طالما كان السفر واسكتشاف المجهول يستهوي الإنسان، وحتى وإن لم يكن في استطاعة الجميع القيام بذلك، إلا أن فكرة الرحلة، في حدّ ذاتها، دغدغت خيال الناس، فتمثلوا أنفسهم في أبطال الملاحم ورحلاتهم. وإذا ارتبط أدب الرحلات بأغراض العلم، حتى سمي في مرحلة ما بالأدب الجغرافي، إلا أنه لم يخلُ من الخيال وآثاره، فارتبطت أشهر الأعمال الروائية بالمكان، بل وجعلته شخصية رئيسية، مساهمة في ظهور “السياحة الأدبية”.
تلاحظ د.سهام سديرة (المدرسة العليا للأساتذة قسنطينة) أن الرحلة، باعتبارها فعلاً إنسانيا، قد عرفت تطورا وتوسعا، وهي بكل اتجاهاتها وميادينها المختلفة سِجِلٌّ حقيقي لمختلف مظاهر الحياة الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وتكمن قيمتها في تفسير الظاهرات ودراستها، لتضعها في أيدي الجغرافي أو المؤرخ أو عالم الاجتماع. هذا إلى جانب قيمتها الأدبية، حيث تعرض جُلَّ مضامينها بأسلوب أدبي يرقى إلى مستوى الخيال الفني، لِيمْثُلَ أمامنا أدب الرحلات في تنوع أساليبه من السرد القصصي إلى الحوار إلى الوصف وغيره، وفي بعض الأحيان ينحو هذا الأدب منحى الجفاف والصرامة حينما يتناول الموضوعات العلمية، فهو يتنوع تبعا لتنوّع وغنى مادته، فهو تارة علمي وتارة شعبي، وهو طورا واقعي، وأسطوري على السّواء، تجتمع فيه المتعة والفائدة في وقت واحد.
ويعتبر د.كمال بن عمر (جامعة الوادي) أن أدب الرحلات، رغم عدم اندراجه في إطار الأجناس الأدبية المعروفة كالشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة، بيد أنه اكتسب نوعا من الخصوصية بسبب ارتباطه الوثيق بموضوع محدّد هو الرحلة، فنسب إليها، وعُرف بها. كما أنه يتسم بقدر كبير من المرونة يسمح له بالانفتاح على تلك الأجناس جميعا، فينتقي منها ما يخدم أغراضه.
ويحاول د.ناصر بعداش (المركز الجامعي ميلة) تتبع حركة الفضاء الجغرافي في أدب الرحلات، ذلك لأن الرحلة نص نثري يعتمد آلية وصف المشاهد والأماكن الجغرافية التي تقع عليها عين الإنسان الذي يمارس الرحلة ويسعى مسافرا في الأرض، ويتنقل بين الأقطار الضاربة في العمق واكتشاف أماكنها وفضاءاتها المتعدّدة، وبالتالي فالرحلة تحتوي على مسرح تقع فيه الأحداث وتتصارع فيه الأفكار والشخصيات، حيث لا مجال للانغلاقية.
من جهتها، ترى الباحثة فتيحة بخالد (جامعة تلمسان) أن أدب الرحلة يتنوع بتنوع أغراض الرحلة، وباختلاف وجهة أنظار الرحالة وغيره من الأسباب، وبالتالي فإن أدب الرحلة ينقسم إلى: أدب الرحلة القصصي، الجغرافي، الثقافي، المشاعري، والديني. وتعتبر الباحثة أن هنالك تقاطعات للعجائبي والغرائبي في أدب الرحلات، وأن هذا الأخير لا ينقل الواقع بالضرورة، بل قد يتضمن الكثير من الخيال، ما يقودنا إلى نوع آخر من هذا الأدب، وبالتالي فإن الأوديسا، وجلجامش، ورسالة الغفران، وأبو زيد الهلالي، وغيرها من الملاحم الأدبية، قد صنفت على أنها نوع من أنواع أدب الرحلات، لأن البطل فيها هو الذي يذهب ويسافر وينتقل ويرتحل من مكان لآخر. وفي هذا الصدد، تذهب د.سهام سديرة إلى اعتبار العجائبية في أدب الرحلات ظاهرة تخدم السرد وتحتفظ بالتوتر، فحضور العنصر العجائبي يتيح تنظيما للحبكة، ما يخلق أثرا خاصا في القارئ خوفا أو رعبا، اندهاشا أو استعظاما.
ومن الأمثلة على الكتابة “غير الروائية” لأدب الرحلات، أبو القاسم سعد الله، الذي يقول د.كمال بن عمر إن أدب الرحلات لديه يكشف عن أبرز الملامح المميزة لشخصيته العلمية في بعديها التاريخي والأدبي. ففي مجال الدراسة التاريخية، يتّسم سعد الله بسعة الاطلاع، والمنهجية العلمية في التحليل والمعالجة والتوثيق، والدقة والوضوح في اللغة العلمية، مع استدعاء ثقافته الأدبية والنقدية في المواضع التي تقتضي ذلك. أما في المجال الإبداعي، فإن أدب الرحلات عنده يبرز بعض السمات المتعلقة بهذا النمط من الكتابة لديه كدقة الملاحظة، والقدرة على استيعاب المشهد الموصوف، أو الموضوع المعبّر عنه، بالإضافة إلى الشجاعة الأدبية المتمثلة في تسجيل الوقائع، وإبداء الرأي بشكل موضوعي، إلى جانب امتلاكه لناصية الأسلوب الأدبي الجميل كلما اقتضى الأمر ذلك.
الرواية والمدينة.. علاقة وثيقة
من جهتها، ترى د.كيسة ميساء ملاح، أستاذة قضايا الأدب والدراسات النقدية والمقارنة، أن العلاقة بين الرواية والمدينة علاقة وثيقة، ولا يقتصر حضور المدينة في الرواية بوصفها بنية مكانية مؤطرة للأحداث فقط، بل يتعدى ذلك لتكون شخصية رئيسية وفاعلا سرديا موجها لأحداث الرواية وتطورها، وكذا موجها لتلقي القارئ لحضور هذه المدينة، وكثيرا ما كانت الروايات دافعا للقراء لزيارة مدن وأماكن بعينها، وكانت الرواية مرشدا سياحيا لأماكن اهتم بها الروائيون وهو ما اصطلح على تسميته بالسياحة الأدبية، التي تقتضي تتبع أماكن وردت في الرواية، أو أمـاكن عاش فيها الكــاتب وتنقل بينها.
وتتخذ د.ملاح من مدينة الجزائر مثالا على ذلك، إذ تغري جغرافيتها الروائي الجزائري فيصورها بناء على ما يسميه محمد داود “الوعي الخاضع للفضائية conscience spatialisée”، حيث تلعب الحواس دورا أساسيا في تمثيل المدينة وشحنها بالأبعاد الوجدانية والانفعالية والرمزية، فتبدو لزائرها كمشهد مهيب معروض يستغرقه.
ويعبر وصف المدينة بجغرافيتها ومعالمها وتاريخها وناسها عن شعور بوجود ألفة بين الكاتب والمدينة يجعله يشعر بالغبطة لانتمائه أو لاكتشافه هذه المدينة، وتسمى عملية إقامة علاقة أليفة مع الفضاء بالتعشيشnidification ، (عن محمد داود: الفضاء القسنطيني في رواية “الزلزال”)، فيسكن الكاتب المدينة وتسكنه، ويتلبس بها، ويكتشف ذاته عبر اكتشافه لمدينته، وهو اكتشاف مغلف بالبحث والدهشة والرؤية المغايرة.
ولأن الرواية تمتلك قدرات على تحليل مختلف الظواهر الاجتماعية والفكرية المرتبطة بالمدينة، نجد الرواية الجزائرية لا تبتعد عن هذا المجال وتحلل ظاهرة المدينة التي فقدت بريقها، بل إنها تحاول أن تعيد لهذه المدينة شغفها وجمالها، وروح فضاءاتها الطبيعية والاجتماعية والعمرانية، فتصف شوارعها وأزقتها وأحياءها، ويتتبع القارئ وصف الروائي لهذه الشوارع كأنه يتتبع خريطة.
وتستشهد ملاح بمجموعة معتبرة من الروايات التي وصفت مدينة الجزائر، ووظفتها بطرائق مختلفة، على غرار “فيلا الفصول الأربعة” لإبراهيم سعدي، و«شرفات بحر الشمال” لواسيني الأعرج، و«توابل المدينة” لحميد عبد القادر، و«الحماقة كما لم يروها أحد” لسمير قسيمي. وبالحديث عن هذا الأخير، تجد د.ملاح يقول إن وصف شوارع العاصمة يتكرّر في أغلب رواياته، منذ روايته الأولى “يوم رائع للموت”، وكذلك روايته “تصريح بضياع” ورواية “في عشق امرأة عاقر” التي كان حدثها الرئيسي يتمثل في توقف القطار المفاجئ بين محطتي آغا ومحطة الجزائر، وكذلك روايته “حب في خريف مائل” حيث يمكن للقارئ أن يتتبع تحرك الشخصيات في الأماكن والشوارع التي يصفها الكاتب بواقعية شديدة، تجعل القارئ يتعرف على المكان بسهولة، حتى وإن لم يكن من سكان الجزائر العاصمة، وهذا ما فعله في روايته “سلالم ترولار”.