رواية “عبق جلسات” محاولة جديدة وفيض آخر استلزمه حضور الكاتب في وقفات ومقامات حياتية، أو بالأحرى تلازمات حميمية مع زملاء وأصدقاء آخرين، استفتحها الكاتب بكلمة شكر لكل من الدكتور لعموري الزاوي، ماجدة معروف من تونس وعلا أبو شبابة من فلسطين.
الكاتب هو الدكتور حراث التيجاني من مواليد 01-08-1966م، تحصّل على شهادة الليسانس آداب ولغات سنة 1996م، ثم شهادة الماجيستير في سنة 2011م، وبعدها شهادة الدكتوراه في سنة 2018م تخصص دراسات أدبية حديثة، يعمل أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للأساتذة “طالب عبد الرحمان” بمدينة الأغواط.
له عدة كتب منها: تفسير القاعدة القانونية، أفق الدلالة في عنونة المدينة، التغني بالمكان في روايات زهور ونيسي، رواية عبق جلسات، إضافة الى دراسات عديدة منها: تراجيديا اللغة الثانية المزدوجة في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية كـ خصائص الكتابة عند واسيني الأعرج، النص الاجتماعي وتداعياته الاجتماعية، السيرة الذاتية النص المغيب عند واسيني الأعرج، ألف صورة وصورة في ذاكرة مرزاق بقطاش…
هي محاولة جديدة وفيض آخر استلزمه حضور الكاتب في وقفات ومقامات حياتية، أو بالأحرى تلازمات حميمية مع زملاء وأصدقاء آخرين، استفتحها الكاتب بكلمة شكر لكل من الدكتور لعموري الزاوي، ماجدة معروف من تونس وعلا أبو شبابة من فلسطين.
العنوان وحده يحمل دلالة عميقة، يصبّ في إيحائية ورمزية هادفة للغاية، انطلاقا من عطر الجلسات تتنامى اللغة وحيثياتها، حيث أنّها شعاع ملهم في ومضات مترامية الزّمان والمكان، ففي لوحة الغلاف يجد القارئ لزومية لونين فقط بين الأخضر والأبيض وإن غلب الثاني على الأول، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة عن سبب هذا الاختيار، فالجواب يكمن في أنّ البياض وحده يفضي إلى ترسيمة تكاد تكون إسقاط أوّلي قبل الخوض في الرّواية، فهو بمثابة الإفصاح والبوح الذي تأتّى على لسان الكاتب، فيه تنامي لذكريات ومآخذ التّغني بالمكان، موطن الانصهار والتداعي في إلغائية الذّات. يحمل الكاتب أيضا إطارا آخر مهم في طياته النفحة المحمولة بالعاطفة التي يكنها لهذا الغير والمنسوبة لخطية ثانية لا يكاد يراها أو يقرأُها المتصفح، هي المكان الآخر والإسقاط الموالي لقرية “حسيان الذيب” (تقع بين مدينتي الأغواط وتيارت)، المرتع الذي أضحى شعارا ودليلا قويا للرّواية.
أمّا عن المنجز الأدبي فإنّه ينقسم إلى عدّة مقامات متباعدة المواضع لكنها متقاربة الأصول فمن هذا التغني للمكان أراد الكاتب ردّ الاعتبار للأمكنة التي عاش فيها منذ صغره، الحيّ العريق والعتيد الذي ترعرع فيه والكنيسة القديمة الّتي تحوّلت إلى متحف وكذا البنايات الحجرية العريقة وساحة “روندان” بمدينة الأغواط. وتأتي مقتطفات أخرى لما عاشه الكاتب في صغره حين كان يحمل جريدة المجاهد لجدّه وهو آنذاك لم يتجاوز الخامسة من سنه، فقد كان يقطع المسافة ويتكبّد عناء الطريق وأشعة الشمس ليوصل له الجريدة. ثم ومضات من قصة نبيل الحرّاق الملهمة، فقد أنجز مشروعه الذي كان يطمح لتحقيقه منذ سنوات في موطنه الأصلي ولم يستسلم للبطالة القاتلة والتلوث الذهني الذي كان يطول أقرانه من الشباب، ومنه الى ومضات أخرى (الحلم المنجز- الدعوة – ألف صورة وصورة في مخيال مرزاق بقطاش – مقهى الشرقي وعبد الله – معمر أحفير صديقي – من عمار قتلني إلى أنا شارلي – السيد عبو بين عناوين وشغف المشاغب الدكتور رابح لعجال). كلها متفرقات تأتي بين حميمية اللّقاء وجدلية قائمة تلوح في أفق هذا المكان السّاحر مرتع التجاذبات الأدبية والعلمية.
أمّا الشّطر الثاني فهو تطبيق حول الحصص والورشات الأدبية بين الأستاذ وطلابه في المدرسة العليا فتأتي الكتابة الآنية من جهة، ومن جهة أخرى أفضلية المدلول، نظريتان للدكتور حراث تجاني في الحقل المعرفي الديتاكتيكي التعليمي كحلقة اجتهادية أراد الخوض فيها نتيجة حتمية لمسار تكويني في الدراسات الأدبية الحديثة. كما حاول الكاتب أيضا دمج فكرته في صلب الرواية لنفس التطبيق في الأرض العثمانية اسطنبول (مدينة كثير إسلام)، هذا التأثيل يأتي كذلك وفق النموذج الإيحائي الجديد وكأنه يرجع إلى مرجعيتين دلاليتين فالأولى نبض من العاطفة (من ضفة العشق أنت صديقتي فليشهد الليل والظلال …) أما الثانية فحامل لشعاع التيه والضياع (أقل الناس انتفاعا من نور المنارة… حارسها)، حيث إن النبرة الأولى تستلزم لغة فاتنة في شرايين الكاتب وحبّه للمكان، أما الثانية فهي أصل أراده الكاتب في تسلسل جديد حول سفره الأخير إلى اسطنبول وما عاشه هناك في فترة الجائحة الأخيرة، فمن محن الكوفيد إلى أرق الكتابة عانى صاحب “عبق جلسات” بدءا من الحجر الصحي في المدينة لتليها الإجلاءات من اسطنبول إلى كرابوك 1 ثم كرابوك 2 وأخيرا إلى مازافران. وفي نفس هذا التوازي تأتي محطات جديدة أخرى (من اسطنبول إلى كرابوك – الحجر- الرخاء – بسيكوز الخوف والصدمة كومبير – طروماتيزم في مطار إسطنبول – الفتاة التي ترقص بين الحمام – ماء الزهر كانزوك – الليلة الأخيرة في انتظر قطار :159 ليلا – جولة بالدراجة على ضفاف البحر الأسود – في شقة الرجل الطيب زين العابدين من مالدين – قهوة الباي من الأغواط – زهرة التوليب من اسطنبول – نغرفة رقم 109 من إقامة الكرابوك – يوم 21..الإجلاء – العودة إلى الديار- مطار سامسون الإقلاع – مازافران القهوة المحلية).
ليكون ختام روايته مسك، فالصفحات الأخيرة كانت عبارة عن مقاطع نثرية وشعرية في لفظات جميلة حاول من خلالها الكاتب حراث تجاني أن يتقرب من القارئ بلغة تشويقية شعرية وضرب من الخيال الأخاذ، هي قيمة مضافة في مشوار أدبي وشعري لافت يصف الكاتب بين طياته مساره السيري، كما أنها استشعارات رائعة تنبع من فيض لشخصيات أحبّها الأستاذ.
الكاتب: حراث تجاني
الكتاب: AROMES DE JALASSATTES (عبق جلسات)
دار النشر: دار الهدى
عدد الصفحات: 180 صفحة