من الأعمال الجليلة التي اختصّت بالبحث في مآثر ثورتنا المباركة، نجد مقالا فارها للدكتور محمد مرتاض، الأستاذ بكلية الآداب واللغات بجامعة تلمسان، خصّصه لأهم ما قيل في الشعر الجزائري الحديث، عن ثورة نوفمبر المجيد، وتناول جانباً هاما منه، خاصة ما أنشده شعراء جزائريون إبان ثورة نوفمبر 1954م، وقال البروفيسور مرتاض إنّ “الشعراء سجلوا في قصائدهم الأفعال الشنيعة والجرائم البشعة التي اجترحتها اليد الآثمة للمستدمر الفرنسي، فكان نتاج هؤلاء الشعراء سلاحاً معنوياً بالتوازي مع بطولة جيش التحرير في الجبال.
بقلم توفیق العارف
تمكّن الدكتور مرتاض من إثبات نماذج لشعراء طالهم من عنت الاستدمار كل أنواع الهمجية، ولكن ذلك كله – كما يقول الباحث – لم يزدهم إلا إصراراً على مواقفهم الوطنية والبطولية، فانطلقت حناجرهم بأناشيد أمدّت الثوار بالهمة والإصرار، وفي الوقت ذاته، هزّت أركان العدو، وأصابته باليأس والتضعضع، وراح يترقب ما يُنشر منها ليُصادره قبل أن يُحرقه لهيب كلماتها، وذلك ما تجلّى في النماذج التي أوردها لكل من محمد العيد، مفدي زكريا، صالح باوية، حمود رمضان، الربيع بوشامة، صالح خرفي، صالح خباشة، صالح خبشاش، عبد القادر السائحي، وأسماء أخرى كثيرة. من أولئك الذين تعرضوا في خطابهم الشعري إلى قضايا تصف كلّها أيام الثورة المجيدة، وتؤرّخ لما أصاب الشعب الجزائري من ويلات المحتل الفرنسي وجرائمه.
ولخّص البروفيسور مرتاض محاور البحث في القضايا التالية:
قصائد هيّأت للثورة الابتهاج باندلاع ثورة نوفمبر، والاحتفاء بالمقاومة الشرسة الجيش التحرير الوطني، إضافة إلى بشائر النصر، ورفض التفريط في شبر واحد
الثّورة الجزائرية المباركة..
وخصص كاتب المقال المنشور بالمجلة المحكمّة “الفضاء المغاربي”، مساحة هامة للحديث عن الظروف التي اندلعت فيها الثورة المباركة، فقال: لقد اندلعت ثورة نوفمبر المجيدة يوم الاثنين غُرّة نوفمبر 1954م في مختلف الولايات الجزائرية شرقاً وغرباً مع تفاوت في حدتها بين موطن وآخر لدواعٍ منطقية، فإذا كان الأوراس الشامخ أشعلها ناراً محرقة على مراكز الأعداء، فإنّ جبل أحفير في تلمسان قد أباد الجواسيس، فكانت الهجومات المختلفة في كل من تيرني بتلمسان، وزهانة، ووهران وعين تموشنت وحمام بوحجر، وحاسي الغلة، وسيق، كما طالت الآلة الجهنمية الإجرامية أول شهيد في الغرب الجزائري، وهو البطل أحمد زبانة.
وفي تعريفه لـ “الثورة”، قال الباحث إن “تعريف الثورة للأجيال المعاصرة قد يكون من باب الاستطراد والزيادة، باعتبار أن مدلولها جلي عندهم محفور في ذاكرتهم، وقد ازدادوا إلماماً به بعد أن صاروا يشاهدون نشوب حروب هنا وهناك في مختلف بقاع العالم، أو يدرسون التاريخ المعاصر للجزائر، إضافةً إلى الأشرطة السينمائية عن الثورة الجزائريّة التي نقلت جانباً من بطولات المجاهدين والفدائيين والمناضلين بعامة، ناهيك فيما تنقله التكنولوجيا الحديثة التي حوّلت الكرة الأرضية – على شساعتها – إلى قرية صغيرة”، غير أنه أضاف أن المنهج يقتضي الإحاطة بتعريف على المستوى اللغوي، فوصف “الثورة” بأنها “الهيجان، وقد أُطلقت في الاستعمال الاصطلاحي الحديث على الهياج المنتشر”.
أما على المستوى الاصطلاحي – يقول الدكتور مرتاض – إن “الثورة” هي التغيير الشامل للوضع القائم الذي قامت من أجل تغييره، واستبداله بوضع آخر اختارته كبديل أو هدف حد ذاته، وأضاف يقول إن “الجزائر تعد مهد الثّورات على الطغاة لم يذعن أهلها للمستدمر، ولم يستسلموا لمن بغى عليهم منذ عهد ماسينيسا وحفيده يوغورطة، إلى أن مزّقوا ستار الفزع وانطلقوا رافعين الرايات مردّدين الشعارات بسقوط المحتل الفرنسي، خاصة في انتفاضة الثامن ماي 1945م، وعلى الرغم من بطش العدوّ وتنكيله بالوطنيين – يواصل مرتاض – فإنّ ذلك لم يحل دون مواصلة النضال إلى أن وقع الانفجار الرهيب والزلزال العنيف الذي ارتجت له جيوش العدوّ الفرنسي، فما درى كيف يصنع!
واعتبر الدكتور مرتاض أنه كان من الطبيعي جدا أن تتحرك عواطف الشعراء مع لعلعة البنادق والرشاشات، فيتغنّوا بأمجاد الانتصارات، ويخلّدوا معارك وهجمات أتت على ثكنات بكاملها وعلى كتائب برمّتها، ولا يُصدّق هذا القول إلا من كان داخل أتون المعركة، أو عاش هذه الأحداث، أمّا الذي يقرؤها فقط، فقد لا يقدّرها حق قدرها؛ ولعل أنّ هذا الهاجس دار بخلد الشهيد البطل ديدوش مراد الذي سارع إلى القول: “إنّ الشعب سيروي هذه الأساطير عندما نكشف عن مبلغ تفانينا في القتال، وقوّة عزائمنا في الدّفاع عن بلادنا”، ومن هنا – يواصل مرتاض – كانت مساهمات الشعراء دفعاً وتمجيداً وتخليداً لثورة نوفمبر، وقد توزّعت هذه القصائد ما بين مديح لجيش التحرير، والفدائيين، وتمجيد للشهداء، وتسجيل المعارك والكمائن إضافة إلى رفض الإدماج والمخططات الفرنسية..
ثورة نوفمبر والشّعراء..
ويعترف الدكتور مرتاض أنه من الصعب الإلمام بجميع المادة الشعرية التي اختصت بنوفمبر، ورافقت الثورة التحريرية المباركة، فيقول: “يتعذر على من يروم الخوض في هذا المجال، أن يُحصي أقلام الشعراء المتغنين (بالثورة) إحصاء، أو يعدّها عداً، وحسبه أن يقتصر على نموذجات تمثيلية في هذا الشأن لا أكثر، وهذا ما فعلناه في هذه المقالة حيث إنّنا سنقف عند بعض الشعراء الجزائريين الذين اكتووا بلهيبها، واحترقوا بلظاها.
وقال مرتاض إنه ليس من أسرة جزائرية إلا ذاقت من شرور الفرنسيين، واكتوت ببلوى غائلتهم. والشعراء في مثل هذه المواقف المؤلمة، أكثر تأثراً وأعمق تألماً، ولذلك انطلقت من حناجرهم زفرات، ومن أقلامهم جمرات ومن أصواتهم قصائد خالدات، فأكثروا من الأناشيد والإبداع؛ موازاة مع بطولات المجاهدين في أتون المعارك بين القمم والنجود.
ويصف مرتاض القصائد بأنها كانت فولاذاً سحرياً للمجاهدين يستعينون بها على أهوال الحرب، ويترنمون بإنشادها بين الآونة والأخرى، وكانت أناشيد «قسماً»، و«من جبالنا» و«نحن طلاب الجزائر»، و«إخواني لا تنسوا شهداءكم»، وأناشيد أخرى كثيرة، تدفع بالمجاهدين إلى ساحات الوغى، منتشين فرحين بما سيتحقق من انتصارات باهرة، ويحدث من تغييرات مزلزلة، فكانت أصداء الجبال تردّد معهم؛ وتتناغم مع حماسهم فشعر الثّورة، إذن، هو سلاح معنوي إلى جانب الكفاح المسلّح، وليس هذا بجديد أو معاصر لثورتنا فحسب، بل لقد كان لهذا النوع من الشعر تأثير بالغ.
جاء شعر الثورة إذن – يقول الباحث – ليبعث الحماس في الصفوف، ويُجدّد الدّماء في الشّرايين، وهذا الخطاب الشعري بدوره كانت له تعريفات وتحدثت عنه مقالات، ومحاضرات فهو ذلك الشعر الذي ظلّ ولا يزال، مهمازاً يثير العواطف، ويصقل القرائح، ويحرك الوجدان في اتجاه الثّورة، ويُضيء الواقع أمام الإنسان العربي، ويغرس فيه عادة الرفض والتمرد، والتصدّي لكلّ ما هو سلبي في حياة الأمة، ويُمدّه على الدّوام بتلك الطاقة الشعورية القابلة لأن تتحوّل انفجاراً في كل شأن هذا الفهم الذي نفهم به شعر الثّورة، أن يُقصي أي معنى لثورية الشعر الذي ينحصر في تبعيته لثورة لحظة ومن معينة.
الكلمة الرّصاصة..
يقول الدكتور مرتاض في مقاله إن “شعر الثورة ظل مصاحباً لمراحلها، شاداً أزرها، وباتاً الحماس المتجدّد في عروقها. وأذكر أنّنا، ونحن من في قمم الجبال وبين الكهوف كانت تشدّنا إلقاءات مفدي زكريا الشّعريّة، وتبعث فينا الرّغبة في التضحية من أجل الجزائر، ويوضّح بأنّ المجاهدين كانوا ينتظرون وصول جريدة “المجاهد” شغف، حتّى إذا تصفّحوا ما فيها من مقالات، وقفوا عند قصيدة شعرية ليردّدوها مترنّمين بإيقاعها ومدلولها، فهذا الشعر هو معركة أخرى شرسة ضدّ عدو متعجرف ظالم له دور في قدح زناد الثورة، والشد من أزر المقاتلين.
إنّ العالم كله تقريباً، ولاسيما العربي منه – يقول الباحث – كتب عن ثورة نوفمبر أو تغنّى ببطولات أبنائها وبسالتهم، وقد أحصى عثمان سعدي عدداً من الشعراء العرب الذين اهتزت أريحيتهم، فتفجرت قرائحهم بقصائد وقصائد، وهو ما مكّنه من جمع 254 قصيدة عن الثورة الجزائرية لشعراء أشقاء العراق وسورية ومصر قصائد أخرى من السودان وتونس، وسائر الأقطار العربية، ممّا يحول دون إيراد تفاصيلها كلها. ذلك أنّ مصاحبة الشعراء للثورة دفعهم إليه إلهامها لهم وانتشاؤهم باندلاعها ضدّ المستدمرين، فكانوا نتيجة لذلك يجدون متعة في الحديث عنها لا عَناءً ثقيلاً كما هو الشأن في نظم موضوعات تأتي لذتها فوق الخاطر، على حين أن الأمر مختلف هنا، لأنّ هذه المصاحبة حقّقت مُتعتين: متعة الفنّ الشعري بخياله وتصويره وموسيقاه، ومتعة الموضوع بزخمه وروعته التي تركت آثارها في نفوس الجزائريين، ونفوس غيرهم من العرب المسلمين والأجانب أيضاً.
شيء من الشّعر..
وقال الباحث إنّ الشعراء أكثر حماساً وأعمق إحساساً وأصدق تعبيراً عما يُخالج المجتمع من أفكار، وما يكتنف طبيعته من أسرار، فالشاعر بما أوتي من حدس ينظر دائماً إلى ما وراء الواقع، ويتطلّع بحاسته السادسة إلى آفاق تغيب غالباً عن الإنسان العادي، وهي حال الشعراء الجزائريين الذين رفضوا الأمر الواقع للمحتل، ولم يهنوا أو يستكينوا إزاء جبروته؛ بل رفعوا راية الشعر في وجهه، ونظموا قصائد حثوا فيها الشعب على المقاومة والاستبسال، ورفض كل مخطط للإدماج، ودفعوا به إلى انتفاضة حقيقية لا تبقي له أثرا ولا تذر، وقد أهاب الشاعر محمد اللقاني بن الشيخ ببني الجزائر، ودعاهم إلى نبذ النوم والاستكانة للمحتل، وإعلان الثورة الحمراء عليه حاميا وطيسها، فقال:
بني الجزائر هذا الموت يكفينا
لقد أغلت بحبل الجهل أيدينا
بني الجزائر هذا الفقر أفقدنا
كل اللذائذ حينا يقتفي حينا
بني الجزائر هذا اللهو أوقعنا
في سوء مهلكة عمت نوادينا
فقر!! وجهل!! وآلام ومسغبة
يا رب رحماك هذا القدر يكفينا
فهذا الخطاب الذي تكرّر بوساطة النداءات التي جاءت تترى يحمل إباءً ويتبجس حرقة لما آل إليه الوطن وأهله، فحياتهم تجهيل وتفقير وتشريد وتحقير، وهذا كله وقود للانفجار في وجه المستدمر وإذاقته الموت الزؤام.
ويحض في أبيات أخرى على نبذ الفرقة والجنوح للشعر الغزلي الأجوف الذي يكتنفه خيال مغرق في الابتعاد عن الواقع والاشتغال بدلا من ذلك بحماية الوطن والذود عنه بشعر لا تزمت فيه ولا ابتعاد عن احتضانه، فقال:
ألا فدع التغزل في غوان
فتلك طريقة المستهترينا
وما شأن المدامة في كؤوس
بها تستنزف العقل الثمينا
فمن صوت البلاد لنا نداء
يكاد المرء يسمعه أنينا
وكان من الذين عملوا على الدفع بالشعب إلى الثورة على المحتل البغيض أيضا الشاعر حمود رمضان، الذي صرخ في ألم وتأثر ما أودعه في قطعته الحزينة فقال:
أيّها الضّاحكون والشعب باك
من صروف به تشيب الجنينا
ذاب قلبي وماتَ حِسْمي شهيداً
من هموم تنهال كالغيث فينا
يا إلهي، وأنت تعلم سري
بين قومي صرت الغريب الحزينا
إنّه الشّاعر الثائر في خطابه وفي شخصيته على الأوضاع المزرية التي كان شعبه يحيا في جحيمها؛ فهو، وإن لم يُمهله الأجل ليشاهد آلاف الفظائع والجرائم التي اقترفها الاستدمار الفرنسي في حق الجزائر وأبنائها، فإنّ ما رآه إيَّان حياته القصيرة كان كافياً ليدفعه إلى الثّورة عليه، وعقد الأمل العريض على المستقبل، وهو كلّه تفاؤل بالنصر وتحرير الوطن من أيدي الغاصبين المحتلين، لذلك أدرجنا شعره هنا، كما لو أنّه كان غداة الثورة الكبرى.
ومن شعر الشهيد الربيع بوشامة أبيات من قصيدة يفضح فيها الاستدمار الفرنسي، ويسخر من ادعاءاته الرأفة والرحمة؛ متظاهراً بذلك الحيوان، حين يتصل الأمر بالإنسان الجزائري تراه يتعالى ويتجبّر ويطبق مختلف الطرائق الجهنمية في التعذيب والتنكيل، من غير مراعاة لمزاعمه التي يُغطّيها بالعطف على الحيوان، وكأن الذئب أو القط أو الفأر أفضل وأولى من الإنسان، وهذه مصيبة المحتل الذي لا يرعوي أن يرتكب الجرائم ويُبيد الآلاف والملايين من غير اعتبار لهم، والأبيات مع ذلك ليس فيها ذلك الصوت المجلجل الذي لمسناه في النماذج السابقة، وإنما جاءت تحمل تساؤلات وتعجبات، عبر كلمات خالية من الشعرية.
وللشاعر محمد العيد آل خليفة قصائد قالها قبل الثورة يفضح فيها جرائم الاستدمار الفرنسي، ويشرح أفعاله الخسيسة التي اقترفها في حق الشعب الجزائري الذي يدعوه إلى المقاومة عبر قصيدة نظمها إبان أحداث 1945م، مطلعها:
أككْتُمُ وجدي أَوْ أُهدِّئ إحساسي
وثامن ماي جرحه ما له آسي
تبقى نماذج أخرى كثيرة، قدّمها الدكتور مرتاض في مقاله، لا تتيح هذه المساحة أن نتعرّض لها، ومقال الدكتور مرتاض – على كل حال – متوفر للباحث والدارس، ومن يرغب في الحصول عن الممتع المفيد من الكتابات.