ولد فرحات عباس يوم الخميس 24 أكتوبر 1899 في دوار شاهنة “الجبلي من سلسلة البابور التي تبلغ قممها 2000م، بمنطقة جيجل في ولاية قسنطينة، وينتمي إلى قبيلة بني عمران التي “إستقرت في سنة1830 على سهل جميل عند مخرج جيجل، وهي أرض تقاسمتها قبيلته مع أبناء عمومتها بني حسين، والجو في هذا السهل معتدل ويمتد إلى غاية وادي جن جن الذي يحصر بلدية الطاهير.
كان أفراد قبيلة بني عمران يعتمدون في معاشهم على الزراعة، وقد بقوا على سيرتهم تلك، وكانت أراضيهم تمتد إلى تخوم غابة جميلة، وتصلح لتربية الماشية وتلاءم زراعة الحبوب والبستنة وأشجار الزيتون. وحتى الثمار كانت غزيرة”.
“بمجرد أن بدأ المعمرون في الاستقرار، قبيلة بني عمران وككل القبائل التي تأصلت في أراضي جردت منها، فقرت وأصبحت في حالة عوز.في سنة
ولأنها شاركت في تمرد الشيخ المقراني في سنة 1871، فقد صدرت أراضيها ونقلت إلى فج مزالة، و ونقلتهم الإدارة الاستعمارية إلى أراضي صخرية، مختلفة تماما عن الأراضي الخصبة التي كانوا يملكونها “. (1)
بعد أن قاد الشيخ محمد المقراني ثورته الكبرى بمنطقة القبائل ضد الاستعمار الفرنسي وانضم إليه آلاف الجزائريين في 1871، انتفض جد فرحات عباس فطرد من أراضيه وأصبح فلاحا.
وهو الثائر الذي لا يلين في وجه الاستعمار الفرنسي فقد انتفض في سنة 1852 ضد جيش سانت آرنووهو ما يذكره فرحات عباس حين روى وأدان جرائم و فضائع سانت آرنوفي مؤلفاته، فقد ذكر أن سانت آرنو بعد أن يقوم مع جنوده بسد منافذ المغارات التي كان الجزائريون يلجؤون إليها مع ماشيتهم يضرم النار بداخلها فيختنقون ثم يموتون، “نعرف أن هذه “المحارق ” أثارت سخط فرنسا، فقد استجوب أمير موسكو الحكومة بشأنها لكن هذا لم يمنع سانت آرنو بعد شهرين من أن يعيد نفس الأمر في منطقة تنس.
هذا التصرف راسخ في الثقافة الفرنسية :في الوقت الذي يقوم البعض بارتكاب المجازر، يبكي آخرون على الأطلال.
تكمن النتيجة الوحيدة لذلك الاستجواب في كون أن سانت آرنو قد تمكن من إخفاء جريمته جيدا، المؤرخ غوتي كتب :”لقد فعل سانت آرنو المستحيل حتى لا تنجو ولا ضحية. .. مات ألف وخمسمائة شخص من الأهالي، منهم الكثير من النساء والأطفال، في مغارة من نفس المنطقة ” ” لا أحد ذهب إلى تلك المغارات، لا أحد غيري. حررت تقريرا ” (2).
“لقد شاهد جد فرحات عباس كل دشرات دواره تحترق، لقد حضر مصادرة الماشية والحبوب. ” (3)
وأنشأت الإدارة الفرنسية في دوار بني عمران مركزين للاستيطان : ستراسبورغ ودوكون يسكنهما معمرين. ولم يبق بنوعمران في فج مزالة. بل عادوا إلى ديارهم للعمل محاولين العيش بالرغم من شظف الحياة.
ويروي فرحات عباس كيف غير جده لقب العائلة :”اقترح أبي على جدي تقيد العائلة في سجل الحالة المدنية باسم “داوي “أو بن داوي ” لكن جدي رفض رفضا قاطعا، وقال :”عائلتنا ستحمل اسم جدي عباس كان رجلا إنسانيا، كريما، ورعا وعادلا “.(4)
من هم هؤلاء المعمرين؟
“يشكك الكثير من المؤرخين الفرنسيين في فرنسية الأقوام اللذين جاءوا إلى الجزائر مع الغزو، فإلى جانب تسميتهم بالأقدام السوداء، نعتوا بأحط النعوت وأقدحها. فهم بدو فرنسيون “تارة، ومتشردون “تارة أخرى و”نفايات سواحل المتوسط “في كثير من الأحيان كذلك.
وكان هؤلاء “الأقوام المنحطون “الذين لفظتهم البورجوازية الفرنسية، يأتون إلى الجزائر تحت حماية العسكريين الذين ينفرون منهم.
فالغزو لم يكن في نهاية الأمر سوى تفريغ هؤلاء “المنحطين ” و”المنحرفين “في بلاد أخرى. .فبدل إرسالهم إلى معاقل، أرسلوا إلى الجزائر “لإرجاعهم لطريق الفضيلة المسيحية “، كما عبر عنه القس بوارييه. ”
هكذا جاء إلى الجزائر مساجين “لباستي” ثم الفئات المنحطة أو الرعاع. ..قصد الحيلولة دون نزوحهم من الأرياف إلى المدن الفرنسية النامية، وبعد أن فضلت فرنسا التمسك بفكرة النقاوة البورجوازية والمدنية. شاعت فكرة أن “الجزائر ملك للفقراء “.. ومن أجل الحفاظ على أمن وسلامة مدينة باريس. ..
كما جاء على لسان محافظ شرطة المدينة سنة 1835، كان يجب إرسال المنحرفين إلى الجزائر، التي تحولت مع الغزو إلى سجن جديد. . لكنه سجن خاص يمكن تسميته بالسجن الليبرالي حسب الموضة الشائعة آنذاك.
هذه الأصول الاجتماعية المشكوك فيها للمعمرين القادمين إلى الجزائر حولت الإيالة إلى مدينة منحطة. . .وفي نفس الوقت حل بالجزائر ممثلو الرجعية الإقطاعية الذين هزمتهم الثورات الأوروبية. .وهؤلاء كانوا يحلمون بإعادة نفس النمط الإقطاعي السائد قبل الثورة في الجزائر.
هكذا جاء الأمير “مير “بعد أن لفظته الثورة البولونية سنة1830 واستقر بضواحي الإيالة غارقا في تعاسته ومالكا لخمس ضيعات. . وقد أضيف لانحطاط الأقوام الأولى سادية القادة العسكريين الذين راحوا يفتخرون بتعذيب الأهالي وتجريدهم من أراضيهم.
وعندما حلت العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر، كان الجزائريون قد فقدوا جل أراضيهم. لقد أصبحت ملكية معمرين اعتقدوا أنهم بصدد تحويل أرض قالوا أنها “خراب ” إلى “جنة “غرسوا فيها أحلامهم الضائعة. .. ومن جهتها راحت الكنسية تناصر الغزو. .
واعتبر شارل أندري جوليان الغزاة الجدد بمثابة مرتزقة. فبعد “دخول الجيش الفرنسي، كبت السفن الآتية من مارسيليا وإيطاليا جماهير غفيرة من الأوروبيين لا ذمة لهم ولا ضمير،مجبولين على الشجاعة والمغامرة، ومولعين بحب المال بحب المال، فانتشروا كالبلاء المسيطر متكالبين على بيع العقارات وشرائها “.(5)
طفولة فرحات عباس
كان والده سعيد بن أحمد عباس يشغل وظيفة قايد وبالرغم من هذه الوظيفة الإدارية الراقية يقول فرحات عباس في كتاباته أنه نشأ وسط العوز والفاقة والحرمان .
وكتب يقول :” نعم إنني من سلالة فلاحية، ولئن كان أبي وإخوتي موظفين فقد وقع ذلك عرضا في حياتهم، لقد ترعرت وسط أولئك الفلاحين الذين لا ينال الفقر من شجاعتهم ولا من أنفتهم في دوار من بلدية مختلطة، متوحشة جرداء، وقضيت طفولتي كلها وأنا في نعومة أظافري وسط مجتمع ساذج وكريم، فتعذر علي مفارقته، فتضامني مع أولئك الفلاحين ليس عاطفيا فحسب بل هو حيوي يجري في دمي وعروقي “.
وقد نشأ فرحات عباس في أسرة كثيرة العدد ومحافظة تتكون من 13 أخ وأخت، وكانت والدته مقا بنت علي امرأة تقية وشجاعة، تقوم بدورها ككل الأمهات الجزائريات اللواتي كن يتميزن بحبهن لأبنائهن أكثر من حبهن حياتهن، وهم كانوا يدركون أن تلك المرأة البسيطة هي أكثر الأمهات روعة، وهو الحب الذي سيمنح لفرحات عباس وإخواته هذا الإحساس بالكبرياء و شعورا بالأمان واليقين بأنهم محبوبين ومتميزين.
وكان لجدته هي الأخرى دورا حاسما في صقل شخصيته، كرجل وطني وإنساني محب وقريب من طبقة الفلاحين، وذلك من خلال تلك المرويات التي كانت تقصها على مسامعه مع إخواته وأخواته كل ليلة، عن بطولات بني عمران، هؤلاء الجزائريين الأقحاح اللذين ثاروا على المستعمر الفرنسي ولم يستسلموا، لقد غذت جدته من خلال تلك القصص والأحداث ذاكرته بأروع صور الشجاعة والنخوة والإقدام، ووسط ذلك الجو الأسري الدافئ والمتشبع بالقيم الإسلامية سيتغذى فكره و روحه بقيم حب الوطن و الثقافة الإسلامية.
وفي سن العاشرة ألحقه والده بالمدرسة القرآنية، لقد اهتم والده سعيد ببناء المدارس القرآنية في دوار شاهنة لتعليم القرآن ولحمل الناس على نبذ الشجارات والصراعات التي كانت تنشأ بينهم بسبب المياه وأشجار الزيتون وكانت تنتهي بالقتل.
وكتب فرحات عباس عن فترة التحاقه بالكتاب: “فتيان وفتيات كنا نذهب لحفظ القرآن وتعلم الأخلاق الإسلامية، كانت ساعات دروس المدرسة القرآنية شاقة، كنا نستيقظ منذ الفجر ونخرج من البيت على الساعة الثامنة، ونعود للدراسة على الواحدة بعد صلاة الظهر ونخرج على الساعة الرابعة، و الأربعاء مساء، الخميس والجمعة كانت أيام عطلة”. (6)
وكتب فرحات عباس عن مرحلة طفولته السعيدة قائلا:”مرحلة الطفولة الأولى ستبقى محفورة في ذاكرتي: اللعب مع أطفال في مثل سني، شجاراتنا، والأفخاخ التي كنا نضعها لصيد العصافير، قطف التوت على طول سياج من أغصان شائكة، سرقة المحاصيل والثمار من البساتين، سباقاتنا نحو الوديان حين يغيب أباؤنا، كنا خلال فصل الخريف نتدرب على الحرث بعربة تقليدية يجرها ثور،وخاصة رائحة المحاصيل التي كان لها عبقا خاصا مازلت أستحضره إلى اليوم، وفي فصل الربيع كنا نقيم حفلة لمولد العجول الصغيرة، والتي كانت تشاركنا هي الأخرى اللعب “.(7)
التحق فرحات عباس في سن العاشرة بالمدرسة الفرنسية الأهلية في سنة 1909 في الطاهير بجيجل، فابتعد عن أسرته وخاصة عن جدته وأمه اللتان كانتا قريبتان منه و يحبهما كثيرا، ” لقد بقي فرحات عباس محبا أيضا و مرتبطا بفئة الفلاحين اللذين احتفظت ذاكرته عنهم بصور الفاقة والعوز.
وكتب عنهم في وصيته السياسية الشهيرة في سجن سركاجي سنة 1946، قائلا :” هؤلاء الناس أحبهم، ويبادلوني الحب (…)ومنذ وطأت أقدامي عالم السياسة لأول مرة فرضت فكرة ترقية هؤلاء الفلاحين نفسها علي، فهي الهدف الأسمى لكل سياسة محترمة (…) حلمي الوحيد كان أن أرى الفلاح ينام في سريره بعد أن يأكل جيدا ويقرأ جريدته “(8 ).
وقد شكلت مرحلة انتقاله إلى جيجل واحتكاكه بالمدينة لحظة سحرية في حياة الطفل فرحات عباس، “فالبحر كان يجذبه ويسحره.
وهنا في جيجل سيرغب فيما بعد في أن يشارك في الانتخابات. هذه المدينة خاضعت للبربر، القرطاجيين، الرومان، العرب، الأتراك، لقد جعل منها الأخوة المشهورين برباروس مقرا لعاصمة حكمهم في بداية القرن السادس عشر.
ومع الغزو الفرنسي اضطر الدوق بوفور للانسحاب منها بعد ثلاثة أشهر من محاولته إحتلالها، ولم يتمكن من ذلك فقد ألفين من جنوده بعد مقاومة شرسة من أهالي جيجل. . وكأن هذه المقاومة التي تناقلتها ذاكرة السكان وصلت إلى مسمع فرحات عباس الشاب “. (9)
وفي تلك الفترة من حياة فرحات عباس الشاب اقتنع بفكرة الاندماج في المواطنة الفرنسية مع تمسكه بالقيم الإسلامية، وهي الفكرة التي تكونت في الجزائر في العشرينيات عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، بفضل الأمير خالد، “مثل هؤلاء المتأثرين بالمدنية الغربية، كان فرحات عباس اندماجيا، لكنه كان أقل اندفاعا وذاتية واغترابا من غيره. ..حتى أن جريدة La voix de humble.
وفي مقال كتبه “حنفي لحمق ” انتقد أفكاره المعتدلة التي صاغها في “الشاب الجزائري ” وعلى خلاف بن حبيلس وإندماجيي أوغستين، لم يحتقر فرحات عباس وسطه التقليدي، بل كان يعتقد وهو يطالب بالاندماج الواعي بالأحوال الشخصية،إعطاء الفئات الشعبية فرصة التخلص من بؤسها نهائيا، وذلك ما يفسر إقدامه على نشر مقالاته في جريدة “الإقدام ” التي كان يشرف عليها الأمير خالد والتي كانت تولي اهتماما كبيرا بقضايا مرتبطة بحالة الفئات الشعبية، ولم تكن تتراجع أوتبدي خوفها عندما يتعلق الأمر بتوجيه النقد اللاذع للإدارة الاستعمارية “.(10)
“إن الاندماج عنده لا يجب أن يعني النخب والبورجوازية دون عامة الناس كما كانت تريد فرنسا. انطلاقا من اعتقاده أن امتيازات البعض ستؤدي حتما غلى بؤس البعض الآخر، وتفاقم الفوضى الاجتماعية والانقسامات الطبقية داخل البلاد، وذلك ما كان يرفضه فرحات عباس الذي يظهر شعبوية منقطعة النظير، أحدث بواسطتها قطيعة داخل حركة الشبان الجزائريين الذين كانوا فيما مضى غير مهتمين البتة بطموحات الفئات الشعبية. ..فظل متمسكا بفكرة :”أنه ابن الشعب. ”
وتمثلت الوسيلة المثلى لتجسيد هذا الطموح في المطالبة بالإدماج ضمن الشخصية الإسلامية. . ففي مقال بعنوان “الكولونيالية والأحقاد الدينية ضد الإسلام ” كتب يقول ” ظل الإسلام ديننا الأمين، وهو الإيمان الذي يعطي المعنى لكياننا. إنه بمثابة موطننا الروحي، وهل من التعصب بمكان أن يسعى الإنسان لكي يكون نفسه ؟”.
وبهذا رد فرحات عباس على اتهامات جماعة أوغستين التي اتهمته بالولاء للوطنية الإسلامية التي كانت رائجة آنذاك بعد زيارة محمد عبده للجزائر، وعودة الطلبة الجزائريين من جامعة الزيتونة.
لم يول فرحات عباس أي اهتمام للانتقادات التي وجهت إليه من طرف رفقائه، فاستمر في دفاعه عن الإسلام الذي اعتبره بمثابة المبدأ التنظيمي الوحيد القادر على الصمود في وجه الاستعمار.
كان فرحات عباس يدرس في الجامعة ورئيس الإتحاد الطلابي خلال احتفال فرنسا بمرور مائة عام على احتلال الجزائر، وقد حاولت الإدارة الاستعمارية أن تجعله في صفها لكن محا ولاتها باءت بالفشل فهو لم يكن ليقبل بذلك.
وفي صبيحة 1933 غارد فرحات عباس الجزائر العاصمة وهو في حالة ياس، وقرر الاستقرار في مدينة سطيف، وفتح صيدلية وفي صيف ذلك العام تزوج من فتاة تدعى فاطمة الزهراء، وهي إبنة رجل ميسور الحال من مدينة جيجل، وفي سطيف احتك فرحات عباس بالأوساط الليبرالية الفرنسية، فدخل عالم السياسة بعد أن عين في منصب مستشار بلدي ثم مستشار عام لمقاطعة قسنطينة سنة 1934، فممثلا ماليا بالعاصمة ثم مستشار عام لمقاطعة قسنطينة سنة 1934، فممثلا ماليا بالعاصمة وانضم إلى فدرالية المنتخبين وأصبح مقربا من رئيسها الدكتور بن جلول وأصبح يقتسم معه نفس الأفكار والأسلوب الردايكالي الاشتراكي، والمواقف نفسها فكلاهما يعطيان الأهمية لفكرة الحضور البرلماني.
ففرحات عباس الذي نشأ في وسط قريب من فئة الفلاحين، ولامس معاناتها ظل يناضل لصالحها ضمن الشرعية الفرنسية التي كان يعتقد أنه الطريق الممكن والسريع لتخليصها من الفقر والجهل.
ففي صفحة 116 من كتابه ليل الاستعمار كتب:” آه ,بؤس الفلاح الفقير، لا أحد يخطر في باله أن كبير، إنه لا ينتهي، إنه كبير..”.وفي شهر أكتوبر 1934 انتخب فرحات عباس نائبا لمدينة سطيف في المجالس العامة وهو الأمر الذي لم تستسيغه الأوساط الشعبية، ذلك أن فرحات عباس، كان ينتقل إلى باريس ويفضح انتهاكات المعمرين في حق الجزائريين وخاصة الفئات الشعبية، وفي تلك الفترة أنشأ فرحات عباس حزب “الإتحاد الشعبي من أجل حقوق الإنسان “ولم يدم طويلا بسبب الحرب العالمية الثانية.
تتميز المرحلة الثانية من فكر فرحات عباس باعتناقه للأفكار الفيدرالية ولم يصل إلى هذا الاعتقاد إلا بعد أن مر بفترة أعاد خلالها نقد أفكار ه، فانتقل من المطالبة بالاندماج إلى المطالبة بالفيدرالية، وأنشأ حزبا جديدا “التجمع الشعبي الجزائري ” وحمل شعار “من الشعب وإلى الشعب “، وكتب فرحات عباس “لإلحاق الهزيمة بنظام قوي مثل النظام الكولونيالي، وقصد تحويله وتحطيمه يتطلب الأمر أكثر من تجمع للمنتخبين، يجب توفير حركة شعبية تتكون من كل الجماهير، وهذا لا يتحقق إلا في إطار حزب “.
بيان الشعب الجزائري
“في هذا البيان الذي حرره فرحات عباس والذي تزامن مع وضع دولي متأزم ينقد بشكل واضح وعلني الاستعمار ويتطرق لنتائجه السلبية والقطيعة التي أحدثها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وبالرغم من وجود لهجة معتدلة في بعض فقراته، إلا أنه يشكل قطيعة حقيقية في تفكير فرحات عباس السياسي ونضاله الطويل، كما وضع فرحات عباس في هذا البيان حدا لتلك الفكرة التي كان يؤمن بها :” المهمة الحضارية لفرنسا في الجزائر “، وهو أيضا بمثابة وداع للروح الجمهورية الجاحدة، لقد تعرضت سياسة الاندماج للمحاكمة بعد أن تأكد استحالة الدخول في مجال “الحضارة الفرنسية”بالاحتفاظ بالشخصية الوطنية، ولن يطالب الجزائري بعد الآن سوى أن يكون جزائريا مسلما، ووقع على البيان كل من فرحات عباس، الشيخ أحمد مايزة عن جمعية العلماء المسلمين والهادي مصطفاوي ممثلا للدكتور بن جلول والدكتور أحمد فرانسيس، وهي وثيقة سماها بن خدة بـ”ما قبل الوثيقة “.(10)
“لقد جاء بيان الشعب الجزائري كوثيقة في تاريخ النضال السياسي لفرحات عباس، صحيح أنه كتب بنوع من الاعتدال، وسلمت نسخة منه رسميا يوم 31 ماي 1943 للحاكم بيروتون وقد وقعت عليه ثلاثون شخصية جزائرية، لكن بعد لقاء فرحات عباس بمصالي الحاج مباشرة بعد خروجه من السجن يوم 26 أفريل أضيفت إليه ثلاث نقاط، سميت فيما بعد “إضافات البيان “.
ومن المؤكد أن الإضافة جاءت بعد النقاشات التي دارت بين الرجلين بمنزل فرحات عباس بسطيف. وتضمنت الإضافات التي أعطت البيان معنا أكثر استقلالية وراديكالية قيام دولة جزائرية بعد نهاية الحرب “دولة تكون مزودة بدستور خاص بها وبجمعية تأسيسية جزائرية منتخبة جزائرية منتخبة بالاقتراع العام، ومن قبل جميع سكان الجزائر، إن بيان الشعب الجزائري يعد نقلة نوعية في تفكير النخب الجزائرية التي انتقلت من صيغة المطالبة بالجنسية الجزائرية إلى صيغة أكثر ثورية ” أي المطالبة بالدولة الجزائرية ذات السيادة “.
أحباب البيان والحرية
أعلن فرحات عباس من سطيف عن تأسيس حزب جديد أسماه “أحباب البيان والحرية “،وجاء الحزب على شكل جبهة جزائرية انضم إليها الموفقون على بيان الشعب الجزائري وهم: مصالي، الإبراهيمي، لمين دباغين، أحمد فرانسيس، ورفع الحزب شعار “الجزائر حرة “، وكان الهدف من تأسيس هذه الحركة هو الترويج لفكرة الأمة الجزائرية الساعية لتكوين جمهورية مستقلة مرتبطة فيدراليا بجمهورية فرنسية متجددة ومعادية للاستعمار والإمبريالية.
لقد لقيت حركة أحباب البيان إقبالا واسعا من قبل الفئات الشعبية التي لم ترهبها سياسة العنف والقوة التي انتهجها الجنرال كاترولتشتيت شمل النواب المسلمين.
أحداث 8 ماي لها 1945
كانت الأمور تسير نحو مزيد من الانفجار بسبب تفاقم الأوضاع الاقتصادية ووصولها إلى مرحلة التعفن، الفئات الشعبية وكذا أنصار فرحات عباس راحوا يحذرون الإدارة الاستعمارية من مغبة ما سيحدث إذا لم تستجيب لمطالب أحباب البيان.
وأورد فرحات عباس في ليل الاستعمار “أن محافظ قسنطينة قال للدكتور سعدان سرا بأن اضطرابات ستقع عن قريب وسيحل على إثرها حزب عتيد، تدفع الإدارة للتراجع عن الإصلاحات وتلغي مرسوم 7 مارس “.خرج الجزائريون يوم 8 ماي 1945 ليعبروا عن فرحتهم بنهاية الحرب ولمطالبة الحكومة الفرنسية بالوفاء بوعودها بمنحهم الاستقلال، وعندما رفع العلم الجزائري أقدمت قوات الشرطة والجيش على إطلاق النار وقتلت 45 الف جزائري، وفي نفس اليوم اعتقلت السلطات الفرنسية فرحات عباس ووجهت له تهمة المساس بالسيادة الفرنسية، فتعالت أصوات الأوروبيين بإعدامه بصفته المسؤول الأول عن الأحداث.
وفيما بعد سوف يكتب في كتابه الثالث “تشريح حرب “: “لما أقدمت السلطات الاستعمارية على حل حركة أحباب البيان والحرية في 8 ماي 1945 كنت الوحيد الذي تحمل نتائج الأحداث المأساوية في قالمة وسطيف، ونجوت من الإعدام بأعجوبة بسبب أحداث دبرت ضدي من قبل النظام الاستعماري بتواطؤ مع بعض مناضلي حزب الشعب “.
وفي سجن بارباروس كتب فرحات عباس وصيته السياسية الشهيرة التي لم يعثر عليها إلا في سنة 1994من قبل المؤرخ الفرنسي شارل روبير اجيرون، وكتب فرحات عباس في وصيته قائلا:”أصرح بشرفي واقسم أمام الله أن أحباب البيان والحرية لا علاقة لهم بمجازر سطيف، وأن أيادينا خالية من أي دم إنسان “.والوصية عبارة عن تأملات في السياسة والأخلاق وفيها تناول قضايا أساسية تتمثل في ترقية الفلاحين، إستعمال العنف عبارة عن جريمة في حق الشعب، لا حقد عرقي ولا ديني، وأن العمل واللعلم هما اللذان يمنحان الحرية للشعوب.
اهتم فرحات عباس في وصيته بكيفية خلق التواصل مع الفلاحين، لتغيير حياتهم، فكتب أن ذلك لن يكون ممكنا إلا عندما يتم وضع حد للسلطة التي تمارس ضده، ويحدد دور النخب في الدفاع عن مصالح الفلاحين وقضيتهم والتفكير لهم ولصالحهم ويضيف أن النخبة التي تمثل شعبا ضعيفا عليها أن تتحلى بالصراحة، ونبذ العنف، والتمسك بفضائل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
يعتقد فرحات عباس بأن السياسة في نهاية الأمر عبارة عن مسالة شرف وعلى من يمارس السياسة “أن يعرف كيف يتمسك بالتزاماته “.
لقد وضع فرحات عباس في وصيته أسس التقدم وازدهار الأمم المتخلفة وحددها في الإيمان بالمبادئ والعقيدة الدينية، مع التركيز على الفصل بين السياسة والدين وأضاف لكل هذا مبادئ الحرية والإيمان لفضيلتي العمل والمبادرة، مركزا على ضرورة تجديد الأفكار والابتعاد عن الدوغمائية.
وأطلق سراح فرحات عباس يوم 16 مارس 1946 رفقة البشير الإبراهيمي الذي قضى معه أياما في نفس الزنزانة. في ليلة 15 ماي 1955 التقى فرحات عباس في بيته بعبان رمضان وأوعمران حيث عرضا عليه الالتحاق بجبهة التحرير الوطني فوفق على ذلك، ثم سافر إلى باريس للقاء رئيس المجلس إدغار فور لكنه أدرك أن لا أحد يصغي إليه وبعد عودته التقى مع عبان الذي طلب منه الاستمرار في مساعدة الجبهة، وبالتحاقه بجبهة التحرير الوطني وضع فرحات عباس حدا لثلاثين سنة من النشاط السياسي، بعد أن انتظر من فرنسا إصلاحات لم تأتي أبدا، فقد أصبحت الثورة هي الحل الوحيد.
وفي يوم 17 سبتمبر 1958إجتمع قادة الثورة في مقر لجنة التنسيق والتنفيذ الكائن بغاردن سيتي في القاهرة وتم الإعلان عن ميلاد حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية متكونة من فرحات عباس رئيسا، وأحمد بن بلة نائبا له، وبلقاسم كريم وزيرا للقوات المسلحة، ولخضر بن طوبال وزيرا للداخلية، وعبد الحفيظ بوصوف وزيرا للإتصالات.
وبفضل الحكومة المؤقتة حققت الثورة انتصارات دبلوماسية مما عزز من الوجه المشرق للثورة رغم الخلافات والصراعات التي ظهرت فيها، ورغم تشديد الجنرال ديغول الخناق على الثورة منذ صيف 1958.وقد حققت الثورة الجزائرية سنة 1960 دبلوماسية أخرى واستطاع فرحات عباس أن يفشل سياسة ديغول القائمة على محاولة فرض إطلاق النار كشرط مبدئي للشروع في المفاوضات.
وفي 27 أوت 1961 وخلال اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في تونس عزل فرحات عباس من منصبه وحل محله بن يوسف بن خدة، وتوجه فرحات عباس إلى المغرب وبقي هناك غلى غاية نوفمبر 1961، وبمناسبة الذكرى السادسة لإندلاع الثورة صرح من نيويورك :”لن نضع السلاح جانبا فقط لأنه يوجد وعود واهية حول مسالة تقرير المصير. .”.
وفي يوم 30 جوان 1962 عاد فرحات عباس إلى الجزائر بعد ست سنوات من الغياب، بكى طويلا واستقبل في الولاية الأولى كزعيم ثوري. وعين بن بلة رئيسا للجزائر، وتولى فرحات عباس رئاسة المجلس الوطني التأسيسي، ثم أصبح معارضا لنظام الرئيس بن بلة، وبعدها انتقد حكم الرئيس بومدين، وعندما عين الرئيس بن جديد رئيسا للجزائر كان فرحات عباس قد بلغ واحد وثمانون عاما ولم يهتم إلا بالكتابة، فاصدر سنة 1981 الطبعة الثانية من كتابه “الشباب الجزائري “، وبعد ثلاث سنوات اصدر كتاب “الاستقلال المصادر” وكان يريد أن يصدر في الجزائر لكن ذلك لم يتم حيث أرسل نسخة منه للرئيس مرفوقا برسالة وناشده فيه بنشر الكتاب في الجزائر لكنه لم يرد عليه.
“ويوجد في كتاب الاستقلال المصادر حكمة رجل جوز قضى عمره في ممارسة السياسة حسب ما أملته عليه تقاليد الجمهورية، فتنبأ أن الإنتقال إلى المرحلة الديمقراطية في الجزائر سيكون صعبا، لأن البيروقراطية والنومانكلاتورا لت تتخلى عن مصالحها بسهولة “(11 ).
ولما صدر كتاب فرحات عباس في باريس، كان فرحات عباس متعبا ومريضا وتذكره نظام الرئيس الشاذلي بن جديد في أكتوبر 1984 فقلده وسام الأثير، وفي يوم 24 ديسمبر1985 عن عمر يناهز ستة وثمانون عاما ودفن بمقبرة العالية.
المراجع :
ـ1Ferhat Abbas ,Demain se lévera le jour ,Alger ,Algerـlivres éditions ,2010,p 25 ـ26.
ـ2Ferhat Abbas ,Guerre et révolution d’Algérie :la nuit coloniale,Alger ,Algerـlivres édition,2011,p 72,73.
ـ3Benjamin Stora ,Zakia Daoud ,Ferhat Abbas :une autre Algérie,Alger,casbah,1995,P19.
ـ4Ferhate Abbas , Demain se lévera le jour,p26.27
5ـ حميد عبد القادر، فرحات عباس :رجل الجمهورية، الجزائر، دار المعرفة، 2001،ص، 15ـ16.
6ـ Ferhate Abbas , Demain se lévera le jour , p2 9.
ـ7 Ferhate Abbas,ibid p29, ـ30.
8ـ حميد عبد القادر، نفس المرجع، ص 21.
ـ9 Benjamin Stora ,Zakia Daoud ,Ferhat Abbas :une autre Algérie,p24.
10ـ حميد عبد القادر، نفس المرجع، ص87ـ88.
11ـ حميد عبد القادر، نفس لمرجع، ص، 232