يستمد مسرح الشارع جذوره من مختلف التجارب المسرحية عبر التاريخ، ويهدف، كما يظهر من تسميته، إلى التواصل مع الجمهور خارج المسارح متحديا القيود التقليدية، بجلب الفن الحي إلى الناس في حياتهم اليومية. ويعتمد هذا النوع من المسرح على الابتكار والانفتاح والتفاعل مع المتلقي بطرق مبتكرة، من أجل إيصال الفن والثقافة إلى جمهور أوسع، مجانا أو بتكلفة منخفضة، ولتعزيز الوعي لدى أفراد المجتمع.
يُعد مسرح الشارع فنًا ذا أصول قديمة واسعة الانتشار في مختلف ثقافات العالم، ويتميز بقدرته على إيصال الأداء المسرحي والتعبير الفني إلى الجماهير في الأماكن العامة، مخترقًا الحدود المسرحية التقليدية. كما يُمثل وسيلة لتعزيز التفاعل المباشر بين الفنانين والمشاهدين، ومنصة للتعبير الفني وتواصل الأفكار والقضايا الاجتماعية.
الجذور والخصائص
يذهب د.حبيب بوخليفة إلى أن مسرح الشارع يستمد جذوره من مختلف التجارب المسرحية عبر التاريخ، فهو مرتبط بمفهوم الفضاء المفتوح للمجموعة البشرية، ولم تحدده أطر أو بروتوكولات تنظيمية مثلما هو الفعل المسرحي للعلبة الإيطالية. وقد ازدهر في أواخر القرون الوسطى في أوروبا بداية عصر النهضة بظهور الفرق البهلوانية التي كانت تقدم عروضا كوميدية مرتجلة مثل “الكوميديا ديلارتي” الإيطالية و«السكماروخي” في روسيا، وعدد كبير من الفنانين في مختلف الفنون الذين كانوا يقدمون مهارتهم للعامة ودون مقابل حتمي، بل بإرادة المتفرجين، ثم تقلص بعدما ظهرت بنايات المسارح الضخمة في القرن الثامن عشر إلى غاية بداية القرن العشرين. كما يرى بوخليفة أن أهداف مسرح الشارع ليست ترفيهية أو ثورية فقط، بل تتعدى ذلك إلى إحياء الوعي الجمعي والاهتمام بقضايا الأمة، وتربية الأجيال على ذوق الفن المسرحي بشتى أشكاله وأنواعه.
أما الناقد عبد المالك بن خلاف فيلاحظ في تصريح سابق أن مسرح الشارع متعدد الأشكال، وقد تواجد وما يزال متواجدا في أنحاء عديدة من العالم. كما اتخذ مسرح الشارع العديد من المسميات، على غرار “مسرح المقهورين” عند البرازيلي “أوغوستو بوال” أو حتى مسرح الارتجال.
ويعرّف د.بشار عليوي مسرح الشارع بأنه “كل عرض مسرحي يُقدم في الشارع والساحات والأماكن العامة، متخذا من الناس المتواجدين عشوائيا جمهورا له، ومستلهما موضوعاته من الواقع اليومي بهدف إيصال أفكاره عن طريق المشاركة التفاعلية مع العرض.” وهكذا فإن عليوي يرى أن عروض مسرح الشارع تمتاز بالتفاعلية بينها وبين الجمهور، لذا وجدت بعض الدراسات، حسبه، أن هذه العروض هي “دراما تفاعلية” توصف بأنها “شكل جديد من المسرح يتبنى الأشكال التقليدية ويقلبها رأسا على عقب.” وبوصفها دراما تفاعلية، فإن هذه العروض تسعى إلى أن يكون المسرح أداة من أدوات تغيير أنماط التفكير لدى أفراد المجتمع، وطرح مفاهيم جديدة حينما تقدم في أماكن غير تقليدية.”
كما يختلف جمهور مسرح الشارع عن الجمهور الذي يرتاد المسرحية المقدمة في بنايات المسارح المغلقة، يضيف عليوي، لأن الحوار مع الجمهور أحد أبرز دعائم مسرح الشارع، ويستخدمه الممثلون في جذب الجمهور والتشابك معه، وأحيانا استفزازه لإخراجه من حالة المشاهدة السلبية للعرض، إلى حالة المشاركة فيه.
وحسب د.سافرة ناجي، فإن الإنسان يرتبط بالشارع لأنه “فضاء لتحقق كينونة المدينة وكينونة الإنسان في آن واحد. فهو يمثل الحمولة الثقافية الكلية لأي ثقافة.” كما لا يمكن فصل الإنسان عن الشارع في الحياة المعاصرة، لأنه يجمع بين دالتين: دالة معمارية وأخرى ثقافية. فضلا عن أنه وسيط اتصالي بين الإنسان والمدينة. من جهة أخرى، يرتبط مسرح الشارع بالفضاء العمومي بعلاقة جدلية، إذ لا يحقق ذاته المسرحية إلا عبر مسارات الفضاء العمومي، وكل منهما يحقق حضور الآخر، “وكلا المصطلحين هما دعوة لمغادرة الصورة التجريدية لمفاهيم الفلسفة والجمال المسرحي، والاشتغال على أن يكون المسرح ذا فعل عضوي ومحرك لفضاء المدينة العام الفكري والسلوكي.”
مسرح الشارع في الجزائر
ومن الناحية الشعبية، يشير بن خلاف إلى وجود مظاهر احتفالية شعبية كانت تنظم في الشوارع مثل الفرجة، البوغنجة، واحتفاليات طلب الغيث والختان، و«القوال” في الأسواق. وبخصوص هذا الأخير، يرى بن خلاف أن ما يقدمه القوال يحتوي بالفعل على جميع مقومات العرض: النص، الجمهور، الممثل.. بل إن فن القول يتطلب براعة كبيرة في التمثيل، ويتجاوز ذلك إلى إجادة الغناء واستعمال البندير، والتعبير الجسماني والإلقاء بأنواعه.
من جانب آخر، فإن حركة مسرح الهواة أسّست لمسرح الشارع، يقول بن خلاف، وبفعل حرمانها من القاعات، اضطرت الفرق أن تعرض إنتاجها في الشارع، ومن هنا اضطرت هي الأخرى إلى أن تصمّم عروضها وفقا لهذه الضرورة. أما مسرح الحلقة، فهو فعلا يعتمد على فن القول، ومن هنا يمكن أن نعتبره من مسرح الشارع، وبالإضافة إلى ذلك، فإن عبد القادر علولة اضطر إلى أن يخفف من الديكور في مسرحية “الأجواد” كي يستطيع الجمهور الذي تحلّق حول الممثلين أن يشاهد العرض، يقول بن خلاف، مستشهدا بمثال آخر في الجزائر العاصمة هو “تعاونية العمال”، ومؤسسها بوميدونة، وكانت لا تعرض أعمالها إلا في الشارع. ويجزم بن خلاف بأن أكبر مساهمة قدمها مسرح الهواة هو توسيع رقعة الجمهور، بحيث أنه كان هو من يذهب إلى الجمهور، وبهذا أوصل المسرح إلى مناطق لم تكن تعرف هذا الفن أصلا.