يثير الكاتب نور الدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”. وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في ألمانيا.
حكم غرناطة ملوك أندلسيون منذ سنة ألف ومئتين وثلاثين، وجعلوا سرير ملكهم بمدينة الهضاب الثّلاثة غرناطة التي عاشوا فيها بتقاليدهم وأمجادهم.
تمكّن بنو نصر من المحافظة على مملكتهم غرناطة بفضل تلك الجبال الوعرة التي تحيط بها وموانئ الجزيرة ومالقة والمرية المنيعة التي منحتها دفاعًا طبيعيّا يصعُب اختراقه.
وامتلكت هذه المملكة المتبقّية كآخر ملاذٍ للأمّة الأندلسيّة المُسلمة بشبه جزيرة إيبيريا ثروة ماليّة كبيرة وطاقة إنتاج عالية. فكانت أموال الجزية التي تخرج من آخر ديار المسلمين بضاعة مرغوبا فيها ومرحّبا بها في ممالك الشَّمال أكثر من حربٍ باهظة التّكاليف لم تكن لإسبانيا الفقيرة الإمكانات الكافية لخوضها وهذا رغم الغزو المتتالي والتدمير المستمرّ للاقتصاد الأندلسي.
لم يكن بنو نصرٍ بربرًا ولا عربًا، بل كانوا أندلسيين مسلمين يعود نسبهم إلى أحد أصحاب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. وأجمل شيءٍ تركوه لنا دليلاً على عظمتهم هو قصر الحمراء، فنّ معماريٌّ في غاية الكمال والجمال والتآلف الرّوحانيّ والّذي لا يُشبهه إلاَّ تاج محلّ بشمال الهند. أراد منه المهندس المُسلم في زمن بني نصر أن يُشخّص التّصّوّر الإسلامي لجنة الخلد على الأرض؟
ومثلما تُشرق البيداء فرحًا بجمالها عندما يتألّق ضوء الشّمس في الصّباح فيعمّ الأرجاء كذلك تتأرجن أسوار الحمراء البسيطة والمتينة من جرّاء الضّوء المتحوّل إليها. لِذا يبدو أنَّ أوّل بني نصرٍ الّذي بنى القلعة ما سمّاها بالحمراء إلاّ وهو ينظر إلى الشّمس تسكب أشعّتها على جدرانها.
الحمراء هي مركز نظام دفاعي دائري: حيث تنغلق المدينة على القلعة ثمّ تلتفّ باقي الأرباض الغرناطية على المركز وتحيط سلسلة من الجبال والحصون الحدوديّة بمجموعة المدن والقرى التي تمتدّ إلى الموانئ المنيعة.
لكنّه كلّما ذُكر اسم الحمراء تبادر إلى أذهاننا قصر الأمير، ذاك البنيان المعقّد والّذي هو مزيج بين مناعةٍ دفاعيّة وجمال أخّاذ، لكنّ الحمراء أكبر من ذلك بكثير: إنّها مدينة بأكملها تحوي مقرّ السّلطة، وقصر الحاكم قاضي وأمير المؤمنين، والمسجد ودار العدالة وأقسام الإدارات والأبهاء ودور الحاشية والوزراء موظفي الدّولة وحدائق من أعنابٍ وأزهار تحفّها الأشجار عن اليمين وعن الشّمال ومزارب الخيول. أو باختصار هي حصن وحامية يصعب الاستيلاء عليها.
في منتصف القرن الثّالث عشر أمر الأمير محمّد بن نصر أن تُضاف الأبراج الدّفاعية وأن تُحاط المدينة بأسوارٍ منيعة وأن تُوصل المياه من أسفل مجرى وادي حدرة إلى أعلى الهضبة أين تقع المدينة القلعة.
واستطاع الأمير محمّد بن نصر حفظ النِّظام فعمّ الرّخاء وازدهرت التجارة والحرف، كما ارتفعت داخل أسوار القلعة القديمة القصور، والبنايات، وانتشرت الحدائق المليئة بالورود والياسمين وأشجار البرتقال واللّيمون.
تسمّى محمّد بن نصر بالأمير لكنّ ذرّيته الذين حكموا من بعده تسمّوا بالسّلاطين وكذلك بالملوك غير أنَّ أغلبهم حافظ على تسميّة الأمير ــ كما أكملوا بناء الحمراء حتّى انتهت إلى هذه التّحفة الجميلة في عالمنا اليوم..
إبداعٌ فنّي بشري خالص ونفيس، رُسم بريشة سماويّة، ووصل إلى أقصى درجات الرّوعة والإبداع، وبقي شامخا لمئات السّنين أمام صروف الدَّهر وتقلّباته.
أراد محمّد بن نصر سنة 1238م أن يجعل مقرّ حكمه على هضبة السّبيكة، فأمر برفع البناء وإحاطته بالأسوار والأبراج، أنشأ المراكز العسكريّة ومخازن المؤن، ومثلما تداول آل عبد الرّحمان الدّاخل على الإضافة لمسجد الحضرة بقرطبة كذلك تداول بنو نصر على الإضافة للحمراء. فأكمل محمّد الثّاني عمل أبيه ثم أضاف محمّد الثّالث بناء مسجد الحمراء الّذي تحتلّ موقعه اليوم كنيسة “سانتا ماريا”.
ثم جاء يوسف الأوّل وابنه محمّد الخامس، فأضاف يوسف غرفتي البِركة والقنديل، وباب الشّريعة (العدل) والحمّامات، واهتمّ محمّد الخامس بتجميل البرك والجنائن، وبزخرفة أقسام القصر الدّاخليّة
أدرك ابن نصر أنَّ حاجة قصره الأساسيّة إلى الماء مثل حاجته إلى لبنات الأسوار أو الجِصِّ المقطوع أو الرُّخام فبنى أوّل قناة مائيّة وأوصل بها الماء من جبال سييرا نيفادا إلى الحمراء بهضبة السّبيكة.
ينبع هذا العشق الخالص للماء من تجربة العربي القديمة مع الطّريقة النّادرة والشّحيحة التي تتوزّع بها عيون الماء وينابيعه في الصّحراء العربيّة. فالماء هو الرُّوح التي لا يُمكن لأي مدينة أن تحيا من دونها، ولن تكون هناك جنّة على الأرض من دونه.
لقد تلاشت مدينة الحمراء العربيّة ــ لكنّ أسوارها الحمراء مازالت إلى اليوم شامخة تحتضن ما بقي بداخلها من قصور الملوك مثلما تحتضن الصّدفة اللّؤلؤة بين جنبيها لتحميها من شرّ أعين النّاس.
لم أذهب بعيدًا في تجوالي هذا المساء، فلم ألج حيّ البيّاسين (البائسين) وبقيت على أطرافه وبمحاذاة واد الشّنيل أين تلتقي جموع السّائحين عادة إمّا لتمتّع أبصارها بالنّظر إلى أسوار الحمراء، أو تمدّ متعة النّظر إلى قمم جبال سيرا نيفادا، أو تحتسي العصائر والشّارب الّذي يجوز أو لا يجوز لنا نحن المسلمون شربه.
لقد تغيّر نشاط المكان كثيرًا، أذكر أنّي قبل عشر سنوات عندما زرت غرناطة أوّل مرّة عانيت كثيرًا حتّى عثرت على مطعمٍ عربيّ صغير. أمّا هذه المرّة فإنّ المطاعم الصّغيرة والفاخرة ومحلاّت الأقمشة، والهدايا والذّكريات منشرة على جميع مداخل الحيّ العربيّ القديم.
تناولت عشائي في مطعم عربيّ صغير، وعند مغادرته همست في أذن صاحبه، إن كان بإمكانه أن يُعينني في إقتناء تذكرة دخولٍ للحمراء. غير أنّه لمّا تأمّل في طريقة كلامي وأمعن النّظر في عيني عرف مدى حرصي عليها، صار يغالي في السّعر، ويتحجّج بالظّرف والجهد حتّى أوصلها إلى السّتين أورو، فإستسمحته في الذّهاب، وقلت: “رُبّما سأعود إذا استعصت عليّ المخارج”.
في الأندلس الصغرى…
اليوم هو صباح الـ 16 من شهر أوت، لقد صار لي ثمانية أيّام في الأندلس الصُّغرى، استيقظت باكرا أو قل على السّاعة السّادسة، حاولت أن أبرح فراشي، لكنّني لم أقدر. لقد وصل بي العياء إلى منتهاه، وبلغ بي الإرهاق مبلغه.
كنت أريد أن أعمل بنصيحة أخٍ عربيّ التقيت به مساء الأمس قريبًا من باب الرّملة وأذهب باكرًا إلى مدخل الحمراء وأجرّب حظّي عسى أن أحصل على تذكرة دخول، غير أنّي لم أقدر فبقيت في فراشي حتى السّاعة التّاسعة، بعدها حملت نفسي على النّهوض حملا، ثمّ ذهبت.
سلكت نفس الطّريق الّذي سلكته قبل عشر سنوات إلى باب الشّريعة بالحمراء، غير أنّي فوجئت وأنا في طريقي إليه بلوحات ترشد إلى مدخلٍ جديد في أعلى هضبة السّبيكة، وعلى هذا المدخل حُرّاس من أحفاد القشتاليّين يفحصون تذاكر الدّخول والوقت المكتوب عليها. لم يعد الأمر مثلما كان فيما مضى. من قبل كنّا لا ندفع إلاّ مقابل الدّخول إلى قصور بني نصر وجنّات العريف، أمّا الدّخول إلى ساحات الحمراء وحدائقها وأبراجها فلم نكن ندفع شيئًا.
حاولت أن أجرّب حظي وأقتني تذكرة لكنّني لم أوفّق. تُرى كيف سيكون شعوري هذه المرّة لو أنّي لم أزر الحمراء من قبل وألج إلى قصورها وجنّاتها وباحاتها، رُبّما سيكون مثل الشّعور الّذي تملّكني عندما غلب عليّ الظّن أنّي لن أزور دار الإمارة بقرطبة ولا مدينة الزّهراء. ساعتها ألمّ بي ألم شديد أحرق حشاياي. ولم يُطفئّ ذاك الحريق إلاّ حصولي على تذكرة، كانت بالنّسبة لي هديّة من السّماء.
عندما أيقنت أنّ الأمل قد خبَا في الحصول على ما أريد، انسحبت من أمام المدخل الجديد (أظنّه باب الغدور) وسلكت سبيلاً لا أدرِ إن كان أحد من العرب قد سلكه قبلي بعد سقوط غرناطة.
ذهبت إلى أعلى تلّة عند السّور الّذي يُسوّر الحمراء والمدينة، ومن هناك ألقيت نظرة على الحمراء وأبراجها وقصورها وعلى غرناطة وعمائرها وبساتينها ومروجها، وعلى ربض البيّازين ودُوره ودروبه وأزقّته، فوجدتهم قد خلعت عليهم المصيبة رِداء حزنٍ أرجوانيّي غائم، وغشّى عيونهم دمع مُدمّى.
في هذه اللّحظة راودني شعور خفيّ: أليس هذا هو الممرّ الّذي سلكه أبو عبد اللّه الشّقي منطلقا إلى الضّيّاع التي اقتطعها له فرديناند وايزابيلاّ، وجعلاه أميرًا عليها بموجب معاهدة التّسليم بأرض برشانة في جبال البشرات وجعلاها أبديّة له ولذرّيته بعد أن يُسلّم لهما مفاتيح الحمراء. لست على يقين من ذلك، ولست مستيقنًا أيضًا من صحّة الرّواية التي تقول أنّ أبا عبد اللّه الصّغير:
” خرج في بطانته إلى أهل غرناطة بالبيّازين لما ثاروا على المعاهدة التي أبرمها مع الملكين وخاطبهم قائلاً: إنّي أدفع ثمن جريمة تمرّدي على والدي، ومحاولة اغتصاب الملك منه فجلبت على نفسي وعلى مملكتي كلّ هذا البلاء، فحاق مكري السيئ بي، وأنا اليوم أبرم هذه المعاهدة كي أحمي شعبي من القتل وأنقذ أطفاله من الجوع ونساءه وأمّهاته من السّبي وأضمن للنّاس أملاكهم وحرّيتهم ودينهم تحت حكم ملكين هما أفضل من هذا الشيكو الّذي يقف أمامكم. فهدأت الأنفس وخمدت الثّورة. ونزل بعدها إلى ضفّة شنّيل والتقى بالملكين الكاثوليكين فسلّمهما مفاتيح المدينة بنفحة حزنٍ وألم وقال:
ــ هذه مفاتيح غرناطة آخر ما بقي للمسلمين من أرض أندلسٍ، هي لكم أيُّها الملك، فخذها برأفتك المعهودة التي نرجوها من يديك العظيمتين.
فطمأنه الملك فرديناند بنفحة وفاء غادرة:
ــ إيّاك أن تشكّ في وعودنا ولا ما ستناله من صداقتنا من ازدهارٍ حرمتك إيّاه الحرب.
تابع بعدها أبو عبد اللّه مسيره نحو البشرات، والتحق بعائلته وبالمخلصين من حاشيته بوادي “بورشانا” على بعد ستّة أميال من المدينة، ومن هناك ألقى نظرته الأخيرة على الحمراء فرأى نفخة دخانٍ تنبعث من أحد أبراج القلعة على إثر قذيفة مدفعٍ، أعقبها صوت ضعيف لامس آذانهم بأنّ الغزاة احكموا قبضتهم على المدينة وأنّ ملك المسلمين زال وإلى الأبد، فشهق شهقة كانت مخنوقة في حلقه، أعقبتها دموع حسرة غزيرة ظلّت تجري على خدّيه. فالتفتت إليه أمّه السّلطانة عائشة الحرّة وقالت تؤنّبه:
ــ خيرًا فعلت أبكِ مثل النّساء مُلكًا لم تُحافظ عليه مثل الرِّجال!
وفي تلّ العذول وعلى هذه الهضبة المشرفة على غرناطة كانت آخر نظرة وآخر زفرة لآخر ملكٍ عربيّ في أرض الأندلس. ولازال المكان يحمل الى اليم هذا الإسم”زفرة العربيّ الأخيرة”.
” كان أبو عبد اللّه الصّغير أميرًا ضعيف العزم والإرادة، قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتّع بالخلال الباهرة التي كان يتمتّع بها أباؤه من بني الأحمر، وكان الملك والحكم غاية يبتغيها بأيّ الأثمان والوسائل، وقد ألفى ملك قشتالة القويّ في ذلك الأمير الضّعيف والطَّموح أداة صالحةً يوجّهها كيفما يشاء، فاتخذه وسيلة لبثّ دعوته بين أنصاره ومؤيّديه في غرناطة بأنّ الصّلح مع ملك قشتالة خير وأبقى”. كما جعل منه ورقة يحارب بها عمّه وأباه ونشر الفتنة بينهم، تشتيت جهود الدّفاع عمّا بقي بأيدهم من أرض الأندلس.