يثير الكاتب نورالدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”، وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في المانيا.
مالقة: الحسناء الثّكلى الأسيفة
هبطت بنا الطّائرة على الأرض، فخرجنا من جوفها سراعا الى بهو المطار، وكان الأمر يُسرا فلم تمرّ إلاّ دقائق معدودة حتّى وجدتني خارج المطار أسأل عن القطار الّذي يذهب الى وسط المدينة.
تملّكني شعور بالغثيان فور وصولي الى المحطّة بوسط المدينة، فما أن خرجت الى بهوها حتّى طالعتني أفخاذ لحم الخنزير المقدّدة، بعضها معلّق على أبواب المحلاّت التجارية وبعضها مصفوف على مباسط المطاعم. والباعة والخدم يقطعون منها شرائح يقدّمونها للزّبائن على أطباق من زجاج أو مع قطع الخبز الطّازج. لقد أذكت هذه الصّورة الرّغبة في نفسي في أن أعجّل الخطا وأغادر البهو من دون أن ألتفت الى ما في أكنافه من قبحٍ أو جمال.
كانت هذه هي الصّدمة الأولى لي بمالقة فلم أشعر بحسن الاستقبال فيها وأنا الّذي كان يمنّي نفسه أنّها ستقابله بتينها ولوزها الّذي بلغ صيته الأقطار وكتب عنه ابن بطّوطة في تقرير رحلته قبل سبعة قرون في “تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” فقال: “وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب” غير أنّ الحميري كان أكثر ايضاحا وتفصيلا من ابن بطُّوطة فقد جاء في كتابه (الروض المعطار في خبر الأقطار) عن جودة تين مالقة وشُهرته: ” وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التّين المنسوب إليها، وهي تُحمل إلى مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبًا وعذوبةً. وكان يُقام في أيام جني ثمار التين عيد يحتفل به أهل مالقة وأعيانها. واشتهرت مالقة بزراعة الجوز و فاكهة اللّوز بمالقة ليس لها نظير في الأرض، كما اشتهرت بزراعة الموز والسّكر والرّمان والزّيتون”
إستدركت حالي في الحين وخاطبت نفسي: إنّ مالقة التي تزورها اليوم ليست هي مالقة التي في خيالك وليست هي مالقة التي زارها ابن بطّوطة قبلك. وإنّ الغثيان الّذي شعرت به كان من وحي صبغة الإسلام التي صُبغت بها، ومن وأغوار البيئة التي جِئت منها ومن طوايَ الثّقافة التي تربّيت عليها، فتجاهل الّذكريات والصُّور التي رُكبت في خيالك، أو أرجئها الى حين تأوي الى حجرتك و تجلس الى مكتبك لتسجّل ذكرياتك ومشاهداتك، وعِش الآن واقعك، واستمتع بلحظتك.
عندما وصلت الى وسط المدينة كانت السّاعة الثّالثة بعد الظّهر، وكان الجو حارّا وقد تغشّته رطوبة خانقة. وكان في الوسع استساغة حرارته، ولكن الرّطوبة فلم تكن لتُطاق.
أشرعت بصري ورحت أتملّى في الغادين والرّائحين لعلّي أجد وجها يُؤلفُ فأسأله عن الطّريق الّذي عليَّ أن أسلكه كي أبلغ الفندق الّذي حجزت فيه، وكان لي ما أريد وما بخل الطّيّبون من أهل البلد والغرباء بالتّوجيه فاسترشدت بتوضيحاتهم حتّى وصلت الى الفندق المرغوب ليس بعيدا عن القصبة النّصريّة.
دخلت حجرتي التي استأجرت وقد بلغ منّي إعياء السّفر، وسُهاد اللّيلة السّابقة مبلغهما فأحسنت ظنّي بالنّوم هذه المرّة وقلت أنّه لابُدَّ أن يُداعب جفوني، وأنّه لابُدّ أن يتغشّاها فاستبدلت ملابسي وألقيت بنفسي على السّرير. لكنّ مشاعر الشّوق وحبّ الاستكشاف التي استبدّت بي كانت أشدّ عليّ من عذابات الطّريق ونصب السّفر. فهببت لتوّي خارج الفندق أدفع رجلاي دفعًا، واندفعت بين أزقّة المدينة صوب القصبة، وصوب قلعتها.
كانت السّاعة السّابعة مساءً عندما وقفت في السّاحة أتأمّل القصبة والمدينة والميناء، وأجول ببصري فيما حولي.، فانضافت كَدمة الى الكدمات السّابقات وأنا أحملق في المباني الشّاهقة والفنادق الفخمة وأخلاط من البشر بمختلف ألوانهم، وهويّاتهم، ومشاربهم، وأهوائهم يروحون ويغدون أمامي ومن ورائي. فصاح صاحٍ من أعماقي. إنّها ليست مالقة الإسلاميّة التي في خيالك والتي طبعتها في ذهنك كتابات الحِميري وابن بطّوطة والمَقري. إنّها مدينة غربية ساحليّة حديثة وما أخلاط البشر المارّين أمام ناظريك إلاّ غرباء مثلك جاء بهم همّ الاستجمام، والاستبحار على شواطئها، أمَّا أنت فجاء بك همّ التّاريخ والحضارة. لقد ذهب جلّ رسم المدينة القديمة، ولم يبق منها إلا شهير اسمها.
ولولا باعك القليل من التّاريخ ولولا هذه القصبة والقلعة وحفنة الدّور المقابلة لهما، ولولا تلك النّخلات الباسقات على شاظئها التي ألمحت لك أنّها غريبة مثلك، لما انتبهت إليها ولمررت من دون أن تدرِك ماضيها و تاريخها.
دارت بي الدّنيا وضاق بي مشهد المدينة الحديثة الصّاخب ثمّ إنزوى تمامًا من أمامي لأرى مالقة الاسلاميّة وأعيد رسم صورتها التي رسمها الحميري وابن بطّوطة في طوايا ذاكرتي أمّا الحِميري فدوّن: مالقة مدينة على شاطئ البحر، عليها سور صخرٍ، والبحر في قبلتها وهي حسنة عامرة آهلة، كثيرة الدّيار، وفيما استدار بها من جميع جهاتها شجر التين المنسوب إليها، وهي تحمل إلى مصر والشام والعراق، وربما وصل إلى الهند، وهو من أحسن التين طيبًا وعذوبةً، ولها ربضان كبيران وشرب أهلها من الآبار ولها وادٍ يجري في زمان الشتاء وليس بدائم الجري وبها مبانٍ فخمة وحمامات حسنة، وأسواق جامعة كثيرة في الربض والمدينة.
وأمّا ابن بطّوطة فدوّن عن جمال مالقة ومناعة حصونها وعن حسن أرباضها وبركة مسجدها. فقال: هي إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان، جامعة بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه. رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير، ورمّانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا. وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب وبمالقة يُصنع الفخّار المذّهب العجيب ويجلب منها إلى أقاصي البلاد ومسجدها كبير الساحة شهير البركة، وصحنه لا نظير له في الحسن، فيه أشجار النارنج البعيدة.
عدت الى واقعي وهتف من أعماقي هاتف يقول: إنّ مالقة اليوم مدينة اسبانيّة تقع في جنوب شبه الجزيرة الايبيريّة في منطقة الأندلس الصّغرى، وتُطلّ على البحر المتوسّط وميناؤها هو أهمّ ميناءٍ في اسبانيا بعد ميناء برشلونة. وأوّل من أسّسها وأسماها بهذا الاسم هم الفينيقيّون، وما عنوا به إلاّ الملح ذلك أنّ في شواظئها كانت تُملّح الأسماك ثمّ تشحن الى باقي البلدان.
ولقد بناها الفينيقيّون على نفس الرّبوة التي تقوم عليها القصبة الاسلاميّة وقلعة جبل(المنارة)الفارو. فتحها المسلمون المرّة الأولى سنة 92ه فتحًا هامشيًّا قصيرًا ولمّا لحق الجيش الّذي فتحها بالجيش المتوجّه إلى إلبيرة وغرناطة استعاد أهل مالقة المدينة من الحامية التي بقيت بها فأرسل موسى بن نصير ابنه عبد العزيز فأعاد فتحها فتحّا كاملاً بقيت بعده جزءًا من دِيار الاسلام الى أن استولى عليها نصارى الشّمال.
وفي موسوعة المعرفة أنّ مالقة قامت بدورٍ تاريخي كبير في البناء السياسي والاقتصادي لدولة الإسلام في الأندلس على عصر الطوائف والمرابطين وبلغت قمة مجدها في عصر الموحدين وأكثر منه في عصر النصر يين وتم إخضاع مالقة إلى حكم المرابطين عام 483هـ بعد معركة الزلاقة وفي عام 547هـ سلم اللّوشى المدينة للموحّدين. وفي عام 625هـ وبعد ضعف الموحدين ضم محمد بن يوسف بن هود مالقة إلى مملكته، وظل حاكمها حتى توفى.
قامت المسيحيّة بمحاولات للسيطرة على مالقة عامى 887هـ و 888هـ ولكنها فشلت بفضل استبسال الزغل الذي تولّى الحكم فيها بدلاً من أخيه-، ثمّ عادت المحاولات من قشتالة مرّة أخرى واستطاعت السيطرة على مالقة بعد حصار طويل وذلك في عام 892هـ. وقد أدّى دخول الإسبان إلى المدينة إلى وقوع مجزرة تفوق في دمويّتها مجزرة سربرنتشا بالبوسنة.
كلّ ما في هذا المكان يُثير الشّجن ويبعث على الحسرة والأسى. أشحتُ بوجهي عن القصبة وعن قلعتها وقلبي يعتصر ألما، واندفعت الى وسط المدينة فقد بلغ منّي الإعياء مبلغه وعضّني الجوع عضّا أليما، ويجب أن أتزوّد بزاد البقاء في هذه الحياة، ويجب أن أخلد الى نومٍ عميق أسترجع به قوى جسدي وصلابة أعصابي.
في اليوم التّالي العاشر من شهر أغشطش. ذهبت في الصّبيحة الى زيارة القصبة والقلعة تغمرني رغبة وشهوة لاستكشاف ما بين أسوارهما. وبدا لي أنّ السّعد قد غضّ من أجفاني فقد كان الأمر سهلا، وكان الزّوّار يأتون فرادى أو في مجموعات صغيرة. وفي هنيهة قطعت تذكرة ودخلت.
لا زلت أذكر أنّي قبل أن ألج بابها شعرت باشمئزاز قلبي وانقباضٍ صدري وغُصّة في حلقي، لمّا قابلني الصّليب الّذي غرسه الطّاغية فرديناندو سنة 1487م عند مدخلها لمّا استولى على المدينة و قصبتها.
تقع القصبة في أعلى الرّبوة وهي تُطلّ على المدينة من جهة وتُطلّ على البحر من جهة وتلفُّها ثلاثة حصون لم يبق منهم اليوم إلاّ حِصنين (سورين) يمكن تمييزهما.
الحصن الخارجي وفي مدخله بوّابة كبيرة عند المنخفض تنكفئ على نفسها تجعل من الصّعب التّقدّم الى القصبة واقتحامها.
وأمّا الحصن الدّاخلي خلف الحصن الخارجي ولا يُمكن دخوله إلاّ من خلال بوّابة واحدة تقع في الجهة الغربيّة، وفي داخل هذا الحصن يقع القصر الرّئيس.
والقصبة في تصميمها ابداع فنّي جليل وعبقريّة عسكرية عجيبة. أوّل من بناها هم بنو حمّود الأدارسة في القرن الحادي عشر بداية قيام عهد ملوك الطّوائف ثمّ زاد في تصميمها الموحّدون في القرن الثّالث عشر و بنو نصر في القرن الرّابع عشر.
ولا تختلف الكتابات الحديثة عن الكتابات القديمة في وصف القصبة ووصف قلعتها إلاّ في اللّغة التي يستعملها كلّ جيل. فالكتابات القديمة تصفها أيضًا:
بأنّها مدينة عتيقة، حصينة فخمة، قد طالت صُحبتها للزمن، فأخذَت أُهبة الاستعداد لحوادث الفتن، كادت أبراجُها تلتقي انتظاماً لقُرب مسافةِ بعضها من بعض، وباطن الداخل منها قصر وبعض البيوت.
وفي أعلى القصبة قلعةٌ عظيمة تُسمّى قلعة جبل الفارو، قد رُصَّ بناؤها رصًّاً، ينتظمها سورٌ عتيق البنية مُشيَّد البُروج وتتّصل بها. وهي قلعة شهيرة الامتناع بائنة الارتفاع معدومة الشبيه والنظير في البقاع فسبحان من أحكم تقديرها وتدبيرها وابدع كيف شاء تصويرها وتدبيرها. وآخر من حكم مالقة هو الأمير أبوعبد اللّه الزّغل، وآخر من دافع عنها القائد حامد الثّغري.
مازالت الآبار والينابيع والسّواقي التي أبدعها المسلمون الى اليوم، ومازال ماؤها يجري في تناغمٍ بديع، لينساب في جداول بين شجر النّارنج، واللّيمون وأحواض الورود، والزّهور،فينهب منه العشبُ والزّرع والخمائل فرصتهم.
وما زال خرير الماء ينشفُ الآذان برنّات صوته المُترقرق. وألوان الأزهار وروائحها الزّكيّة التي تسري في نسمات الطّقس، وزخارف الجدران وتصاميم المكان تُحدث صداها في فؤادِ النّاظر والمُصغي إليها. فتذهب عنه الضَجر، وتزيل عنه صدأة الهمّ لتغشاه السَّكينة والانشراح، فتغمره نشوة البقاء في الحياة.