في هذا الحوار لـ “الشعب ويكاند” مع الناقد قلولي بن ساعد، تناول بعض المسائل المتعلقة بالدراسات الأدبية واللغوية من زاوية جدلية التخصص والعصامية، محاولين فهم كثير من المناهج النقدية والفلسفية بطريقة غير التي نقرأها في الكتب، حيث تحوّلت كثير من الدراسات إلى جداول و»طلاسم» تزيدا النص المدروس غموضا عوضا عن محاولة فهمه. ويعتبر قلولي بن ساعد الكاتب العصامي، ظاهرة في الوسط الأدبي، حيث تناول أهم المناهج النقدية وأحدثها بعيدا عن الجامعة.
وتناول بعض المسائل المتعلّقة بالدّراسات الأدبية واللّغوية من زاوية جديلة التّخصّص والعصامية، محاولين فهم كثير من المناهج النقدية والفلسفية بطريقة غير التي نقرأها في الكتب، حيث تحوّلت كثير من الدراسات إلى جداول و»طلاسم» تزيدا النص المدروس غموضا عوضا عن محاولة فهمه.
ويعتبر قلولي بن ساعد الكاتب العصامي، ظاهرة في الوسط الأدبي، حيث تناول أهم المناهج النّقدية وأحدثها بعيدا عن الجامعة.
النّقد الثّقافي لن يكون بديلا عن الأدبي
هل ضاق هذا العصر بـ»العصاميين» والموسوعيين، عندما أصبح النقد يكاد يكون حكرا على أصحاب تخصصات أكاديمية محدّدة؟
صحيح أن النقد الأدبي خاصة منه الأكاديمي يكاد يكون محصورا بين فئة خاصة من المتخصصين، لكن هذا لا يلغي بعض الاستثناءات الجزئية في الجزائر والعالم العربي على ما نرى ذلك في تجارب بعض النقاد الذين يقدمون نصوصا نقدية بنفس أكاديمي ومن خارج الأسوار الجامعية كما في تجارب عبد الحفيظ بن جلولي ومحمد بن زيان.
من دون أن ننسى أن أغلب الكتب والدراسات التي نشرها الدكتور مخلوف عامر واستهل بها تجربته في عالم الكتابة النقدية (تجارب قصيرة وقضايا كبيرة / تطلعات إلى الغد / مظاهر التجديد في القصّة القصيرة بالجزائر) وغيرها كتبها وهو لا يزال بعيدا عن سلك التدريس الجامعي. وحتى عندما نشر بعض الدراسات اللاحقة ضمن أفق النقد الأكاديمي، فلم يكن ذلك سوى تتويجا لما سبقه من تجارب نقدية خاضها من خارج ( الغيتو الأكاديمي ) إذ جاز لنا استخدام مفهوم تودوروف عن (الغيتو الشكلاني).
علما أن فكرة التخصص لم تكن عائقا أمامي، وكان بإمكاني أن ألتحق بمدرجات الجامعة طالبا ولكني لم أفعل لظروف خاصة معتمدا على قدراتي الذاتية ورغبتي في الاجتهاد والتحصيل المعرفي في حدود الإمكانات المتاحة لي.
وأحسب أني وفّقت إلى حد ما عندما وجدت أمامي ثلاثة أساتذة هم الذين استفدت منهم في مساري التكويني ويتعلق الأمر هنا بالثلاثي بختي بن عودة وهزرشي عبد الباقي وحميد ناصر خوجة.
ودع عنك أن يكون التخصص بحد ذاته على ما فيه من ضوابط علمية ومفهومية ومنهجية وإجرائية يتطلبها البحث العلمي الرصين كافيا وحده.
ففي ظل تداخل حقول المعرفة الإنسانية وتشابكها مما حتم على الباحثين مراجعة بعض خياراتهم النظرية وممارسة نوع من (النقد الذاتي) الماثل في ما أصبح يسمى بالدراسات البينية العابرة لسجن التخصص أو النقد البيني) أو (الخطاب البيني) خطاب تهيأ لناقد عراقي هو عباس عد جاسم أن يقدم على ضوئه معالم نظرية نقدية وضع لها عنوانا بارزا هو ( النظرية النقدية العابرة للتخصصات / تحوّلات النقد العربي المعاصر).
على عكس ما نراه في جامعاتنا ولدى بعض الباحثين المتمسكين بما تلقّوه من بعض المتعاليات المدرسية التي ألزمتهم بالوفاء لإجبارية التخصّص الذي قيد من حريتهم الفكرية كثيرا حتى على مستوى إبداء الموقف النقدي المطلوب من المثقف الحرّ الخارج عن إغراءات السلطة واعتبارات الموقع الأكاديمي.
وهذا بالطبع مأزق آخر ليس هنا مجال الحديث عنه ضمن سوق النقد العالمي وتداوله التداول الذي تتنازعه نزعات فلسفية ومنهجيات حلقية وتاريخية وإبستمولوجية تغرف من علوم متعددة.
فأنت مثلا لا تستطيع الاكتفاء بقراءة كتاب ( رأس المال ) لماركس بوصفه كتابا في الفلسفة فقط ما لم تقرأة قراءة ثلاثية تجمع بين كونه كتابا في الفلسفة وكتابا في علم الاجتماع السياسي ثم كتابا في الاقتصاد الماركسي.
تبدو الدّراسات متأخّرة كثيرا عن التّراكم الرّوائي
هذا مثال بسيط وهناك أمثلة أخرى كثيرة في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الاجتماعية.
فكل كتب ميشال فوكو هي كتب في في الفلسفة البنيوية وهي أيضا كتب في التاريخ تاريخ الأفكار وهو نفسه يقدم نفسه بوصفه مؤرخا للفلسفة وناقدا لها.
فالتخصّص لا يعني بالطبع إلغاء الصوت الآخر غير المتخصّص أو القادم من تخصص آخر يبدو بعيدا عن التخصص الذي يشتغل فيه صوت المثقف المستبد الحامل لثقافة الإقصاء وللعنف الرمزي الذي يتبدى في خطابه الباحث عن نظام ثقافي يمثله ويعبرعنه وعن مضمونه المغلق «حماية للملكية والخصوصية «، مثلما يقول ديريدا.
ألا يحتاج فهم المناهج الحديثة إلى أكثر من قراءة الكتب؟ بمعنى أن هذا العصر يضيق الخناق على العصاميين؟
طبعا يحتاج فهم المناهج الحديثة إلى أكثر من قراءة الكتب بالنسبة لقارئ جديد يفتقر إلى خلفية معرفية وأعتقد التراكم في القراءات، كما حصل معي على مدار سنوات طويلة.
منذ أن بدأت في الإطلاع على أصول المناهج النقدية وجذورها التاريخية والإبستمولوجية والتي تجد مضمونها في قراءة الفلسفة المعاصرة واللّسانيات وعلم الاجتماع الثقافي والتحليل النفسي.
بعض النُقّاد أسرى «متعاليات مدرسية»
قد أزال عني بعض العناء ومهّد لي الطريق للوعي بالنظرية النقدية في جذورها والأسئلة الحاضنة لها، ومع ذلك لا أدعي أني على وعي عميق بمتكآت مناهج النقد الغربية.
ولا زلت في طور التكوين والتعلم فأنا من الذين يفكرون بنسبية كبيرة بعيدا عن عنف العقل الوثوقي الذي يدعي الإكتفاء الذاتي بما تلقاها من أفكار ومذاهب ومناهج وطرائق مفصولة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية وعن حاضنتها الثقافية.
على ذكر المناهج النقدية الحديثة، كيف يمكن تطبيقها على سياق ثقافي غير السياق الذي نشأت فيه؟
السؤال بحد ذاته يحيل إلى مأزق كبير وهو لا يخص النقد الأدبي الجزائري، بل يكاد يشمل النقد العربي عموما والنقد الأدبي في إفريقيا وفي كل الفضاءات الجامعية لدول ما بعد الاستعمار لظروف تاريخية معقدة.
تجد مضمونها المركزي في تلك النسبة التاريخية التي كشف عنها عبد الكبير الخطيبي في كتابه ( النقد المزدوج ) عندما اعتبر أن العلوم الاجتماعية قد نمت وتطورت في تساوق معاصر مع التسلط الأميرالي.
كما تعلم نحن لا نتوفر في العالم العربي على مدرسة نقدية عربية وكل ما نسمعه بين الحين والآخر من دعوات إلى ضرورة التأسيس لمدرسة نقدية عربية هي مجرد آمال وأحلام طوباوية لا تصمد أمام أبسط الحقائق الموضوعية.
ولا وجود في التراث البلاغي العربي لأي نواة تتأسس عليها النظرية النقدية العربية كما وردت إلينا من مراكز إنتاج المعرفة النظرية بالغرب المرتبطة بالسرديات أو علم السرد في ظل حالة هي أقرب إلى (استبداد النموذج الغربي ).
الذي وقف عليه ناقد ثقافي هو الدكتور عبد الله إبراهيم عندما خصص فصلا من كتابه (الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ) لتجربة نقدية هي تجربة الدكتور سعيد يقطين من خلال بعض كتبه ودراساته خاصة المتعلقة منها بالنظرية السردية واصفا السعيد يقطين بأنه كان أسير المدرسة الفرنسية وواقعا تحت سلطة النموذج الغربي وعليه فنحن مجبرون على ( الإقتراض النقدي ) بمفهوم يوسف وغليسي حين نتوجه إلى المدارس النقدية الغربية والأوروبية على وجه الخصوص لنأخذ منها ما نراه مناسبا من مناهج النقد والتحليل بأدواتها المنهجية والإجرائية.
على أن يكون ضمن خطة مدروسة تأخذ بعين الاعتبار على الصعيد التطبيقي خصوصية النص الإبداعي العربي بمكوناته الثقافية والهوياتية والإنتمائية الخصوصيات التي تتطلب من الناقد العربي إختبار جهوزية منهج نقدي مرن لا يفرض عنفه الإبستمولوجي على وعي القارئ / الناقد ولا يلغي المكون الذاتي في الكتابة النقدية كما حدث مع البنيوية والمناهج النسقية المغلقة التي بشرت بموت الإنسان وألغت القارئ من جدول أعمالها.
لكونها تعاملت مع النص المقروء بوصفه بنية مغلقة على ما عداها من السياقات الثقافية والتاريخية سياقات تشكل النص الإبداعي العربي والأطر المرجعية الناظمة لمضمار إنبثاقه أو أرضنته.
هذا ما يضع الناقد أمام محك نسبية كل منهج مهما إدعى الموضوعية أو الروح العلمية وإنطلاقا من هذا الوعي المتقدم المتحرر نسبيا من سطوة المركز أو اللوغوس المنهجي الراعي الرسمي لفلسفة الوفاء للمنهج لا للنص بما يستجيب لدواعي الولاء النقدي ( لنظام الخطاب) في أصوله المركزية. أسوة بما فعله إدوارد سعيد عندما حذّر من ( تيه النصّية ) والمناهج الشكلانية التي قيدت المعنى ومارست على القارئ إكراها هو الإكراه النظري ولم تسمح له بزحزحة الوعي المركزي باتجاه ما سماه ميشيل فوكو ( اقتسام الفهم).
كيف السّبيل للخروج من هذا «المأزق الإشكالي»؟
إدوارد سعيد حذّر من «تيه النصية»
النّاقد قلولي بن ساعد: للخروج من هذا المأزق الإشكالي هناك بعض المعالجات المقترحة من لدن عدد من النقاد سواء على صعيد «الاقتراض النظري» أو على صعيد ترجمة الإرث النظري والإبستيمي، الذي يؤطّر نشأة النظرية في فضاء ثقافي مغاير للفضاء الثقافي العربي كالدكتور يوسف وغليسي، الذي يقترح عند ترجمة النظرية والمصطلح معا ما يسميه «حق الإقتراض وهاجس العوربة» من خلال إحلال مفهوم التعريب محل عمل الترجمة، في انتظار هبة حضارية أو خطّة تنموية تضع هاجس التنمية اللغوية كما يرى ضمن جدول أعمالها.
بينما يقترح المفكّر المغربي محمد عابد الجابري مفهوما آخر هو «التبيئة» للحد ممّا وصفه عبد الوهاب المسيري «إمبريالية المقولات».
وحتى هذه التبيئة فينبغي أن تتم بنوع من «التعديل» بمفهوم الناقدة الهندية ما بعد الكولونيالية غياتريسبيفاك.
التّعديل الذي لا يتجاوز حدود ما يسمّيه الجابري «تشويه الواقع أو الاعتداء على الحقيقة العلمية».
ويضرب لذلك الجابري مثلا بحالة الماركسي السّلفي عندما ينقل للمجتمع العربي مفاهيما وضعت لتعبّر عن واقع معين ليس هو الواقع العربي في تركيبته وصيرورته طالما أنّ التبيئة تعني في منظور الجابري «ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضويا، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة».
وهي معالجات جزئية ليس في استطاعتها حل إشكالية «مديونية المعنى» بتعبير السوسيولوجي ميشال غوشيه أو تجاوز البعد القائم في ما سمّاه المفكّر المغربي عبد الله العروي «قياس المسافة التاريخية والحضارية بين فصائي النشأة والاستقبال»، فضاء نشأة النظرية في مهدها الغربي وانتقالها إلى فضاء آخر هو الفضاء العالم الثالثي، وهي مسافة بالطبع حضارية وليست تاريخية فقط.
بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية العربية وتعثّر مشاريع الترجمة والبحث العلمي والتذبذب الحاصل على صعيد مشروعات النهضة العربية التي لم تتمكن من العثور على الوصفة الملائمة لحل أصناف التخلف الأربعة التي تعرض لها المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي في كتابه «أشياء من النقد والترجمة» وهي «الاقتصادي، الثقافي، السياسي والتربوي».
وماذا عن «النّقد الثّقافي»، هل هو بديل للمناهج السّابقة التي ثبت محدوديتها، أم هو مجرّد «موضة» سيتجاوزها الزّمن؟
لا أعتقد أنّ النّقد الثقافي هو البديل عن النّقد الأدبي، ولا يمكن التّنكّر لكل المكاسب التي حقّقها النّقد النّصوصي سواء السياقي السوسيولوجي والنفسي أو النسقي البنيوي والأسلوبي والسيميائي وحتى التفكيكي.
وكل ما في الأمر أنّ هناك ثغرات لم يكن بوسع النّقد الأدبي النصوصي ترميمها لأنّها ليست من صميم المنظومة النظرية التي يستقي منها النّقد الأدبي أدواته المفهومية والتقنية والإجرائية، فانشغل بالبنية وأهمل النسق.
لم ألتحق بالجامعة لظروف خاصة
والنص كما نعلم بنية ونسق وليس بنية فقط ممّا لا يمكن استنفاد كل أسئلة القراءة المفتوحة أمام رياح العقل البشري في استنباط الدلالة الثقافية من باطن النصوص الإبداعية الجديرة بالتناول النقدي من منظور النقد الثقافي، الذي لازال النص الإبداعي الجزائري والعربي عموما بعيدا عنه.
بل وهناك من يتهيّب ممّا أبداه بعض النقاد من الدعوة إلى تمكين النقد الثقافي و»تبيئة» بعض مفاهيمه، والأسئلة التي يحاول إثارتها بدعوى أنّه يساوي بين جميع النّصوص من حيث كونه لا يقول لنا ما إذ كان هذا النص جميلا أم رديئا من الناحية البلاغية والجمالية طبعا، على اعتبار أنّ النقد الثقافي ليس من وظائفه أبدا التعرض للحيل الأسلوبية والبلاغية في النص أو الكشف عنها.
وهي دعوة باطلة بل وتخفي وراءها توجّسا رهيبا من النّقد الثقافي الكفيل بتعرية الثقافة العربية والنص الإبداعي كتجل لهذه الثقافة من الأنساق الثقافية المهيمنة تحت غطاء الجمالية والحيل الأسلوبية والزخارف اللفظية بما تهيل عليه ما يسمّيه محمد عبد الله الغذامي «بحكومة البلاغة» بعض الهيمنة النسقية.
هذا هو سؤال النّسق الذي قاد عددا من النقاد الثقافيّين إلى الانفتاح على إنتاجية أسئلة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وغيرها من أشكال التحولات المتتالية التي جاءت بها الخطابات البعدية ضمن فلسفة «الما بعد» بوصفها الحاضنة المعرفية التي اتّكأ عليها مؤسّسو حقل الدراسات الثقافية.
وهو مفهوم أشمل من النّقد الثقافي في مركز برنغهام ببريطانيا للدراسات الثّقافية التي تعتبر إحدى الخلايا التي ستنبثق عنها سلسلة أخرى من التّوجّهات المعرفية.
وهي توجّهات كلّها تصب في مصلحة المعقولية التي تحفظ للتعددية الثقافية، بأن تدشّن بعض أهدافها بما في ذلك ثقافة الهوامش والأطراف خاصة في العالم الثالث (النساء / السود / الأفارقة / الآسيويّين) والنصوص المجاورة لها على غرار السينما والفنون التشكيلية والأدب الشعبي والسرديات المسكوت عنها في النقد البرجوازي كروافد ثقافية لم تكن محل عناية من طرف النقد الأدبي النّصوصي، الذي ركّز كل جهوده على النص الإبداعي المؤسّساتي وعلى نصوص «الحداثة الرفيعة» بتعبير ماري تيريز عبد المسيح بأثر ممّا يضمن للقراءة النصية امتثالها لفوقية المركزية الغربية التي تلقّى بعض مناهجها النقاد العرب بنوع من الميكانيكية والشكلانية حتى لا أقول التبعية المذلّة.
ماذا أضافت قراءاتك وكتاباتك النّقدية على تجربتك القصصية؟
لا أدري إن كانت قراءاتي الفلسفية والسوسيولوجية والمعرفية قد أضافت شيئا لرصيدي المحدود في الكتابة القصصية، مع أنّي لم نقطع أبدا عن قراءة الرّواية العربية والرواية العالمية، هذا أمر ليس في إمكاني الإجابة عنه الآن.
وحتى قراءاتي للفلسفة والنقد الفكري والمعرفي، فهي قراءة دارس وليست قراءة مبدع، مع أنه يمكن للقارئ أن يقرأ الفلسفة من خلال الرّواية التي تستوعب مختلف الأفكار والنزعات الفلسفية.
وهو أمر نادر الحدوث بالنسبة للرواية الجزائرية، التي لا تزال بعيدة عن هذا الأفق على غرار ما نرى ذلك في بعض النماذج من الرواية العالمية والرواية العرفانية.
ولا علاقة لذلك بما يسمّيه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بإبداع المفاهيم أو الإبداع المفهومي، الذي يبقى حكرا على الفلسفة عندما كان يرى بأنّه لا خير في فيلسوف لا يبدع مفهومه الخاص أو مفاهيمه الخاصة.
أخيرا..ألا ترى أنّ الرّواية الجزائرية تفوّقت على النّقد الذي بقي أسير «أبراجه العاجية»؟
قد يبدو النّقد متأخّرا كثيرا عن التراكم الروائي، الذي يزداد تسارعا من سنة لأخرى.
وهذه حقيقة لا يمكن التنكر لها، ولكن أيضا لا ينبغي الخلط بين نوعين من النقد النوع الأول هو النقد الأكاديمي، فيما النوع الثاني هو النّقد الصّحفي.
وهذا الأخير هو نقد يتوكّأ على المواجهة الصريحة للنص من دون الاستعانة بمنهج معين وقضايا المنهج والمنهجية ليس لافتقاره لها.
ولكن لأنّه يتوجّه لقارئ يبحث عن «المتعة النصية»، ولا يهمه المنهج ولا المصطلح، وهو غير معني بآليات القراءة ومناهجها وأصولها النظرية.
بدليل أنّ هناك بعض النقاد الأكاديميّين والأساتذة الجامعيّين يقومون بين الحين والآخر بهذا النوع من النقد، ونعني بذلك النّقد الصحفي.
وهم وغيرهم من الذين قدّموا خدمات جليلة للأدب الجزائري في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، في وقت كان فيه النقد الأدبي الجزائري المكتوب بالعربية يكاد يكون معدوما، وهي مرحلة كان لا بد منها في ذلك الزمن بالنظر لحداثة تجربة الكتابة النقدية في الجزائر آنذاك في حدود وسياقات مختلف المواقف والتوجهات الفكرية السابقة منها أو الراهنة، وما أنتجته في زمنها وبيئتها من منظومات فكرية ومعرفية متباينة تبعا لتحولات تجربة الكتابة النقدية وإحالاتها التاريخية والإيديولوجية.
فيما النقد الأكاديمي فهو يسير ببطء شديد، وليس في إمكانه التصدي لكل هذا السيل من النصوص الروائية والمتلاحقة في ظل هجرة جماعية إلى الرواية من مختلف الفنون والأنواع الثقافية، الأمر الذي جعل بعض الرّوائيّين يتعاملون مع نظرائهم من الرّوائيّين الآخرين القادمين من الشعر والقصة القصيرة، ومن النقد ومن أجناس أدبية أخرى بنوع من الإنزعاج كأنّهم غرباء عنهم وليسوا شركاء لهم في الهم الثقافي، ممّا يعني الحد من مستقبل الرواية ذاتها كفن وكجنس أدبي يستوعب مختلف الأصداء والمستويات النصية والأجناسية بما في ذلك نداء الضيافة أو «سياسات الضيافة» بمفهوم ديريدا أو قبول الآخر في أفق من التطلع لتحصيل بعض قيم «العيش المشترك».
رغم وجود بعض النقاد الأكاديميّين الذين يقدّمون بين الحين والآخر نصوصا نقدية محكمة ورصينة، وهي قليلة بالطبع.
وطالما أنّ النقد هو «بناء لفهم خاص لعصرنا» بمفهوم رولان بارت، فهذا البناء يتطلّب التأسيس لمشروع نقدي أو عدد من المشاريع النقدية تتّخذ من الرّواية مجالا لها، وهو الأمر الذي لم يحدث بعد.
وأتمنّى أن نرى ذلك في مشروع نقدي قادم ضمن خطّة مدروسة وعمل جماعي تشرف عليه مؤسّسة بحثية أو عدد من المؤسّسات الأكاديمية ومخابر البحث الكثيرة، وهو أمر بالطبع دونه صعوبات جمّة لا يمكن تجاهلها ولكن أيضا ليس هذا مبرّرا للنوم والكسل.