إحياءً لليوم الوطني لذوي الاحتياجات الخاصة، الذي يصادف الـ14 مارس من كل سنة، قدم المسرح الوطني الجزائري محيي الذين باشتارزي، أمس الثلاثاء، إنتاجه الجديد “أنتيجون”، الذي أنجزه بالتعاون مع مسرح بلعباس الجهوي. وتعتبر هذه المسرحية، التي أخرجها صادق الكبير، فريدة من نوعها، بإشراك جيل جديد من الممثلين المبدعين من المكفوفين والصم والبكم، لتتواصل هذه التجربة الفنية المتفردة، التي بدأت بـ«غرفة الأصدقاء” ثم “الملك أوديب”.
أكد المخرج صادق الكبير أن مسرحية “أنتيجون” أو(أنتيغون) هي تكملة لمسرحية “الملك أوديب” التي أنتجها مسرح بلعباس الجهوي، ومتعارف عليه أن المسرحية تراجيديا إغريقية عمرها أكثر من 25 قرنا، قامت باقتباسها مساعدة المخرج وسام رحماني. وأضاف لكبير في حوار لموقع المسرح الوطني الجزائري عشية العرض، أن المسرحية “مرآة تعكس حال مجتمعاتنا اليوم، من صراعات وتحديات نعيشها يوميا، وخلافات عائلية قد تصل إلى القتل، وهي مرفوضة وغير مقبولة.. بأبسط العبارات، يمكننا أن نقول إن “أنتيجون” تمثل كل ما تعيشه شعوب العالم اليوم”.
وقد وجب تسليط الضوء على ملاحظة المخرج بخصوص تعامله مع ممثلين من ذوي الاحتياجات الخاصة، حينما قال إنه لا يرى فرقا بينهم وبين غيرهم من الممثلين: “صحيح أنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن طريقتهم في التمثيل متميزة.. كون الممثلين في هذه المسرحية مكفوفين مثلا سيجعلنا نعيش مع هذه الفئة ونشعر معهم بحواسهم المختلفة، صحيح أنهم لا يرون ولكن سمعهم جيد وذاكرتهم قوية، كما سنجد أن الصم والبكم لهم أيضا أسلوبهم الخاص في التمثيل وسرد الرواية، وهذه ميزة لا نجدها عند باقي الممثلين”.
وأشار الكبير إلى نقطة مهمة، وهي الجمع بين المكفوفين والصم البكم في عمل واحد، فإذا كان من الصعب جدا الجمع بينهما في عمل واحد، فإن ذلك حصل في هذه المسرحية، و«على الخشبة لن نجد هذا الاختلاف”، يؤكد المخرج.
واعتبر صادق الكبير أن الجديد الذي قدمته “أنتيجون” هي التمكن من دمج أشخاص من “ذوي الهمم” في مجال التمثيل، ففي السابق كان ممثل غير كفيف يلعب دور الكفيف، لكن هذه الفئة من المجتمع أثبتت اليوم أنها قادرة على التمثيل والإبداع أحسن من غيرها.
كما أطلق المخرج على هذا النوع من المسرحيات اسم “الفن البطيء” أو “فن الحركة البطيئة”، حيث، وعلى عكس عصرنا وهو عصر السرعة، نجد الممثلين في هذه المسرحية يؤدون أدوارهم بأريحية، ويأخذون كل الوقت الذي يحتاجونه لإيصال ما يريدون قوله، وهذا أيضا ما يقومون به في الواقع.
أما عن إضافة دور الراوي في المسرحية، قال المخرج إن الراوي يلعب دورا كبيرا في هذا العرض، لأن الممثلين مكفوفين، والجمهور أيضا خلال العرض “كفيف مثلهم”، وينتظر أن يخبره الراوي بما يحدث. لهذا يمكن للمكفوفين أيضا حضور العرض والاستمتاع به، ونفس الشيء بالنسبة للصم البكم.
وكان المخرج قد وجه رسالة إلى الممثلين في أول اليوم من العمل معهم، مفادها أن كونهم مكفوفين لا يضر ولا ينقص شيئا من إبداعهم، وحتى بالنسبة للسينوغرافيا والإخراج، والتقنيين، الكل عمل من أجل الممثلين وبسببهم، وعلى سبيل المثال توجد على الخشبة دائرة ضوئية زرقاء، وفرها الطاقم الفني للممثلين وهي حدود لهم على الخشبة لكي يتحركوا بكل ضمان وأريحية.
وسبق للمخرج صادق الكبير أن صرح، سنة 2016، بأن أربع دول فقط، هي الجزائر والأرجنتين والبيرو وسويسرا، تقدم مسرحا للمكفوفين.
هكذا بدأت المغامرة..
كما سبق ذكره، فإن مسرحية “أنتيجون” تكملة لمسرحية “الملك أوديب” (سنة 2016) التي أنتجها مسرح بلعباس الجهوي، ولكن قبل “الملك أوديب”، كان ذات المخرج قد قدم، دائما بإنتاج من مسرح سيدي بلعباس، مسرحية “غرفة الأصدقاء” (سنة 2012)، التي وصفتها الناقدة المسرحية عباسية مدوني بأنها “حصاد التجربة المسرحية الرائدة عربيا ووطنيا، كما أنها عصارة الإبداع من تقديم الفنان الصادق كبير”.
وأضافت الناقدة، في مقال أكاديمي نشر سنة 2021 بمجلة “النص” الصادرة عن جامعة سيدي بلعباس، أن هذه التجربة جاءت كأولى المبادرات الفعليّة مع فئة المكفوفين، أين “كان التفكير جديّا في رفع الستار عن عرض مسرحي تصنع فرجته تلك الفئة من ذوي الاحتياجات، ضمن معايير ومقاييس المسرح لتقديم عرض مسرحي الأول من نوعه عربيا والأول على مستوى القطر الجزائري”. ووفقا لذات المصدر، فقد تمّ الاتفاق بين مدير مسرح بلعباس والمخرج صادق الكبير، “الجزائري المقيم بألمانيا”، حول دراسة تقديم عرض مسرحي من أداء ذوي الاحتياجات الخاصة، وتم اختيار مكفوفي البصر كعيّنة، لترفع التحدّي وتخوض غمار التجربة سنة 2012، مخالفة العُرف بالمسرح وكاسرة أحد مقاييسه، بأن يقام العرض في الظلام الدامس، و«تنوب فيه الكلمة وانفعالاتها التي يجب أن يستشعرها المتلقي عن الرؤية المجرّدة للعرض”.
وتمّت الفكرة، المستوحاة من “الصندوق الأسود”، و«كان التصميم فيها مبنيا على إدخال الجمهور في عالم فاقدي البصر بخوض مغامرة العرض في الظلام الدامس دونما نقطة ضوء، حتى نتعايش معهم ونقاسمهم عالمهم الروحي، والعرض عرف مشاركة ذات السنة بالمهرجان الدولي للمسرح ببجاية، وجولة فنية على مستوى مسارح بعض الولايات”، تضيف مدوني.
بعد ذلك، كانت التجربة الثانية لمسرح سيدي بلعباس مع ذات الفئة (فاقدي البصر)، التي اندرجت ضمن تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، بعرض “أوديب” (لتوفيق الحكيم)، والفارق بين التجربتين كان في أنّ العرض الثاني تمّ تحت الأضواء وبمشاركة ممثلين اثنين من غير ذوي الاحتياجات الخاصة، في محاولة التوأمة بين الفئتين مع التركيز على ذوي الاحتياجات الخاصة. واعتبر المخرج صادق الكبير أن عرض “أوديب” شكّل “تحدّيا آخر يستحق التضحية والإبداع والمغامرة” مع فئة لمس فيها “العطاء واللهفة المتّقدة لعيش تجربة المسرح”.