يُلاحظ في السنوات الأخيرة تسجيل عودة قوية للمدرسة الكولونيالية في وسائل الإعلام الفرنسية وخاصةً على وسائط التواصل الاِجتماعي وكذا على قنوات اليوتيوب والفضائيات وعلى موجات الراديو، بحيث إنّ المرء يندهش لهذه العودة بكلّ ما تحمله من اِندفاع وحماس ورعونة والتي تُشبه الحملة غير المسبوقة لهذه المدرسة على كلّ ما له صلة بالتاريخ الجزائري.
وقد يُفسر ذلك في الحقيقة بجملة من الأسباب الموضوعية، في مقدمتها -حسب رأينا- أزمة الهوية الحادة التي تشهدها فرنسا في الوقت الراهن مِمَا ترتب عنها مشاكل داخلية حادة، إضافةً إلى حالة الاِنحدار والتراجع التي تشهده مكانة فرنسا على المستوى الدولي وعلى أكثر من صعيد. وكلّ هذا نجم عنه بروز قوي لليمين واليمين المتطرف.
ورغم الخفوت النسبي لصوت لوبان وابنته وهما أبرز ممثلي اليمين الفرنسي المتطرف كما هو معروف. إلاّ أنّ هناك صعودا صاروخيًا لكن كاريكاتوريًا لصوت يميني لا يقل تطرفًا ونزقًا، وهو صوت السياسي والصحفي الكاتب إيريك زمور. حيث ملأ دنيا الإعلام الفرنسي وشغل النّاس ولا يزال بخرجاته المثيرة ومفرقعاته الإعلامية التي تعكس بوضوح حالة الميوعة والاِنحدار الفرنسي على المستوى السياسي والإعلامي و”التيه” الّذي وجدت نفسها فيه الطبقة السياسية الفرنسية الحالية بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون.
وقد زاد الطين بلة تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن التاريخ الاِستعماري الفرنسي في الجزائر. والإصرار بكلّ صفاقة وتبجح على تحريف هذا التاريخ وتشويه أو تقزيم الجانب الجزائري في هذا المجال. في محاولة لإعطاء صورة عن مرحلة الوجود الاِستعماري في الجزائر وكأنّه كان مجرّد رحلة سياحية للاِستجمام والراحة. وليس لإبادة شعب واستغلال خيراته ومحو شخصيته وهويته مثلما يشهد على ذلك البشر والحجر.
رد على المؤرخ الفرنسي الدكتور بيرنار لوغان حول خرافة اِبتكار فرنسا لاِسم الجزائر!
وضمن هذا السياق، يجدر بنا الوقوف عند آراء واحد من الأصوات التي تمثل المدرسة الكولونيالية في الوقت الراهن، ونقصد به البروفيسور بيرنار لوغان صاحب المؤلفات العديدة عن تاريخ شمال إفريقيا والبربر والّذي دأب أيضاً على الظهور في الفضائيات وقنوات اليوتيوب والراديو. طارحًا أفكاره بجرأة لافتة تصل أحيانًا إلى حدود التساؤل ما إذا كان هذا البروفيسور والجامعي البالغ من العمر عتيا (75 سنة) يدرك جيداً فحوى خطابه العلمي، كما يزعم، وهل هو فعلاً مختص في التاريخ ومُطلِع كفاية على “دروسه” أم تراه –ونحن نرجح ذلك- اِختار الاِصطياد في المياه العكرة، لبث سمومه واستفزازاته من باب الحرب النفسية المسلطة على الجزائريين لتحطيم معنوياتهم وبث روح الاِنهزامية وعقدة النقص في الأجيال القادمة، خاصةً إذا علمنا أنّ هناك من الجزائريين -سامحهم الله- اِبتلعوا الطُعم وسايروا هذا البروفيسور المزعوم في الدفاع عن أفكاره التي لا تستند إلى أي حقيقة علمية، بل على العكس، من السهل جداً دحضها وتبيان خوائها وزيفها وتهافتها.
إنّ بيرنار لوغان يدعي بأنّ اِسم الجزائر اِبتكار فرنسي!؟ وهي واحدة من أفكار هذا البروفيسور صاحب النوايا الخبيثة، وكنتُ شخصيًا أظنه بليداً ومعتوهاً قبل أن أتأكد بعد متابعة طويلة وحثيثة لمحاضراته المبثوثة خاصة على اليوتيوب، بأنّه يُدرك تمام الإدراك ما يقوله ويُصرُ على تكراره هنا وهناك، إذ أنّه بهذا الصنيع غير العلمي طبعًا يستهدف ضعاف النفوس من الجزائريين الذين يُصدقون كلّ ما يصدر عن الغربيين، متصورين بأنّ هؤلاء يملكون الحقيقة طالما أنّهم يملكون كلّ هذا “البريستيج” الحضاري المُبهر، وهنا مكمن الخطر، على اِعتبار أنّ البروفيسور بيرنار لوغان على دراية وقناعة تامة بأنّه بكلامه لا يصدقه أحد من أبسط المتعلمين والمطلعين على أحداث التاريخ.
ولذلك اِستوجب الرد عليه وفضح أساليبه الماكرة والشيطانية في تحريف التاريخ وتشويه سمعة الجزائر، التي إلى الأمس القريب وقبل اِحتلال فرنسا لهذا البلد الآمن، كان الشعراء الفرنسيون يتغنون بمجد الجزائر وعظمتها وسموها وهم يرفعون عقيرتهم بذلك دون خجل، والدليل على ذلك القصيدة الطويلة التي كتبها واحد من بين أهم الشعراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر وهو إتيان دو جوي Étienne de Jouy المتوفى عام 1846م.
وعنوان هذه القصيدة المنشورة عام 1813م “داي الجزائر LE DEY d’ALGER” حيث من بين ما جاء في هذه القصيدة التي يمكن الاِطلاع عليها في الأعمال الكاملة لهذا الشاعر وهي منشورة على الإنترنيت ما يمكن ترجمته كما يلي: “من أجل الأفضل كلّ شيء سيتغير لدي التأكيد
عن قريب، بفضل داي الجزائر تزدهر فرنسا. اذهب وانظر ما إذا جاء جون اذهب وانظر ما إذا جاء..” كما جاء في مقطع آخر من القصيدة ذاتها مخاطبًا الجزائريين: “مُحاربون جزائريون أبناء النصر أكثر إقداماً من محاربينا أقرب إلى المجد اذهب وانظر ما إذا جاء جون اذهب وانظر ما إذا جاء..”
إلى آخر ما جاء في هذه القصيدة التي كُتبت على هذا النفس من المدح والتقريظ لحاكم الجزائر ومحاربي الجزائر، وكلّ ما يتعلق بهذا البلد من عظمة وهمة عالية، وطبعًا نُلاحظ كيف أنّ هذا الشاعر يتحدث عن الجزائر باِسمها في صيغته المفرنسة، ولم يتحدث عن أرض خيالية أو مدينة فاضلة من بنات أفكاره.
كما أنّ هذا الشاعر مضى بعيداً في كيل الثناء للجزائر وحاكمها، مقتنعًا بأنّ فرنسا سوف تنال المجد والاِزدهار إذا حل بها زائراً داي الجزائر، فرنسا التي هلك شعبها من الجوع والفتن والصراعات الداخلية، وكانت الجزائر سبّاقة إلى إرسال ما تُنتجه من قمح وخيرات لإنقاذ هذا البلد من الاِنهيار والزوال، وكان جزاؤها النكران والاِعتداء الهمجي البربري، حيث تنكر أبناء فرنسا اليوم لكلّ ما قدمته الجزائر من مساعدات وإعانات بالملايين لبلدهم ولأجدادهم، وليس هذا فحسب، حيث يزعمون بأنّ التاريخ الجزائري مزيف ولم يكن لها وجود قبل الاِستعمار الفرنسي الّذي صنع هذه الأرض ومنح لها اِسماً!!؟ وفي الختام أنوّه إلى أمر أراه مهمًا للغاية، وهو وجوب إعادة النظر في كيفية تعريف ناشئتنا بتاريخهم، إذ أنّ الصورة المقدمة عن الجزائريين في كُتُب التاريخ تبرزهم على أنّهم قراصنة بحر وقُطاع طُرق ولصوص معتدين على حقوق غيرهم من الشعوب، في حين أنّ المراحل التاريخية التي مرت بها بلادنا عبر القرون الماضية، هي التي أجبرت الجزائريين على أن يفرضوا أنفسهم في عالم لا يُؤمن بالضعيف، ومن يهن وتتراجع قوته ونفوذه يُفترس بين عشية وضحاها.
وتكشف لنا الأحداث التاريخية على أنّ الجزائر كانت دائمًا محط أطماع أعدائها وجيرانها، وكم من تحالفات رمت إلى إخضاعها واحتلالها لكن بفضل قوّة وشجاعة الجزائريين استطاعوا صد هجمات كلّ الأعداء رغم قوتهم وأعدادهم الكبيرة، وقد استنزفت تلك الحروب طاقة الجيش الجزائري وقوته البحرية العظيمة، الأمر الّذي دفع بالفرنسيين لاِستغلال هذا الظرف والهجوم على الجزائر ومن ثمّة اِحتلالها وممارسة أبشع أنواع الاِعتداء على سكانها، وكأنّهم ينتقمون من هزائمهم من الجزائر التي كانت لهم دائمًا بالمرصاد وأذاقتهم سوء العذاب كلما حاولوا تركيعها، واليوم والجزائر تستعيد مجدها الغابر باِستقرارها وعزمها على النهوض والتقدم إلى الأمام، يحاول الفرنسيون وحلفاء لهم مجدداً إركاع البلد بشتّى أنواع الاِعتداءات ومنها تزوير وتحريف التاريخ، لكن هيهات ثمّ هيهات أن يتحقق لهم ذلك.
بقلم /رشيد فيلالي
إحالات:
*-Œuvres complètes d’Étienne Jouyتوجد نسخة إلكترونية من الأعمال الكاملة للشاعر إتيان جوي منشورة على الإنترنيت يمكن الرجوع إليها وبها قصيدة الشاعر المعنونة “داي الجزائر”.
**هناك خرائط قديمة جداً للجزائر منشورة على الإنترنيت تعود إلى قرون قبل الاِحتلال الفرنسي، وهي بأعداد كبيرة لمؤرخين أوروبيين وعليها اِسم الجزائر بارز الوضوح، مدون سواء بالعربية أو اللاتينية أو بلغات أوروبية أخرى.
***يمكن متابعة محاضرات ومداخلات البروفيسور بيرنار لوغان على اليوتيوب للتأكد من أطروحاته المزورة للتاريخ.