يتناول الكاتب إبراهيم سعدي في هذا الحوار مواضيع الخاصة بالأدب والرّواية. يتحدث عن تجربته الرّوائية، وعن الرّواية الجزائرية عموما خلال نشأتها في فترة الثمانينيات واليوم.
يرى أنّ الرّواية ككل هي الفضاء الوحيد الذي لا يزال فيه العالم أو الواقع يحتفظ من خلالها بطابع الكلية والشمولية في زمن يطغى فيه التخصص المعرفي والإنقسام إلى مجالات معرفية مغلقة إزاء بعضها البعض. وقال سعدي في حوار مع “فواصِل” إن الرّواية ليست مطالبة بأن تقول كل شيء أو أن تعلّل فكل شيء وارد فيها. فإذا قالت كل شيء تفسد فنيًا.
إبراهيم سعدي روائي ومترجم من مواليد 1950 في الجزائر. رئيس قسم الفلسفة بجامعة تيزي وزو. بدأ حياته المهنية أستاذا بجامعة تيزي وزو منذ سنة 1982، وقد إشتغل بمعهد اللغة والأدب العربي إلى غاية 2008، ثم بقسم الفلسفة الذي دشن في 2009.
نشر إلى حد اليوم روايات عديدة: “فتاوى زمن الموت” (1999)، و”بوح الرجل القادم من الظلام”، و”بحثاً عن آمال الغبريني” (2004)، و”كتاب الأسرار” (2008)، و”الأعظم” (2010 ) “فيلا الفصول الأربعة “(2019) …، وفي مجال النقد صدر له مؤلفا يضم مساهماته في مجال النقد الأدبي يحمل عنوان “مقالات ودراسات في الرواية”(2009 ) ويضم المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات والتي شارك بها في الملتقيات في مجال الأدب. وقد اشتغل أيضا في الصحافة، إذ تعامل لمدة حوالي ثلاث سنوات مع الملحق الأدبي” آفاق” التابع لجريدة ” الحياة” اللندنية، وكذلك مع بعض الصحف الوطنية، حيث كان ينشر مقالات أسبوعية حول المجتمع الجزائري والمجتمع العربي في الثقافة والمجتمع والسياسة، جمعها في كتابين أحدهما يحمل عنوان “مقالات ودراسات في المجتمع العربي” وآخر بعنوان “مقالات ودراسات في المجتمع الجزائري وثقافته”، ترجم إلى اللّغة العربية رواية “صيف إفريقي” لمحمد ديب، وكتابا لمولود قايد حول تاريخ البربر، إضافة إلى ترجمة نصوص دراسية في مجالات مختلفة كالأنثروبولوجيا “منطقة القبائل والأعراف القبائلية ” في ثلاثة أجزاء للباحثين هانوتو ولوتورنو صدرعن دار الأمل، عام 2013.
“ريد أيضا الإشارة إلى جزئية كان لها دور بدورها في مجيئي إلى الأدب. والأمر يتعلق بتأثير أستاذ من مصر، في مرحلة الثانوية. فقد كتبت موضوعا إنشائيا ويبدو أن الموضوع أثار إعجاب الأستاذ الكريم، إذ قبّل رأسي في القسم، أمام غيري من التلاميذ، منوها بعملي. منذ ذلك اليوم تحدد طريقي، إذ قررت أن أكون كاتبا. وأريد أن أوجه بهذه المناسبة تحية تقدير واحترام إلى كل رجال التعليم في مختلف الأطوار، لاسيما لأولئك الذين يتركون آثارا إيجابية مستدامة في تلامذتهم وطلبتهم.”
بالعودة إلى تجربتك الرّوائية، حدثنا عن بداياتك الأولى في مجال الكتابة الإبداعية (الرواية )، أو لنقل ما الذي دفعك للكتابة؟
أعتقد بأن الدافع الأول كان الحاجة إلى التعبير والسعي إلى أعطاء تبرير أو معنى ما للحياة على الصعيد الشخصي. وأيضا بعض الأوهام. وبالمناسبة يجب أن لا ننظر إلى الأوهام دائما نظرة سلبية، فإذا لم يكن للإنسان أوهام فسيبقى يراوح مكانه. ولكن أريد أيضا الإشارة إلى جزئية كان لها دور بدورها في مجيئي إلى الأدب. والأمر يتعلق بتأثير أستاذ من مصر، في مرحلة الثانوية. فقد كتبت موضوعا إنشائيا ويبدو أن الموضوع أثار إعجاب الأستاذ الكريم، إذ قبّل رأسي في القسم، أمام غيري من التلاميذ، منوها بعملي. منذ ذلك اليوم تحدد طريقي، إذ قررت أن أكون كاتبا. وأريد أن أوجه بهذه المناسبة تحية تقدير واحترام إلى كل رجال التعليم في مختلف الأطوار، لاسيما لأولئك الذين يتركون آثارا إيجابية مستدامة في تلامذتهم وطلبتهم. ولا بأس أن أشير، في سياق سؤالك، إلى أنني حاولت في تلك المرحلة كتابة الشعر، لكن سرعان ما تبين لي بأنني سأظل مجرد محب للشعر وأبدا كاتبا له، فلم أرد تضييع الكثير من الوقت في محاولات محكوم عليها بالفشل. وكان أول ما نًشر لي هو قصة في جريدة “الصباح” التونسية، تبعتها قصة أخرى في جريدة ” الشعب” بالجزائر.
“الازدواجية اللغوية جعلتني حرا من دكتاتورية اللّغة الواحدة إيديولوجيا وسياسيا ووجدانيا. وخلاصة القول فيما يخص سؤالك، فإنني لا أعتقد بأن اللغة الفرنسية قد أثرت علي كثيرا في مجال الكتابة الروائية، بل إن اللغة العربية هي التي كان لها الأثر الأكبر، فمن خلالها تعرفت على الأدب العالمي، واطلعت على التراث الإسلامي.”
ما هي المنابع الأولى لقراءتك ومطالعاتك الأدبية؟
ككل الشبان أو المراهقين في تلك الأيام تأثرت كثيرا بمؤلفات جبران خليل جبران. لكن الهزة أو الصدمة – وأنا لا أستعمل هذه المفردة هنا بالمعنى السلبي- كان (لقائي) بالروائي الفرنسي فيكتور هيغو، وبالضبط بروايته ” البؤساء” المعروفة عالميا، الرواية المؤسسة لأدب المطاردة والملاحقة. كانت الصدمة قوية إلى درجة أنني صدمت ثانية، لكن بالمعنى السلبي هذه المرة، حين اكتشفت سنوات بعد ذلك بأن فيكتور هيغو كان من “المنظرين” لاحتلال فرنسا للجزائر وبأنه كتب قصيدة يهجو فيها الأمير عبد القادر هجاء مقيتا. وهي قصيدة ترجمها المرحوم بقطاش مرزاق ونشرها في مجلة ” الثقافة”. وعنوانها ” الشرقية”. هذا التضارب بين الحالة الإبداعية والحالة السياسية عند الكاتب الواحد أثر علي، لاسيما وأنني وجددته يتكرر لدى العديد من الكتاب الفرنسيين، في مقدمتهم ألبير كامو، وإن كان بدرجة أقل حدة في الحقيقة من ف. هيغو، سلفه الكبير. وقد كتبت عن هذا الموضوع في إحدى الصحف، عملت فيها متعاونا عددا من السنوات. محزن دائما بالطبع أن يكتشف المرء بأن الكاتب الذي يحبه ويجله كان عدوا لبلاده. ورجوعا إلى سؤالك، فإن الأدباء الذين أثروا علي بشكل ظل ثابتا هم أدباء من القرن العشرين في معظمهم، ومن الأمريكيتين بالأساس، مثل همنغواي وسكوت فتزجرالد وستاينبك وغبريال غارسيا ماركيز. لكن تأثرت أيضا بفرانز كافكا الذي كانت روايته “المحاكمة ” صدمة أدبية أخرى لي. ولا أنسى أن أذكر كذلك فضل الأدب الروسي وفي مقدمته دوستويفسكي كبير هذا الأدب.
حين بدأت في الكتابة، كيف كنت تنظر للرّواية الجزائرية؟
في الحقيقة حين بدأت الكتابة كانت الرواية الجزائرية في طور النشأة على وجه العموم، وبالتالي فقد كان عدد الروايات قليلا آنذاك. وأنا بالطبع أتحدث عن الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية التي كان يهيمن عليها آنذاك اسمان بارزان: عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار. وقد شكل العمل الأول لكليهما حدثا أدبيا هاما، لأنهما جمعا بين حدث النشأة من جهة، على الأقل بالنسبة لفترة الاستقلال، وجودة في الإبداع. وأعتقد أن ذلك العمل الأول، “اللاز” للطاهر وطار و” ريح الجنوب” بالنسبة لعبد الحميد بن هدوقة كان ربما أحسن ما كتبا طوال مسارهما الأدبي. وكما هو معروف فإن رواية تلك المرحلة قد تأثرت بالأيديولوجية اليسارية، مما جعلها تركز على الموضوعات ذات الصلة بالتناقضات الاجتماعية والسياسية والأيديولجية للمرحلة. وأعتقد أن هذا ما أضفى شيئا من التكرار والتشابه على رواية تلك المرحلة وحال دون تنوع وثراء عوالمها. لكن تبقى مرحلة تأسيسية، ووثيقة الارتباط أيضا من حيث مميزاتها بخصائص تلك المرحلة التاريخية إن محليا أو عالميا. وربما ما يثبت ذلك كون كتاب تلك المرحلة قد تغيرت كتاباتهم بعد الانتقال من الأحادية إلى ” التعددية” والتخلي عن النهج الإشتراكي وكذا سقوط الاتحاد السوفياتي سابقا ومعسكره وتحولهما إلى النظام الرأسمالي.
كيف ساهمت القراءة باللغتين العربية والفرنسية في تكوينك الرّوائي؟
قراءتي باللغتين مكنني من الاطلاع على الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، لاسيما وأنه لم يكن متاحا باللغة العربية، على الأقل في معظمه. وذلك بالأساس أيام أن كان هناك من يتساءل حول ما إذا كان هذا الأدب جزائري الهوية أم لا، السؤال الذي لم يعد مطروحا اليوم لحسن الحظ. أما الأدب العالمي فكنت أطلع عليه مترجما إلى اللغة العربية، لا مترجما إلى الفرنسية. لكن قراءتي بلغة فولتير كما ينعتها البعض لم تجعلني مدمنا على قراءة الرواية الفرنسية التي لم أكن متأثرا بها في الحقيقة قدر تأثري بالآداب العالمية الأخرى. غير أن اللغة الفرنسية أفادتني في قراءاتي للفلسفة وحتى فيما يتعلق بالكتابات ذات الصلة بالنظرية الأدبية، وعموما في مجالات أخرى. ذاك أن الترجمة إلى اللغة العربية، كانت ولا تزال إلى اليوم على ما أعتقد، أقوى في مجال الأدب الروائي منه في المجالات غير الأدبية. لكن بودي أن أشير إلى أن اللغة الفرنسية، واللغة العربية أيضا بالمناسبة، لم تجعلني عبدا لها، كما يحدث أحيانا، إن لم أقل كثيرا، عندما يكون المرء أحادي اللغة. الازدواجية اللغوية جعلتني حرا من دكتاتورية اللغة الواحدة إيديولوجيا وسياسيا ووجدانيا. وخلاصة القول فيما يخص سؤالك، فإنني لا أعتقد بأن اللغة الفرنسية قد أثرت علي كثيرا في مجال الكتابة الروائية، بل إن اللغة العربية هي التي كان لها الأثر الأكبر، فمن خلالها تعرفت على الأدب العالمي، واطلعت على التراث الإسلامي.
درست الفلسفة وتُدرسها إلى اليوم، ماذا قدمته لك كروائي؟
في الحقيقة أنا بدأت الكتابة الأدبية قبل أن أدرس الفلسفة وقبل أن أدرّسها. وبالتالي فإن هاجسي الأدبي كان سابقا على احتكاكي بعالم الفلسفة كطالب ثم كأستاذ. والواقع أنه لم يغب عن ذهني في يوم من الأيام بأن الرواية فن قبل أي شيء آخر، وبأنها غاية لنفسها لا أداة للدعوة إلى فكرة دينية أو سياسية أو فلسفية. ولذلك حرصت دوما على عدم جعل أعمالي خاضعة لقناعاتي السياسية أو الفلسفية، مثلا كالماركسية التي تأثرت بها في مرحلة من حياتي. لكن هذا لا يعني بالطبع غياب البعد السياسي أو الفلسفي في أعمالي، وإنما جعلت حضورهما خادما وخاضعا لسلطة الشرط الفني. فبهذا فقط يمكن للرسالة السياسية أو الفلسفية أو غيرها أن تحقق غايتها عبر العمل الفني الروائي. لقد ساعدني التكوين الفلسفي بالأحرى في قراءة وفهم النصوص الأدبية وتأويلها، فأنا أعتقد بأنه لا يمكن للإنسان أن يكون قارئا جيدا أو ناقدا حقيقيا أو أن يتكون الطالب في الأدب تكوينا ملائما إذا لم يكن له اطلاع محترم في الفلسفة. لكن بالمقابل يمكن أن يكون روائيا من دون أن يكون له تكوين في الفلسفة. في المحصلة الأخيرة فإن الفلسفة علمتني أن أفكر بنفسي، كما يدعو إلى ذلك الفيلسوف”كانط”، وأن أكون حرا في التفكير ومنطقيا مع نفسي، ولذلك لا تجديني مثلا أكتب عن الدكتاتورية في أعمالي الأدبية وفي آن واحد أتواطأ أو أتعامل معها في الواقع بهذا الشكل أو ذاك.
رواياتك الأولى كانت واقعية واجتماعية، لماذا وقع اختيارك على هذا النوع من الكتابة؟
في تلك الأيام كانت الواقعية فارضة نفسها محليا وعالميا. ولم يكن ذلك لأسباب أدبية فقط، بل كان الأمر ذا صلة أيضا بنسبة معتبرة باعتبارات إيديولوجية. لقد وجب ظهور الرواية “العجائبية” أو الواقعية السحرية بأمريكا الجنوبية، لاسيما على يد غابريال غارسيا ماركيز، حتى نشهد عندنا أعمالا تخرج عن ذلك النموذج المهيمن والعريق : الواقعية. وهذا التطور حدث عندنا، إن لم أخطيء، على يد رائدي الواقعية في بلادنا بعد الاستقلال: عبد الحميد بن هدوقة بروايته ” الجازية والدراويش” والطاهر وطار في ” الحوات والقصر”. والحقيقة أن هذا التطور كان بالنسبة لهذين العملين في الشكل لا في المضمون. لكن قد يكون هذا التطور مجرد تزامن مع الرواية العجائبية في أمريكا اللاتيتية لأن العملين السابقين يمكن إحالتهما أيضا إلى الموروث الحكائي الشعبي الجزائري. ولعل في عنوان رواية رشيد بوجدرة ” ألف ليلة وليلة” إشارة إلى المنبع العربي الإسلامي للعجائبية التي بدأت تشق لها في تلك الأيام طريقا لها في الرواية الجزائرية. أما فيما يعنيني، فقد تصادف تحولي إلى ما يمكن وصفه بالعجائبية مع “منعطفي” الفلسفي، في ” الآدميون” وبدرجة أقل في ” فيلا الفصول الأربعة”. وقد أشرت في سؤالك إلى “اختيار” الكاتب لنوع من الكتابة. والحقيقة أن الأمر نسبي لأن “الاختيار” يحدث دائما في إطار ظروف، إن لم نقل تحت تأثيرها، لأن هذه الظروف ليس الكاتب هو من يوجدها. ولذلك توجد مناهج تدرس الرواية على ضوء سياقها بالنظر إلى تأثير هذا الأخير على الأدب.
كيف تتغير الأسئلة التي يطرحها الرّوائي في أعماله الإبداعية؟
السؤال ممتاز لكن من الصعب الإجابة عنه إجابة وافية لأن الأمر يختلف على ما أعتقد من كاتب لآخر، ومن ثم صعوبة وجود قواعد في هذا المجال. وعلى كل، فإن المسألة تحتاج إلى دراسة معمقة. وأعتقد مبدئيا أن التغيرات التاريخية الكبرى تؤدي إلى تغير في مجال الأدب، فعلى سبيل المثال نجد أن الرواية الجزائرية اليوم مختلفة عن رواية فترة الأحادية و”الاشتراكية” سواء على صعيد الشكل أو المضمون . وهذا راجع إلى اختلاف معطيات الواقع بين المرحلتين. كما أن تطور المعارف والعلوم يؤديان أيضا إلى تغير في الوعي والذائقة مما يؤثر في مجال الأدب. وهكذا نجد مثلا أن ما بعد الحداثة التي كانت بالأساس نتيجة تغيرات في العلم ( في فيزياء الكم من خلال إبرازها عدم وجود أي نظام أو قانون يحكم الجزئيات غير المتناهية الصغر) كانت لها ارتدادات في الفلسفة وفي مجالات أخرى، مما أدى إلى ظهور ما يعرف برواية ما بعد الحداثة. غير أنه يجب أن لا نقصي أيضا وجود ديناميكية داخلية خاصة بالرواية تفسر تغير أسئلتها وأشكالها، ذلك أن كل نمط سردي ينتهي به المطاف إلى إثارة الحاجة إلى تجديده أو تجاوزه. ومن ثم لا ينبغي تفسير التغيرات الكبرى الطارئة على الأدب دائما بعوامل خارجة عنه. كما ينبغي الإشارة إلى أن الأدباء لا يستجيبون سرديا دائما بنفس الطريقة للتغيرات الحادثة حولهم ولا القول بأن العامل الشخصي وعبقرية الكاتب لا دور لهما في التغيير. وبالطبع يمكن أيضا أن نتحدث عن عامل التأثر بين الأدباء ودوره في هذا المجال وكذلك عن التجارب التي قد يمر بها الكاتب في حياته والتي قد تكون من القوة بحيث تغيّر مساره الأدبي. وكما تلاحظين، فإن المسألة ليست من البساطة بمكان.
لماذا دعوت إلى الفصل بين ممارسة الكتابة الروائية وبين الممارسة النقدية ؟
نعم، لقد كتبت ذلك، لأن الروائي إذا كان في آن واحد ناقدا فقد يتدخل العامل الذاتي في أدائه النقدي، يعني أن يعالج نصوص غيره على ضوء ذائقته الروائية وممارسته الشخصية للعملية السردية. وأنا عموما لا أستسيغ الأحكام النقدية السلبية التي يكتبها هذا الروائي أو ذاك في حق نصوص غيره من الروائيين. وهذا الفصل بين الوظيفتين الإبداعية والنقدية هي القاعدة المعمول بها عالميا في هذا الميدان، فمعظم كبار النقاد والمنظرين في هذا المجال ليسوا روائيين والعكس صحيح أيضا. لكن صحيح كذلك أن هناك من النقاد من يدعو إلى جسر الهوة بين النقد والإبداع، كما فعل رولان بارت مثلا. وأيضا نظرية ما بعد الحداثة التي تتضمن من بين مميزاتها كسر الحواجز بين الأنواع والأجناس في الأدب. يضاف إلى ذلك أنه حين يكون الروائي أستاذا في الأدب في ذات الوقت، كما هو الشأن في حالات كثيرة عندنا، فمن الصعب ألا ينشط في المجال النقدي. هذا هو إذن رأيي الشخصي، لكن لا أجهل أيضا بأنه قابل للأخذ والرد.
“الرواية الجزائرية اليوم مختلفة عن رواية فترة الأحادية و”الاشتراكية” سواء على صعيد الشكل أو المضمون . وهذا راجع إلى اختلاف معطيات الواقع بين المرحلتين. كما أن تطور المعارف والعلوم يؤديان أيضا إلى تغير في الوعي والذائقة مما يؤثر في مجال الأدب.”
يبدو من خلال قراءة رواية “الآدميّون” و”فيلاّ الفصول الأربعة”، أن حضور الفلسفة في أعمالك الروائية أصبح ملفتا للانتباه، هل أصبحت الكتابة الروائية عندك تعني التأمل بدل التصوير؟
لا يمكن للرّواية أن تستغني عن التصوير حتى في تعاطيها لمواضيع ذات طابع فلسفي أو تأملي وإلا تحول العمل السردي إلى عمل فلسفي بحت. الرّواية رغم أنها جنس أدبي يتميز بمرونة كبيرة، لكن تحكمها مع ذلك ضوابط، إن جاز القول، متصلة باللغة والشخوص والحبكة والحدث أو الأحداث وكذا الوصف، ودون كل ذلك يتعذر السرد. وعليه مهما كان موضوع الرواية أو موضوعاتها فلا بد أن يتكيف أو تتكيف مع هذه المعطيات المكونة للعملية السردية. والحقيقة أن طرحي سرديا لمسائل يمكن نعتها بالفلسفية لم يبدأ مع “الآدميون” أو ” فيلا الفصول الأربعة”، لكن كون القارئ عندنا، أو حتى الناقد، لا يحمل في العادة ثقافة فلسفية يفوته الانتباه إلى البعد الفلسفي المتضمن كخلفية مضمرة في النص، خصوصا وأن اللغة الروائية تساهم في إخفاء هذا البعد، لأنها لغة وصفية، وليست لغة تجريدية، تقوم على المصطلحات والمفاهيم، كما لغة الفلسفة. في رواية ” صمت الفراغ” مثلا، أردت أن أبلغ في قالب روائي تصورا حول معنى التاريخ ونسبيته وبالتالي عبثية تأسيس مبادئ مطلقة على معطى نسبي بطبعه، من شأنه أن يبرر التضحية بالنفس أو القتل والخراب، ولكن القراءات التي تناولت هذه الرواية قالت فقط بأنها رواية حول العنف. ورغم أنها كانت كذلك حقا، إلا أن علاقة هذا العنف بمعنى التاريخ ونسبية هذا الأخير، والذي أردت الإشارة إليه، لا أحد انتبه له. ولعل هذا راجع أيضا إلى كون ثقافة التأويل غائبة في النقد الأدبي الجزائري. ويبدو لي أن الرواية رغم أنها تتسع للمسائل ذات الصبغة الفلسفية إلا أنها ليست بالضرورة الفضاء الأنسب، على ما أعتقد، لتناول القضايا الفلسفية بالمعنى الأكاديمي للكلمة، وذلك بالنظر إلى الطابع المفتوح للغة الروائية، إذ يجعلها ذلك قابلة لما لا حصر له من القراءات والتأويلات. وذلك جيد أدبيا في الحقيقة، ولكن الفلسفة من ناحيتها تسعى إلى الدقة والضبط.
في روايتك “فيلا الفصول الأربعة” تركز على سرد العلاقة بين مختلف شخصيات الرّواية، لتجعل من موضوع الرّواية موضوعا فلسفيا (الوجودية)، لماذا؟
صحيح أن “فيلا الفصول الأربعة” لها بعد فلسفي، لكن أعتقد أنه ليس الوحيد. هناك أيضا الهم السياسي، وأعتقد أنه كان واضحا. ويمكن أيضا أن نتحدث عن بعد آخر، يمكن تسميته بالأخلاقي، يظهر من خلال علاقة الصداقة الملتبسة والغريبة بين أحمد ياطو و”صديقه” الأبدي والوحيد. بل وأستطيع القول بأن رواية ” فيلا الفصول الأربعة” هي رواية حب أيضا. وهكذا. الرواية، كما أتصورها على الأقل، صورة عن الحياة، نجد فيها كل تعقيداتها، لا شيئا محددا ومضبوطا بدقة، يدل عليه العنوان كما في المؤلفات الأكايمية مثلا. عالم الرواية، كما أراه، عالم مفتوح، لكن القارئ عندنا في العادة يحب أن يقرأ الرواية من زاوية محددة، ربما ذلك بحكم طغيان ثقافة التصنيف، وأحيانا بفعل الأثر الاجتماعي، كما حدث مثلا مع رواية ” بحثا عن آمال الغبريني” التي وضعت في خانة رواية العنف بدورها، لا لشيء سوى لأنها ظهرت في فترة ما يعرف بالعشرية السوداء، بينما كانت في تصوري أنا أول رواية حب أكتبها، وإنما من الصعب فقط أن تكتب رواية عن الحب في زمن الإرهاب، ولا تجد فيها أثرا لأجواء العنف المدمر السائد أنذلك. لكن القارئ رأى العنف ولم ير الحب.
هناك في رواية “فيلا الفصول الأربعة” رواية وفي داخلها نجد مذكرات، لماذا خلقت هذه الازدواجية؟
نعم. لقد استعملت تقنية المذكرات داخل رواية ” فيلا الفصول الأربعة”. وليست هذه أول مرة أفعل ذلك. ولكن لست أيضا أول من استخدمها، على ما أعتقد. وهذه الطريقة تسمح للشخصية بأن تتحدث عن نفسها بنفسها، وبالتالي تكسر هيمنة السارد الوحيد في النص وكذلك الأحادية في نمط الحكي وتخلق تعددا في وجهات النظر. وأعتقد أنها تضفي أيضا جمالية على النص. لكن توظيف تقنية المذكرات يجب ألا تكون مجرد حشو أو ألا تضيف للنص شيئا أو مجرد استجابة لرغبة في التنميق الفني أو حتى في التعقيد. لذلك سعيت إلى جعل هذه المذكرات امتدادا طبيعيا لمجريات النص. ولا شك أنك لاحظت أيضا بأنني أدخلت كذلك نصوصا روائية داخل هذه الرواية نفسها. في الحقيقة أنا أحب التنويع في تقنيات الحكي داخل النص الواحد. وهذا ما قمت به أيضا في روايات سابقة.
“الروائي إذا كان في آن واحد ناقدا فقد يتدخل العامل الذاتي في أدائه النقدي، يعني أن يعالج نصوص غيره على ضوء ذائقته الروائية وممارسته الشخصية للعملية السردية. وأنا عموما لا أستسيغ الأحكام النقدية السلبية التي يكتبها هذا الروائي أو ذاك في حق نصوص غيره من الروائيين. وهذا الفصل بين الوظيفتين الإبداعية والنقدية هي القاعدة المعمول بها عالميا في هذا الميدان، فمعظم كبار النقاد والمنظرين في هذا المجال ليسوا روائيين والعكس صحيح أيضا.”
الجانب الغرائبي أصبح حاضرا بدوره في أعمالك الروائية منذ “الأدميون”، لماذا تم اللجوء إلى ذلك؟
هذا صحيح، لكن لا أدري السبب بالضبط. ربما ذلك يعود إلى الحنين نحو عالم الطفولة نتيجة التقدم في العمر، فعالم الطفولة، كما تعرفين، عالم غرائبي بامتياز. وربما يعود إلى كون ما أريد التعبير عنه لم تعد تسعه الواقعية الصرفة التي انتهجتها في أعمالي السابقة، ذلك أن هذه الغرائبية، كما تصفينها، قد تصادف استعمالي لها مع المنعرج الفلسفي الواضح في رواية “الآدميون” التي هي في الأخير رواية حول الخير والشر وعلاقتهما بالإنسان بالرغم من أن هذه الإشكالية قد تطرقت إليها أيضا في رواية “كتاب الأسرار”. لكن الشكل الغرائبي في الكتابة لا يعني أن الرواية منفصلة عن الواقع، وإن بدا ذلك ظاهريا. بل هو فقط شكل خيالي للتعبير عنه. إن الرواية في الحقيقة لا يمكن أن تنفصل عن الواقع حتى لو أرادت ذلك. العالم الغرائبي شبيه بعالم الحلم. وعالم الحلم لا يوجد من لا يعيشه في الواقع. كل شيء نسبي إذن. والتصنيفات التي نقوم بها تنطوي على قدر ما من التضليل في الحقيقة. و”الآدميون” من وجهة نظري رواية ذات طابع أوتوبي أيضا، والأوتوبيا تعبير عن الرغبة في عالم آخر، وبالتالي عن رفض للعالم السائد في الواقع. لكن من يدقق في قراءة “الآدميون” سيلاحظ أيضا وجود تأثير الأسطورة من خلال طرح أسئلة النشأة، مثلا حول نشأة الشر واللغة، وهلم جرا، إذ أن وظيفة الأساطير، كما هو معروف، هي إعطاء إجابات عن أصل الأشياء، أي من أين جاءت. بل إن هناك أيضا مجال مفتوح للتأويل في الفصل الأخير من الرواية متصل بالنظرية الأدبية. فكما سبق وأن قلت لك، الرواية عندي هي عالم معقد لا يمكن اختزاله إلى بعد واحد. وقد سبق وأن أشرت في مداخلة لي بأحد الملتقيات بأن الرواية ككل هي الميدان الوحيد الذي لا يزال فيه العالم أو الواقع يحتفظ فيها بطابع الكلية والشمولية في زمن يطغى فيه التخصص المعرفي والانقسام إلى مجالات معرفية مغلقة إزاء بعضها البعض.
يشعر القارئ انك لا تذكر أي شيء أثناء عملية السرد، هل تريد من وراء ذلك إشراك القارئ في الرواية؟
أعتقد أن الرواية ليست مطالبة بأن تقول كل شيء أو أن تعلل كل شيء وارد فيها. إذا قالت كل شيء تفسد الرواية فنيا، حسب ما أعتقد. وتجعل العمل مغلقا وغير منفتح من حيث التأويلات والقراءات، لأن العمل قال كل شيء حينها. الكتمان أو الإخفاء أو الفراغات أو المسكوت عنه، أو سمه كما شئت، يسهم في صناعة جمالية النص الروائي. وهو بهذا المعنى جزء من العمل في الحقيقة. لكن على الروائي أن يعرف كيف يتعامل معه، فمن الفراغات ما قد يشكل خللا داخل النص. وأظن بأنه من خاصية الرواية فنيا ألا تقول كل شيء على العموم. وبما أنك تطرقت إلى هذا الجانب، أعترف بأن أعمالي ربما تتطلب مساهمة القارئ في ملء الفراغات، بل وحتى في ربط الأحداث بعضها ببعض، لأنني لا أعتمد الكتابة الخطية.