شاعر مقتدر يطوّع المعاني، ويمنح الكلمات من جمال روحه.. ينطلق في التأسيس لـ «القصيدة» من رؤى واضحة، ولا يترك المفاهيم المبهمة لتتسلّل إلى سطوره، فيصوغ روائع تحيي في نفس قارئها الإحساس بزمن الشعر الجميل. إنّه الشاعر الجزائري فريد مرازقة الذي تحدّث إلينا بأناقة الشاعر وسموّ الإنسان، فكان هذا الحوار..
الشعب: أراك متفائلا بـ”الشعر” في زمن يميل الميل كلّه نحو «الرّواية»..ما الذي يسوّغ تفاؤلك؟!
الشّاعر فريد مرازقة: في الحقيقة، الرواية فن من فنون الأدب النثري الذي يحتل الآن في زماننا هذا حيزا لا يستهان به، وذلك راجع لأسباب عدة لا يسعنا ذكرها كلها..بعضها من تغير مستوى الذوق العام، وبعضها الآخر من مواكبة هذا الفن لما يعيشه المتلقي في حياته اليومية، وبعضها أيضا متعلق بالكاتب نفسه باعتباره المحرك الأول لعملية التلقي.
يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
أظنّه بيتا يلخص كل شيء، فليست المشكلة في الشعر كفن في نظري بل تكمن المشكلة في الشعراء والنظرة التي هي لدى المتلقي عن الشعر.
في زمامنا هذا يظن الشاعر أن التعلق بالأسلوب الجاهلي المبهم، يكفل له النجاح فيتشبث بالتراكيب الجاهلية والفلسفية، وكذا يحاول خلق بعض الغموض في نصوصه، ظنا منه أنه كلّما تعمّق وتفلسف جذب القارئ، بينما يحتاج المتلقي إلى نصوص تواكب ما يعيشه وتعبّر عن معاناته، هذا في نظري ما جعل الرواية تتقرّب من المتلقي أكثر من الشعر، لكنني – كما تفضّلت – متفائل، لأن شعراء هذا الجيل أصبحوا يخلقون من معاناتهم اليومية شعرا بحكم أن الشاعر ابن بيئته، ما يجعلني أرى جيلا لاحقا سوف يغير مفهوم (الشعر) السائد لدى الشعراء والقراء، فهذا الجيل الجديد من الشعراء فهم أن سر النجاح ليس فقط أن تكتب ما لا يُفهم بل أن تكتب ما يلامس الوجدان. الشعر اليوم لم يعد ذلك الذي يتحدث، فقط، عن الخيمة، البداوة، الخليلة، الحرب، الجمل..
بل أصبح أيضا يعبر عن قضايا كثيرة معيشة في عالمنا الحديث كالسياسة، البطالة، الزواج، الآفات الاجتماعية، العلوم وحتى الفضاء…إلخ.
ألا توافقني إن قلت إنّ مشكلة الشعر الأولى هي حرصه على التشبّه بفنون النثر..ألم يكن أولى به البقاء في حاضنته الشفاهية الأولى، بعيدا عن الكتابة؟!
في نظري أستاذ لكل شيء وظيفته..الشعر لم يكن فقط شفاهيا بل السؤال هنا: ما هو الشعر الذي كان شفاهيا؟ في القديم لم يكن الشعر شفاهيا فقط، والدليل على ذلك المعلقات، إذ منذ الجاهلية كانت العرب تلقي قصائدها شفاهيا نعم لكن تكتب أجودها وتعلقها على جدار الكعبة.
الكتابة في نظري تشريف للقصيدة هي توثيق وشهادة جودة (إن صح التعبير). السؤال الذي يشغل بالي الآن، والذي أود طرحه وكذا يجب أن يطرح: كانت القصائد الجيدة فقط ما يكتب ويعلق على جدار الكعبة في الجاهلية (أي أن النشر ولو كان بسيطا كان يخضع لجودة النص)، فهل نحن في حاضرنا نكتب، ننشر ونطبع القصائد الجيدة فقط؟ هنا يكمن سر علاقة الشعر بالكتابة. في نظري كل الفنون الأدبية تعتمد على الكتابة، لكن المشكلة الكبرى هي أن هذه الكتابة لم تعد تخدم هذه الفنون من ناحية الجودة، بل تخدم مصالح أخرى كثيرة إلا الجودة!
«تغازل»، يقولون أنت كبير على الغزل..»تمدح»، معناها تتملق..»تفخر»، أنت بالتأكيد متكبّر..»تصمت»، أنت تترك الساحة للمتردّية..طيّب..كيف تتعامل مع أغراض الشعر؟!
الشاعر الحقيقي لا يتعامل مع أغراض الشعر، بل تتعامل معه هي، إذ كل غرض شعري يفرض نفسه في حالة نفسية معينة. الشاعر بطبيعته حسّاس يتأثر بكل ما يحيط به، فإذا غضب هجا، إذا أحب غازل، إذا أعجبه شخص مدح وإذا لم يعجبه ذم.
نفس الأمر يحدث مع البحور، فالشاعر حسب أحاسيسه، يختار دون إدراك بحرا معينا يتناسب مع رويّ معين ليعبّر عن إحساس معين في غرض معين. يعني هي سمفونية نوتاتها تفرض نفسها حسب حالة العازف لا أكثر ولا أقل، يبقى فقط، ميل الشاعر إلى غرض من الأغراض نتيجة محيطه ونمط معيشته وتجاربه في الحياة، فليس الشاعر العاشق مثلا كالشاعر الجندي، وليس الشاعر الغني كالشاعر الفقير..
ماذا عن قضية الشّعر اليوم؟!
إن أردت الصراحة حسب رأيي الشخصي، الشعر اليوم في مفترق طرق، قد يزدهر كما قد يندثر، وذلك بسبب تضارب الآراء حول مفهوم الشعر وشكله.
هناك من يرى أنه لا بد من تحرير الشعر وتحديثه، هناك من يرى أن الشعر لا بد أن يحافظ على أصالته دون تحديث، هناك من يريد إلغاءه تماما. أما في نظري، فالشعر صحيح لا بد من تحديثه ليصل لقلوب الناس لكن في إطار قواعده الأصلية، أما أن نلغي كل قواعده بذريعة الحداثة فأنا أرى ذلك محاولة للقضاء عليه، وهذا ما يحدث الآن وما نراه في ساحة الأدب خاصة من ناحية ما يسمى بـ (قصيدة النثر) مع أنّني ضد المصطلح كمصطلح لا كفن أدبي، فأفضّل تسميته بـ (النثر الشاعري) لأن القصيدة لا يمكن أن تكون نثرا أبدا، وأنا متأكد من أن كثيرا من الناس سيخالفونني الرأي، لكن في نظري وهذا رأي شخصي طبعا (كل نص لا يمكن تلحينه وإنشاده يعتبر نثرا).
ماذا عن منجزك الشّعري؟!
بكل صراحة إلى حد الآن ليست لدي دواوين مطبوعة، ولم أنشر مجموعات شعرية ببساطة لسببين: الأول مادي بحت كي نكون صرحاء، فدور النشر عادة ما تكون نواياها تجارية لا أدبية، وبصراحة تامة في عصر حتى قوتك فيه صعب المنال لا يمكن أن تنشر أو تطبع ديوانا تكلفته الملايين، وفي نظري من يجوّع أهله كي يطبع ديوانه ليس بشاعر، فلا خير في شاعر يطبع دواوينه من قوت أهله.
أما السبب الثاني، فهو ما يعود إلى ما ذكرناه سابقا، إذ لم يعد الديوان الشعري يستهوي القارئ، وكذا، حين نرى واقع الكتاب عندنا نفهم جيدا أنه أصبح مجرّد سلعة تباع، ثم تلقى في المكاتب للزينة، أي شأنها شأن أي ديكور منزلي وهذا مؤسف حقا..
لكن يبقى الأمل قائما، لأن التسويق للشعر يتطور، وكذا التكنولوجيا، ففي عصرنا هذا ظهرت وسائل عدة للتسويق للقصيدة (مواقع التواصل الاجتماعي، القصيدة المصورة، مواقع الفيديو، المكاتب الإلكتروني…)، والحمد لله عدد القصائد التي نشرتها على هذه المواقع، يجعلني أفخر بإنجازاتي ولو لم تكن موثقة، لذلك أنا متفائل حقا بمستقبل واعد للقصيدة، وربما سيعارضني كثير من الناس في قولي هذا لكن هذا ما أراه.
تهتم بـ «النّشر» أيضا..تخدمه أم يخدمك؟!
علاقة الشاعر بالنشر، في حقيقة الأمر، علاقة تكافلية شأنها شأن علاقة الشعر بالكتابة. الشاعر قديما كان ينشر قصائده عن طريق الإلقاء المباشر في الأسواق والأماكن العامة، أما الآن فلم يعد لهذه الأماكن وجود؛ لذلك وجد الشاعر نفسه أمام حتمية النشر، وحين نقول النشر، فلا نقصد بذلك فقط النشر المتعارف عليه (عن طريق دار نشر وتوزيع)، بل يكون النشر حتى على مواقع التواصل الاجتماعي أو اليوتوب أو غيرها من المواقع التي تساعد النص على الانتشار، والوصول إلى أكبر عدد من المتلقين.
النشر في نظري يخدم الشاعر، لكن – في نفس الوقت – يخدم نفسه والناشر، ولا يمكن أن يستغني أحد هنا عن الآخر، فالشاعر دون ناشر سيقول شعرا لنفسه فقط، والناشر دون شاعر سينشر كل شيء إلا الشعر، إذا سمحتم لي قبل أن أختم، أتحدّث عن مشروع كنت قد أطلقته منذ سنوات (مشروع ديوان يجمع جداريات)، ديوان تكفّلت بطبعه دار أوراس للنشر – مصر.
الفكرة كانت مستمدة من المجاراة التي كانت تقام قديما بين شاعرين، حيث يقوم شاعر بكتابة عدد من الأبيات ثم يجاريها شاعر آخر بأبيات في نفس الموضوع، بنفس البحر ونفس الروي..فقط، قمنا بتحرير عدد المشاركين وحقا كانت النتيجة رائعة.
تخيل أن تجد ديوانا كاملا لأكثر من عشرين شاعرا يكتبون في نفس الموضوع وبنفس النسق، على نفس البحر وبنفس الروي!هذا – بإذن الله – سيكون مشروعي الأول الذي أنا أعمل عليه حاليا، وبإذن الله، جمعت القصائد وهي في مرحلة التدقيق، وبعدها سنتوجّه لمرحلة التقديم ثم الطبع.
في الأخير، أشكرك على الالتفاتة الطيبة، وما أشكرك عليه أكثر دقة الأسئلة والمواضيع التي أثرتها، فهي حقا حسّاسة جدّا، ولو تحدّثنا فيها بدقة أكثر، لطال الحديث أكثر.