كثيرا ما نتطرق إلى المهرجانات الثقافية من حيث تاريخها ومضمونها ومجال اختصاصها، وحتى جماهيريتها.. بالمقابل، قلّما نتحدث عن الفضاء الحاضن للمهرجان، بمعنى المدينة. هنالك علاقة وظيفية بين المهرجان الثقافي والمدينة، ولا تعوزنا الأمثلة عن مهرجانات ارتبطت أسماؤها بأسماء مدنها، وعن مدن اشتهرت وذاع صيتها بالمهرجانات التي تنظمها. وارتباط مهرجان ما بمدينة من المدن ليس وليد الصدفة، يقول الباحث في فلسفة الفن عبد الحق الزين.
يعدّ عبد الحق الزين، الباحث في فلسفة الفن والتراث والمهن الثقافية بجامعة وهران 2، واحدا من أكثر الباحثين اشتغالا على موضوع المهرجانات الثقافية والفنية، وعلاقتها بالفضاء المديني. ونذكر من بين الأعمال والمقالات المنشورة لهذا الباحث، “خصوصية الفضاء المديني لاحتضان التظاهرات الثقافية” (رفقة الباحثة حورية بن قدور)، و«المهرجانات الثقافية والفضاء المديني: وهران أنموذجا”، و«مهرجانات الأفلام: فضاء للتفاعل الثقافي وتثمين التراث”، و«مهرجانات الأفلام والإعلام الجديد: مقاربة في تبني المبتكرات الجديدة”.
يرى عبد الحق الزين أن ارتباط تظاهرة ثقافية أو مهرجان ما بمدينة من المدن ليس أمرا اعتباطيا أو وليد الصدفة، باعتبار أن الاختيار يخضع في العادة إلى شروط محددة تفضي إلى اختيار مدينة ما عن غيرها، مشيرا إلى وجود خصائص ينبغي أن تتوفر في الفضاء المديني من أجل احتضان أحداث ثقافية على شاكلة المهرجانات الثقافية والفنية. ويأخذنا الحديث عن الفضاء المديني كحيز لاستقطاب التظاهرات الثقافية والفنية من احتفالات ومهرجانات، إلى إلقاء الضوء على الفضاءات العامة للمدينة وخصوصيتها، وما تحتويه من رصيد ثقافي ومقومات وإمكانات مادية ولامادية.
وحسب الباحث، نشاط الإنسان مرتبط بطبيعة المحيط الذي يعيش فيه، وهو يحاول دائما التأقلم معه وتسخيره لتلبية حاجاته. ومن بين الأنشطة التي يقوم بها الإنسان إقامة العروض والتظاهرات وبخاصة في المدن، بالنظر إلى احتواء المدينة على هياكل تشمل الخدمات والاقتصاد والثقافة وغيرها، كما تمثل المدينة فضاءً يتوفر على العديد المرافق التي يحتاجها المواطن، ومن ضمنها المرافق الثقافية كالمسارح، وقاعات السينما، والمتاحف، ودور الشباب، وغيرها. و«يسمح الفضاء المديني بتوفر هذه المرافق بالموازاة مع هياكل أخرى”، يقول عبد الحق الزين، الذي يسلط الضوء على التفاعل بين المدينة كهندسة وروح، والنشاطات الثقافية لمختلف التظاهرات، وبالتالي على الشروط التي ينبغي على المنظم أن يعيها لإقامة التظاهرة الثقافية بمدينة ما، واستجابة المدينة بدورها لشروط إقامة التظاهرات الثقافية.
ويعتبر عبد الحق الزين أن الفضاء المديني يرتبط بمجموعة من الوظائف تجعله متميزا عن الفضاءات الأخرى. ويحصر الوظائف الحضرية للمدينة في كل من الوظيفة الاجتماعية، والوظيفة الصناعية، والوظيفة الإدارية، إلى جانب وجود وظائف أخرى على غرار الوظيفة الاقتصادية، الفكرية والعلمية، السياحية، الدينية. وفيما يتعلق بخصائص المدينة، يستشهد الباحث بما اقترحه جوزيب رامونيدا (Josep Ramoneda) حول الفكرة الفلسفية للمدينة، بتقديمه تسع نقاط حول خصائص المدينة من منظور فلسفي (أو الفئات الفلسفية التسعة التي يتم التعبير عن فكرة المدينة حولها، بتعبير رامونيدا الدقيق) وهذه الخصائص هي: أولا التغيير، إذ لم تكن المدينة أبدا شكلا نهائيا، بل هي شكل يخضع لتغير مستمر: التغيير على عكس الجمود. ثانيا التعددية على النقيض من فكرة الهوية. ثالثا التمايز بمحددات (بتعبير رامونيدا الدقيق: الضرورة على عكس العزم). رابعا المدينة فضاء للحرية، حيث تكون المدينة كذلك بقدر ما توفر إمكانية التمويه، والهروب من المجالات التي تسيطر فيها السيادة الطبيعية في مجالات التعايش الأخرى، ولا سيما في الشكل الاجتماعي الأصلي للعائلة. خامسا التعقيد، فالبساطة ليست صديقة للمدينة، فهي معقدة بحكم التعريف، وأي محاولة لتجانس مدينة تعني خلق أشكال من الفصل العنصري والمحميات التي لا تتوافق مع فكرة المدينة. سادسا التمثلات، فالمدينة موقع للتمثيل الرمزي. سابعا، المعنى أي أن المدينة صانع أو منتج للمعنى (ونشير هنا إلى أن رامونيدا يعتبر المدينة مساحة ثقافية على عكس الفضاء الطبيعي). ثامنا تحول التمايز (ويسميه رامونيدا التحول على النقيض من الثبات). تاسعا وأخيرا المدينة باعتبارها مجالا لهيمنة النحن على الأنا، حسب عبد الحق الزين (وننوه هنا أيضا بأن رامونيدا، في نصه الأصلي، يعتبر المدينة مجالا لما هو فريد، في مواجهة المجتمع، فالمدينة حسبه هي مجال “أنا” بينما المجتمع هو مجال “نحن”).
وكل هذه الوظائف والخصائص، حسب الباحث، تجعل من الفضاء المديني فضاءً متمايزا ومتفردا عن الفضاءات الأخرى، كالفضاء القروي أو شبه الحضري، ومن هذا المنطلق يمكن البحث في مميزات وخصائص هذه المحددات التي تجعلها حاضنة للحدث الثقافي.
وفي الجزائر، يقول عبد الحق الزين، لا تتقدم المدن بترشيحات فيما بينها لاحتضان التظاهرات، بما في ذلك الثقافية، بل نجد أنه، في غالب الأحيان، يتم توزيع المهرجانات الثقافية على المدن حسب النمط الغالب للفن المنتشر فيها، ويذكر الباحث بعض الأمثلة على ذلك، حيث نجد مهرجان الراي ومهرجان الأغنية الوهرانية بمدينة وهران، ومهرجان الأغنية التارقية بمدينة إيليزي، ومهرجان الرقص الشعبي بمدينة سيدي بلعباس، ومهرجان الأغنية القبائلية بمدينة بجاية، ومهرجان الأغنية الشاوية بمدينة خنشلة، ومهرجان الأغنية السطايفية بمدينة سطيف، ومهرجان موسيقى مزاب بغرداية، ومهرجان الأغنية السوفية بوادي سوف.
وخلص الباحث إلى أن عملية اختيار المدن تخضع إلى مجموعة من الشروط والمعايير التي تحدد مؤهلات المدينة في احتضان التظاهرة مهما كان نوعها، وبالخصوص الثقافية منها، لذا فإن على القائمين على تسيير الشأن الثقافي الأخذ بتلك المحددات من أجل تنظيم التظاهرات الثقافية، خصوصا تلك المنظمة على الصعيد الدولي، وهو ما من شأنه أن يعود بفوائد متنوعة، خاصة منها الاقتصادية، ويزيد في حجم التجارب وتراكم الخبرات.