تتحدّث الكاتبة والروائية المعروفة فضيلة الفاروق، في هذا الحوار، عن بدايات سفرها في عوالم الكتابة والقصة والرواية،وعن تجربتها الكتابية ومنابعها، خلفياتها، محطاتها، جذورها ومرجعياتها.
تتحدّث عن توظيف فاجعة الوطن خلال العشرية الدموية في الكتابة وفي فنون أخرى، وما إذا كان هذا التوظيف يعني التأريخ لهذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلد، وكذا تأثير مشاهد الفجائع التي كانت خلال فترة الإرهاب في كتاباتها وإلى أي حدّ وظّفتها.
صاحبة “مزاج مراهقة”، تحدّثت أيضا وبكثير من الإسهاب عن كيف تُخطط لخلق شخصيات رواياتها لتلعب على أرض الرواية، وتطرح أفكارها ورؤاها وحيواتها وفلسفتها وعوالمها ومعالجاتها. وكيف يمكن بناء وخلق شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، وهل هذا أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً وأنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل. وخاضت في شؤون أخرى ذات صلة بالأدب والرواية والمنفى الاِختياري والوطن.
للكاتبة مجموعة من المؤلفات والإصدارات الأدبية، من بينها: رواية “أقاليم الخوف”، وهو العمل الأدبي الخامس لها بعد “لحظة لاِختلاس الحب” مجموعة قصصية صدرت عن دار الفارابي ببيروت عام 1997، متبوعة بروايات أثارت كلها جدلاً ونقاشات فور صدورها وهي على التوالي: “مزاج مراهقة”، “تاء الخجل”، “اِكتشاف الشهوة”. كما لها مجموعة شعرية بعنوان “منهكة بحبك يا ابن دمي”.
هل لكِ أن تحكي عن البدايات؟ بدايات الكتابة وسفرك فيها؟
فضيلة الفاروق: ربّما بداياتي تعود إلى سنّ مبكّرة، حين كنتُ لامعة في مادة الإنشاء، وكنتُ أساعد زميلاتي فأكتب أكثر من موضوع في النقطة ذاتها وأجد مُـتـعـة في فعل ذلك إذ كنتُ مُتمكنة في التعبير، بعدها وجدتني أجنحُ لكتابة اليوميّات. وفي الثامنة عشرة صرتُ أراسل الصُحف، وفي ثاني سنة جامعية لي اِلتحقت بالصحافة واشتغلتُ بموازاة مع الدراسة وقد ساعدني هذا الوضع لفرض نفسي كمبدعة خاصةً وأني كنتُ جريئة جدّاً في التطرّق لمواضيع “طابــو”.
وماذا عن تجربتك الكتابية، عن منابعها، خلفياتها، محطاتها، جذورها ومرجعياتها؟
يبدو السؤال مُتكرراً بكثرة عليّ وأجدني محرجة لأعيد الأجوبة نفسها ولكن مع هذا سأختصر وسأخبركِ أنّني اِنجذبتُ نحو القلم بعفوية منذ نعومة أظافري، وأنّني كنتُ أجد نفسي مرتاحة حين أكتب كلّ ما يدور في خلدي.
و- كما قلتُ قبل قليل – أذكر أنّني كنتُ أجد متعة كبيرة حين أكتب موضوع الإنشاء وأبدع فيه بعدة طُرق إذ أكتبه مرّة لنفسي ومرّة لإحدى الصديقات وقد أكتب في الموضوع الواحد أكثر من نـص أحيانًا، ولعلّ موهبتي التي حباني بها الله وجدت وسطاً ومناخًا مناسبين لتـتـرعرع فيهما فقد كان بيتنا يعجُ بالكُتب والمجلات وغير ذلك.
فعائلتي (عائلة ملكمي) عائلة مُثقفة وعريقة في ممارسة الطب العربي في الأوراس، ووالدي على الخـصوص قارئ رواية من الدرجة الأولى وقد وفَّر لنا أرشيفًا ذا قيمة كُبرى في البيت، وهو رجل محب للثقافة وقد نقل إلينا حبه للكُتب والمجلات والجرائد منذ كنا صغارا، إلى جانب ذلك أعتبر نفسي محظوظة لأنّي حُظيت بأب ثاني هو والدي بالتبني وهو الآخر مثقف وكان محل الأحذية الّذي يمتلكه في الماضي مجلسًا ثقافيًا ممتازاً يلتقي فيه المميزون والمثقفون من مدينتي الصغيرة “آريس” وأذكر تـلك الأجواء التي صقّلت طفولتي جيّداً وهي أجواء مخـتـلـفة عمّا هو سائد ومُتميزة بالوعي الثقافي والسياسي المبكرين، وكلّ هذا يعني أنّني لم أنطلق من عدم ولكنّي اِنطلقت من بيئة معقولة مناسبة تمامًا لما أنا عليه اليوم.
طبعًا لا يجب أن أنسى فضل أساتذتي الذين اِنتبهوا لموهبتي وشجّعوني جداً لأواصل بطريقة كانت ترفع معنوياتي وتـدعوني لأكون الأحـسن، ولـعـلّ هذه فرصة لأقـول لهم جـميـعًا شكراً على الرعاية المبكرة، وأذكر منهم أستاذي “بوعام إبراهيم” الّذي كان يُلقبني بأنديرا غاندي وكان ذلك في حدّ ذاته كافيًا ليجعلني أشعر بالتميز، وأستاذي “لحمر بلقاسم” الّذي لا أنسى مدى تأثيره فيّ، و”مزياني سعيد” في متوسطة البشير الإبراهيمي بآريس، وأستاذي “بن فاتح” في أوّل سنة ثانوي بآريس أيضًا قبل أن أنتقل إلى قسنطينة إلى ثانوية مالك حداد وتـُـفجـر فيَّ هذه المدينة مشاعر كانت ستظل مغمورة لو لم أنتقل إليها، ففيها تعرفتُ على الأدب والفن عن قرب وانسجمتُ مع أجوائها المُتميّزة والمختلفة وكتبتُ لأجلها تمامًا كما كتبت الحنين إلى الماضي وإلى كلّ التجارب الحياتية التي عـشتها مخـتـلـفة عن الآخرين.
وسأهمس لكِ أنّني ذهبتُ نحو الأدب وتخـليـتُ عن الطب رغم كلّ ما يَعِدُ به الطب من مستقبل مضمون بعواطفي مُتأثـرةً بغادة السمان وبكُتّاب آخرين يـضـيـقُ المجال لـذكرهم جـميـعًا. وسـأخـبركِ أيضا أنّ سنـوات الجـامعـة كانـت أجـمل سنوات عـمري تـمامًا كـسنوات المتوسط وقـد عـشتها بكلّ جـوارحي ولـي الكـثـيـر لأقـولـه عنها ولكن المقام يـضـيـقُ لـذلك.
* بين الرسم كفن تعبيري لوني، والكتابة كإبداع أدبي هواجسٌ لونية وأخرى حَرفية ومسافة شاسعة من الوجع، لكن الكل يعرفك ككاتبة بالدرجة الأولى ؟
لم أعد أُمارس الرسم إلاّ نادرا ومع اِبني، يبدو لي أنّ الفن التشكيلي لم يُعد له ذلك الحيز الكبير بين أصابعي، صحيح أنّ دفاتري التي أكتبُ عليها مزدحمة بالرسومات، لكن الرسم لا يشفي غليلي، لا يطفئ نيران الداخل، ولا يخليه من أثـاثـه العـفـن، أحب الكتابة، أحب الثرثرة على الورق، أحب بناء الحكايات والحديث بوضوح عن قضايا تخصّ الإنسان الجزائري على الخصوص.
الكتابة ترتبط بقضية دائمًا واختلفت توجهاتها مع العصر الحديث
لماذا برأيك هذا الاِرتباط الحميم بين الكتابة والحزن؟ ولماذا الحبل السري بينهما لا ينقطع بل يـزداد متانة؟
لأنّ الكتابة ترتبط بقضية دائمًا، واختلفت توجهاتها مع العصر الحديث، لم نعد نكتب مديحًا للسلطان من أجل حفنة مال، لم نعد نكتب للطبقة المخملية، طبقة الفقراء والكادحين هي التي تنجب الأدباء الحقيقيين وهي الأكثر اليوم في العالم كله، أبناء الطبقة المخملية حتّى وإن كتبوا عن الحب والغرام في فترات مراهقاتية فإنّهم يفشلون ولا يواصلون. قد يُصدرون كُتبًا بإمكانياتهم ولكن من يقرأ التفاهات وقشور الحياة، هل يمكن للطبقة الأكثر أن تصدق بكاء التماسيح، ونصوصًا لا تتطرّق لأحزانهم ومواجعهم، كانت الكتابة أي نعم في كلّ الألوان، لكن ما ارتبط بالقضايا الجادة هو ما ظلّ، لذلك نرى أنّ القضايا الجادة هي المرتبطة بالحزن وليست الكتابة في حـدّ ذاتها.
في منفاك الاِختياري لبنان الكتابة عندك زاخرة أكثر بلهجة الحنين والحـزن، مع أنّ بـيـروت تبدو أكـثـر حنانًا وعـطـفًا على الغـربـاء من مُدن العالم الأخرى. فما قـولـك؟
كلّ المُدن تتساوى في القسوة واللامبالاة، النّاس هم المختلفون، في بيروت الشارع كله مثقف، في الجزائر نتاجات الحرب متنوعة ومختلفة، تركتنا فرنسا نرتع في الأميّة، ولهذا يُواجه المثـقـف عندنا صراعًا مع جيل الثورة، الأبناء مختلفون عن الآباء بـ:180 درجة، في بيروت يجد المثقف مستواه، يجد تجاوبًا، في الجزائر نجد سخرية من المفكرين والمبدعين، لا يوجد بلد في العالم حارب مثـقـفـيه كما فعلت الجزائر. ولا يوجد بلد هاجرت منه الأدمغة كما حدث للجزائر، لكن القلب له خياراته، صدقيني، أنا في بيروت، وقلبي لم يغادر الجزائر أبداً، إنّه مقيم في الجزائر مع سبق الإصرار والترصّد ولهذا لغتي معبّأة بالحنين والحزن ولهذا أقرأ الجزائر أكثر، وأكتب الجزائر أكثر، وأظن أنّ خيارات القلب لا تُـناقـش، لأنّ القـلـب والمنطق شيئان لا يـلـتـقـيـان.
بين “لحظة لاِختلاس الحب” مجموعتك القصصية الأولى وروايتك الأولى “مزاج مراهقة” الصادرتان ببيروت عمر إنساني من الأحاسيس والرؤى وربّما من الجراحات، كيف كانت أرجوحة هذا العمر بين فضاءات القصة والرواية؟
“لحظة لاِختلاس الحبّ” نتاج الوطن 100%، لأنّها نصوص كُتبت هنا بالجزائر، بين الأهل والأصدقاء وأماكني الحميمة، “مزاج مراهقة” نتاج المنفى، عرفت الغربة، عرفت المنفى، عرفت الحياة بدون أصدقاء وربّما بطعنات من كانوا أصدقاء، عرفت الفجيعة في أسماء كثيرة طعنتني في الظهر، عرفت التخلي، الغيرة، الحسد، عرفت فيها الأمومة أيضا، الاِرتباط بالمنفى أكثر، قارني بين هذه الظروف وتلك.
أُولي أهـمية كُبرى لبناء اللّـغة خـارج إطار اللـعـبة الـكـلامية
المُلاحظ أنّ قصص هذه المجموعة بعيدة عن أي اِعتباطية وعن أي زخارف وألعاب كلامية، بل هي على قدر عالٍ من مدلولات فكرية وأبعاد إنسانية، ولم تسقط في فخّ الأدب العبثي كما هو السائد في بعض الكتابات الحالية (باِسم موجة الحداثة). وربّما توافقينني الرأي على أنّ الحداثة لا تعني العبثية أو السقوط في اللامعنى واللاإبداع. فما تعليقك؟
ما تـقوليـنـه هنا حُكم وليس سؤالاً وفي الحـقـيـقة الفضاء الأدبي الـيوم يستـوعـب الكثير من الآراء وسـتـبدو كلها صحـيحة.
وأنا لستُ ضدّ الحـداثـيـيـن ولا ضـدّ الـمـابـعـد حـداثـيـيـن بل أنا ضدّ من يكتب ولا يـشـتـغـل على اللّغة لأنّنا اليوم في زمن ما بعد الـحـادثـة الـقـصـصـيـة إن صحّ الـتـعـبـيـر فـلـيـس المهم أن نـخـتـرع قـصة بل المهم كـيـف نـبـني الـقـصة كـحـدث وكـلـغة وإلاّ سـقـطـنا في هوة اللا إبداع كـما أسـمـيـتـها أنتِ.
وأذكـر أنّني في بداياتي قِـيـل عني أنّني كاتبة فـكـرة ولستُ كاتبة لـغة، وأظنني اليوم تجاوزتُ هذا الـنـعـت لأنّني أُولي أهـمية كُبرى لبناء اللّـغة خـارج إطار اللـعـبة الـكـلامية التي تـقـصديـنـها فأنا أعـمل بـجـهـد أكثر لأجـعـل لـغـتي وهـاجـة بأكثر من مـعـنى.
ثمّ من جهة تـجـاوزتُ فـكـرة الـمـرأة المقهورة الـمُـداسـة والتي لا هـيـكـل لها لأنّ ما يـهـمـني اليوم ليس فقط أن نـنـهـض بالـمرأة نحـو حـياةٍ أفـضل بل أيضا أن نُـغـيـّر الـرجـل ونـجـعـل مـنـه رجـلاً قـويًـا بأخـلاقـه وشهامـتـه ونـجـاحـه لا بـعـنـفـه وقـوّة عـضـلاتـه والـزمـن مُـنـاسب لـذلك، لأنّ الرجل إن لم يكن مـتـمدنًا فهو على وشـكّ الـتـمـدن اليوم وهذا يـجـعـل مـنـه كائـنًـا حـضاريًـا يـحـتـرم نـفـسـه عـكـس الأزمنة الـغـابـرة التي كان فـيها الرجل يـشـبـه الـغـول أو أي كـائـن خـرافـي مـخـيـف يـجـب أن نـخـتـبـئ حـيـن نـراه حـتّى لا يـلـحـق بـنـا الأذى.
أمّا عـن رأيـك فـيـما أكـتـب فـلا يـمـكـنـني أن أعـلـّق عـلـيـه بـقـدر مـا أنــا سـعـيـدة بــه وأشـكـرك عـلـيــه.
الكتابة فِعلاً كانت مهربًا لي من مواجع كثيرة
صرّحتِ مرة في حوار صحفي أنّ رواية “مزاج مراهـقـة” كـتبتها في فـتـرة اِكـتـئـاب حاد، ولا دواء كان ناجعًا معك ولا متـنفس إلاّ الكتابة فهل تـؤمنين أيضا بمقولة -الكسندر ماكارا- التي مفادها “الشِّعر والكتابة أفضل بكثير من المهدئات”؟
لا تعني لي هذه المقولة شيئًا، الكتابة فِعلاً كانت مهربًا لي من مواجع كثيرة ولكنّها لم تغنني عن المهدئات، الأهل والأصدقاء الحقيقيين هم الذين يغنوننا عن المهدئات، المحبّة الصادقة والهدوء، لأنّ الكتابة نضال، تعب، مقاومة.
أنا أديبة ولستُ كاتبة أكاديمية ولهذا أبدو جريئة
أنتِ الأديبة الجزائرية رقم واحد من جيلك المتـّهمة بالثـائـرة والـمـشاكـسة، إلى أي حـدّ تـسـعـدك أو تـزعجـك هـذه الـتـهـمـة؟
في الحقيقة هذه تهمة جميلة، لأنّي في حياتي الشخصية إنسانة محافظة جدّا، شرقية جدّا، وجزائرية جدّا، لكن لا أدري ما الّذي يحدث لي حين أكتب، إذ أجدني ميّالة لقول الحقيقة كيفما كان الثمن، وصدقيني دفعتُ حتّى من سمعتي الكثير في سبيل هذه الجرأة، حتّى في بيروت أثرتُ بعض المشاكل على المستوى الإعلامي بقلمي. واختفيت وراء اِسم مستعار رجالي لفترة حتّى أواصل الكتابة دون مشاكل ثم عدت إلى اِسمي الأوّل، أنا هكذا لا أحب أن أرى منكراً وأسكت عنه، وأعرف تمامًا أن لا حياء في الدين، أنا لا أُوظف الجنس مثلاً لسلب ذهن القارئ، أو لتجميل نصي ونصب فخ للمراهقين، أنا أوظفه لأسباب وجيهة ومنطقية، قد أقول مثلاً أنظروا إلى الجنس إنّه جميل ولكن عواقبه وخيمة حين لا يُمارس كما حدّد لنا الله ذلك، أنا لا أحب أن أُخالف العقل. لكني أعتمد الصورة الفنية لقول ذلك، أنا أديبة ولستُ كاتبة أكاديمية ولهذا أبدو جريئة، لكني أيضا لا أحب أن أُسيء لأبطالي ولكني أعاقبهم إذا أخطأوا، أنا لا أختلف عن بعض فـئات المجتمع لكـني أُمررّ الرسالة بشكلٍ مختلف.
المنفى يُعلمنا بعمق معنى الغربة
المعاناة تـتكـرّر في حياة المبدع محـطات من تـناقـضات وغـربة ذات، وحـرائـق وجع تجعـل التجـربة الأدبـية أكـثـر نضجًا وأكـثـر إبـداعـية. فما قـولك؟
أظن أنّ المنفى يُعلمنا بعمق معنى الغربة، هناك نحن أوراق لا ركائز لنا، لا روابط لنا، ولهذا نتشبث بالوطن، ربّما كثيرون يعيشون غربة وسط أهلهم، لا لأنهم لا يفهمون، أو لأنّ أفكارهم تسبق الوسط الّذي ينتمون إليه، وفي الحقيقة اِكتشفتُ من خلال تجربتي أنّ المبدع مهيأ لهذا الشعور لأنه حساس فوق العادة، لأنه يرى الأمور بمنظار مختلف، لا أدري لماذا وضع فينا الله هذه المشاعر النشطة، لكن حتمًا هي التي تجعلنا نتبنّى القضايا الإنسانية ونُوجه الإنسان نحو الأفضل لأنّـنـا نجعله يكتشف نفسه.
الشاعرة فدوى طوقان تقول إنّ “القصيدة تُلمّح والرواية تفصح ولهذا أتطلع إلى كتابة الرواية” والكلّ يصرّ على أنّـه زمن الـرواية. برأيك هل تحتاج الـرواية إلى زخـم وتـراكـمات من الـشاعـريـة من أجل تـألـق أكـبـر ونجـاح أضـمـن، وهـذا يعـني ربّما جـدوى حـتـمـيـة الـشِّـعـر؟
ربّما في جزء مِمَّا قلتِ أنتِ صائبة، لكن في الجزء الآخر لا، عبد الرحمان منيف، أو حنا مينا، أو أمين معلوف، أو حنان الشيخ أو هدى بركات أو سحر خليفة وغيرهم من الكُتّاب، يكتبون بأسلوبهم الخالي من الشِّعرية ونجحوا بشكلٍ كبير، خاصة منيف.
إذن “جدوى حتمية الشِّعر” لا أساس لها من الصحة لبناء رواية، وقِلة هم الذين لجأوا إلى أسلوب فيه زخم من الشِّعر في رواياتهم مثل كاتب ياسين، ومالك حدّاد، وأحلام مستغانمي وبعض الكُتَّاب العرب الذين لم يُوفقوا تمامًا لتبني هذا الأسلوب مثل حيدر حيدر، لكن لعلّ هذا الأسلوب بالذّات ميزة جزائرية، عبد العزيز غرمول أسلوبه شاعري، مراد بوكرزازة أسلوبه شاعري، مفتي بشير تفاجأتُ بجمال روايته “المراسيم والجنائز” وأحببتها جدّا لذلك الزخم الشِّعري فيها.
وكلّ ذلك الحنين الّذي صاغ به روايته، ونحن الجزائريون في الحقيقة لا نزال نحترم الفنون الأدبية كلها لذلك نستعملها جميعها حين نكتب الرواية، أنتِ لا تجدين روائيًا صرفًا، أنتِ تجدين دائمًا كاتبًا قصصيًا عرّج على الشِّعر في مرحلة من عمره ثمّ حطت به الرحال عند الرواية، نحن فقط نُمارس الكتابة كما يجب أن تُمارس لأنّنا لا نزجّ بأنفسنا في لونٍ واحد باِسم الاِلتزام وأشياء أخرى لا معنى لها، وباِختصار مسحة الشِّعر تعطي جمالاً أكثر للرواية لكنّها ليست حتمية لبناء رواية.
كتبتُ الفجيعة بشكلٍ من التجميل وهذا لا يعني أنني غيّرت التاريخ، الحدث لا يتغير لكن طريقة تقديمه هي التي تتغير
هل حين نُوظف فاجعة الوطن في الكتابة وفي فنون أخرى يعني هذا أنّنا نُؤرخها أيضا. وما مدى تأثير مشاهد الفجائع التي كانت خلال فترة الإرهاب في كتاباتك؟ وإلى أي حدّ تمّ توظيفها؟
تركتُ الوطن في الفترة التي زادت فيها النقمة على المثقفين وعشتُ جزءاً كبيراً من محنة الوطن، وكنتُ أقرأ أخبار المذابح وأبكي أحيانًا، لكني لم أسمح لنفسي ولو مرّة لمشاهدة ذلك على التلفزيون، وحين كتبتُ “مزاج مراهقة” كتبتُ الوطن جميلاً، أبداً لم أتقبل أنّ الجزائري ذُبح بأيدي جزائرية، لم أتقبل أنّ الأطفال الجزائريين ذبحوا بأيدي جزائرية. بشع أن نكتب الحقيقة كما حدثت، لقد كتبتها مع رتوشات، الأدب في الحقيقة يُغيّر، نحن نريد جزائر جميلة، وحتّى في رواياتي الأخرى كتبتُ الفجيعة بشكلٍ من التجميل.
وهذا لا يعني أنني غيّرت التاريخ، الحدث لا يتغير، لكن طريقة تقديمه هي التي تتغير، وكميزة لأدب جيلي التاريخ حاضر بشكلٍ قوي، وربّما هو ميزة جزائرية أيضا، نحن لا نكتب بمعزل عن التاريخ لأنّنا مرتبطون جدّا بالوطن، والمحنة التي عاشها سببٌ آخر لاِرتباطنا به.
كيف تُخطّط فضيلة الفاروق لخلق شخصيات رواياتها لتلعب على أرض الرواية، وتطرح أفكارها ورؤاها وحيواتها وفلسفتها وعوالمها ومعالجاتها و..و..و. وهل بناء وخلق شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً وأنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل؟
أن تكشف كلّ هذه الأمور لقارئك فكأنّك تتجرّد من ثيابك وتمشي عاريًا بين النّاس، مطبخي الروائي يخصني وحدي، طريقة تحضيري لنصوصي أعتمد فيها على حواسي، فأنا أكتب بعاطفتي حين أبتكر الشخصيات، أغلبها موجودة في الحياة وتعود إلى ذاكرتي لأسباب كثيرة. لكن هل يهم القارئ فعلاً أن يعرف كيف أُخطط لروايتي؟
مؤخراً قرأتُ رواية جميلة جداً للمغربي عبد المجيد صباطة اِسمها “الملف42” أقترحها على كلّ من يريد أن يرى “مُخطط رواية” واضح. فالكاتب كتبَ رواية مُعقدة، ببناءٍ عظيم وذكي كما لو أنّه يبني عمارة جميلة بمداخل عديدة وطوابق كثيرة، كلّ طابق يحوي غرفًا تنغلق على أسرار خطيرة.
هذا مُخطط رواية.. أمّا ما أكتبه أنا فيتخمّر في رأسي دون تخطيط، تخرج شخصياتي مثل الأشباح الليلية وتسكنني وتُمارس سلطتها عليّ، فإمّا أن أُدون ما تريده فأرتاح أو أعيش حياتين حياتي في الواقع وحياتي معها.. يتقاطع عالمي الواقعي مع عالمي الثاني.. صدقيني لم أعد أفرّق بين الشخصيات الحقيقية والوهمية، فهي تُؤرقني جميعها..
ذكرتُ في “مزاج مراهقة” عدداً من الشخصيات الحقيقية بمحبة كبيرة، ففوجئتُ بقراءة صادمة من إحداها، في الطبعة الثانية شطبتُ الفقرة التي ذكرتها فيها.
هذا كان درسًا لي أن لا أمنح أي شخص حجمًا أكثر من حجمه، فبعض من نحبهم ننجرف في محبتهم لأنّنا لا نعرفهم جيّدا لا غير. تعلّمتُ الحذر من هذه التجربة ولم أكررها.
اِتضح لي أنّ الشخصيات المُتخيلة تصبح حقيقية كلما دُوِنَت على الورق، بعض شخصياتي الوهمية حُورِبت حربًا شعواء، مثل باني بسطانجي، البعض اِعتقد أنّها مريضة ويجب أن تبقى في مستشفى الأمراض العقلية، البعض نكر أنّها من قسنطينة، والبعض سألني كيف عرفتها هي وتوفيق بسطانجي الّذي يعيش فعلاً في فرنسا؟
المخيلة مدهشة لأنّ جذورها في حيوات سابقة حقيقية ربّما، أو لا أدري كيف تحدث هذه المصادفات الغريبة. كنتُ قد بدأتُ في كتابة رواية كتبتُ منها حوالي ثلاثين صفحة، وذات يوم اِقتنيتُ رواية لسعود السنعوسي بدأتُ بقراءتها فصُعقت، وجدتُ نفس الشخصية لديه بنفس الاِسم ونفس الأوصاف. بقيتُ مصدومة طويلاً ثم تخليتُ تمامًا عن النص بعد أن جربتُ تغيير الأسماء فلم أفلح في المضي في بناء أحداثها بالأسماء الجديدة.
غير ذلك صديقتي، الكتابة تخضع لسيل من التغيرات، فكلّ رواية تختلف عن التي تليها، في الأفكار والشخصيات والأهداف.. قد أكون ملتزمة بقضية معينة ولكن أفكاري متحركة مثل نهر حي وصاخب. أنا في طور التعلم دائمًا، وكلما قرأتُ اِكتشفتُ خلطات جديدة للخروج بعمل مختلف.
رواياتي لا تتشابه في طريقة بنائها. ولا في خلفياتها المحرِّضة لكتابتها. ثمّة قراءة مختلفة لكلّ عمل قدمته، هذا غير القراءات المُتناقضة للقراء والأكاديميين لها، وكأنّني لستُ نفس الشخص الّذي كتبها جميعها.