ما هو مسار الكتابة الرّوائيّة عند مرزاق بقطاش؟ هل يمكن أنْ نحقّق لهذا السّؤال شرعيّة وجوده في طرحه بهذا الشَّكل؟
لعلّ السّؤال بهذا المنظور يحمل تعثّرا ما، خصوصا إذا لم نجمع حقائق المراحل الزّمنيّة الّتي مرّت بها الذّات الكاتبة، وهنا سنكون خارج الكتابة، لأنّنا سنستغرق في فهم الذّات، أي أنّ حديثنا سيكون عند السّيرة الذّاتيّة للمؤلّف، وسيغلب على حديثنا مسألة الشّخص، وهذا يغمّ الإبداع ويطمّ عليه ويجعله خارج الإبداع ذاته، لأنّه سيحوّل مسار البحث من السؤال عن الكتابة إلى السؤال عن الذات المبدعة.
بقلم الدكتور اليامين بن تومي
فما السّبيل لأنْ نجمع مسار الكتابة مع مسار الذّات؟ أي أنْ نكتب السّيرة الإبداعيّة للذّات، وتصبح الذّات جزء من مكوّنات العمل الإبداعي؟ هذا يفرض علينا أن نحسم في المسألة؛ أي أنّني سأتحدّث عن المنجز الروائي فقط، لأنّ “مرزاق بقطاش” ذات متعدّدة تكتب الرّواية والقصّة والتّرجمة، أيْ أنّها تفتح أمامنا سبل التّفكير في الأجناس الأدبيّة على مختلف سبلها، إنّها ذات جامعة للمتعدّد والمختلف، وما سنسلكه هو طريق واحد قد يخذلنا في فهم هذه الذّات الإبداعيّة، ولكنّ في النّهاية كل قراءة هي مغامرة في جهة ما، والمغامرة ستتّسم بالفوضويّة وتعدّد المداخل.
إن شكل القراءة التي نفترضها تكسر النّظام، أي أنّها تقوّض كلّ عالم النّظام الّذي جرّته علينا الحداثة، إنّنا نستقرّ في عالم متعدّد ومادي، عالم تسوده الحلولية المادية الشديدة التي زرعها الاستعمار كنظام تحويلي لتلك العقلانية الصلبة والفجة في دول الجنوب كنوع من الرد الماهوي للمركزية الغربية التي تعمل على إنتاج ممثليها الثقافيين كما يقول إدوارد سعيد في تحليل لنظام السكني الثقافية للآخر فينا، فهل فكّرنا كيف نُقاوم الإقامة اللاشرعية للآخر في منظومتنا السردية، حيث نفصل بين أشكال الوصف للنظام الكولولنيالي وبين الصور التمثيلية للثقافة الأصلانية، إن نموذح السردية الغربية يقوم في شكل الإغتصاب الذي تمّ إنجازه في سرديتنا الوطنية عبر إقامة نماذج تمثيلية للغرب في نصوصنا الكبرى، مع إناز******* سردية بديلة تقوم على نوع من التحيّز السردي للذات في طول المقول السردي الوطني، إن السردية الوطنية التي أنجز في عمقها “مرزاق بقطاش مشروعه يمكنها أن تشرح كثافة الألاعيب التمثيلية لأنماط وأشكال السرد التي تتباع المرحل الزمنية وفق تطوّر نموذج النضال في تاريخنا الوطني، فالكتابة بهذا المعنى تعدّ أخطر الأسلحة الّتي نجابه بها غربة هذا العالم، ونفكّك بها وحدته الظّاهريّة لنصل إلى متعدّده، من خلال إنخراطنا في مشروع الكتابة وإنجاز عالمنا الخاص داخل النص، فأن نمتلك استقلالنا يعنى ذلك جر الاستقلال من الجغرافيا إلى النّص، فالاستقلال الّذي لا نصّ له، هو استقلال مجروح ومنقوص.
لا يجب أنْ نقرأ الرّواية لنبرهن عن العالم، بل علينا أنْ نغرق العالم في النّص ليصبح للعالم معناه، فالعالم لا ذاكرة له خارج النّصوص. وبالتالي تبقى الذاكرة دوما تحمل وعيا عن شقاء العالم الأول الذي ارتبط بتراجيديا مليئة بالصخب، تراجيديا التحرير والاستقلال ومن حقنا ـ كما يقول ـ أفلاطون أن نطرد من تاريخ الكتابة كل النصوص المزيفة التي لا تمثلنا ولا تقدم هويتنا لهذا العالم . من هنا ندخل إلى المنجز الرّوائي أو الفعل القصدي للكتابة الرّوائيّة عند مرزاق بقطاش، إنّها كتابة تعجّ بالذّاكرة، كتابة تعود دوما إلى الطّفولة والبيت والأمّ والأب والإخوة والحي والغاية. إنّها تحمل كتلة من النوستالجيا هذه الأخيرة الّتي تعني “عشّ الحمام أو الطّائر” كما يقول فلاديمير يانكليفيتش، وحدها الطّفولة المجروحة من تمتلك فعل الحكي. فما معنى أنْ يحكي الطّفل ذاكرة الوطن؟
نكون هنا أمام نص تأسيسي ليس في مسار الكتابة عند بقطاش فقط، بل نصّا تأسيسيّا يقف وجها لوجه مع نصوص أخرى، كنص “اللّاز للطّاهر وطّار” و”نص فاجعة اللّيلة السّابعة بعد الألف لواسيني الأعرج”، و”ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة”، إنّه نص يتداخل فيها التّاريخ بالواقع. ما نسمّيه “نص الفرادة” هو الّذي ينتج عن اكتمال التّجربة الأدبية وأقصد هنا تحديدا نص: “طيور في الظّهيرة” مع لاحقه “البزّاة”، حيث لا تأتي التّجربة من شيء شبيه سوى بالعالم الّذي ينتمي إليه، إنّه عالم صاخب، هجين، يمتلأ بالأمكنة الّتي تموج بين:
– الأعلى والتحت.
– أوروبي وغير أوروبي.
– أصلاني وغريب.
هذه النّصوص الّتي تقتات فيها الكتابة على الترميز والتكثيف تحتاج إلى كثافة استعاريّة هائلة لممارسة فعل الشّرعنة، شرعنة الكتابة ودخول عالم النّص دائما ما تأتي من التّجربة، ولكنّها تجربة في المهد حيث لا يصبح للتّجربة معنى إلّا داخل النّص، نحن الآن منقطعون عن الحدث/الثّورة، عن التّاريخ في شكله الخطّي لكنّنا مرتبطون به نصّيا، إذا النّص وحده هو من يستدعي التّاريخ. وهو من يكشف المعنى، بل من يفضح ألاعيب اللّغة، وما تختزنه من إغراءات، هذا النّص الفريد هو الّذي مارس من خلاله الجزائري فعل الكلام بعد عقود من الصّمت.
أنْ يتكلّم الجزائري معناه أنّ هناك قلقا ما يواجهه، قلق الحدث وقلق الهويّة وقلق المستقبل، فالطّيور وحدها من تملك أجنحة للعبور على كلّ هذه الأشكال، فليس سهلا أنْ نمضي من تاريخ الصّمت إلى تاريخ الكتابة، هذا الحدث؛ هو الّذي أمكنه أنْ يجمع أشكال القلق في نص قال عنه الرّاحل الطّاهر وطّار “أنّه نص قوي”، إنّه يقصد “طيور في الظّهيرة” الّذي قال عنه الأديب الطّاهر وطار ما يشبه الكرامة.
“هل ولدوا حقا؟”
“هل بدأوا يغيّرون من أنفسهم حقا؟”
التّعبير عن الذّات معناه العبور من أزمة الجسد الجاف إلى إدراك وظيفة اللّسان، والتّعبير بقوّة يُحدِّدُ وجهين:
– وجه الكلام.
– وجه الكتابة.
فالتّنزيل هنا يكون على مستوى الرّتبة فقط، لذلك نحتاج إلى أجنحة للعبور من:
– من الصّمت إلى الكلام.
– من الكلام إلى الكتابة.
هذا الانتقال هو عبور كذلك من الظّلمة إلى النّور. ففعل الحكي عند مرزاق بقطاش يحمل هذه النّصوص، إنّه نصيّة يتماسف فيها الوعي عن كلّ ما يسبّب له الارتكاس والتّعثّر، هذا الوعي الشّقي الّذي يريد أنْ يجعل من المدينة موضوعا له، بل لنقل أنّ هذا الوعي سيجعل المدينة الأوربيّة تخرج لنا أثقالها حين تتكلّم الأطراف أو الحواشي.
فالكلام فعل نهاري يتّسم بالوضوح، وبروز النيّة والجهة المكتملة، لأنّ الكلام في ارتباطه باللّيل يصبح همسا، لذلك فالكلام النّهاري يرتبط بإعلان القصد، أمّا في اللّيل فيعني التستر والإخفاء، لذلك لم تكن حالة الأطراف في وضع التستر والكتمان، بل كانت في حالة الإعلان والإنجاز، إنّه كلام النّهار الّذي وظيفته الثّورة على كلّ أنماط العجز والخوف والارتكاس لصالح الثّورة، وقصديّة المتكلّم من قصديّة فعله، فالكلام يحمل إرادة الثّورة. والكلام يعبر بنا إلى الكتابة، والكتابة تشتغل على البروز والبيان، هذا يعني أنّ الجزائري كوّن وعيا كليّا بالقلم، وانتقل من فكّ الخط إلى فكّ الكينونة/ الكتابة وتحريرها. ما يعني أنّ الجزائري تخلّص من أنْ يبقى تابعا يحتمي بغيره، سواء يكون مخبوء في لسان غيره، أو يبقى بلغة دراسات التّابع؛ أنديجان في لحظة سياسية وتاريخية معينة.
إنّ الشّعور بالحريّة في رمزيّة الأجنحة الّتي تحملها “الطّيور” تحمل بحق أنّ الخروج عن الطّوق يبدأ من فعل الطّيران/الحريّة. حريّة التّنقّل والإرادة والفعل وهذا لا يتمّ إلا في ضوء الشمس (الظّهيرة)، والحريّة هنا فعل فينومولوجي يرتدّ إلى ذاته من خلال الطّيور، وبالتّالي فالخروج من الغسق إلى الظّهيرة هو خروج من “الأوربة” باعتبارها فعلا كولونياليا يهدّد القيم والحياة إلى النهار باعتباره حالة وعي كليّ بضرورة الاستقلال.
فالوعي هنا مصاحب لحالة الطّير وما ينجرّ عنه من إحالة التّحرّر والفعل، لأنّ الطّير خلق لوظيفة عزّزتها الآلة، وآلة الاستقلال هي الخروج من الوضع الّذي يستلزمه اللّيل المقابل للظّهيرة، فقوّة هذا النّص “طيور في الظّهيرة” الملازم لحداثة شاب عاين الاستعمار وآلة الخروج عليه استلزمت منه أنْ يفكّك الفضاء الكولونيالي، الذي كان بإمكانه أنْ يقوم بهذا الدّور الخطير من دون شكّ، فالوظيفة تستند إلى اللّاإرادي كما يقول نيتشة، لأن الطفل في حالة عطالة من الإرادة إنه يقوم فقط بعملية سابقة على الإرادة، يقوم بعملية الوصف والتشخيص أو بلغة فلاديمير بروب يقول****** برصد كلي لحالة الاستعمار.
لكنّ مرزاق بقطاش يتحدّى القدرة إلى الإرادة، فالقدرة من أوصاف الآلهة وأنصافها، والقدرة فيما يقول كانط تقرير سابق للمشيئة، أمّا الإرادة فهي فعل أرضي أحمق، نعم يكون في العادة أحمقا عندما يتخطّى حدود القدرة أو المشيئة، لذلك فالإرادة فعل ناقص من المشيئة، إنّه نزعة أرضيّة، تُسندُ للبشر، لذلك فالبشريّة بدأت بالمشيئة وانتهت إلى الإرادة، لأنّ الأخيرة تستلزم الرّغبة، والرّغبة تبدأ من نزق ما، أو من حلم ما، أو من طيش ما، أيْ أنّ الإرادة تحترف رغبة الإنسان في الحريّة.
والإرادة لعب بشيء ما، لذلك اختار السّارد شخصيّة “مراد” لأنّه يريد. فمراد لا يعبّر عن الإنسان القادر لأنّه في حالة غير القادر، فهو طفل صغير لم يصل إلى الاكتمال والنّضوج بعد. ما يزال كائنا يتشهى ويريد. كائن هش، يتحرّك في اتّجاهات مختلفة، يُلاحظ ويستنتج، لأنّ الاستنتاج من لوازم القدرة، لكنّه استنتاج ناقص، يعمل مراد على تعديله كلّ مرّة فيما يشبه اللّعبة التّركيبيّة الّتي يعمل الطّفل على تجميع عناصرها بشكل يعكس معاندة الذّات كما يقول علماء النّفس، إنّها عمليّة يوميّة وصعبة بالنّسبة لطفل يريد من خلالها أنْ يخوض تجربة ما، ينتقل في هذه اللّعبة من تجميع عناصرها إلى تركيب الصّورة مع طول الحكي. إنّ هذا النّوع من الكتابة هو ما نسمّيه اللّعب بالحكاية. حيث يلتقط حبّات التّمييز من خلال تشكيل صور بسيطة عن العالم الّذي يسكنه.
سرد سابق:
– يجد مراد نفسه في عطلة.
– لا مكان له سوى أنْ يذهب إلى الغابة لما يشكّله المكان من فضاء للّعب الحر.
– هناك يجد زملاءه يتعلّمون إنشاد بعض الأغاني الوطنيّة.
سرد لاحق:
– هناك صراعات كثيرة بين الصّبية.
– انتهت العطلة.
– ملاحظاته حول الحي وما فيه من صراعات بين ممثّليه المختلفين من العرب والمالط والاسبان والفرنسيين.
– ظهور الانقسامات بين الولاءات داخل هذا الفضاء الكولونيالي.
داخل هذا الفضاء المغلق والغريب من عالم الطّفل هو عالم /عالم الحي بدأ مراد يبني الحدث الكولونيالي انطلاقا من جملة التّعيينات الّتي ترتد في شكل علامات تحيل على شكل التحيّز للطّفل، يقول السارد: “مراد كغيره من أطفال الحي يشعر بنفور شديد من الفرنسيين دون أن يدرك سببا لذلك. فهو عندما بدأ يفهم بعض الحقائق في الحياة أدرك أن هناك فرقا بين العرب والفرنسيين. “لقد قيل له دائما أنهم مستعمرون احتلوا البلاد بالقوة”.
– روش مالطى وهذا يعني أنّه واحد من الكفّار كما قال له شيخ المسجد ذات يوم، فليس غريبا إذن أنّه يتعامل مع بن جلدته.
– “ثمّ وجّه أنظاره نحو روني فرآه يبتسم، كان قميصه مفتوحا على صدره وكانت أصابعه تعبث بصليب صغير في رقبته، وبصق مراد باشمئزاز وهو يرى الأصابع تعبث بالصليب، لقد رسخ في ذهنه بأنّه عالم الصّليب هو عالم الكفر والقتل”.
إنّه حكي الطّفولة يشتغل عن طريق المقارنة والتّمييز، لأنّ التّربية الدّاخليّة هي الّتي تبني رأي الطفل وتعمل على توجيهه، لذلك اشتغلت هذه الرّواية مع نصّها الثّاني “البزاة” على تحريك وظيفة الانتباه في الطّفل وتربية التّحيّز، وتحريك المقارنة، ليتمكّن الطّفل من أن يشكّل موقفا في الأخير، وهو موقف عام يعمل على التّربية بالحكاية، ليبدأ موضوع الاستقلال/ الحريّة في تشكيل عناصر ببناء شخصيّة مستقلّة عن الكيانات الأخرى الّتي فرضها الاستعمار الحلولي كما يقول عبد الوهاب المسيري، هذا النّوع من الاستعمار الّذي يفرض وجوده عبر عمليّتين خطيرتين:
1 – إحلال شعب مكان شعب آخر.
2 – تدجين طفولة الأصلاني بشكل يعمل على تشويهه في العمق، ويحوّله إلى مجرّد تابع/ أو كائن ممسوخ، والمسخ ظاهرة رومانيّة خالصة تغلغلت إلى العقل الأدبي الاستعماري بشكل عميق، حيث يشتغل المسخ على طمس النّماذج الكبرى للصّور في المخيّلة البشريّة، بتخريب يتمّ في مرحلة التّربية الأولى.
لذلك يشكّل هذا النّوع من الكتابة “طيور في الظّهيرة والبزاة” مقاومة أخلاقيّة ومعرفيّة، لأنّها تنطلق من تحديد طبيعة الغريب ورسم سماته الأخلاقيّة، لأنّ الطّفل لا يتعلّم بالمطلق، وإنّما يتعلّم عن طريق الجزئيات، وهي جزيئات تنتمي إلى طبيعة عالم الطّفولة الّتي ستعمل على تحريك الصّورة لتكتمل فيها**** بعد في حالة الانفجار أو الثّورة، لأنّ الثّورة في النّهاية هي لعبة طفوليّة في علاقتها بالمغامرة، والثّورة هي القفز على الواقع والحلم بواقع أفضل، لذلك يحتاج هذا اللّعب إلى بناء منطقي، فلكلّ لعبة منطقها الخاص لا شيء خارج المنطق، حتّى الفوضى هي أخطر أشكال المنطق صرامة.
سنجد أنّ مراحل تشكيل الوعي عند مراد تمرّ بثلاث خطوات:
– تشكيل تمييز ابتدائي داخل الحي.
– تشكيل تمييز عالِم داخل المدرسة.
– اكتمال التّمييز عند فقدان اللّعب.
يقول الرّاوي في نص البزاة: “لقد غاب الأصدقاء إذن وتقلّصت حدود اللّعب”.
فالشّكلين الأوليين الدائرين في حدود اللّعب كانا فقط من أجل توصيف العالم الكولونيالي، أمّا الشّكل الثّالث، فقد اكتملت به الصّورة.
1 ـ قصّة والده الّذي تعرّض لاضطهاد داخل العمل، حيث كان يشتغل كبحّار ويعرف مراد طرد والده من العمل يحمل احتقارا عميقا للجزائري في مجالات مختلفة.
2 ـ وعيه بالثّورة أو مجال الصّراع بين المجاهدين والمظليين .
فهذا الشّكل من الحكي بلسان الطّفل يعكس نوعا من النّقد القاسي للاستعمار الّذي لم يضطهد الجغرافيا والإنسان البالغ، وإنّما بلغة الطّفولة يحكي وجع الطّفولة الّتي عاشت وضعا صعبا مجهدا، وهي حكاية من منظور آخر مخالف تماما لطرق السّرد الكلاسيكيّة، التي تلجأ في العادة إلى الحكاية على لسان جندي أو امرأة، لكن أنْ يضطرّ العالم للحكاية على لسان الطّفل معنى ذلك أنّ هناك أزمة أخلاقيّة في عمق الرّؤية الداخلية للاستعمار الّذي رفع شعار الأنوار لكنّه اضطهدها هنا، هذه الأنوار الّتي تشتعل في جغرافيا غير جغرافيّتها، لقد بدأت أنوار الاستقلال بعد أنْ فشل أبناء الكوجيطو الدّيكارتي في المحافظة على وحدة العقل، يأتي هذا الطّفل الإفريقي “مراد” ليفتت خرافة هذا العقل الّذي جاء ينتشل الإفريقي من التّخلّف، ليسمع حكاية أخرى مؤداها لاضطهاد التّخلّف صناعة استعماريّة، والحلم والطّموح واللّعب خارج المركز لا يكون إلّا بتحرير الوطن، أو بصناعة دوح طفولي يكون الغناء فيه لغة بعيدة عن صوت الرّصاص.
إنّ التّغييرات الّتي طرأت على الرّواية بقطاشيّة تحرّكه في ثلاثة خطوط:
– الرّواية التّاريخيّة.
-الرّواية الذّاتيّة (المونولوج الدّاخلي).
– رواية الأزمة.
إن حركة الزّمن وتضخم التّجربة جعل شكل الرّواية يتحرّك بين الدّاخل والخارج، من خلال العلاقات الّتي يرسمها الشّكل مع الموضوع وشبكة العلاقات المختلفة؛
– مع التّاريخ / طيور في الظّهيرة؛ البزاة.
– المونولوج الدّاخلي/ خويا دحمان، دم الغزال .
– زاوية الأزمة/ يحدث ما لا يحدث.
مع أنّ الزّمن عند بقطاش يتحرّك في ثنائيّة واحدة دائما.
– حاضر/ماض.
ليستعيد من خلال هذه الزّمنيّة كلّ الاحتمالات الممكنة الّتي تجعل النّص قابلا للتّشكيل وتجعله قابلا للمتعة ممّا يضفي عليه سحريّة تجعل القارئ يُقبل على النّص بعمق، وأكثر النّصوص مدعاة للحيرة هو نصّ “دم االغزال” الّذي كتبه بقطاش في شكل سرد سيري للأحداث الأليمة الّتي تعرّض لها سنة 1993، يقول “أنا مرزاق بقطاش من ضمن المشيعين . الظروف السياسية شاءت أن أكون واحدا منهم مع أنني لست بالسياسي، وأكره السياسة والسياسيين، ولا أرى الخير فيهم أبدا حتى وإن كانت نيات البعض منهم حسنة، أنا واقف في زاوية من هذا المربع الذي انكسر شكله الآن بفعل الواقفين في جنباته وفي زواياه وفي القلب منه ..”. يستدعي الكاتب في هذا النص سرديّة السّواد بكل ما تحمله من ايديولوجيا السقوط، عمل مرزاق بقطاش على تعديل كلّي للأدب فلم يعد هو الّذي يطلب ما ينبغي أن يكون، وإنّما ما هو كائن، لأن الواقع أصبح أكثر خياليّة من الخيال، “فدم الغزال” يعبّر عن تأزّم مريع في المرجع، هذه الحقيقة الصّاخبة والمؤلمة الّتي أعادت الجزائري مرّة أخرى إلى لحظة الصّمت، مع أنّ نص دم الغزال ينتقل إلى لحظة المقبرة باعتبارها حدثا أنطولوجيّا عامّا، هذا الجنون الّذي تطوّر من الفردي إلى الجماعي ليل بقطاش،***** بقطاش ما نسمّيه سرد الحالات مع نص حديث ما لم يحدث ليحكي لنا نماذج عنه من الاغتيالات المختلفة.
– القتل بمعنى الحقيقي.
– القتل بمعنى المصادرة.
– القتل بمعنى السّجن.
الكتابة عن بقطاش تشبه هدهدة الأم لطفلها، فهو يهدهد الذّاكرة ويعيدها هنا مخضبة بالحاضر ليقوم على تشريح الحاضر المشوَّش والمغشوش كما في نصه “يحدث ما لا يحدث يقول، “كل شيء يصير مقبولا عندما تريد السلطة الإبقاء على سلطتها، وعندما يريد المزيفون من أشباه السلف الصالح أن يضعوا أياديهم على السلطة. لا فرق بين سلطة ظالمة جائرة وبين خلف يريد وضع أياديه على كرسي السلطة باسم السلف الصالح. المسافة الزمنية طويلة جدا بين الأوائل والأواخر . في هذه المسافة بالذات، قامت دول وتناحرت شعوب وسقطت حضارة بأكملها ونبتت حضارة أخرى وأتت على ما تبقى من الحضارة الأولى”.
فسرديّة الموت تعطّل كلّ وظائف الكلام لتشتغل الكتابة، باعتبارها فعلا ضدّ الصّوت، الكتابة سكون على خط التّاريخ، حيث كلّما ارتسم العنف والصّدمة تعطّل الصّوت لصالح الحدث. فحركة تحرير الأرض تحتاج إلى استعادة التّاريخ الأرضي داخل النص، إن النصوص الكبيرة وحدها من يمكن أن تبشر بالاستقلال والتحرير الموعود.
– مرزاق بقطاش، طيور في الظهيرة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1981.ص 8.
– ينظر مرزاق بقطاش، طيور في الظهيرة . ص ص 15. 16 .17.
-المرجع . ص 21.
– المرجع نفسه . ص 27.
– مرزاق بقطاش، البزاة، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1983.
– مرزاق بقطاش، البزاة . ص 17.
– مرزاق بقطاش، دم الغزال ، دار القصبة للنشر الجزائر 2012.
– المرجع نفسه . ص 14.
– مرزاق بقطاش، يحدث مالا يحدث، دار هومه الجزائر 2004. ص 44.