يتّفق كثير من الكتاب والأدباء على أنّ الرواية قد تلعب دورا مهما في توظيف حقائق تاريخية، بقدرتها وجرأتها على تصوير واقع المجتمعات كما هي عليه، وتناول القضايا الكبرى التي شهدها ويشهدها العالم من أحداث هي مادة دسمة لبعض الكتاب الذين تمكنوا من فرض وجودهم في المشهد الثقافي من خلال هذا النوع من الكتابة الأدبية.
ملف: هدى بوعطيح، فاطمة الوحش، أمينة جابالله وإيمان كافي
هل تقول “الرّواية” ما يصمت عنه “التّاريخ”؟
إنّ سؤال التواشج بين الرواية والتاريخ، هو سؤال التواشج بين الواقعي والمتخيل، ومنه، فإنّ الحاجة إلى وجود معابر للوقائع الاجتماعية أو التاريخية تفرض بالضّرورة إيجاد وسائط مغايرة لفهم هذه الوقائع، بناءً على مدى إدراكنا لحقائقها المتأصّلة فيها، وبقدرتنا على التفاعل مع سياقاتها، فإذا كان “التّاريخ” علما يرصد أحداثا ووقائع ترتبط بالزّمن، فإنّ “الرّواية” استلهام لروح التاريخ، تثير الأسئلة وتحركها في واقع فني خالص، ثم إنّ انفلات “الرواية” من موضوعية التاريخ وخطيته، هو من طبيعتها الأجناسية، وهو ما يحقق حاجات الفن والطابع الاستعاري الذي يفرضه.
في هذا السياق، طرحنا إشكالية علاقة “الرواية” بما هي الجنس السّردي المهيمن، مع “التاريخ”، بما هو علم قائم بذاته له مناهجه وإجراءاته، في محاولة لاستخلاص طبيعة هذه العلاقة، بحكم ما ينجم عنها من التباس على أكثر من مستوى، يثير اهتمام العديد من النقاد والدارسين، إذ يرى البعض أنّها انعكاس لواقع تاريخي، بينما يرى آخرون أنّ “الرواية” يجب أن تُدرس بمعزل عن التاريخ، إذ لا رابط بينهما، وقد دفعنا هذا الالتباس لاستطلاع بعض الآراء حوله.
التاريخ للرّوائيين.. والتأريخ للمؤرخين
يقول الأستاذ أحمد زغب، والقاص حركاتي لعمامرة، والكاتبة حورية عمران، إن الرواية أحيانا قد تؤدّي دورها وإن كان بنسبة ضئيلة في كتابة التاريخ، وأحيانا أخرى قد لا تكاد تفعل، مرجعين ذلك لما تتميز به الرواية التاريخية من قابلية للتأويل، ومن خلالها يستطيع الكاتب أن يعيد صياغة الأحداث بقالب فني بحت.
يرى الأستاذ أحمد زغب أنّ للكاتب مجموعة من المعطيات الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية يوظفها من أجل رسالة تتلاءم مع أيديولوجيته أو رؤيته التي يختارها، مشيرا إلى أن كتابة التاريخ والتوثيق له، يكون من خلال الوثائق التاريخية، وليس من خلال الرواية، وقال: “إنّ الرّواية عمل تخييلي بالدرجة الأولى، حيث أنّ هناك مراجع كثيرة ورسائل دكتوراه عالجت هذا الموضوع وتوسّعت فيه، وإذا تكلّمنا عن الوثائق التي يعتمد عليها الكاتب بغرض توظيفها في بناء الرواية، فأرى أنّه حسب الرّسالة التي يريد أن يرسلها إلى القراء، فهو ينتقي من الوثائق ما يخدم رسالته”.
ويضيف الأستاذ زغب: “على ضوء من يؤيّدون فكرة أن التاريخ لا يقتصر فقط على المؤرّخين، وأنّ هناك روائيين نجحوا في كتابة التاريخ، أجزم على أنه مهما يكن من أمر، فالعمل الأدبي عمل تخييلي حتى لو استمد بعض أحداثه من الواقع التاريخي”، واستدلّ بقراءته لرواية “الأمير” للروائي واسيني الأعرج، واعتبر أنّها عمل تخييلي أدى فيه الروائي رسالة التسامح في الثقافة العربية الاسلامية من خلال شخصية الأمير عبد القادر، “وعلى العموم الكاتب يستثمر التاريخ واللغة والاجتماع والثقافة لصالح الخطاب الادبي الذي هو الرواية”.
وختم الأستاذ زغب حديثه قائلا: “يمكن للرّواية أن تؤدي دورا هامشيا جدا لا يعتدّ به، كمن يستدل ببيت من الشعر على حدث تاريخي أي في كتابة التاريخ”، موضحا “ليس من شأنها التاريخ، إنما للرواية أدوار تيمية وجمالية وأيديولوجية”.
دور المؤرخ يختلف عن دور الأديب
من جهته، قال القاص حركاتي لعمامرة: “في الحقيقة طُرح هذا الإشكال من قبل وتباينت الآراء، حيث كان الإجماع على أنّ الرّواية التاريخية لا يمكنها أن تعوّض الكتابة التاريخية، وعلى العكس تماما، فالأديب لا يمكنه أن يكتب التاريخ بأدواته، والمؤرّخ بإمكانه أن ينتج نصا أدبيا”. وأضاف “الكتابة التاريخية تحتاج إلى أدوات تجعل منها حجة يستشهد بها، بينما الرواية التاريخية فهي قابلة للتأويل، وتفتقد إلى الحجج الدامغة، فهي تعج بالأفكار والأساليب الجمة التي تزيدها متعة ويزداد قارؤها إمتاعا، وخاصة إذا كانت الرواية ضاربة في أعماق التاريخ، وإن كانت تشيد ببعض البطولات المعروفة أو تنقل وقائع تاريخية، وعلى العموم، يبقى دور المؤرخ مختلفا عن دور الأديب قطعا، وتبقى هذه رؤية شخصية حول الموضوع الذي لم يعرف لليوم وقفة وسطية”.
الرواية التاريخية..جنس أدبي في قفص الاتّهام
ذكرت الكاتبة حورية عمران، أنّ التاريخ هو سلسلة من الأحداث وقعت في زمن ما، وتجسيد التاريخ كرواية أو ما يسمى بالرواية التاريخية أمر في غاية الصعوبة، مشيرة إلى أنّ الكاتب يعتمد بالدرجة الأولى على خياله واسقاط القيم التاريخية وفق ما يراه ووفق قناعاته الشخصية، وهو ليس مؤرخا يستنطق الوثائق والاحداث والآثار، بل هو فنان يطير بأخيلته ويبدع فيما يراه الأنسب لفكره وأيديولوجيته وقناعاته وتصوراته.
وأضافت أنّه برأي البعض فهو يتناول هذه الأحداث من وجهة نظر ذاتية ويغلب عليه العاطفة، “فمن بين الاتهامات لكتاب الرواية التاريخية التضليل والبعد عن المصداقية والتشكيك في أمور تاريخية، في حين يرى البعض الآخر أن الرواية التاريخية هي تاريخ بحد ذاته تستطيع القول ما عجز عنه في إظهار بعض الحقائق”.
باعتقادي – تضيف محدّثتنا – الرواية نافذة على التاريخ تعيد رسمه في قوالب فنيّة بعيدا عن الجمود، بالرغم من المساوئ التي تتخللها نظرا لطغيان أيديولوجية وفكر وعاطفة الكاتب، في حين يبقى التاريخ مادة دسمة تحتاج للكثير من الحبر.
وفي ذات السياق، أشارت محدّثتنا إلى الموضوع من جانب أكثر ميلا لمن يؤيد فكرة أنه يمكن للرواية أن يكون لها دور فعال في كتابة التاريخ، حيث قالت: “مهما تكلّمنا عن سلبيات الرواية التاريخية، فإنها تبقى جزءا لا يتجزأ من التاريخ، فيوما ما تصبح تاريخا في حد ذاته لما تناولته من أمور وأحداث تاريخية ما في حقبة ما، لكني أقول، يبقى التاريخ للكتاب والروائيين، والتأريخ للمؤرخين وذوي الاختصاص”.
وأضافت: “ما بين مؤيّد ومعارض للرواية التاريخية، تبقى أمور كثيرة مبهمة لا المؤرخ ولا الكاتب يستطيع تفكيك شفراتها، نحن نقف أمام معضلات تاريخية، والسؤال المطروح: هل نستطيع أن نطلق تسمية المؤرخ على الكاتب والراوي؟، وهل الرّواية التاريخية ستأخذ مكان التاريخ؟ وعليه فأولا وأخيرا، باعتقادي، تبقى وظيفة المؤرخ التدقيق والتمحيص وسرد الاحداث التاريخية، في حين الكاتب يعيد صياغة هذه الأحداث بقالب فني بحت مع الإثارة والتشويق، ويبقى التاريخ مادة تلهم الكتاب لنسخ ونسج قصص من أحداثه.
استعادة التّاريخ.. عملية سردية تخضع لآليات الحكي
يتّفق كثير من الكتاب والأدباء على أنّ الرواية قد تلعب دورا مهما في توظيف حقائق تاريخية، بقدرتها وجرأتها على تصوير واقع المجتمعات كما هي عليه، وتناول القضايا الكبرى التي شهدها ويشهدها العالم من أحداث هي مادة دسمة لبعض الكتاب الذين تمكنوا من فرض وجودهم في المشهد الثقافي من خلال هذا النوع من الكتابة الأدبية.
العديد من الكتاب الجزائريين اختاروا أن يخصّصوا جانبا من كتاباتهم للتاريخ، تاريخ الجزائر العريق والغني بالأحداث. روائيون استحضروا التاريخ والذاكرة بلمسة واقعية إبداعية، تجلب القارئ وتجعله يعيش اللحظات التاريخية الموغلة في العمق.
واسيني الأعرج: التّاريخ سند للكتابة الرّوائية وليس مادة مطلقة حقيقية
هي أحداث ووقائع تتطلب التنقيب بدقة عن هذا التاريخ، ونقله بأمانة للأجيال القادمة، كتابات قد تضع كاتبها على المحك، فقد تلقى الاشادة كما تلقى الانتقادات، على اعتبار أن المساس بمصداقية التاريخ خط أحمر..ولربما في هذا المقام لن نذهب بعيدا لنتحدّث عن (الرواية والتاريخ)، وإن كان ما يكتبه الرّوائي مجرد كلمات في كتاب يطلع عليها القارئ ثم يطوي صفحاته ويعتبرها مجرّد “خربشات”، أم أنّ وراء ما يكتب حكايات وروايات أخرى..
يقودنا هذا التساؤل – على سبيل المثال لا الحصر – إلى الحديث عن تجربة الروائي الكبير الدكتور واسيني الاعرج، وما أثير من نقاش حول عمله المقبل عن “حيزية” بما هي ملحمة إنسانية من التراث الشعبي الذي تتداوله الأجيال.
واسيني الأعرج..الرّوائي المقتدر، فاجأ قرّاءه حين قال: “بحثاً عن الحقيقة الغائبة، سافرت نحو حيزية على مدار الثلاث سنوات الأخيرة، معتمداً الحكاية الشعبية كمرجع مساعد لمعرفة الحقيقة”، وألمح إلى أن الشاعر بن قيطون هو صاحب الرواية الحقيقية ومحبوب حيزية، وأن المسألة ليست كما صوّرها المخيال الشعبي، وذهب واسيني إلى أنّ شخصية سعيّد لا علاقة لها بالأحداث، وأنه استمع عديد المرات إلى قصيدة بن قيطون، ولم يجد بها ما يدلّ على سعيّد، معتبرا أنه لا يمكن لأحد أن ينقل شعور العاشق ومرارة فقد الحبيب إلى من عايشه، وهو ما جعله يفترض أنّ قائل قصيدة “حيزية” هو نفسه عاشقها.
وجاءت المفاجأة الثانية حين أعلن الدكتور واسيني الأعرج أنّ “بحوثه تشير إلى أنّ حيزية لم تمت بسبب مرضها بل تمّ تسميمها ففارقت الحياة متأثرة بالسم”، مشيرا إلى أن بن قيطون حين يتحدّث عن موتها يصفه، وهو ما جعل واسيني يستخلص أنّ حيزية ماتت مسمومة.
وأثار موقف الدكتور واسيني الأعرج نقاشا ثريا، حيث انقسم النقاد والكتاب، وحتى القراء المبتدئون، بين من اعتبر الموقف “تزييفا لوقائع ثابتة وإعادة بنائها وفق رؤية الكاتب”، على أساس أن الكاتب يمكنه كتابة رواية تخييلية عن حيزية، غير أنّه لا يمكنه صناعة تاريخ حيزية بلا أي سند تاريخي أو توثيقي”، بل إن هناك من ذهب بعيدا، وتفرّع به الموضوع إلى أن قال: “تمنّيت لو كان الابداع والنقاش بين الشغوفين بالرواية التاريخية والنقاد في مواضيع أخرى ذات أهمية أكثر، كتعرية جرائم فرنسا”، وواضح أن هذه الأمنية، لا علاقة لها بموضوع النقاش.
وفي الجهة المقابلة، هناك من رأى أنّ رؤية الدكتور واسيني الأعرج طبيعية، فذهب إلى أن “قيمة قصة حيزية تكمن في رمزيتها الأدبية..لا يمكن اعتبار قصة حيزية حدثا تاريخيا هاما يرقى إلى مصاف الأحداث التاريخية الهامة في حياة المجتمع الجزائري..قصّة حيزية تتيح حرية أكثر للمبدعين عند معالجتها”..
واسيني الأعرج تحدّث عبر صفحته على “فايسبوك” عن الرواية التاريخية قبل أن تثير قراءته لقصة حيزية النقاش، فقد قال: “في الرّواية التاريخية الحديثة، ليس الرهان أن يكون الكاتب وفياً للزّمن ولكن لروحه..في الرّواية إيقاعات وموسيقى وألوان تتجاوز فعل التاريخ. الرّغبة السرية في الرواية التاريخية هي تدمير اليقين والدخول في صلب الإبداع، أي في نقيض ما تأسس على أنه الحقيقة الوحيدة والمطلقة، وإلا سيصبح كل شيء مجرّد ترديد وتنويعات على حقيقة مقدّسة لا يمكن لمسها أو مسّها..الكتابة سحر لأنّها تملك قوة الإقناع بوسائطها الفنية لا غير، ومن أراد غير ذلك، فليبحث عنه خارج الكتابة”..
وأضاف: “المشكلة التي تغيب كثيراً عن القارئ هي أن ما يراه تشويهاً قد يكون هو الكتابة عينها؛ أي لمسة الكاتب على القصّة التي تبدو خارج المدار المفترض اتباعه. أكثر من ذلك كله، فالكاتب ليس مكلّفاً بكتابة سيرة، ولكنه داخل عالم تخييلي مهما كانت تقاطعاته مع الواقع، يظل مستقلاً. سيعطي من عنده الكثير، لأنّ أيّة قصّة مروية عن الغير، تظل ناقصة عندما يريد الكاتب استثمارها. المادة التاريخية مادة بشرية وعلى القارئ أن يتقبل الأمر بعيدا عن القداسة، وبأنّ التاريخ سند في الكتابة الروائية وليس مادة مطلقة حقيقية”.
هـذه هي المشكلة..
يعتمد الأدب على التخييل، بينما يعتمد التّاريخ على الدقّة، فالأوّل إبداع إنساني ليس له حدود، أمّا الثاني فهو علم له قواعده الصّارمة، ويلتقيان في الرواية التّاريخية التي تُعتبر الجنس الأدبيّ الأكثر جذبًا للأضواء والجدل، فهي تتكوّن من وحدات سردية جميلة تتغذّى على أحداث تاريخيّة جافّة حسب رؤية الروائي الدكتور سليم عبادو.
يقول عبادو إن التّاريخ إذا كان مفيدًا لكتابة روايات تاريخيّة، بحيث يُمدّها بالمادة التي يستند عليها الرّوائي في كتابة روايته، فهو أيضا يضرّ بها بحيث يُكبّل الكتابة، ويفرض عليها نسق الأحداث الجافّة، فيُؤطّر السّرد الروائي ويخنق فيه حريّة التخييل والإبداع ممّا يُلقي بظلاله على المستوى الفنّي للسّرد.
أمّا الرّواية كما يوضّح محدّثنا، فبإمكانها إعطاء الكثير للتّاريخ، فهي تُخرجه من خانة المادّة الصمّاء الجافّة إلى خانة الحياة الإنسانية الممتدّة الحدود والأبعاد، فالرواية تُضيف للأحداث التّاريخية “الرّوح” التي تفتقد إليها، وتُبرز البُعد الإنساني والذي يغيب دومًا في دراسة التّاريخ التي تُركّز بالأساس على الأبعاد السياسية والعسكرية والاستراتيجية، متناسية الإنسان، بصفته محور كلّ ذلك، فتأتي “الرّواية” لتسبر أغوار هذا الإنسان، وتُؤنسِن كلّ الأحداث من حوله، فتُعيد له دوره المحوريّ فيها.
وأضاف الدكتور عبادو أن للرواية أيضا دور مهمّ في إعادة الاهتمام بأحداث تاريخية منسيّة، كانت قد بهتت بفعل مرور الزمن، فهي التي تبعثها من جديد وتجعلها تطفو على السطح، وتفرض على المخيال الجمعي إعطاءها المكانة التي تستحقّها من جديد، من خلال بعث النّقاش والجدل حولها بعد أفول، وتدمغ بها على مخيال الجيل الجديد الذي لم يُعاصرها، فتضمن بذلك ديمومة حضور الأحداث التّاريخيّة عبر الأجيال.
ويستند في ذلك إلى أنّ الرواية هي بمثابة تلوين للأحداث التّاريخية التي بدأت معالمها تبهت وتنمحي، فهي التي تُعطيها تلك الصّورة الزّاهية من جديد، فتُلبسها الجماليات التي يفتقر إليها التّاريخ الجافّ، لتُصبح مادة محبوبة عند القارئ ومطلوبة منه، لكن يجب أن يكون كلّ ذلك دون المساس بالشّكل الأصليّ للأحداث التّاريخيّة، فالتّغيير لا يجب أن يطال إلّا الحلّة التي تُقدَّم بها.
الرّواية تؤنسِن الوقائع وتستعيد للإنسان دوره في الحياة تاريخ الجزائر ملهم، ولا ينبغي أن يبقى في طيّ النّسيان
الوعي..حدّة النّظر والذّكاء القرّائي..مناط الرّواية التّاريخية النّصوص التي تصنع الألفة بين التّاريخي والفنّي..جديرة بالقراءة
من كلّ ما سبق، يؤكّد الدّكتور سليم عبادو قائلا: نستشفّ بأنّ على عاتق الرّوائيين مسؤولية كبيرة في هذا المجال، ويجب أن يُساهموا في صياغة الأحداث التّاريخيّة فنيًّا وأدبيًّا في قوالب جميلة، تُعيد لتاريخنا رونقه وجذبه، خاصّة عند الأجيال القادمة، فمَن لا يعرف تاريخه، لا يُمكنه أن يفهم حاضره، ولا يُمكنه أن يشقّ طريقًا صحيحا لمستقبله، معتبرا أن هناك كثير من الروائيين في الجزائر الذين اهتمّوا بالرواية التّاريخيّة وأبدعوا فيها، لكن تبقى هذه الجهود ناقصة وغير كافية، بحكم أنّ بلدًا مثل الجزائر له تاريخ حافل ومكتظّ وزاخر بالملاحم والبطولات والثورات، وكذلك المفارقات، ممّا يتطلّب انخراطًا أكبر من قِبل الروائيين في كتابة الرواية التّاريخيّة، وإعطائها الأهميّة التي تستحقّها في بلد صنع ويصنع التّاريخ على الدّوام، فمِن المُشين أن تبقى شخصيات وأعلام وأساطير من تاريخ الجزائر في طيّ النسيان وتُعاني من الجحود الثّقافيّ.
من جانبه، يعتبر الرّوائي علاوة كوسة أن الروائيُّ يتسلّل من مسامات الذاكرة إلى الأعماق التاريخيّة باحثا، متحققا، مشكاكا، لتبشّر رؤاه الفنيةُ بعدها بإعادة تشكيل لهذا التاريخ وفْق رؤاه، ووفْق ما يريده أن يكون، لا كما هو كائن، أو كما يجب أن يكون، مشيرا إلى أن الكثير من الرواياتُ العربيّة التفتت إلى التاريخ، ولكنّ القليلَ منها – بل النادرَ منها – من استطاعت أن تقاربه بوعي، وحدّة نظرٍ وذكاءٍ قرائيّ، والنادر جدا منها من استطاعت أن تحييه بعد مماته وأن تملأ المساحاتِ الشاغرةَ فيه وأن تنطق بالمسكوت عنه، إلا أن كثيرا من الروائيين – بلمساتهم الفنية- كانوا أكثرَ شجاعةً من كثير من المؤرخين ويبقى – حسب علاوة كوسة – أن النّصوص الروائية التاريخية الجديرة بالقراءة والاحتفاء والتقديم للقارئ هي النصوصُ التي تزاوج بين التاريخيّ والفنيّ، بألفة وفنّ وتُذيب كليهما في الآخر، فلا نكاد نحسّ لحظة َالقراءة بجفاف المادّة التاريخية ولا بالنشوز الفنيّ.
الكاتب كمال زايدي: ”الرّوايـة” لها إضافـة تقدّمها لـــ “الحقيقـة”..
إنّ علاقة الرواية بالتاريخ هي علاقة إشكالية جدا، خاصة داخل الفضاء العربي الذي تمثل فيه الأحداث والشخوص التاريخية إرثا مقدسا، على خلاف الفضاءات الأخرى منها الأوروبية بالخصوص، والتي من النادر أن تحرك الرواية فيها نقاشا إذا تلاعبت ببركة التاريخ، إلا في حالات قليلة مثل ما حدث مع “دان براون” وروايته “شفرة دافنشي”.
يمكن أن تكون الرواية تعويضا عن التاريخ بتعبير كارلوس فونتيس، وقد تقول ما لا يستطع التاريخ أن يبوح به، لكن هل يمكن اسقاط هذا القول على “الثابت” التاريخي العربي؟ الأمر مختلف في اعتقادي بين طبيعة الأحداث وقيمة الشخصيات داخل السياقات التاريخية عاطفية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية، فأسماء مثل عبلة أو ليلى العامرية هي شخصيات عاطفية وقبلية وحكاياتها جاهزة لتقديم قيمة خصبة للتخييل الروائي بل مستفزة جدا للكتابة والاشتغال على الحكي، ولا يمكن أن ترقى بتعبير الدكتور عبد الحميد بورايو إلى شخصيات تاريخية ثقيلة ومؤثرة زمنيا وارتباطها مقدسا بالأحداث مثل شخصية الأمير وغيره من الأسماء الكبيرة .
صحيح أنّ التاريخ والرواية كلاهما يرتكز على معين واحد، ليصنع سرديته الخاصة، غير أنّ مأمورية الرواية أكثر تكلفة لأنها ملزمة أن تقدّم نصّا عميقا ومقنعا باعتبارها تؤثّث خطابها بجمالية مرتكزة على آلية خطيرة جدا هي “التخييل”، الأمر إذن يعود إلى قدرة الروائي في القبض على المعالم المهمة للأحداث والشخوص التاريخية التي يقدّمها داخل النص كي يتقبلها المتلقي بدهشة وشغف من دون أن تضعه أمام حيرة “الحقيقة” التاريخية.
عندما كتب الرّوائي الجزائري الطاهر بلحيا رواية “سلاطين الرمل”، كان يشتغل على مادة تاريخية شفوية تتعلق بجزء من الأحداث التي عاشتها الثورة الجزائرية في خطاب المسكوت عنه، فالكاتب استطاع بقدرته السردية أن يوارب التاريخ السائد آنداك، ويقدّم حقيقة تاريخية مهمة، عجز المؤرخون في فترات متلاحقة الإشارة إليها ولو تلميحا، الأمر ينطبق أيضا على رواية “كولونيل الزبربر” للروائي الحبيب السايح الذي اشتغل على سياقين مختلفين، الثورة التحريرية ومحنة التسعينيات، بقدرة سردية فائقة جدا، موغلا في دغل تاريخي مملوء بحقول ملغّمة، لكنه استطاع بتقنياته العالية في الحكي، أن يضع القارئ أمام جزء فاصل من تاريخه، وهذه هي الإضافة التي تقدّمها الرواية للحقيقة، فما بالك إذا اشتغل الروائي على تيمة قصصية ترتكز على أبعاد عاطفية قبلية، لن يكون لها تأثير خارج هذه الدائرة إذا قارناها بمن تناولوا أحداثا أو شخصيات تاريخية عظمى.
الكاتب والإعلامي علي شدري معمر: هنا يتجلى الصراع بين الحقيقة والخيـال
يؤكّد الكاتب علي شدري معمر، أنّ القضايا التاريخية التي تناولها الرّوائيون في أعمالهم الإبداعية، أثارت ردود أفعال متفاوتة بين متقبّل للعمل ومنكر له، وقال إنّها من صميم إبداعهم ككتاب مبدعين رأسمالهم الخيال، فلا نحاسبهم على التفاصيل الدقيقة للأحداث التاريخية، فهناك من النقاد والدارسين من يكيلون الاتهام للروائي لأنه منحاز لوجهة نظر تاريخية على حساب وجهات نظر أخرى، حتى كأن هذا الكاتب الروائي يسلط الضوء على مرحلة تاريخية معينة تخدم أيديولوجيته أو إيديولوجية جهات معينة طمعا في الفوز ببعض الجوائز، وانتشار عمله الروائي على نطاق واسع، وهذا مطمح كل كاتب..فأين الحقيقة من كل هذا وكيف نظر النقاد إلى تناول الرواية للقضايا التاريخية؟
في البداية – يقول محدّثنا – ينبغي أن نفرّق بين التاريخ والتأريخ هكذا يقول الكاتب زياد الأحمد: “نبدأ بالتفريق بين التّاريخ والتأريخ: فالتأريخ بالهمزة: هو الكتابة عمّا حدث أمّا التّاريخ فهو إعادة قراءة ما حدث، وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة التاريخيّة، ومن هنا كان الإشكال بين الرواية والتاريخ وليس التّأريخ (بالهمزة) لأنّ الأديب يقرأ الأحداث بعينين: الأولى واقعية والثانية تخييلية، ويعيد كتابتها في بنية فنية”، فالكاتب ليس مؤرخا ينقل الأحداث كما وقعت نقلا حرفيا، بل هو فنان يملك القدرة على التخيل فيستلهم من الواقع التاريخي مادة للأعمال الروائية يصبغها بذاته وتصوراته، ويسقطها على الواقع المعاصر، وكل هذا في عمل بنائي فني جمالي مبهر.
والسؤال المطروح هل الرّواية تمثّل تعويضا للتاريخ وبديلا عنه؟ فحسب كارلوس فونتيس الروائي وعالم الاجتماع المكسيكي (1928-2012)، فإنّ الرواية هي تعويض للتاريخ فهو يقول: “أعتقد أنّ الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله: نحن كتّاب أمريكا اللاتينية نعيد كتابة تاريخ مزوّر وصامت، فالرّواية تقول ما يحجبه التّاريخ”.
وحتى يخرج النقاد من هذا الجدل حول إشكالية الرواية والتاريخ، واتهام الرّوائي في كثير من الأحيان، أنه يشوه الحقائق التاريخية لحساب قراءة منحازة إيديولوجية، كما حدث للروائي الشاب “عبد الوهاب عيساوي” في روايته الفائزة بجائزة البوكر العالمية “الديوان الإسبرطي”. في تقديمه لكتاب “الرواية والتاريخ، وقائع الأرشيف ومجازات السرد” لصبحي حديدي يقول الكاتب محمد بكري: “دعا عبدالله إبراهيم، في كتابه “التخيّل التاريخي” إلى إحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” (الذي يعني المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية) محل مصطلح “الرواية التاريخية”، مؤكدا أن هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ويفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، كما أنه سوف يحيّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ ولا تعرّفها، إنما تبحث في طيّاتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وبين التماثلات الرمزية فيما بينهما، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها”.
بهذا – يقول شدري معمر – يتحرّر الكاتب من تهمة تزوير التاريخ، فلا يحاكم وكأنّه مؤرّےخ ينقل الأحداث والوقائع كما هي، وإنما سارد يعتمد في كتاباته على مخيلته، وإن كانت مستندة على مادة تاريخية فكتابته هي تاريخ متخيل أو خيال يركن إلى فترة تاريخية معينة.
النّاقد والباحث الأكاديمي محمد الأمين بحري: ”الرواية” دون تاريخ ورؤى فلسفية ليست شيئا مذكورا..
يطرح النّاقد والباحث الأكاديمي، محمد الأمين بحري، مجموعة من الأسئلة في صلب إشكالية “الرواية التاريخية”، ويؤكّد أنّ “الرّواية” بما هي جنس أدبي لا تكون في مستوى طبيعتها الأجناسية إن لم يكن لها تاريخها ورؤاها الفكرية والفلسفية..سألناه في الموضوع، فأجاب قائلا:
يقول الدكتور محمد الأمين بحري: إنّ أولى إشكالات التخييل الروائي التي يمكن أن تثار حول علاقته بمرجعه، هي: هل التخييل يرفد مرجعه ودعمه رؤيويا وموقفيا، وفكرياً حين يقوم بتسريده؟ أم إنّ محاولة تخييل التاريخ وإعادة صوغه المخيالي هي في حدّ ذاتها تمرّد على هذا المرجع، وصراع شبيه بأي صراع آخر بين الفني والواقعي لرسم تلك المسافة الجمالية التي تميز هوية الفن على مسافة نقيضة من قوانين الواقع ومباشرته؟ أم أن هناك بالفعل صراع بين التخييلي والواقعي، ومحاولة من المخيال الروائي، التمرد على مرجعه، وتأسيس معماره الفني على أنقاض مرجعه، عن طريق وسائل (أسلحة اجتثاث) فنية عدة أهمها القناع؟ أي: الشخصيات المقنَّعة بمواد ومؤثرات المخيال السردي التي تتلبس الشخصيات التاريخية المرجعية، أو الشخصيات الخيالية البحتة (التي لا مرجع واقعي لها) المختَلَقة، داخل الأحداث، والمزروعة بين تلافيف القصص التاريخي، من أجل تحويل المجاري الباطنية للأحداث الكبرى التي يشتغل النص السردي، وتحويل أو وتوجيه المنظورات القرائية نحو زوايا وأبعاد أخرى للوقائع، تخدم منظور الكاتب لا التاريخ.
إلغاء البنى السردية من “الرواية” مستحيل ثقافة المعارف التاريخية ليست كافية لكتابة الرواية التاريخية
لهذا ربما لا تسرد الرواية مهما كان نمطها التخييلي، ولونها السردي سوى التاريخ – بالمفهوم الإنساني الأشمل – إذ كيف تريد أن تكتب أيها الروائي عن الإنسان دون أن يداخل نصك تاريخ هذا الإنسان، بل كيف تتحدث عن فترة زمنية بنص يحتمل بناء زمنياً، ومكانياً، وشخصيات، وأحداث وقعت أو تحتمل الوقوع، دون أن يكون خطابك تاريخياً، إن بنيات السرد هذه هي بنى مأخوذة عن التاريخ والواقع البشريين بالأساس، لذلك فالرواية دون تاريخ ورؤى فكرية وفلسفية لا يمكن أن تكون شيئاً. لذلك يستحيل إلغاء دور البنى السردية من زمن ومكان وشخصيات وأحداث لمن أراد أن يكتب في هذا الفن، غير أن التاريخ في الرواية يبقى موضوعاً محايثاً لسردها على الدوام، فقد يبتعد به التخييل فلا يتجلى على السطح رغم سريانه في أوصال النص، وقد يقصد إليه الروائي قصداً فيكون بارزاً كموضوع ورهان للسرد، سواء أكانت الرواية تاريخية النوع أو قائمة على توظيف التاريخ من بين مواضيعها.
وهنا يجد الرّوائي نفسه أمام مُساءلات القراء سواء من شركاء الأدب وفنونه أو من شركاء التاريخ وبحوثه: كيف تريد أن تكتب أيها الروائي عن الإنسان، دون أن يداخل نصك تاريخ هذا الإنسان؟ بل كيف تتحدث عن فترة زمنية بنص يحتمل بناء زمنياً، وفضاءً مكانياً، وتَمَثُّلاً شخوصياً، وإسقاطات وقائعية، ومواقف سردية، ورؤى لهذا العالم، دون أن يتقاطع ما تكتبه مع التاريخ والواقع بشكل من الأشكال؟ ذلك أن أهم بنيات التأثيث في الرواية (زمن/مكان/ شخصيات/ أحداث) هي بنات التاريخ والواقع في الأصل، لذلك فالرواية دون تاريخ أو رؤية للعالم، أو توظيف واشتغال عليهما لا يمكن أن تتخذ بنيتها الحكائية وهويتها السردية وتمفصلها الروائي في أي لون كان.
لذلك فالمعرفة بالتاريخ وحيازته كثقافة للكاتب والنص ليستا كافيتين لكتابة روائية للتاريخ، بل يجب اكتساب آليات تسريده، أي تزمين الزمن، تأثيث الفضاء، وتجسيد الشخصية ومعايشة الحدث، فنياً. فما معنى المعارف التاريخية إذا لم يفلح الكاتب في المعايشة المخيالية لما يكتبه؟ وبث الحياة في التفاصيل ونقلها في صور ومشاهد تعيد بث الحياة في حدث مضى؟ وتزرع فيه محكيات ضمنية متخيلة دون أن تمس بصدقيته الموضوعية المعروفة لدى القراء؟
فهل يكتب الرّوائي عن التاريخ، كما يشاء التاريخ (كموضوع)؟ أم كما يشتهيه هو (كذات تحمل موقفاً)؟ أم كما يشاء الأدب ويقتضي تخييل الرواية (بشكل حواري منفتح على مختلف الذوات والموضوعات)؟ تنطرح هذه الرؤى الثلاثة في مختلف الأعمال السردية ذات البعد التاريخي بشكل متفاوت، لكن يبدو أنّ تذويت التاريخ وإخضاعه لوجهة نظر الكاتب كان الأكثر هيمنة على تسريده مخيالياً لدى الروائي العربي عموماً والجزائري خصوصاً، دون كثير عناية بما يقدسه التاريخ ويقتضيه، ولا بما يحدده هذا النمط السردي ويرتضيه.
وباعتبار التخييل هو رسم الكاتب لمسافة جمالية بين نصه وبين الواقع – حيث كلّما اتسعت هذه المسافة تحقّقت شعرية السرد وجمالية التخييل، وروائية الرواية – فقد اشتغل هذا التخييل بين أجيال الرواية الجزائرية بمستويات متعدّدة المسافات الجمالية عن الواقع، في نمو حلقي أفاد كثيراً من واقعه الحوادثي المحلي والإقليمي والعالمي، ما جعل خطابه يتدرّج، دون أن يحدث أية قطيعة.
النّاقد والباحث لونيس بن علي: الخيال ليس مرادفا لــ“الكذب”
ما زلنا ننظر إلى الخيال الأدبي بأنه نقيض الحقيقة التاريخية، الأمر الذي انعكس على الرؤية العمومية لوظيفة الأدب، خاصة في علاقته بالحادثة التاريخية. بعيدا عن هذا الموقف، ما الذي يستطيع الأدب أن يضيفه للحقيقة التاريخية؟ ولماذا يلتجئ الرّوائي إلى الخيال للكتابة عن التاريخ؟
تتوقف الإجابة عن السؤالين بمدى فهمنا للخيال الأدبي ودوره في العملية الإبداعية، وهذا يستدعي تصحيح بعض التصورات التي تجعل الخيال مرادفا للكذب.
الأمر متعلق أيضا بما يصمت عنه التاريخ، إما تلك التفاصيل الغائبة بسبب نقص الوثائق والأدلة التاريخية، أو تلك المساحات البيضاء التي تنتمي إلى المكبوت التاريخي، أو ذلك الاستحواذ الذي تمارسه الكتابة التاريخية عندما تحتكم إلى الولاء للمراكز. وفي كل هذه الحالات، تظل الحقيقة التاريخية ناقصة وغير مكتملة وموجهة، ممّا يسمح للخيال الروائي بالتدخل للكشف عن المهمل، أو ترميم الناقص، ولما لا تصحيح التاريخ نفسه. قد يستغرب البعض: وهل يستطيع الخيال أن يكون بديلا للتاريخ؟ في تصوّري، فإنّ استعادة التاريخ نفسه هو عملية سردية، تخضع لآليات الحكي، أي أن كل ما يمر عبر آلة السرد، حتى لو كان تاريخا، يكون أقرب إلى التأويل منه إلى التقريرية.