمير أبو ثابت دخلها وخربها:” ثمّ عطف على المدية ففتحها…ثمّ إلى وطن حمزة فدوّخها، واستخدم قبائلها من العرب والبربر”
المؤكد أيضا أنها ملتقى الثقافات والحضارات ولعبت دورا مهما عبر تاريخها الطويل في باد المغرب الأوسط نظرا لقربها من مدن حضارية كمدينة أشير والمسيلة، مع ذلك فهي مدينة غير محظوظة على الإطلاق منذ تأسيسها، إبان حكم الفاطميين والصنهاجيين والعثمانيين، وأثناء الاحتلال الفرنسي، فنرى تأخر هذه المدينة في العمران أساسا مع أن استعان الحكّام ببنائين من البويرة لبناء مدن أخرى. فهي تعاني من التهميش والنسيان لأسباب كثيرة ويرجح أن هذا التأخر راجع أساسا الى التنافس والنزاع المستمر بين الحكام الزيانيين والحفصيين، فلم تشهد التطور الكبير والمنشود في البنية التحية والسياحة بالرغم من أهميتها باعتبارها فلاحية بامتياز وسياحية أيضا، وباعتبارها أيضا مفترق طرق أو نقطة عبور تربط بين الشرق والغرب والجنوب. وكانت محطة حقيقية لجموع المسافرين والتجار والمغامرين. بقيت مهمشّة إلى وقت قريب جدا. هذه الأهمية الإستراتيجية أهّلها لترتقي إلى بلدية أثناء الاحتلال الفرنسي، وبالضبط في 9 افريل 1879 أصدرت إدارة الاحتلال قرارا يتضمن تحويل البويرة إلى بلدية كاملة الصلاحية بعدما قضت تماما على المقاومة لتبدأ مسيرة التنصير على قدم وساق.
مدينو حمزة(البويرة) لم تكن مجرد مركز تجاري وسوق كما ورد في كتب التاريخ هي مدينة حضارة وفكر وثقافة، فأنجبت علماء كبار في الفقه واللغة منهم أبو القاسم عبد الله بن عبد الله بن داود والمؤرخ عبد الله محمد بن حماد الصنهاجي، وابن قرقول ومحمد بن السلاح الزواوي واحمد بن إدريس…و القائمة طويلة من القامات وذاع صيتها في ربوع البلاد شرقه وغربه وفي المشرق أيضا.
شارع ستراسبورغ
البويرة اليوم تختلف كثيرا عن تلك المدينة الصّغيرة التي تعج يوميا بالفلاحين والعمال، عرفت تطورا كبيرا في العمران، وتوسعا في كل اتجاهاتها، واستفادت من مشاريع تنموية مهمة ومن هياكل ثقافية وتربوية. هي مدينتي التي اعرف منذ منتصف السبعينيات، كنت أراها المدينة الأهم في العالم وفي التاريخ، كنت أراها مركزا العالم، بقاعتيها للسينما الأولى “قاعة سينما أريش” والقاعة “لالة خديجة” حينما كانت الجزائر تهتم بالسينما والمسرح وكان جمهور السينما يجيء يوميا من البلديات المجاورة، من امشدالله من السور الغزلان من عين بسام، لمشاهدة آخر الأفلام على الشاشة الفضية.
كانت المدينة القديمة والعريقة ضاجة فعلا بمختلف اللغات، العربية والأمازيغية والفرنسية، بل بلهجات أخرى، بتسامح كبير، فتسمع اللهجة السورية والمصرية والتونسية والعراقية والمغربية والفلسطينية، من خلال الأساتذة المتعاونين في مختلف المدارس والثانويات. يخترق وسط المدينة الشارع الرئيس فيبدو كالعمود الفقري ممتدا من مدخل المدينة الشرقي “عين قراوش” سابقا إلى “الشاطو” شمالا، هو الطريق الوطني (شارع ستراسبورغ). تتوسط المدينة الساحة الكبيرة المعروفة حاليا بساحة الشهداء “لابلاص” هي ملتقى الجهات الأربع ولا تزال إلى يومنا هذا، تقوم بالدور نفسه، في اللقاءات بين الأصدقاء والتجار. إلى الآن لابلاص تقوم بالدور نفسه وهي نقطة المواعيد لأغلب اللقاءات بين الأصدقاء نظرا لاتساعها ووجود مقاهي شعبية من حولها نذكر مقهى المجاهدين ومقهى المولودية ومكتبة مهمّة. هي أيضا نقطة انطلاق لمظاهرات سلمية سياسية أو مطلبية تجاه الولاية غربا.
سوق السبت
ارتبطت هذه المدينة بالسّوق الأسبوعي، ولا يزال إلى يومنا هذا “سوق السبت” الشّهير، الذي كبرنا من خيراته وحكاوي الحكواتيين، كنا ننتظر زيارته بفارغ الصبر، السوق لم يكن مجرد رحبة لتبادل السلع والمحاصيل واقتناء الحاجيات، كان فضاء حقيقيا لتبادل الخبرات والأخبار وركحا للإبداع، هو أيضا فضاء للسحر والحكاية والشعر والمدح، وألعاب الخفة في حلقات دائرية, والتداوي الشعبي وقلع الأضراس بطريقة بدائية، وكثرة النشالين ذوي الأيادي الخفيفة الذين يترصدون بدهاء جيوب القرويين الطيبين، كنا نحرص أشد الحرص على ما نحمله في دواخلنا ونهاب من هذا النشّال ذي اليد الخفيفة الرهيبة، سوق السبت كان ملتقى كبيرا ومُهِما من الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فيستقطب التجار من الشرق الجزائري ومن الغرب من الجنوب.
شارع ستراسبورغ
شارع حيوي وهو شريان المدينة منذ زمن طويل، كان شارعا ذكوريا بامتياز لفترة طويلة من الزمن، وسبق إن كتبت عن هذا الشارع في رواية البكّاءة: “كنت ها هناك في شارع “ستراسبورغ” التاريخي، الممتد من طرف المدينة جنوبا إلى شمالها، بحوانيته العتيقة، وشرفاته البسيطة، كان إلى وقت قريب، طريقا وطنيا عبره زعماء وثوار، منهم الرئيس الراحل “هواري بومدين” في بداية السبعينيات ووزراء وكبار المثقفين الجزائريين، فالشارع يمتاز أيضا بمقهى المولودية الذي أفتتح في الأربعينيات من القرن العشرين، وفندق وحيد يعرف باسم”النجمة” بالتأكيد ليس له علاقة بالرواية العظيمة التي كتبها كاتب ياسين في أوائل الخمسينيات”نجمة”.
صحيح لم أسأل في الموضوع، لكن في الغالب للاسم علاقة بالتصنيف الذي اعتمدته وزارة السياحة والفندقة، بجواره حانة”باريس الصغيرة” التي يقصدها العمال والحرفيون، وصغار الموظفين، عشاق يجيؤون لذرف دموع ساخنة على أنغام موسيقى الشعبي وأغاني “جاك بريل” التي تصدح من الصالات والمقاهي المجاورة للشارع، قبل أن تهجره الأقدام والوجوه فيشمله النسيان بعد انجاز المحوّل في اتجاه شرق –غرب، خارج المدينة اخترت الشّارع المميز جدا، لأبدأ حياتي المهنية طبيبا نفسانيا، ليس اختيارا عشوائيا بل لما له من جمالية وشعرية ربما لأن في داخلي لوثة الشعر قبل أن تتلفها الدراسات العليا وعلم النفس، واهتمامات سياسية وثقافية، لم تترك لي الوقت الكافي لقراءة أمل دنقل والجواهري وأحمد مطر ونزار قباني. وجدت الشقة من ثلاثة غرف في الطابق الأول، التي تشكلني من جديد بكل مساوئ المرحلة ومحاسنها، لم يكن سهلا الحصول على شقة عند الزاوية، بواجهتين أحداهما تطل على الحديقة العامة/العالم، القاع والأخرى على حي “الشاطو” المعروف بعراقة أهله وبساطتهم. عندما أجلس على الكرسي الخشبي الهزاز، في انتظار الزبائن، تسرقني مشاهد القاع، مشاهد البؤس اليومي الذي تراه ملء العينين وهو يتجول بين المّارة أو عندما يتحول المارة أنفسهم ببرانيسهم الوبرية إلى أشباح في رحلة بحث أو جري أو تسكع أو ترقب. يهرولون في كل الاتجاهات مع حرص شديد على جيوبهم من أنامل لصوص ينتشرون أمام الطوابير الكثيرة في كل زحام بشري لاقتناء مواد غذائية نادرة. كنت كعلامة مميزة داخل شقة بطرازها المعماري الأوربي، على غرار كل بنايات الشّارع الطّويل، لسنوات طويلة أحمل صفة طبيب نفسي، جئت من الجزائر العاصمة سنة1994 مدعوما من أصدقائي الأطباء لملء الفراغ الموجود في المدن الداخلية، خاصة في هذا الاختصاص الجديد”
برج الترك
من أشهر معالم المدينة البرج الذي بني على أنقاض برج حمزة، في عهد الباي لارباي وهو من أقدم النقاط الدفاعية عن المدينة وتأمين طريق السلطاني الذي يربط الجزائر وقسنطينة، وهو من أسباب عدم تمكن الثائر المقراني على الاستيلاء على المدينة في 1871. بجواره مقبرة المسلمين.
وسط المدينة
منقسمة تقريبا إلى قسمين، القسم الجنوبي خاص بالجزائريين بنايات متواضعة والقسم الشمالي المتطور نسبيا(الحي الأوربي) بناه المعمرون ابتداء من سنة1879 يظم مجمعا مدرسيا، مدرسة للبنين وأخرى للبنات، وبلدية وكنيسة بالإضافة إلى حديقة(السكوار) عمومية. حينها كان المعمرون يصدرون صحيفة محلية تهتم بأفراح المعمرين وأحزانهم وأحكام المحاكم وإعلانات اشهارية عنوانها “la petite Bouira”
وتوجد في هذا الحيّ الرّاقي إلى الآن “مقهى باريس” الشهيرة تستقطب عددا كبيرا من السياسيين والمنتخبين المحليين والمثقفين، وهو المكان المفضل للنخبة لما تقدمه من راحة ومنظر جميل في باحتها، هي مقهى كتاب المدينة منهم الكاتب شدري معمر علي وعمر دوفي والشاعر جمعة السعيد وعلي دواجي، يفضلونها إما للجلوس وبعضهم للكتابة والتأمل.
رحبة الزيتrue de France
في أغلب الظن وأنت تدخل هذه المدينة لأول مرة عليك أن تبدأ مشوارك الصباحي أو المسائي من رحبة “الزيت” الشعبية بامتياز، هي زقاق ضيق، ملئ بالدكاكين الصغيرة، حيث تحاصرك روائح الزيوت الأصلية والمغشوشة، تستفز التوابل كل حواسك من الشيح والنعناع الأخضر والقصبر والزعتر البري، أصوات الباعة الصغار المحترفين، كسيمفونية صباحية توقظ فيك الخلايا شبه الميتة. حكايات قديمة تكاد تصرخ من جدران الحارة العتيقة الآيلة للسقوط في آية لحظة، وجوه العابرين المتأنقين والبسطاء يأخذون منك نظرة فاحصة شاملة كالعادة، تأصلت فيهم هذه العادة لقراءة الآخر باهتمام، أو ترى على الأرصفة وجوها مألوفة كانت ها هنا منذ كذا عام يلوكون قصصهم ويجترونها يوميا كصحيفة يومية لا بدّ منها، يحمل كل سرد جديد زخما جديدا ونفسا أكثر واقعية من ذي قبل. المشي في الرحبة صباحا يمنحك لذة القبض على لحظة تاريخية مستحيلة أن تعود، لكنك تشكّ إنها ملك يديك أو قاب قوسين من ذلك. في نهاية الزقاق الملتوي جادة أكثر تمدّنا تؤدي بك إلى الشارع الرئيس شارع “ستراسبورغ” ويقابلك المسجد العتيق. أو تتجه يسارا حيث تستقبلك مقاهي شعبية رائدة، مثل مقهى الفرسان.
الحي الغربي: لم يعد له وجود في الوقت الراهن لكن نريد أن نذكر هذا الحي القديم على عجالة فهو منطقة عشوائية جمعت عدت عوائل وأسر من مختلف أنحاء الجزائر وشكلوا بذلك انسجاما منقطع النظير بالرغم من المشاكل التي تحدث في هذا الحيّ العريق بين الحين والآخر بسبب الضيق والفاقة لزمن طويل. أمّا الآن بني على أنقاضه حيا راقيا، ومحلات تجارية كبيرة.
بويرة اليوم كبيرة جدا، شهدت في الفترة الأخيرة توسعا كبيرا بفضل أبنائها البررة الذين قاوموا كل أسباب التهميش، وبالتالي استفادت من مشاريع كبيرة في الإسكان، وفي البنية التحتية خاصة في المجال الثقافي والسياحي من دور ثقافية وفندقية راقية، وتوسيع شبكات الطرقات في كلّ اتجاهاتها. لم نتعرض لكل معالمها الأثرية وشوارعها المهمة كشارع دبي وغيره من الواجهات التي أضفت عليها مسحة جمالية.
جيلالي عمراني