قصة الراحل الطاهر وطار “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” اِقتبسها امحمّد بن قطاف، وهي آخر إنتاج للمسرح الوطني الجزائري من إخراج صونيا التي كانت الرئيسة الشرفية للمهرجان الدولي للمسرح المحترف في طبعته الثالثة، حيث عرضت المسرحية فوق خشبة دار ثقافة بجاية طاووس عمروش.
عاد العمل للظهور بعدما عُرِض سنة 1980 وسنة 2003 إخراج زياني الشريف عياد. تبدأ المسرحية بدخان كثيف يعمّ القاعة يسمح بالكاد بمشاهدة ديكور الخشبة وتأثيثها؛ كانت السينوغرافيا من توقيع سليمان بوخاري الّذي أعاد تشكيل المقبرة أو بالأحرى قبور الشهداء. ثم تظهر أجساد نساء وقد اِرتدين الأبيض.
في اِنسجامٍ تام ينفذن كوريغرافيا على وقع موسيقى لغناء وطني يتمثل في نشيد “من جبالنا”، حيثُ تتجسّد الأجساد وتُكمم الأصوات؛ عمي العابد في عُمق المقبرة يبدو مُنشغلاً والسبب أنّه تلقى جوابًا من اِبنه الشهيد الّذي يُعلن عودته ورفقاءه الشهداء إلى القرية. وكان حائراً لا يعرف كيف يُعلن الخبر لأهل القرية الذين سوف يعتبرونه بالتأكيد مجنوناً وهذا ما حدث بالفعل.
تأخذ إجراءات الاِستقبال طريقها، لأنّ القرية كانت تتأهب لاِستقبال مسؤولين كبار من الجزائر العاصمة؛ البساط الأحمر والأعلام منتشرة هنا وهناك. وينبغي في البداية أن يكون كلّ شيء متكاملاً لحفل الاِستقبال.
كان مسؤولو القرية يتناوبون على عمي العابد الّذي تحمّل عبء إخبارهم بالنبأ الغريب، لكن لا أحد يصدّقه.
مع أنّ الكل يجزم أنّه فقد صوابه، والقليل منهم الذين اِستمعوا له سيجدون نفسهم أمام حقيقة لا معقولة وصعبة مفادها: إذا كانت عودة الشهداء حقيقة؟!! مجرّد التفكير في ذلك جعل بعضهم يرتعش، ذلك أنّه إذا عاد الشهداء، فإنّ الكثير من الحقائق القاتلة من شأنها أن تعود للظهور وستقلب موازين النظام المؤسس.
لا أحد يفرح بهذه العودة، حتّى بِما في ذلك آباء الشهداء خوفًا من ضياع منحة الشهداء التي يتقاضونها وآخرون يخشون أن ينفضح أمرهم لأنّهم كانوا خونة وأصبحوا ثوريين. وآخرون أيضًا يخافون من مشاهدتهم للشهداء وهم يعاينون آثار الثورة في هذا البلد الّذي أصبحت تسوده الرشوة والتواكل والاِتكال والميل للخمول والكسل وعدم الاِكتراث لحال البلاد.. ولا حتّى قدامى المجاهدين الحقيقيين ولا الاِستغلاليين لا أحد مستعد لمجابهة الحقيقة التي من شأنها أن تنبثق إذا ما عاد الشهداء
لذلك نجد عمي العابد في حيرة من أمره يصرّح بهذا الحوار للنقابي: (حتى الثوريين اللي صمدو أمام العذاب ماهومش محمسين من رجوع الشهداء، وما نقدرش نصرح حتى بحاجة بلا ما نشاورهم.. خايفين ما يكونوش في الصف الصحيح..).
وهذا ما جعل النص يتميز برسائل مُؤثرة وبعُمق كبير، دُعِمت بإخراج فكّ شفرات النص لكن مع ذلك كان بإمكانه الاِستغناء عن مشهد عودة الشهداء التي ترويها المجاهدة خديجة.
الجوقة النسائية في الشهداء يعودون هذا الأسبوع
لجأ العرض إلى الفتيات الست اللواتي شكّلن جوقة؛ فكن حاملات للخطاب السردي بحمولته الثورية، فهي الذاكرة وهي الضمير وهن الرّوح الطاهرة للشهيد التي ضحت من أجل أن تُؤسس بدمها لمستقبل جزائري حافل بالإنجازات.
لذلك تَراهُن وهُن يَلِجْنَ الخشبة ليُشكلن سداسية البوح والإفصاح عن الأنا الغائبة للشهيد لاِستقراره تحت الثرى، وأناه الحاضرة يخلد كلّ جزائري صادق ووفي لمبادئ الثورة. الجوقة النسائية التي لجأ إليها كاتب ياسين في “الجثة المطوقة”، أتت عند الطاهر وطار لتُشكل خطاباً تحريضيًا تذكيريًا حاضًا على ترسيخ المكتسبات التي ضحى من أجلها الشهيد، وحين أعلن عن عودته أضحى يشكّ به والملقي ذلك في الحوار الموالي على لسان عمي العابد مرفوقاً بصوت لالة خديجة خلفية كلّها جمالية: (شكون كان يتصور يجي وقت نشكو في الشهيد يبدل طريقه.. شكون كان يتصوّر يجي وقت نشكو في الشهيد علاه مات!!).
ويجيب عمي العابد تملؤه الحسرة على الواقع الأليم بعدما اِستنكر موقف من يشكون بمصداقية الشهيد فقط لكونه قرّر الرجوع فيقول مؤكداً على حقيقته: (مات على الجماعة ولا على نفسو حتى ولينا يا ناس عارفين.. حتى اللي ضحاوا برواحهم يشكّو في مواقفهم وقضيتهم.. واش من أفكار يقدرو يرجعو بها من غير الأفكار اللي راحوا بها ومن غير اللي ماتو عليها.. مات على ما كان فيه البارح، ولا مات على ما رانا فيه اليوم؟؟).
تبقى سمة الأنوثة التي اِكتسبتها الجوقة لها أكثر من دلالة بخاصة إذا تمّ تفكيك البُنى الحوارية التي وردت على لسانهن في وحدة وانسجام ليُشكلنَ صوتًا واحداً يجلي الكثير من الصفات والهيئات والشخصيات: – حتى اللي ضحاو برواحهم يشكّو في مواقفهم وفي قضيتهم. خطاب المرأة الأولى تشي فيه بنقمة الصّدّيقين والأتقياء على شكّ الاِنتهازيين الوصوليين الخائفين على مصالحهم في ذمة من وهب حياته فداءً للوطن، حيث لوقاحتهم سمحوا لأنفسهم بالشكّ بما يمكن أن يعود به الشهداء، إن عادوا من جديد من أفكار وقضايا قد تقضي على آمالهم العريضة في اِمتلاك البلاد والعباد.
أمّا المرأة الثانية، فتؤكد في تتابع سردي فكرة من سبقتها باِستغرابٍ شديد ممن يشكون بذمة الشهداء العائدين وفي ذلك قولها: “واش من أفكار يقدروا يرجعوا بها غير الأفكار الي راحوا بها ومن غير اللي ماتوا عليها؟؟”.
هو الاِستفهام الّذي يستنكر ردّة فعل الوصوليين إذ مهما تغيّرت أفكار الشهداء لدى عودتهم لن تكون إلاّ صورة حية عن تلك الأفكار التي ذهبوا بها عازمين على دحض قِوى الشر والعدوان التي جثمت بجبروتها على نفس الشعب الجزائري جيلاً بعد جيل.
فمن ذهب غير آبهٍ بذاته وأناه ومضحيًا يُؤْثر مستقبل جيل لن يكون معه. لكن ما هو مؤكد أنّ الشهيد سيغضب من صنيع الوصوليين وسيدرك أنّ العدو لم يعد أجنبياً بل من داخل الأرض التي سُقِيَّت بدمه. ولن يرضى بالضرورة على ما آلت إليه بلده؛ هو الّذي كان يأمل رقّيها وازدهارها.
وتردف المرأة الثالثة ناقمةً على الزمن الّذي لم يكن بالحسبان، والّذي أضحى فيه بعض الخونة يشكّون في مسار الشهيد وفي إمكانية تغيير فكره وآرائه وتنازله عن قيمه ومبادئه حيث تقول: (شكون كان يتصوّر يجي وقت نشكو في الشهيد يبدل طريقو؟!!). وهي بذلك تؤكد على أنّ الشهيد مُتشبثٌ بالثوابت التي قامت عليها الثورة التي ما سُميت كذلك إلاّ لما تُحدثه من تغيير إيجابي يأتي بالبناء والتشييد.
ويبقى التكرار الشِّعري الّذي ينشد ترسيخ المعنى بذهن المتلقي حاضراً للتأكيد على مصداقية الشهيد الّذي لا يمكن أن يموت إلاّ من أجل الأرض التي أنبتتهُ، وكيف للخونة اليوم أن يشكوا في الأهداف السامية التي اِستشهد لأجلها الشهيد لذلك تقول: – شكون كان يتصور يجي وقت نشكوا في الشهيد علاش مات؟!! تتواصل السردية الإخبارية على لسان المرأة الخامسة التي أتت لتُكمل الإجابة عن السؤال السابق وكأنّها عازمة على ترسيخ الهدف الإنساني والوطني النبيل الّذي من أجله مات الشهيد: مات على ما كان فيه البارح، ولا مات على ما رانا فيه اليوم؟؟ وتتساءل إن كان قد مات ضجراً واستنكاراً لما يحدث اليوم من اِنتهاكٍ للحقوق واِستنزاف لمصالح البلاد والعباد.
وما كان السرد السادس للجوقة النسائية إلاّ أن أجاب عن السؤال السابق لكن ليس بأسلوب الإثبات والتأكيد، ولكن بسؤال آخر مُعلناً فيه أنّه اِستشهد من أجل الجماعة أم أنّه مات من أجل نفسه؟؟ ولو أنّه استشهد من أجل نفسه لما آثر الموت على الحياة بل إنّ رغبته في أن يعيش شعبه بكرامة وإباء هي التي جعلته يُضحي بنفسه وبحقه في الحياة.
طقوسية زي الجوقة
بدت نساء الجوقة بلباس يميلُ للباس المرأة النايلية بشكله المميز الّذي يَشي بعفتها ووقارها وهو يتشكّل من قطعتين السُفلى والعلوية؛ وكلاهما باللون الأبيض لون الطهارة والنقاء والسلام؛ لأنّهن ناقلات لذاكرة الشهيد من جهة، ومن جهة أخرى توجت رؤوسهن بمناديل وضفائر بيضاء كثيفة الشَعر فماثل رأس الفراعنة شكلاً.
ناهيك عن الماكياج الداكن الّذي اِستظلت به وجوه نساء الجوقة والّذي لم يكن للمُتلقي إلاّ أن يُعجب بدلالاته التي جعلته مشدوداً للعمل. إذا تعلّق الأمر بلباس عمي العابد، فكان جزائريًا قحاً وتمثل في عمامة الرأس والقميص والبرنس؛ وكلها بلون أبيض يميلُ للصفرة، يتواءم مع أزياء نساء الجوقة لونًا وفضفاضية شكل؛ أوحت بعراقة اللباس الجزائري التقليدي الّذي ينمّ عن النخوة والأصالة والتشبث بالتراث.. آثرت الجوقة في البداية الحوار الفردي لكنّه جماعي الهدف نبيل المقصد. ثم سرعان ما اِنتقل من الخطاب الفردي إلى الخطاب الجماعي من خلال دعائهن للشهيد بالرحمة والمغفرة في قولهن: (تغمدكم الله برحمته الواسعة أيّها الأبطال الذين آثرتم الموت على الحياة، لتُسعدوا أوطانكم وإخوانكم. إنّ تضحيتكم ستكون قدوة لنا في مستقبلنا وفي مستقبل أيامنا وأوقاتنا وفي كلّ عمل نُقْدِمُ عليه..).
دلائلية السينوغرافيا ورونقها
كانت الجوقة طرفًا بارزاً في سينوغرافيا العمل التي تبدو للوهلة الأولى محتفيةً بدلالة المكان وقداسته، إذ لم يكن غير مقبرة الشهداء، حيثُ اِصطفت القبور بشكل نصف دائري بخلفية الخشبة بحيث أنّ كلّ فتاة تتخذ لها مكانًا بقرب قبر من القبور أو كأنّها تجلس وراءه أو تقف ظهريًا للجمهور في تنظيمٍ مُستميت وأناقة لون وتعبيرية حركة.
حتى صار المتلقي متعلقاً بالقناة السردية للجوقة يرقب دورها إضافة إلى العجوز خديجة؛ هذه التي تمثل دور المرأة في الثورة التحريرية المظفرة. كما قد تكون دلالاتها شهادة الأرض على صنيع أبنائها إبان الثورة وبعدها.
حيثُ أدّت الممثلة الدور بكلّ دلالاته ببراعة؛ إذ لبست وتقمصت الدور، وما زاد من مفصلية هذه الشخصية سلامة أداء الممثلة، علاوةً على صوتها الجهوري الجميل (الفنانة فايزة أمل). إذ كانت تجمع بين بساطة المرأة الجزائرية وهي تؤدي واجبها الوطني، وبين تلك المرأة التي اِستمدت صلابتها وكبرياءها من جبال الأوراس الأشم؛ إذ كانت رفيقة الجندي ومضمدة جراحه وهي الباكية والمزغردة لدى اِستشهاده؛ فهي خنساء الجزائر التي ما اِنفكت تهب فلذات كبدها كلما ألمّ بالأرض أي خطب أو نائبة دهر.
لباسها وهيئتُها ووشمها وصلابتها وصراخها، كلها دلالات لا تنأى في شيء عن المرأة الأوراسية التي تغنّى بها إتيان ديني بلوحاته الخالدة وستبقى رمزاً تليداً من رموز الجزائر.(*) تجدر الإشارة أيضاً في مجال السينوغرافيا التي تتكفّل بترجمة أيقونات النص ورؤية المخرجة التي تبدو واقفة وراء كلّ ما من شأنه أن يخدم العرض ويُؤكد بصمتها الأنثوية الأنيقة التي نلفيها بجل أعمالها المسرحية التي قامت بإخراجها.
ومن قطع الديكور التي أسهمت في تجسيد فكرة العمل وموضوعه تلك الأشكال التي وضُعِت بباب المقبرة وكانت قطعة مستطيلة الشكل يعلوها هلال؛ تلك القطعة التي تحمل هوية الشهيد والميت عمومًا. لكنها لم تكن عادية كما أنّ المقبرة لم تكن كأي بناء يحوي رفات المفقودين، بل كانت مقبرة الشهيد حيث أبى عمي العابد إلاّ أن يجلس بها وكأنّه ينتظر عودة اِبنه الشهيد.
ومن قطع الديكور الفاعلة في العرض أيضاً تلك الكراسي السوداء التي اُستخدمت تارةً للجلوس وتارةً أخرى كمصطبة يقف فوقها الخطيب لإلقاء كلمته.
لقد عوّدتنا السيدة صونيا بأعمالها المسرحية أن تضع بصمتها الجمالية، فتتخيّر الأزياء من جب الجزائر العميقة، ولئن كان اللباس يعود للسينوغراف انتقاؤه، فإنّ صونيا من خلال عروضها تحس أنّها أسهمت في حياكة تلك الملابس لتكون على مقاس ممثليها هيئةً وحواراً وحركة. وهذا ما يمكن ملاحظته على أزياء الممثلين التي تزداد نضارةً وشعريةً بفعل الإضاءة التي كانت تعبيرية ووظيفية.
يكشف العمل “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” عن تفكيرٍ جاد مميز ومسؤول يفضح الرشوة والاِستغلال والظُلم؛ هذه المظاهر التي لا يمكن للوطن أن يجني منها الفخر أمام شهدائه. للتذكير أُنتج العمل في إطار تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011، فكان إحياء لمجد ثورة تسامعت بها الأجيال حتى صارت مثلاً وأنموذجاً، يضرب به المثل ويتخذ عينة في رفض الإذلال والقهر.
هذا ما نقله العمل لجمهور متعطّش توّاق لاِستعادة الأمل في مستقبل هذه الثورة الّذي تُطرح حوله أكثر من علامة اِستفهام، بخاصة على أولئك الذين اِستلموا مشعل الاِستقلال للعمل على إثمار وإزهار ملحمة شعب تستحق أن تُجسد مصداقية السهر والأرق والقلق والمعاناة المريرة والكفاح بشتى أنواعه بمستقبل يُدينُ لهؤلاء بالعرفان وردّ الجميل.
حاولتْ مسرحية الشهداء يعودون هذا الأسبوع أن تزرع الشكّ لتحصد اليقين؛ عبر تركيبة من البُنى اللفظية والمرئية التي سُخّرت ليبقى الجمهور حبيس العمل، عن حب ومتعة ولذة توّجها في الأخير بالزغاريد وشعارات الاِحتفاء بالجزائر الخالدة.
وباللمسة الجمالية المعهودة عند الفنانة صونيا أضافت إلى ما هو تاريخي وخيالي اِفتراضي وثوري ما هو جمالي تمخّض عن سياسة إخراجية تحس أنّ المقدّس فيها هو الوطن الّذي قُدِّسَ بمشاهد علقت بذاكرة المتلقي الجزائري.