يحذّر الدكتور محمد جديدي، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة، من وجود مؤشرات عديدة توحي بأفول السينما، على الأقل بشكلها التقليدي. فالفن السابع، الذي تطلّب تصنيفه على سلم باقي الفنون نضالا وجهدا، بات يعرف تراجعا “إنتاجا وتوزيعا ونجومية”. ويرى جديدي أن التكنولوجيا التي كانت عاملا في بروز السينما، هي نفسها التي تعمل على أفولها، معتبرا أننا قد دخلنا اليوم “مرحلة جديدة من دمقرطة الصورة”.
ينطلق الدكتور محمد جديدي من فيلم “إمبراطورية الضوء Empire of light”، المرشح لجوائز الأوسكار لهذه السنة، والذي يثير فيه مخرجه، البريطاني سام منداس، مسألة نهاية السينما بكثير من الحنين والشغف والإعجاب لأيام الفرجة والفرحة التي كان يجلبها الفن السابع. “وكأنه يُودّع عالما ساحرا مثيرا لطالما أبهرنا بأضوائه التي استرعت انتباهنا تماما كما تنجذب الفراشات والحشرات إلى أنوار شموع تستهويها”، يقول جديدي.
دمقرطة الصورة
ويلاحظ جديدي أن العصر الذي نحياه اليوم تكثفت فيه الصور والأفلام والمعلومات والوثائق، بما يجعل حياة واحدة غير قادرة على مواكبة ما يجري: “إذن لم تعد حياتنا الواحدة تستوعب كل ما يصلنا حتى وإن لم نذهب نحن إليه، فإنه يبلغنا على شاكلة تلك الإعلانات التي نجبر على تلقيها كلما فتحنا صفحة في الإنترنت أو طلبنا الولوج إلى موقع، من دون استئذان ترد إلينا وبكثافة لا نقدر على صدها”.
«لقد صرنا طعما لما يبث ولما تشتهيه ثقافة العين: غزو الصورة بكل أشكالها وألوانها، في سكونها وحركاتها، في عنفها وعنفوانها، في جمالها وقبحها، إنها الأثر والتأثير الفني للفيلم السينمائي، الذي كنا نحلم برؤيته في يوم عيد لنظل لأيام نرويه حكايات تزيد وتنقص من محتواه، أو كما كان يأتينا فجأة محملا على شاحنة تبثه بالأبيض والأسود، يشبه لشيء من فعل الساحر، على جدار في فضاء عمومي لسكان القرية، يشاهده ويتسلون به الكبار والصغار، النساء والرجال. وهو نفسه الفيلم الذي يسلينا مساء يوم خميس أو أحد في سهرة يفرد كل الوقت له وربما نتبعه بنقاش ونحن طلبة مع مخرجه أو مع أصدقاء وفاعلين في الثقافة السينمائية”.
بالمقابل، تغيّرت اليوم معطيات هذا الواقع الفني، حسب جديدي، بتقلص مساحة الفيلم وغلق قاعات السينما وغياب الحصص والنشاطات والنقاشات الثقافية المصاحبة لعرض الأفلام: “دخلنا اليوم مرحلة جديدة من دمقرطة الصورة وانتشارها بشكل كلي لكل الفضاءات، مرحلة تنذر بأفول وشيك لإمبراطورية الصورة والضوء”.
ويلاحظ أستاذ الفلسفة مؤشرات عديدة توحي بأفول السينما، فالفن الذي صنع أمجاد شركات ودول وأشخاص لم يعد ذلك الفن الذي تشرئب له الأعناق، وإن ظلت مهرجاناته وجوائزه في “البندقية” و«كان” و«الأوسكار” تحظى بنسب تتبع ومشاهدة كبيرة. “لقد تراجع الفن السابع إنتاجا وتوزيعا ونجومية، فلا هوليوود ولا بوليوود ولا مراكز إنتاج أعمال فنية سينمائية أخرى قادرة على ضمان تلك الوتيرة من التدفق المالي والصناعة الثقافية الراقية. كل شيء يحيل في السينما بأن عصرها الذهبي قد ولى أو في طريقه إلى ذلك”.
فهل أفلت إمبراطورية الضوء؟ أو أنها في طريقها إلى الأفول بعد مجد عمر ما يزيد عن مائة سنة استمد فيها الفن السابع من الصورة الفوتوغرافية إطارها وأضاف إليه الحركة، ثم الصوت، فاللون، ليجعل من فنه نجما أولا بل نجوما ونجمات تتزاحم على طبقه الذهبي مزحزحا بذلك فنون أخرى من تربع أعلى الهرم الفني.
تكنولوجيا البداية.. والنهاية
لم يدم هذا الوضع طويلا، إذ شرع “الفن السابع” يتنازل عن تسيده المشهد الثقافي، يقول جديدي، ولم يعد هو الشاشة الوحيدة، إذ نافسته شاشات أخرى تنازل فيها عن بعض من سطوته الفنية لصالح التلفزيون بداية، ثم ما لبثت شاشات أخرى أقل حجما تزاحمه في عرشه الفني إلى أن باتت تهدّده بالزوال. فلم تعد شاشات الموبايل واللوحات، بفعل التطور التكنولوجي الكبير، بحاجة إلى فضاء أو قاعات خاصة كي تبث صورها ومحتواها؛ لأنها الآن محمولة في كل آن وفي كل مكان.
وفي هذا الصدد، سألت “الشعب” جديدي عن رأيه في دور التكنولوجيا في إمكانية أفول السينما، على الأقل بشكلها الذي اعتدنا عليه، خاصة وأنه، في عديد الدول، جعلت منصات العرض الافتراضي من قاعات السينما مجرد ذكرى.. فهل سنرى تكنولوجيا الاتصال الحديث تدفع السينما بشكلها الكلاسيكي نحو الاندثار أم أنها على العكس ستدفع بها نحو الأمام؟
وأجاب: “رأيي أن التكنولوجيا التي كانت عاملا في بروز السينما، هي نفسها التي تعمل على أفولها، بعد مكننة الفن ودخول وسيط جديد هو الآلة التي أخرجت الصورة من حيز جمالي ضيق إلى آخر أكثر انتشارا، ونافحت كي يرقى إلى مستوى استطيقي راقٍ تجلى في الفن السابع، لم يلبث أن أضحى عرضة للنسيان بفعل التكنولوجيا نفسها التي أوجدته حينما ضاعفت من تطورها المذهل عبر تكثر الشاشات، وعملت على انحسار التقاليد السينمائية في ركن محدود ينذر بأفول وشيك تدخل معه السينما المتحف كما دخلته منذ مدة فنون أخرى، حتى وإن بقي من السينما الاسم على مختلف الشاشات الفردية المتجددة”.
تماهي الحدود بين الواقع والخيال
ولفهم هذه السيرورة بشكل أوضح، يعود جديدي إلى بدايات السينما، قائلا إن تصنيف السينما على سلم باقي الفنون تطلب نضالا وجهدا لسنوات طويلة، قبل أن تعد فنا وترتب سابع الفنون. فمنذ 1908 انكب الفيلسوف والناقد الفرنكو إيطالي ريتشيوتو كانودو Canudo Ricciotto (1877 ـــ 1923) يدافع عن السينما كفن يصنف مثل بقية الفنون (نشير هنا إلى أن كانودو يعتبر أول من استعمل مصطلح الفن السابع). فلم تكن حركة الصورة ممكنة لولا هذه الإمكانية التي جعلت الصورة ذاتها عبر وسيط تقني إمكانية، واستوجب الأمر كذلك جهدا بالغا كي تقبل الصورة (التصوير الفوتوغرافي) فنا كغيره من الفنون الأخرى التي كان يحتكم فيها لمعايير تعدها فنونا، بينما ما أدرج من تقنية في أعمال فنية اتسمت بتطوّر أساليب الإبداع الفني وآلياته يستدعي أن يحيل إلى معاييره وينتظر تصنيفه كما صنفت باقي الفنون ضمن سلم ما لبث يتسع ويتنامى بحسب الفنون المستحدثة.
ويتابع جديدي قائلا، إن الفن السابع قد شدّ الأنظار منذ بروزه، لأن محوره المركزي الصورة، هذه الأخيرة اشتملت على جميع الفنون الأخرى فاحتوتها السينما طالما أنها تعتمد على حاسة البصر بالدرجة الأولى، وتجسّدت من خلالها مقولة أرسطو التي ترى بأن أغلب معرفة الإنسان مصدرها البصر، ليس في كونها تنقل صور الواقع إنما من الخيال والافتراض واقعا. فمن الأفلام التي تحاكي الواقع، انتقلت الصورة إلى الواقع الذي يحاكي الأفلام، حتى ضاعت الحدود الفاصلة بين الواقع والفيلم. ولئن كنا على وعي تام بما في الفيلم من تمثيل ولا ـ واقعية إلا أن تفاعلنا النفسي يؤثر في حكمنا على صور الفيلم وقيمته بقدر ما يتماهى مع قيمنا ومشاعرنا. هكذا صار للصورة حضور مزدوج.
ويرى جديدي، أن صورة الواقع هذه، في ازدواجها الواقعي كحضور واقعي للصورة وكنقل وتمثيل للواقع، ما كان لها أن تتمّ لولا توافر شروط الإمكان متمثلة في العلم والتقنية. إذن عبر أدوات التقنية تنتقل السينما بين عوالم الواقع والوهم، متجاوزة الواقع بحثا عن الممكن والأحسن تارة، ومكرسة إياه تارة أخرى لأنه يشكل الأجمل والأفضل.