يعد المفكر الراحل محمد بن شنب (1869- 1929) من أبرز علماء الجزائر في القرن العشرين ومن أعلامها الكبار فهو أول دكتور في تاريخ الجزائر وأول باحث جزائري اهتم باللغات والترجمة ومؤسس الأدب المقارن في البلاد.
يعتبر الشيخ العلامة شخصية ثقافية وعلمية من الدرجة الأولى فهو باحث موسوعي أمضى حياته في خدمة الأدب والثقافة والتاريخ والتربية والهوية الجزائرية. من خلال مسار حافل وعامر بالبحث والتأليف والدفاع عن الجزائر واللغة العربية والإسلام.
وتزامن مسار هذا الرجل الفذ مع الفترة التاريخية الممتدة من نهاية حقبة المقاومة الشعبية إلى ميلاد الحركة الوطنية. حيث برز كمناضل مدافع عن الثقافة الشعبية الجزائرية في وقت كان يظن فيه الاستعمار أنه نجح في القضاء عليها بالكامل.
وولد الراحل في 26 أكتوبر 1869 بحي “تاكبو”، عين الذهب حاليا، بقلب مدينة المدية وترعرع في أحضان عائلة عريقة. وبدأ هناك تعليمه على يد شيخه أحمد بارماق في العلوم القرآنية، ثم بالمدرستين الابتدائية والثانوية.
وانتقل بعدها إلى العاصمة لينظم إلى طلبة مدرسة المعلمين ببوزريعة وتخرج منها أستاذا في اللغة الفرنسية وآدابها في 1888 وعمره لا يتعدى 19 عاما ليعين بعدها بمدرسة الشيخ “سيدي علي” بالقرب من عاصمة التيطري.
وبعد أن قضى بهذه المدرسة أربع سنوات انتقل بعدها إلى مدرسة إبراهيم فاتح بالعاصمة. واستغل فرصة وجوده. هناك ليواصل تعليمه حيث درس اللغة الايطالية وتعمق في دراسة فنون البلاغة والمنطق والتوحيد على يد أستاذه الشيخ العلامة عبد الحليم بن سماية.
وحاز بن شنب سنوات بعد ذلك شهادة جامعية في اللغة العربية من جامعة الجزائر. ثم وجه اهتمامه للتعمق والتمكن من اللغات الاسبانية والألمانية واللاتينية والفارسية والتركية والعبرية، وفي عام 1896 تحصل على شهادة البكالوريا.
وعين العلامة بعد ذلك أستاذا بالمدرسة “الكتانية” بقسنطينة في 1898. ومع بداية القرن العشرين عين بالمدرسة “الثعالبية” بالعاصمة. حيث عمل إلى جانب العديد من العلماء والمشايخ، وفي 1908 ارتقى إلى رتبة أستاذ محاضر بكلية الآداب بجامعة الجزائر، وانتخبه المجمع العلمي العربي بدمشق بسوريا عضوا به في 1920.
وفي هذه السنة تقدم لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة الجزائر وكانت أول دكتوراه ينالها جزائري. حيث قدم أطروحتين بدرجة ممتاز الأولى حول الشاعر العباسي الساخر “أبو دلامة” والتي حملت تفكيره السياسي المناهض للاستعمار الفرنسي والثانية عبارة عن بحث لغوي في الألفاظ التركية والفارسية المستعملة في الدارجة الجزائرية.
وانتدب الراحل مرات عديدة للمؤتمرات الدولية ببلدان شمال إفريقيا وأوروبا ومنها المؤتمر الرابع عشر للمستشرقين بالعاصمة في 1905 وكذا المؤتمر السابع عشر للمستشرقين بأكسفورد بإنجلترا في 1928 أين التقى بمثقفين معروفين كالسوري محمد كرد علي رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق والأديب المصري طه حسين.
وكانت له علاقات مع مثقفين آخرين، منهم المصري أحمد تيمور باشا والتونسي حسن حسني عبد الوهاب. وكذا المستشرقين الإسباني ميغيل بالاسيوس والروسي إيغناتي كراشكوفسكي، فهو أول من حاجج المستشرقين بلغاتهم الأصلية ومن أوائل من مارسوا “حوار الحضارات”.
وكان الراحل يجيد الكثير من اللغات كالعربية والفرنسية والفارسية والألمانية والتركية والإيطالية والإسبانية واللاتينية والعبرية. وهو أول باحث اهتم باللغات والترجمة والانفتاح على آداب الشعوب الأخرى.
وإضافة إلى دراسته الرائدة حول الألفاظ التركية والفارسية المستعملة في الدارجة الجزائرية فقد نشر أيضا العديد من البحوث في هذا السياق. منها “الأصول الإسلامية للكوميديا الإلاهية لدانتي” الذي صدر بـ “المجلة الافريقية” في 1919. ما جعله المؤسس الأول للأدب المقارن في الجزائر.
وكانت حياة الشيخ غنية بالنشاط العلمي والثقافي والاحتكاك برجالات العلم والمعرفة على المستوى الوطني والدولي. غير أن أهم ما ميز مساره العلمي أنه كان مناضلا كبيرا في سبيل الحفاظ على التاريخ والتراث الحقيقي للجزائريين والمسلمين، بل وكان لا يتخلف حتى عن إبراز لباسه التقليدي وهو في أهم المؤتمرات العالمية.
وكافح بن أبي شنب لمدة تزيد عن الـ 35 عاما بسلاح العلم الذي كان بمثابة درع واق في وجه سياسة طمس الهوية الوطنية التي قادها الاستعمار الفرنسي. مخلفا وراءه سجلا حافلا من الإسهامات الفكرية تقارب الـ 50 كتابا ومنشورا في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية وفي شتى المجالات وخصوصا الأدبية والفكرية والدينية.
ومن مؤلفاته “الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب” و”الكلمات التركية والفارسية المستعملة في اللهجة الجزائرية”. وله تحقيقات في مؤلفات غيره، منها “البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان” لابن مريم التلمساني و”عنوان الدراية في من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية” لأحمد الغبريني.
توفي الشيخ العلامة في 5 فيفري 1929 بالقصبة بالعاصمة عن عمر يناهز الـ 60 عاما، ودفن هناك بالمركب الديني الجنائزي المعروف بـ “ضريح عبد الرحمان الثعالبي” (سيدي عبد الرحمان) أين يوجد قبره وقبور العديد من أفراد عائلته، وعند مدخل هذا المركب يوجد أيضا شارع يحمل اسمه.
وصدرت حوله العديد من المؤلفات أبرزها “محمد بن أبي شنب، حياته وآثاره” لعبد الرحمان الجيلالي.