كتب مارشال ماكلوهان في كتابه Understanding media: “إنّ الوسيط الجديد لا يضاف أبداً إلى الوسيط القديم، ولا يتركه في سلام. فهو لا يتوقّف أبدا عن قمع القديم حتى يجد أشكالا ومواقف جديدة له”، وهذا ما يعيشه الكتاب منذ حروف غوتنبرغ المتحركة إلى الإعداد الالكتروني الفائق للنصوص، لم تترك النصوص الفائقة ولا صيغ ePub وPDF وKFX وغيرها، الكتاب الورقي وشأنه مع القراء، بل ضيّقت عليه وزاحمته حتى أوجد أشكالا مستحدثة منه، استعار تصميمها الحاسوبي تارة وتحوّل وغاص في بيئتها تارة أخرى، لندرك أنه ومنذ الحواسب الأولى في أربعينيات القرن الماضي، انخرطت حضارتنا في انقلاب عميق ندرك الآن أنه لم يكن تكنولوجيا فقط، كما يعبّر عن ذلك ستيفان فيال Stéphane Vial، والذي يقدّم الأنطوفانيا على أنها الطريقة التي تظهر بها الأشياء، وجزء كبير في النقاش بين الأوعية الورقية والإلكترونية، يدور في عمقه حول الطريقة التي تظهر بها النصوص للقارئ.
بقلم د.سيف الدين عبان
الصراع الأزلي للمبتكرات
لم يكن الصائغ المغمور يوهان غوتنبرغ Johannes Gutenberg منتصف القرن الخامس عشر، والذي انتهى به الأمر فقيرا معدما بسبب ديون اختراعه لدائنه يوهان فوست، على علم بأن اختراعه سيلاقى بنوع من الريبة والحذر من مجتمع الكتاب نفسه، ذلك أن الخطاطين الذين أعطتهم حرفتهم مكانة اجتماعية مرموقة كما أعطت الوراقين بعدهم، رأوا في مطبعته هروبا من السلطة الرقابية التي يمارسونها، فقد كان دور الأخ الأكبر الذي خطه جورج أورويل في روايته “1984”، الدور الأكثر طلبا في تمثيلية الحياة البشرية منذ الأزل، خاصة حين يتعلّق الأمر بمشهد المعلومة، من يحررها من يبثها ومن يتلقاها.
ثم أن شبح فرط المعلومة كان يؤرق كل جيل لم يعتد على منسوب طوفاني مستجد منها، وهو أمر أثبتت الأحداث التاريخية أنه جد وارد، وعلى حد قول دوغلاس أدامز فإنه “عندما تولد يكون كل شيء في هذا الكون أمرا طبيعيا، ومجرد جزء طبيعي من الطريقة التي يسير بها العالم، وعندما يتمّ ابتكار أمر ما حين يكون عمرك بين خمسة عشر وخمسة وثلاثين سنة فإنه يعد شيئا جديدا ومثيرا، وربما يمكنك الاستفادة منه واتخاذه كمهنة لك، ولكن أي شيء يتمّ اختراعه عندما يتخطى عمرك الخمسة والثلاثين عاما فإنه يعد أمرا ضد المسار الطبيعي للأشياء”.
ويكفي أن نعلم أنه عند ظهور الكتابة قبل هذا بقرون طويلة، تمّ الترويج لشبح نهاية مهارة الحفظ من طرف فلاسفة ذاك الزمن، لنوقن أن هذا الصراع بين المتداول والمتجدّد لم ينته ولن ينتهي، ومن ذلك الصراع بين مناصري الأوعية الورقية ونظرائهم من مناصري الأوعية الالكترونية للكتاب.
الكتاب والإبحار عميقا
يعتقد إيريك شميت Eric Schmidt رئيس الشركة الرقمية العملاقة جوجل “أن الجلوس وقراءة كتاب هو أفضل شيء لتعلم شيء حقا”، لذا فعكس ما تفعله كل وسائل الإعلام الأخرى من تسطيح للمعرفة بسبب اعتبارات الوقت في مجتمعات صار التسارع فيها ضرورة بنيوية وتقلص فيها الزمن، كما لم يفعل ذلك قبلا، واعتبارات تجارية بحتة تحتّم السعي الحثيث إلى مراعاة مستويات المتلقين المتباينة، واعتبارات تتعلّق بالوسيلة ذاتها، فبالنسبة للتلفزيون الرقمي مثلا فإن فعل المشاهدة وفق سياقه يقترن بتعطيل الميكانيزمات الدفاعية defense mechanisms للمخ، واشتماله على خيار الـ zapping يزيد من القدرة على المحافظة على هذا الوضع العقلي والرغبة في سلوكه، فتنتج سطحية المحتوى حتميةً ونتيجةً في الآن نفسه.
مغايرا لذلك، فإن الكتاب كوسيلة إعلامية في جوهره ووظيفته يشمل عمق الفكرة – عادة – وهي الخاصية التي تشتغل معها الميكانيزمات سابقة الذكر، مما يخلق طقوسا مغايرة لما يتمّ إنشاؤه مع غيره من وسائل الإعلام، وعليه فإن هذه الحساسية في العلاقة النفسية ذات الخلفيات العضوية بين القارئ والكتاب تخلق إشكاليات متشعبة تحف السجال الذي لا ينتهي بين الأوعية الورقية والالكترونية للنصوص.
ثم أن هناك مؤشرات على أن الاعتماد على القراءة السطحية قد يكون جد ضار بالقدرة على التعمّق في القراءة، لتعوُّدِ اللياقة العقلية على مستوى سطحي ضحل من النصوص، فيغيب معها التدبّر والربط ومهارات التصفية والتحليل والاستنباط.
القراءة لا تتعلّـق بالبصر فحسب، هي عملية متعدّدة الحواس
تؤكّد بحوث علمية متفرقة، أن القراءة تجربة لا تتعلّق بحاسة البصر فحسب، بل إن حاسة اللمس تشكّل محكّا أساسيا في الممارسة القرائية، فقد وجد نيكولاس كار Nicholas Carr في بحثه حول ما تفعله الانترنت بعقولنا أن التحوّل من القراءة على الورق إلى القراءة من الشاشات لا يغير طريقتنا في تصفح النصوص فقط، بل يؤثر في درجة الانتباه التي نخصّصها للنص، وفي عمق الانغمار immersion في القراءة، لغياب حاسة لمس الأوراق.
فذلك النص على الانترنت والذي يعرض من خلال شاشة الحاسوب أو اللوح الإلكتروني أو الهاتف الذكي، قد يبدو مشابها لصفحة النص المطبوع، ولكن حسب نيكولاس كار فإن عملية التمرير أو النقر على مستند ما على الشاشة، تتضمّن أفعالا جسدية ومحفزات حسية تختلف اختلافا كبيرا عن تلك التي تنطوي على مسك وقلب صفحات كتاب أو مجلة، وقد أظهرت الأبحاث أن عمل القراءة الإدراكية لا يعتمد على حاسة البصر لدينا فحسب، بل أيضا على حاسة اللمس. تقول آن مانڠن Anne Mangen، وهي أستاذة في الدراسات الأدبية النرويجية، أن القراءة عملية “متعدّدة الحواس”. فهناك رابط حاسم مفصلي بين التجربة الحسية الحركية المادية لعمل مكتوب والمعالجة الإدراكية لمحتوى النص. لذلك فإن الانتقال من الورق إلى الشاشة لا يغيّر فقط طريقة تنقلنا بين الكتابات. كما أنه يؤثر على درجة الاهتمام الذي نخصّصه له وعلى عمق انغماسنا فيه، وينطبق هذا على النصوص المتاحة في نفس الوسائط والتي تضبط على وضع الـ OFFLINE، بخيارات أقل لا يتيحها الانفصال عن الشبكة، في الصدد يقول ريتشارد هاربر وابيجيل سيلين في “خرافة مكتب بلا ورق” أن الورق القديم سيستمر في لعب دور في حياة المكتب، ذلك أن الورقة الخفيفة المسامية غير الشفافة، تتيح القيام بالأنشطة مثل الإمساك والحمل والطي والكتابة وغير ذلك.
وعَودا على فكرة ماكلوهان التي تقضي بإيجاد الوسيط القديم حلولا يتكيف بها مع الوسيط الجديد، طبعا عن طريق مستخدميه، فإننا نسجّل تطبيقات قراءة على الهواتف الذكية والألواح الالكترونية، تساعد على القراءة وفق خيار قلب الصفحة في محاكاة رقمية لما يحدث مع الورقة عند قلبها، وإن كان اللمس المادي للورقة غائبا، بل يضاف إلى حركة القلب الافتراضي للورقة الصوت المميز المصاحب للحركة في مخاطبة لحاسة السمع، والتي لا تنفصل عن طقس القراءة منذ الكتاب الأول.
وحين نشير إلى محورية اللمس في عملية الانغمار داخل الفعل القرائي وكذلك حاسة السمع، فإن حاسة الشم تلعب دورا حاسما لدى الكثيرين ممّن تعوّدوا الكتاب الورقي على مكتباتهم الخاصة أو نوادي القراءة التقليدية، إما لرائحة الورق المتميزة ذاتها، أو بعد إضفاء لمسة عطرية شخصية يضعها القارئ على صفحات كتابه أو غلافه.
ثم إنّ إضفاء الطابع الشخصي على الكتاب الورقي كوضع علامات وملاحظات بخط اليد، أو طي ورقة أو تظليل نص، أو صناعة فواصل أو تبادلها كهدايا، خيارات تجعل من الكتاب الورقي يحمل روحا بالنسبة لقارئه، وهو أمر وإن حاولت الأوعية الإلكترونية محاكاته بإضافات مطورة، إلا أنها تبقى عاجزة على مجاراته أمام الأونطوفانيا التي تعطيها الإضفاءات الشخصية على الأوعية الورقية.
إن ما تمّ تقديمه يؤكّد على أن الفعل القرائي وإن كان يبدو في ظاهره متعلّقا بحاسة البصر فقط، فإنه عملية متعدّدة الحواس، ممّا ينشئ علاقة خاصة بين القارئ وكتابه، علاقة تقاوم التغييرات الحاصلة على مستوى الوسائط المعلوماتية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في نقاش أونطوفانيا النصوص، ماذا إن تعلّق الأمر بجيل الشاشة الذي لم يختبر تعدّد الحواس في ممارسة الفعل القرائي؟ فكل جيل يعيد تعلم العالم ويعيد التفاوض حول علاقته بالواقع بواسطة العتاد التقني الموضوع تحت تصرفه، ضمن الظروف الاجتماعية الثقافية الخاصة به، حسب تعبير ستيفان فيال.
في اعتقادي فإن الجيل Z لا يملك تلك العلاقة القوية بين حواسه المتعدّدة وبين الوعاء الورقي كما كان في الأجيال التي قبله، وهذا قد يُغيّر الموازين كثيرا بعد عقد من الآن، لأن اللمس لن يكون إلا لمس الهاتف أو اللوح الإلكتروني، والسمع لن يكون إلا سماع إشعارات التطبيقات، والشم قد يعوض بعطر على لواحق هذه الأجهزة الالكترونية ترضي هذا الجيل والجيل الذي يليه، فتنتج هجانة الأوعية التي نرى إرهاصاتها عبر الكم الهائل من الكتب الورقية المرقمنة، والتي تحمل خصائص الكتاب الورقي من حيث الطريقة التي ينظم بها المحتوى وخصائص النص الإلكتروني من خلال تقنيات العرض.
الوعاء الإلكتروني ونظام الانتباه البشري
دعني أتوقّع أنّك غالبا تكون قد تحصّلت على هذا المقال إلكترونيا، وإذا أكملت القراءة المتمعّنة إلى أن وصلت إلى هذه الجملة، فأنت من القلة القليلة التي تقاوم بثبات عوامل التشتيت والإلهاء التي يحملها النص الإلكتروني.
إنّ أول من أطلق مصطلح النص الالكتروني على هذا النوع من المحتوى الحاسوبي هو تيودور نيلسون Theodor Nelson سنة 1965، حيث يعتبر ـ حسبه ـ بنية غير تتابعية ونصا يندفع أمام القارئ متيحا له أن يستهلكه على الوجه الأفضل، أمام شاشة حاسوب تفاعلي تبادلي، يضاف إلى هذا اليوم الهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية كوسائط تكفل تفاعلا وتبادلا أكثر، مع التحفّظ اليوم على تعبير “استهلاكه على الوجه الأفضل”، فقد تبين بعد عقود من التطورات المتسارعة أنه ليس الوجه الأفضل بما يكفي.
وتمتاز النصوص الإلكترونية بأنها نصوص تشعبية، وهذا أهم ما يميز محتوى شبكة الواب، حيث تكفل للمستخدم الانتقال بسلاسة من نص إلى آخر ذي علاقة به أحيانا وغير ذي علاقة أحيانا أخرى، وذلك راجع لاختيارات منتج المحتوى النصي، وفي مجال الفعل القرائي وعلاقته بالإدراك تعتبر هذه النصوص التشعبية مصادر للإلهاء والتشتيت خاصة حين يتعلّق الأمر بقراءة نص طويل، ويعود هذا حسب طبيب الأعصاب مارتن كوتشر Martin L.Kutscher إلى عاملين أساسيين: أولهما هو عامل الإلهاء الذي يمارسه قسرا النص الأزرق (أو ذو اللون أو النمط المغاير عموما)، والذي يتخلّل النص الأصلي لأن صاحبه يبحث عن عدد نقرات أكثر من بحثه عن فهم المستخدم وتذكره وتعلمه، فيما يمكن عنونته برأسمالية النصوص، لأن عدد النقرات الأكثر يساوي عادة مداخيل أكبر، وعليه يكون عقل القارئ مضطرا للتوقف كل برهة، لقراءة النص التشعبي أولا، ولفهم مبرر المنتج ليسوّق هذا النص في ذلك المكان بالذات ثانيا، وفي الحالين يحكم على المتابعة الذهنية الدقيقة للنص الأصلي بالتوقف والتشتت.
أما ثاني العوامل فيتمثل في عدم قدرة القارئ على استذكار مكانه في الشاشة، مقارنة بسهولة ذلك ماديا أو ذهنيا، حين يتعلّق الأمر بقراءة الوعاء الورقي، فخصائص كتعديل حجم النص أو وضع العرض وغيرها، تجعل من المستحيل بناء تصور مرئي في ذاكرة القارئ عما رآه، طالما أن طريقة ظهوره ليست ثابتة كما كانت الحال عليه في النظير الورقي، ثم أن النص الطويل لا يتجزأ إلى صفحات حيث لا يمكن رسم خريطة ذهنية عن مشهد بذلك الطول، لأن العرض الذهني المكاني المناسب للحدود المادية للنص المرئي، يؤدي إلى نسبة نجاح أكبر في عملية الاستيعاب حسب دراسة قامت بها آن مانغن في كلية العلوم التطبيقية بجامعة أوسلو وأكرشوس.
وقد بدأت آن مانغن استكشاف أهمية القدرة على لمس الورق في الفعل القرائي، وذلك من خلال مقارنة أداء قراء الورق مع أولئك الذين يقرؤون على الشاشة، وكان من بين استنتاجاتها أن القراءة الإلكترونية أدت إلى سوء الفهم، نتيجة للقيود المادية للنص التي أجبرت القرّاء على التمرير صعوداً وهبوطاً، ممّا عرقل قراءتهم مع عدم الاستقرار المكاني. فأولئك الذين يفهمون جيدا، مقارنة مع أولئك الذين يفهمون بشكل ضعيف، أفضل بكثير في تذكر ونقل الترتيب المكاني للمعلومات في النص، لذلك يمكن أن يكون هناك رابط بين التخطيط المادي لما يقرؤونه ومدى فهمهم له.
كما أنّ النّصوص الإلكترونية تفتقد عادة إلى بناء القصة المنطقي السليم، ذلك أنها لا تأخذ الوقت الذي يحوز عليه النص المطبوع، فتأخذ من وسائل إعلام الترفيه خصائصها التجارية والتسارعية، ما يجعل الفعل القرائي فيها يتحوّل إلى ممارسة ضحلة سطحية، تارة لأن البناء المنطقي العميق يغيب وتارة بسبب الروابط التشعبية المشتتة للذهن.
وممّا لا شكّ فيه أن القراءة من شاشة جهاز متصل بالإنترنت تخلق عوامل إلهاء مضاعفة، فنجد إلهاء الإعلانات وخاصة الإعلانات المتحركة الأكثر قدرة على جذب الانتباه، ونجد إلهاء إشعارات تحديث التطبيقات، وإشعارات نظام التشغيل، وإشعارات البريد الإلكتروني، ورسائل التطبيقات السوسيورقمية التي يعد تنافسها في أن تحوز على النسبة الأكبر من سوق الانتباه أوّل تحدٍ لها، وتصمّم خوارزمياتها لأجل ذلك أساسا. وأخطرها على عملية القراءة ما يتوفّر عليه ماسنجر الفايسبوك وهو خاصية chat heads، وهي الخاصية التي تلاحق عين القارئ وتحتل سوق انتباهه كما لا يفعل أي تطبيق آخر (طبعا ينطبق هذا على مستعملي الماسنجر أساسا).
ويجزم نيكولاس كار أن الشبكة تستحوذ على اهتمامنا فقط لتشتيته، فنحن نركّز بشكل مكثّف على الوسط نفسه، على الشاشة الوامضة ولكننا مشتتون بسبب توصيل الوسيط السريع للرسائل والإشعارات المختلفة.
ثم أنّ هناك اعتبارا مهما لا يجب أن نغفل عنه حين يتعلّق الأمر بالقراءة من الشاشة وهو ورود احتمالٍ أكبر لإجهاد العين، فالاختلافات بين الصفحة المطبوعة والشاشة لها عواقب صحية على العملية البصرية، وتعتمد العمليات الإدراكية البصرية المكانية للقراءة على وضوح النص، والذي يعتمد على اكتشاف الحروف وتحديد الكلمات، ومصدر الضوء، والإضاءة المحيطة، وحجم الحرف، ووقت العرض، والمسافة بين الخطوط، وما إلى ذلك من تفاصيل تحيط بالفعل القرائي. وكل تفصيل منها يؤثر على أداء القراءة بالسلب أو الإيجاب.
إنّ الميزان الذي يتمّ الحكم به على أفضلية وعاء نصي على آخر هو نظام الانتباه الذي يخاطب بالوسيط، حيث توجد حسب طبيب الأعصاب كوتشر ثلاثة أنواع من شبكات الانتباه التي تلتقي بعضها بصورة بصفة مستمرة ومنتظمة، أولها هو شبكة الاستمرار في المهمة، حيث تتعلق بالانتباه الإرادي الواعي الذي يوليه العقل لمهمة محدّدة، وهي شبكة تنفيذية، أما ثانيها فهو شبكة الحواس، وتتعلّق بالاحتراس من طوارئ تؤذي السلامة الفردية أو اقتناص فرصة منتظرة، ولذلك فهي شبكة فطرية تشتغل لا إراديا، وثالثها هو شبكة أحلام اليقظة، وتعمل هذه الشبكة في غيابٍ جزئيٍ للشبكتين السابقتين، وذلك عند أوقات التوقف، وأثناء القراءة أيضا للتأمل في ما نقرأ أو تخيل مشهد يصوره النص محل القراءة.
أما الانتقال بين هذه الشبكات فيتمّ تتاليا وهو انتقال مجهد يزيد الأعباء الذهنية على الإنسان، مما قد يضيع معلومة مهمة التقطتها إحدى الشبكات ولم تثبَّت بعد، وهو أمر مصاحب منطقيا لأنطوفانيا النص الإلكتروني، ولا يٌسرَ في استخدام تعدّد مهام متزامن يبرّر به البعض قيامهم بمهمتين في نفس التوقيت أبدا، وإن وجد تعدّد مهام متزامن فهو يقع على نفس الشبكة من نظام الانتباه، ولا يقبل الفعل القرائي ذلك إلا في حالات تتعلّق بالاستماع إلى نوع معين من الموسيقى، لبعض الناس دون آخرين ولنصوص دون أخرى، لذلك يصير الإلهاء الذي تمارسه الأجهزة الالكترونية ذا خطر أوسع على قراءة النص الإلكتروني، بسبب إرغامه لنظام الانتباه على الانتقال بين الشبكات.
وعليه خلص كار في دراسته عما فعلته الانترنت بالعقل البشري إلى أن المقاطعات والتوقفات الفجائية تشتت التفكير وتضعف القدرة على التذكر وتحفز القلق، وكلما كان النص أكثر تعقيدا زادت أضرار هذه المقاطعات وعوامل الإلهاء والتشتيت.
الأوعية الهجينة حتمية ومخرج
إنّ هذا السجال حول الأوعية الورقية والإلكترونية بين مناصريهما باختلاف أجيالهما وعاداتهم، ستنتهي مناقشته كما ينتهي اليوم واقعا، وكما انتهت كل وسائل الإعلام التي تدعى تقليدية بعد استحالة مقاومتها للمد الشبكي إلى شكل هجين صار فيه التلفزيون على الشبكة والشبكة على التلفزيون، وتفقد معه السينما هالة دور العرض السينمائي التشاركية، لصالح خصوصية الغرفة الشخصية المظلمة التي تشع المشاهد أمام شاشة مضيئة وتدفق بيانات يبث العرض الأول من الأفلام العالمية، وهو المد نفسه الذي صير الصحف إلى حال التكيف في أوعية إلكترونية مليئة بالنصوص التشعبية تارة، ومحاكية للشكل الورقي إلكترونيا تارة أخرى.
وما أشار إليه ماكلوهان صاحب النصوص التي غيّرت بعمق الفهم البشري لعمل وسائل الإعلام، يصح بشكل دقيق فيما وصلت إليه الوسائط اليوم. وها نحن نعاين عن كثب كيف أن الوسائل التقليدية تتعرض لعمليات إعادة التصميم، حتى الإلكترونية منها، وإعادة تكييفها لتتوافق مع الحاجة إلى التوزيع عبر الشبكة العالمية. فعندما تمتص الشبكة وسيطا ما، فإنها تعيد إنشاؤه على صورتها الخاصة. فهي لا تصهر الشكل المادي للوسيط فحسب؛ بل تقوم بتضمين محتوى الوسيط مع الروابط التشعبية، وتقسيم المحتوى إلى أجزاء قابلة للبحث والنقل والتحويل والنسخ، وتحيط المحتوى بما يشبهه من جميع الوسائط الأخرى التي امتصتها. وكل هذه التغييرات في شكل المحتوى تغيّر أيضا طريقة استخدامنا وتجربتنا، وحتى فهمنا له.
نحن أمام أجيال قادمة لا تحفظ للكتاب الورقي مكانا اجتماعيا ولا نفسيا، وتغوص في عوالم الرقمنة بشكل متسارع لا يعرف للافتراضية أية حدود، أمام حتمية تكنولوجية تحتضن حتمية أوعية هجينة، تحمل من الأوعية الورقية ثبات خريطة نصوصها المكانية، ومنطقية كتابة قصتها ولون صفحاتها وطريقة قلب هذه الصفحات وربما صوتها وهي تتحرّك أيضا، ومن الأوعية الالكترونية إعدام ضيق أمكنة الحفظ والتخزين وسرعة الاستحضار وإمكانية التعديل واختصار المسافات المكانية والزمانية، ليرسم الالتقاء أنطوفانيا تصهر الطرفين في شكل يحفظ الإطار المفاهيمي المناسب الذي يعطي معنى للعالم من حولنا.
وعلى حد تعبير ألبيرتو مانغويل Alberto Manguel، فإن النص الإلكتروني الذي لا يحتاج إلى صفحة، يمكنه التعايش على نحو ودي مع الصفحة التي تحتاج إلى طاقة إلكترونية، فهما ليسا بحاجة إلى إقصاء أحدهما الآخر في سعيهما لخدمتنا أفضل، على اعتبار أن المخيلة البشرية ليست أحادية الجانب وما ينبغي لها ذلك، والوسائل المبتكرة الجديدة كما تنبّأ لها في كتابه “المكتبة في الليل”، ومنها الأوعية الإلكترونية تجلس اليوم بالقرب من الأوعية الورقية أو كما يحلو له أن يسميها “كتاب القوة”، والذي يجلس الآن إلى جانب كتبنا المقتنصة في المكتبة الإلكترونية.
إنّها حتمية الهجانة يا أصدقاء الكتاب.