شكّلت كلمات الأغاني والأشعار موردا هاما، ومؤشرا أساسيا من المؤشرات الحضارية لفهم القيم الاجتماعية السائدة في المجتمعات، نظرا لارتباط الأغنية، على اختلاف مراحلها العمرية بالنسبة لهذه المجتمعات بالعادات والتقاليد، ومنها الغناء الصراوي البدوي.
رابح سلاطني
يعكس هذا النمط من الغناء، حياة البداوة بجوانبها المختلفة، إذ تشكّل كلماته وعبارته المنظومة في شكل أبيات وأشعار، تراثا ودليلا لهوية تعبر عن مدى ارتباط الإنسان بأرضه وموطنه، كما تعدّ كلمات الأغنية الصراوية سجلا هاما يرصد تاريخا من العادات والتقاليد التي تعبّر عن خصوصية هذا الإنسان، وتعبّر عما يمرّ به في حياته اليوميةّ من أفراح وأحزان، أضحت مع مرور الزمن جزءا لا يتجزأ من العادات والتقاليد.
ارتبط الغناء الصراوي في بداياته الأولى، بقوة الحنجرة ورخامتها، حيث يراعى فيه مدى تناغم الكلمات مع الصرخة أو ما يسمى بـ«العيطة”، من خلال الاعتماد على طبقات الصوت مع المضمون والغرض المراد لهذه الأغنية، من فرح أو حزن أو مدائح دينية أو قضايا اجتماعية، وما تزال كثير من الأغاني والكلمات التي أدخلت أصحابها إلى عالم الشهرة والعالمية، ترجع في أصلها إلى الغناء البدوي الصّراوي.
تعدّدت الروايات حول أصل تسمية هذا النمط من الغناء، حيث تؤكد بعض الروايات أن المرأة كانت تصعد إلى أعالي الجبال والمرتفعات، وتطلق العنان لصوتها العالي، بألفاظ وعبارات منظومة ومتناسقة، تعبّر عن تلك الأحاسيس والخواطر التي تجول بدواخلها، فيما ترجع بعض الروايات الشفوية، الأصل في هذا الغناء إلى شجرة السرو المنتشرة في البوادي والجبال، غير أن الإجماع في ذلك تقريبا هو حول تسمية هذا الغناء لارتباطه بالخلاء والأماكن البعيدة عن العمران والحضر من بداوية وريف، حيث تطلق تسمية الصرا على البادية، الخلاء والجبال في مناطق الهضاب العليا بمنطقة سطيف وبرج بوعريريج، وبجاية، أين كانت النسوة تمارسن الغناء خلال خروجهن لقطف الثمار، أو لجني ما تجود به الأرض من خيرات وثروات، ومنه انبثقت هذه الأغاني لكل منطقة على حسب تسميتها ومنها أغنية الصرا القبائلي، والتي كانت النسوة تتغنى بها خلال مناسبة جني محصول الزيتون، إضافة إلى الغناء النايلي، الشاوي، والسطايفي.
الصراوي أصل السطايفي.. الشاوي والنايلي
يرى عريبي جمال، رئيس جمعية الآمال للموسيقى، الناشط في مجال التراث والموسيقى منذ فترة السبعينيات، أن الغناء الصراوي شكّل على مرّ العصور مصدر إلهام بالعبارات والكلمات للعديد من الأشكال الفنية، والغناء الشعبي الذي نهل منه، حيث ارتبط هذا النوع من الغناء بالبيئة التي يعيش فيها هذا الانسان، وتطوّر على مرّ العصور لتبثق عنه أغان وأشكال على اختلاف المكان والعادات والتقاليد، على غرار الغناء القبائلي الذي يمتاز بسرعة في الايقاع والرقص تماشيا مع خصوصية البيئة، والغناء الشاوي والنايلي المنبثق عن الغناء الصراوي، الذي يمتاز ببطء في حركة الايقاع تماشيا مع نمط الكلمات والبيئة، وكذلك الشأن بالنسبة للغناء السطايفي الذي يشتق منه تسمية الأغنية السّطايفية نسبة للمنطقة، فكل هذه الأشكال ترجع في أصلها إلى الغناء الصراوي البدوي المرتبط بالمرتفعات الجبلية والأراضي الريفية المعزولة.
الصحة يا الصحـة.. أنموذجا
تتعدّد المناسبات والمواضيع التي ترتبط بالغناء الصراوي، والذي لا يتعلق بحسب الناشط الثقافي جمال عربي، بموضوع واحد فقط، وإنما ترتبط كلماته بجوانب مختلفة من الحياة، فمنه ما ارتبطت مضامين كلماته بالأفراح والأعراس، مثل “يدو في الحنة”، و«ديرولو الحنة”، ومنها الأغاني التي عالجت مواضيع تتعلق بالشأن الاجتماعي لتعبر عن أحزان وخلجات النفس الباطنية من أحاسيس وآلام، وسرد مآسي السّكان مع صعوبة المعيشة، والآفات الاجتماعية والتي تحاول من خلالها كلمات هذا النوع الفني معالجة الظاهرة أو تنبيه وتوعية المستمع، ومنها الأغنية التي ذاع صيتها وأضحت كلماتها – مع مرور الزمن – راسخة عند أهالي المنطقة، وأداها العديد من الفنانين مثل مختار مزهود والخير بكاكشي وسمير العلمي، ووصلت إلى العالمية بعد أن أداها الشاب مامي، وهي أغنية “الصحة يا الصحة”، حيث جاء في مطلع هذه القصيدة “….الصحة يا الصحة يا عدوّة مولاها. .، وإذا غابت الصحة وين رايح نلقاها، دخلت لفزيت وتلمو لحباب، وأنا لقريبة قعدت نشوف من الباب، يا السبيطار العالي بعلاواتو، كي كتبلي ربي تغطيت بدراواتو، أنت يا الفرملية عليلي الوسادة، لا جاتني الموت فكريني في الشهادة، أنت يا لميمة اديري في لعراس، وبنتك لعزيزة وجدولها لمقاص، كي هبطوني للبلوك قالوا جيب دوسيها، لشفناها ماتت نبعث لمواليها، من صابني حمامة وندير جنحين، ونشوف وليداتي غير بالعين، يا سبيطار العالي بالقبة، كي جاتني الموت دارو بيا…”..
وتروي القصة معاناة امرأة أصابها مرض عضال حسب الروايات الشفوية، اسمها مليكة بوعويرة من مواليد عام 1957م، بمنطقة ملوزة ببلدية ونوغة دائرة حمام الضلعة، ولاية المسيلة، حيث أطنبت القصيدة في وصف تلك اللحظات العصيبة التي ألمت بها خلال رحلة العلاج، بين بيتها البعيد، ومركز بيار وماري كوري بالمستشفى الجامعي مصطفى باشا بالعاصمة، قبل إجراء عمليتها الأولى، واكتشاف الأطباء لحملها بطفل، وفي غمرة هذه الأحزان والآلام، تضع مولودها الذي أسمته جمال، وتروي هذا المشهد بكلمات حزينة يوافقها في القصيدة “…لا وحم ولا دلال، بل تحاليل وعلاج بالأشعة…”.
أجرت هذه الأم الصغيرة أربع عمليات، كما تحاكي القصة حياتها الاجتماعية بين سبعة إخوة، لتنهي رحلة الشقاء والمعاناة بوفاتها سنة 1975 حسب الروايات، تاركة أغنية عالمية أدخلت كثيرين إلى مجال الشهرة بكلماتها التي تعبر عن واقع مرير من البؤس والشقاء مرت به صاحبة الكلمات الأصلية مليكة بوعويرة.
موروث ثقافي ينبغي صونه..
أما عن واقع الغناء الصراوي، اعتبر عربي جمال أن هذا النوع من الغناء مايزال محبوبا ومطلوبا في كثير من الأعراس والمناسبات، بل ويعتبر جزءا لا يتجزأ من هوية هذه المناطق، له جمهوره ومتتبعيه، إلا أنه آيل للاندثار والزوال إذا لم يحظ بالاهتمام من طرف مسؤولي الثقافة والجهات الوصية من أجل حفظه وحفظ جزء مهم من تاريخ الأغنية البدوية التي تحتوي على العديد من القصائد والكلمات التي تؤرخ لعادات وتقاليد المجتمعات عبر العصور والمراحل التاريخية، من أجل حفظه ضمن التراث الجزائري، أو إدراجه ضمن الفنون الأخرى، على غرار الأندلسي، والمألوف من خلال تسليط الضوء عليه في الدراسات الأكاديمية والرسائل العلمية على مستوى الجامعات والمعاهد الفنية، باعتباره تراثا، وفنا يشكل جزءا من العادات والتقاليد الراسخة في الأمة.
الصراوي.. لسان المجتمع والمؤرخ له
من جهته، اعتبر كاتب الكلمات والمهتم بالتراث المحلي علي سلماني، أن الغناء الصراوي بشكل عام، كان لسان حال لواقع وظروف اجتماعية وسياسية مرت بها الأمة، واصفا أحداثا ووقائع تاريخية حدثت، حيث تسرد من خلالها “القوالة” أو “القوال” كما يسمى لدى السكان المحليين لمنطقة البرج وسطيف تلك الوقائع والأحداث التي تمر بها المجتمعات في البادية وفي الريف، من خلال كلمات وعبارات تكون منتقاة ومحبوكة من مختلف اللهجات المحلية بشكل دقيق ومحكم، وفقا لخصوصية كل منطقة.
وقال سلماني في السياق ذاته، إن خصوصية المنطقة هي العامل المميز في الغناء الصراوي الذي يختص بمنطقة سطيف، عن منطقة الحضنة وباتنة مثلا، إلا أنهم جميعا يشتركون في ما يعرف محليا بالـ«العيطة” أو الصرخة، حيث أنها الأساس والأصل في الغناء “الصراوي” على حدّ وصفه، وقد شمل الصّراوي في موضوعاته العديد من المجالات والجوانب الحياتية المختلفة، وتجلى ذلك في كلماته وعباراته التي أرّخت لهذه الأمة، منها الأغاني الثورية، مثل أغنية “جينا من عين مليلة.. سبع أيام على رجلينا”، وهي تروي وقائع معاناة المجاهدين في الجبال والشعاب، في مواجهة جبروت المستعمر الفرنسي، ومنها أيضا أغنية “الطيارة الصفراء” الخالدة، لصاحبتها يامينة مكور، ابنة مدينة مجانة التي تسرد فيها فضائع القصف من طرف هذه الطائرة، ووقعها الذي ما يزال مستمرا في نفوس أجدادنا وآبائنا إلى غاية اليوم، إذ كان يرتبط ظهور هذه الطائرة الصفراء اللون التابعة لسلاح الطيران الفرنسي، بمجازر يومية جراء حرقها لبيوت العزل في القرى والأرياف، حيث تختزل شاعرة الثورة يامينة مكور هذه المعاناة في أسلوب الترجي لهذه الطائرة، بأن لا تقتل أخاها الوحيد.
الطيارة الصفرا حبّسي ما تضربيش… حبّسي ما تضربيش
نسعى رأس خيّي الميمة ماتضنيش.. الميمة ماتضنيش
نطلع للجبل نموت.. نموت وما نرانديش.. نموت وما نرانديش
الله الله ربي رحيم الشهداء.. رحيم الشهداء.
وبالمقابل، دعا علي سلماني السلطات الوصية إلى ضرورة الاهتمام بهذا النوع من الغناء التراثي وحمايته من الاندثار، كون دلالاته وكلماته الشعرية تحمل العديد من القصص والوقائع التاريخية وتاريخ المنطقة، وهي جزء لا يتجزأ من موروث هوياتي لم ينل ما ينبغي له من الاهتمام، ومازالت كلمات الغناء الصراوي تستحضر في كل عرس وحفل ديني وفنتازيا، تصدح به أفواه أمهاتنا في كل مناسبة..
جرد دقيق لمناطق الصراوي..
أكد مدير الثقافة لولاية برج بوعريريج، كبور عمر، لـ«الشعب”، بأن هذا النوع من الغناء الذي يتنشر في العديد من المناطق الجزائرية خاصة الشرقية، على غرار منطقة سطيف، برج بوعريريج والحضنة، يتميز بخصوصية مميزة عن باقي الألوان والأنواع الغنائية التي تزخر بها الجزائر، مع تسجيل اختلاف طفيف بينه وبين الغناء الصراوي الذي ينتشر في منطقة مروانة وشلغوم العيد، ويتميز بخامة رقيقة مقارنة مع الصراوي المتواجد في منطقة سطيف والبرج الذي تميزه خامة صوتية غليظة نوعا ما، مع التأكيد على أن الغناء الصراوي بشكل عام يشترك في أساسيات ثلاثة، اعتبرها محدثونا خصوصية تميز الغناء الصراوي عن باقي الألوان والأنواع الغنائية التي تشتهر بها الجزائر، وهي خامة الصوت وقوة الحنجرة، وتغنيه النساء والرجال على حد سواء في مختلف الأعياد والمناسبات الاحتفالية.
وأشار محدثنا – في السياق ذاته – إلى جهود ومبادرات تعكف مديرية الثقافية على تجسيدها، من أجل حماية هذا النوع من الغناء المهم، وذلك من خلال القيام بخطوات ثلاثة رئيسة، تتمثل في القيام بعملية جرد دقيق حول المناطق التي ينتشر فيها هذا النوع من الغناء، مؤكدا أن عملية الجرد انطلقت بالفعل منذ سنوات، في منطقة مروانة التابعة لولاية باتنة، أما العملية الثقافية فتتعلق بدراسة دقيقة من طرف مختصين وخبراء في المجال الثقافي والتراث اللامادي، ليتوج في النهاية بتصنيفه كتراث لامادي ينتشر في منطقة الشرق الجزائري، ويحمل تسمية الغناء الصراوي والتي من خلالها فقط نستطيع تأسيس محافظة سامية باسم الغناء الصراوي، من أجل المحافظة عليه كتراث وموروث تاريخي، عبر إحياء ندوات وطنية تحمل اسم هذا النوع من الغناء، تتمّ دراسته ووضع الأطر الأكاديمية والعلمية له من خلال الجامعات وعبر الرسائل والبحوث العلمية.