يُشبّهها الجميع بعش النسر بسبب تواجدها فوق صخرة عالية، والنسور هي التي تبني أعشاشها في الأماكن بعيدة المنال، عن اليد والعين، كذلك قسنطينة التي حاول الدخول إليها الكثير من الغُزاة ولم يفعل سوى القليل منهم بعد هزائم وإخفاقات كثيرة، وعن العين لأنّها تخفي الكثير من أسرارها خلف الأسوار و”الكلل” و”الملاية” ولا تقدم بهرجها لعابر السبيل.
قسنطينة ليست مدينة أشباح بل مدينة البشر، فالنّاس فيها يتجوّلون ويلتقون ويشترون ويبيعون حوائجهم ويجلسون في المقاهي: هي ليست للسياح الذين يجدون فيها العجائبية والغرائبية كما فعل مصورو القرن التاسع عشر بل هي لأصحابها بحيث يعيشون يوميّاتهم بكلّ متعة ولا يضطرون إلى غلق الأبواب عند مغيب الشمس ولا ينادي المنادي “البرّاني برّى” فيغادر الغرباء ويبيتون خلف الأسوار حتّى يطلع النهار.
هي اليوم مدينة كوسموبوليتانية، متعددة الأجناس والأعراق واللغات واللهجات، أبوابها مشرعة على مصراعيها لكن حكاياتها وأسرارها لا تقولها لكل قادم ولا تسلّمها على طبق لكل عابر سبيل لأنّها تستدرجه إلى صاباطات وأزقة قديمة، إلى منازل “ديار عرب”، إلى مقاهي لها تقاليدها وأسماء رفيعة لشخصيات مرت محلقة من هنا.
كانت أمي تلبس الملاية السوداء وهي تطوي المدينة طيا بحثا عن الفواكه الأحسن والخضر الطازجة القادمة من سهول الحامة وقرية الغراب ولم تسأل يوما عن سبب لونها أو شكلها لأنها جزء من شخصية المرأة آنذاك تماما كما فعل الحاج بلفاسي رحمه الله الذي كان يرتدي اللباس القسنطيني التقليدي ويتجول في شوارع المدينة متحديا العيون ومقتنعا بأن الثياب والهندام هو بعض خصائص سكان الحضر.
هيا أيها العابر نتجول معا في المدينة كي نتعلم لغتها ونتحدث إليها علّها تجيبنا وتسرد علينا بعض ما رأت.
قسنطينة ليست وليدة البارحة ولم تكن أبدا من صنيع الاستعمار الذي يدعي أتباعه أنه جاء كي يقدم لنا الحضارة.
قسنطينة مدينة تمتد في التاريخ وما قبله. على بعد 30 كلم بمنطقة بونوارة/ عين عبيد هناك تتواجد بشكل كبير وفي مساحة شاسعة قبور ميغاليتية للإنسان البدائي، إنسان ما قبل التاريخ الذي كان يدفن الموتى بتحضير قبر ضخم من خطين من الحجارة على الجانبين كي تحمل صخرة مسطحة ثقيلة قد تصل إلى طن ويحفرون على سطحها خطا رفيعا يقود دماء الذبائح والقرابين التي يقدمونها في شكل قطرات إلى مدخل القبر يسقي ساكنه ويطرد الأرواح الشريرة.
في الوقت الذي يفرح الأمريكيون حين يجدون “حذاء من أحذية الحرب الأهلية” (أي أقدم علامة على تاريخهم)، توجد بالجزائر الأدلة على أنّ هذا المكان كان دوما مرتعا للبشر في كل الحقب التاريخية والشواهد كثيرة ومنتشرة في كل الولايات.
يا صديقي العابر هيا نتحدث قليلاً عن قسنطينة لما كانت جزء من تاريخ العالم وأوروبا في عهد الإمبراطورية الرومانية.
الشاهد ما يزال واقفا في شكل أقواس (شعاب الرصاص) وهو قطعة من الحجر المتراص والمتراصف بشكل أنيق وقوي في صورة أقواس تحمل قناة مائية كانت تجلب الماء من وادي بومرزوق إلى كدية عاتي وهي أرض مرتفعة بوسط المدينة بها خزّانان كبيران يحتفظان بالماء.
يتم توزيع الماء على مدينة قسنطينة التي كانت تسمى “سيرتا” أو قرطن أو ساريم باتيم بكلّ اللغات الحية والمنقرضة، لكن الجميل في الحكاية أن المدينة تغيّر اسمها في كل مرة لكنها هنا باقية خالدة.
حين بناها الرومان حفروا جملة جميلة على قطعة رخامية وجدها عمال فرنسيون كانوا يحفرون أساسات سوق المدينة قبالة المحكمة الوحيدة آنذاك، تقول اللافتة “بنيتْ هذه المدينة كي تتحدى الزمن”.
وفعلا، إنها تتحداه من خلال وقوفها المستميت الشامخ على صخرة عالية يحيطها الماء من جهات ثلاثة في شكل واد يسمى “الرمال” وهو يستقي اسمه من كثرة الرمال التي كانت تتكدس فوق صخوره وفي قاعه في الشتاء حين يشتد السيل وتهدر أمواجه وسقوطه نحو الأخدود الأعمق باتجاه سهل حامة بوزيان الخصب، هذا الماء الذي ساعد في حماية قسنطينة وأدى بسكانها إلى بناء أسوار عالية راحت تحتمي بها كل يوم حين يذهب سكانها للنوم في هدأة ناعمة وتبقى الأسوار مقاومة كل شر قادم من بعيد.
ما تزال بقايا تلك الأسوار الحامية تظهر على جنبات المدينة القديمة حين نراها من جسر باب القنطرة وكذا في الجانب الذي يطل عليه جسر سيدي راشد.
لا تستطيع أن تدرك كنه هذه المدينة وتاريخها دون أن تمر على بناية تقع على ربوة الكدية ذات لون بني تسمى “متحف سيرتا”.
كان سابقا يحمل اسم الباحث الذي اضطلع بالحفريات في الشرق الجزائري وهو “غوستاف ميرسيي” (Gustave Mercier) الذي جمع الكثير من الآثار قبل أن يتم بناء المتحف عام 1931 وتجميع كل القطع هناك.
كان السكان المحليون يسمونه “دار العجب” لأنه يضم التماثيل وقطع الهندسة المعمارية واللوحات الزيتية: لم يكونوا يظنون أن هذا ملكهم وتفاصيل تاريخهم بل اعتبروه من صنع المستعمر وهو فقط الذي يتمتع به حتى ذهب المحتلون وأخذ المتحف تسمية سيرتا عام 1975.
تفضل، أدخل سترى حقيقة دار العجب التي تبدأ من اللافتة الرخامية الضخمة التي أنجزها فنانو المدينة علي دعاس وعومار حاجي من (ASA pub) وكتب عليها “المتحف العمومي سيرتا” وأعادوا له هويته الأولى بعد أن صممه المهندس كاستيلي (Castelli).
المتحف هو وجه المدينة المشرق بمساحة شاسعة تقدر بـ1200 متر مربع تضم بين أسوارها وداخل خزائنها الكنوز التي تحكي مرور الحضارات على هذا المكان بدء من قاعة ما قبل التاريخ التي نراها في عظام الحيوانات التي وجدها الباحثون في مغارات المدينة: الدببة والأروية والحمام وما زالت المغارات شاهدة على أن الإنسان البدائي عشش في منحدرات المدينة واحتمى من الحيوانات المفترسة في المرتفعات إضافة إلى أنه تمكن من القيام بعمليات الصيد لأنه بتواجده في المرتفعات تمكن من رؤية الحيوانات تسري هناك في كل مكان وهو فوق الصخرة مثل النسر يبصر ويترصد.
تنتابك قشعريرة وأنت ترى جمجمة الأروية وقرنيها الطويلين وأسنان الحيوانات وحوافرها التي حفرها الزمن في الصخر وقدمها لنا هدية كي تبقى هنا حيث نحن الآن.
ويضم المتحف تحفا أخرى من الحضارات المتعاقبة: النوميدية، الرومانية، الإغريقية، المسيحية والعربية الإسلامية وكلها في أحسن حال من قلل وجرار وفسيفساء.
سأحكي لك قصة حدثت معي عام 1987 لما كنت طالبا ببريطانيا. كانت لي صديقة انجليزية وكانت متوجهة إلى إيطاليا في عطلة ثم أرادت أن تحضر لي شيئا من سفرها بإيطاليا لأنها كانت ستزور متحف روما.
بعد عودتها أحضرت لي صورة كبيرة مطبوعة على القماش بطريقة فنية رهيبة وقالت: هذه فسيفساء من الحضارة الرومانية العظيمة التي كانت في الجزائر لمدة طويلة. تعرفتُ على الفسيفساء وقلت: هذه فسيفساء توجد بمتحف قسنطينة بأرضية القاعة الكبرى وليست في روما.
الظاهر أنهم كانوا يبيعون الفسيفساء على أنها رومانية وبكتابة مجهرية في حاشية الصورة يذكرون مصدرها.
إنه لا يمكن اليوم الحديث عن الحضارة الرومانية دون الإشارة إلى سيرتا والمملكة النوميدية التي كانت تصنع التوازن العسكري بين روما وقرطاجة ويربح الحرب من تقف إلى جانبه نوميديا.
من شدة ما قاوم سكانها الغزاة الرومان ومن شدة حنقهم على ملكها الجديد يوغرطة دبروا له مكيدة وساقوه إلى روما ولم يقتلوه بالسيف بل راحوا يجرجرونه يوميا في شوارع روما حتى مات جوعا وعطشا في زنزانة بشعة. هذا هو التاريخ الذي تحتفظ به المدينة في خزائنها ومتاحفها.
حين اِحتل الفرنسيون المدينة وضعوا أمام محطة القطار تمثالا للإمبراطور قسطنطين الذي سميت المدينة باسمه.
قسطنطين هو الذي نقل الإمبراطورية الرومانية من الكفر إلى المسيحية ولهذا لما جاء الفرنسيون إلى قسنطينة أول رسالة كتبها الجنرال فالي (Vallée) قائد القوات الغازية إلى ملك فرنسا يشكر فيها الكاردينال لافيجري ممثل الكنيسة ويقول له فيما معناه: افرح الآن لقد استعدنا المدينة المسيحية قسنطينة ونهديك مفاتيحها.
إنا اليوم نتجول في شوارعها يا صديقي الزائر ونحن نرى تمثال قسطنطين دوما أمام محطة القطار تطل عليه مآذن المساجد من كل مكان تلك التي نجت من معول الغزاة. إصرارا منهم على مسيحية المدينة، وضع المعمرون تمثالا لمريم العذراء في أعلى نقطة في المدينة بعد مستشفى ابن باديس داخل مثلث حديدي وهو يقابل ساحة الهرم (لابيراميد) حيث سقط بالقرب منها الجنرال داريمون قائد القوة الاستعمارية الغازية في 1836. يريدون لرموزهم أن تبقى شاهدة على التاريخ لكن التاريخ لا يرحم. تم نسيان جنرالاتهم الذين كانوا فخر فرنسا ثم بعد تطور وانتشار مفاهيم الديمقراطية وحقوق الشعوب والإنسان أصبحوا يخجلون من وجود تلك الوحوش في تاريخهم.
إن شوارع قسنطينة وأخاديدها وصخورها تحكي الحكايات بالتفصيل. لم يؤسسوا المدينة بدليل أن جنرالاتهم لما غزوا المدينة سكنوا القصور والبيوت الموريسكية التي انبهروا أمام روعة بنائها وإتقان تفاصيلها.
الشاهد على كل هذا هو مدينة تيديس التي تبعد 25 كلم عن قسنطينة وهي الدعامة العسكرية التي كانت في شكل موقع عسكري متقدم سكنه النوميديون ثم الرومان.
مدينة توجد أجمل بقاياها في متحف سيرتا. الجميل في الحكاية أن أحد أكبر الجنرالات الذين خدموا في القوات الرومانية التي غزت بريطانيا واستقرت هناك كان الجنرال لوليوس ايربيكوس، المسؤول عن حماية سور هادريان الذي يحمي الحضارة من البرابرة في الشمال، وهو مولود في تيديس مما يعني أن تاريخ قسنطينة أصبح جزء من تاريخ البشرية.
الشاهد أيضا ضريح الملك ماسينيسا الموجود بالقرب من الخروب وهو الدليل على عظمة هذه المدينة التي أنجبت كل أولئك الذي خدموها وأثثوها ودافعوا عنها ببسالة في اللحظات الحرجة.
أنظر يا صديقي، في كل مكان تجد محطة تدلك على دور هذه المدينة في الحضارات المتعاقبة وتفتحها على المشاركة في التشييد. نصب الأموات في مرتفعات سيدي مسيد يقف شامخا في وسط المسافة بين العاصمتين تونس والجزائر، يقابل سهول الحامة وجبال شطابة وسيدي دريس.
النصب نسخة طبق الأصل لقوس النصر “تراجان” الذي بناه الرومان في وسط مدينة تيمقاد الرائعة. في خاصرة النصب قوائم بأسماء افراد شاركوا في الحرب العالمية الأولى منقوشة على صفائح نحاسية تذكّر العابر أن قسنطينة كانت دوما في قلب الحدث. فوق النصب الحجري يقف تمثال امرأة مجنحة سموها “النصر”.
حقيقة المرأة أن أصلها منحوتة صغيرة وجدها العسكر الفرنسي حين كانوا يحفرون مساحة داخل ثكنة الإنكشاريين التركية لإعادة تهيئتها كثكنة جديدة. صنعوا التمثال الكبير من النسخة الصغيرة الموجودة اليوم في متحف سيرتا. قلت لك يا صديقي أن المتحف منطلق كل الحكايات.
أنظر إلى تلك الهاوية، إنها أخاديد واد الرمال الذي يحيط بالمدينة. لقد حفر طريقه منذ مئات آلاف السنين غير آبه بالذي سيأتي، ثم جاءته الشعوب من كل مكان وفي كل مرة ينتهي أمرهم ويغادرون المدينة تاركين أهلها في سلم وحبور.
هذا بالضبط ما حدث مع أحد جنرالات الحفصيين والذي هاجم المدينة مرات عديدة وحين قرر عدم العودة مجددا قال جملة مشهورة: “هنيئا لكم يا سكان قسنطينة، في كل بلدان الدنيا تحلق الطيور على رؤوس الناس وأنتم هنا تحلقون على رؤوس الطير”. إنها أسراب الغربان والحمام والسنونو والصقور التي تسكن حواف الجبل وتتحدى الفراغ.
لقد قلت في كثير من المرات يا صديقي أننا يجب أن نتجاوز الوصف السطحي للمدينة بالقول “مدينة الجسور المعلقة” لأنها مدينة “الصخر”، والصخر هو الذي صنعها، هو الذي رسم معالمها وملحمتها، هو الذي شكل شجاعة سكانها وطبعهم، هو الأول الذي أتى كي يبقى لكن الجسور عبارة عن معالم شيدها الإنسان وقد تزول في أية لحظة، إنها ظاهرة بصرية جمالية عابرة ليس من الضروري أن تكون بؤرة هوية المدينة وصورتها الباقية ولكن رغم ذلك فإنها أول ما نراه حين ندخل المدينة من بواباتها الكثيرة: جسر سيدي مسيد المعلق الذي سمي باسم شخص صالح مدفون في منطقة الغابة في المنحدرات باتجاه الواد، جسر سيدي راشد الذي بني بالحجارة الأنيقة المتراصفة بدقة وهو أحد أعلى وأجمل الجسور التي فيها منحنى لأن قوته تكمن في كونه لا يشكل خطا مستقيما، وجسر ملاح سليمان الذي يعتبر تحفة فوق الوادي يتراقص حين الرياح ويمنح العابرين بعض الأدرينالين، جسر صالح باي العملاق وهو آخر ما تم تشييده في المدينة ومنحوه اسم الباي الذي بنى أول جسر بباب القنطرة وكان يحمل الداخلين وبه قناة تحمل الماء إلى المدينة، لم يتحمل مرور قافلة عسكرية وانهار جزء منه وبالتالي تم تدميره من طرف الجيش الفرنسي ونكاية في الباي وجسره ما تزال أحجاره إلى يومنا هذا مكدسة في طريق الكرنيش الذي يُرى جيدا من مدخل جسر سيدي مسيد.
نكاية فيهم، اليوم تمت تسمية الجسر العملاق باسمه ونكاية فيهم أيضا استعادت الكثير من المعالم هويتها الأولى مثل مسجد الباي الذي تحول إلى كاتدرائية ثم إلى مسجد من جديد. الشيق في حكاية الجسور أن هناك واحد يسمى “جسر الشيطان” حيكت حوله الخرافات الكثيرة لكن أقربها للتصديق هي أن اندفاع المياه القوية تحته في الشتاء تحدث صدى يشبه أصوات العفاريت. ما يشفع ربما للمكان هو أنه يستحق هذا الاسم لمرة أخرى لأنه أصبح منصة لطالبي الانتحار وأداة في يد الشيطان الذي يسكن الوادي العميق بالقرب من “جنان التشينة”.
صورة المدينة الأولى وحب أهلها الذي لا ينضب هو المدينة العتيقة، روح المدينة، قلبها الحي، عطور شوارعها، أصوات أسواقها ورحباتها.
لا يمكنني وصف هذه الأشياء يا صديقي، هيا ندخل كي ترى بعينك وبقلبك. ندخل المدينة العتيقة من مدخل باب الجابية لأن قسنطينة كانت بها جملة من الأبواب أهمها: باب الواد، باب الحنانشة، باب القنطرة. تقابلنا الشوارع الضيقة، الصاباطات والدروب وحوانيت صغيرة تبيع المكسرات والجوز واللوز والكاوكاو وهي مقصد لبائعي الحلويات، حوانيت الأحذية ثم بائعي اللحوم ومنهم صديقي نور الدين الذي يحرص هو وأصحابه الباعة في الحصول على أجود أنواع اللحوم كي يلبوا طلبات المواطنين الذين يقصدونهم وتجد معلقا في خطافات معدنية الكرشة والكرعين ولفاد والبوزلوف مما يمنح الدرب نكهة خاصة.
على اليسار في ممر لا يكاد يرى، مدخل صغير ثم باب ازرق ثم سقيفة ورائحة البخور: إنها دار بحري، منزل قديم تسكنه أسرة من الجد إلى الجد جاءت من افريقيا وحافظت على الثقافة ومزجتها بالمدائح الدينية وأصبح غناء “الوصفان” اليوم جزء من أنواع الموسيقى المتواجدة في قسنطينة.
موسيقى روحية تعتمد على الإيقاع بالطبول والقرقابو هناك أيضا دار برنو ودار هوصة وهذا ما يمنح المدينة تأهبها لخلق الفرجة والفرحة حين يضاف إلى ذلك دور العيساوة في الحفاظ على الأغنية الصوفية التي سكنت المغرب العربي طولا وعرضا.
غناء الفْقيرات نوع آخر من الطرب الذي تغنيه النساء على وقع البندير والدربوكة ثم أضيفت له آلات أخرى عصرية وراح يتقنه “مالك الفْقيرة” وهو أحد المغنيين المحبوبين في قسنطينة والذي يحافظ على هذا التراث كما يحافظ على البيت الذي يسكنه بسيدي الجليس ويريد له أن يكون قسنطينيا خالصا فملأه بالأواني النحاسية والكثير من الصور التي تعبّر عن افراح المدينة في أوج عطائها.
مالك ذاكرة المدينة القديمة أيضا ويحفظ الكثير من الأسماء والأحداث التي مرت على المدينة. أما المالوف وبعد وفاة الشيخ التومي والدرسوني والحاج محمد الطاهر الفرقاني فله اتباعه ومريدوه الذين يحفظونه في الذاكرة ويحافظون على وهجه بالقلب في الأعراس التي ما تزال تحدث بالشكل الجميل: العربي غزال، أحمد عوابدية، تواتي توفيق، حسان برنكي وريغي وغيرهم.
الزوايا والمساجد الصغيرة يا صديقي هي التي تدل على السفر الطويل لهذه المدينة: سيدي مغرف، سيدي قموش، سيدي لخضر، زوايا سيدي بن عبد الرحمان والحنصالية والطيبية والتيجانية والسيدة حفصة كلها أماكن للعبادة لعبت دورا جليلا من خلال تدريس الأطفال وتحفيظهم القرآن.
ها هو مسجد سيدي لخضر الذي يقف بشموخ وتواضع في آن قرب المنازل المتراصة التي انهار بعضها لكنه ما زال عامرا بالصلوات والقارئين.
مسجد الباي بالقصبة والذي كان يصلي به مالك بن نبي، مقهى النجمة بشارع العربي بن مهيدي والذي كان يجلس به مالك حداد، مطبعة الشيخ عبد الحميد بن باديس أو ما تبقى منها في حي ربعين شريف، كلها شواهد على الرجال الذين تركوا بصماتهم الطيبة في هذه المدينة وجالوا طولا وعرضا في ساحاتها التي كانت تسمى قديما الرحبات: رحبة الجمال التي كانت تأتيها الجمال من الصحراء كي ترتع هناك تبيع حمولتها من التمر ويبيت أصحابها في “الفْنادق” حيث غرف الاستقبال التي يؤمها الموسيقيون أيضا وتتحول في السهرة إلى جلسات للسمر والمتعة. راحت الجمال منذ مدة ولكن الرحبة ما زالت بقايا الحوانيت الصغيرة الشيقة التي تبيع الحمص كوجبة يومية تطبخ على الجمر وتؤكل مع المعدنوس والبصل والكمون وزيت الزيتون (يسألك البائع: تحط كلش؟ وهو يقصد: هل اضيف ذلك لصحنك؟) والكسرة رخسيس.
رحبة الصوف التي هي سوق كبيرة تقودك إلى سوق العصر أحد أهم الأماكن في قسنطينة لأن به مسجد الكتانية أحد أقدم البنايات بالمدينة وبه قاعة صلاة ومقبرة دفنت بها مجموعة من أفراد عائلة الباي ويمكن التعرف على رتبهم الاجتماعية من خلال شكل ونوع الطربوش الرخامي الذي فوق القبر.
حكاية البايات في قسنطينة معقدة جدا ومنها قصة سيدي محمد الغراب الذي وقف في وجه صالح الباي فقرر إعدامه برميه من كاف شكارة وهو جبل مرتفع بالقرب من جسر سيدي مسيد تطل عليه ثكنة الانكشاريين.
تقول الأسطورة أن جثة الرجل الصالح لم تتعفن ووجد الناس غرابا كان يحميها لجملة من الأيام ولذا اطلقوا عليه ذلك الاسم “لغراب” وهو اليوم مدفون في قرية يطلق عليها السكان تسمية “لغراب” وتسميها السلطات قرية “صالح باي” وتضم معلما مهمّا كانت تمارس فيه طقوس غريبة ولكنها جزء من ثقافتنا تسمى “النشرة”.
إنه احتفال دوري يأتي فيه السكان بالنساء المريضات وخاصة من تصاب بالصرع أو يأتيها وسواس ما كي تقدم “النشرة” فيتم ذبح الديكة واشعال البخور وضرب الطبول من قبل “الوصفان” والرقص من طرف النساء في طقوس يقال أنها تطرد الجن من جسد المرأة فتتعافى. كنا صغارا لا نعرف هذه الأشياء وما يستهوينا في الحكاية هو أكل الطمينة والحلوى التي يتم رميها في “البرمة” التي هي مسبح صغير مغطى تسبح فيه السلاحف.
يظن الناس أن “بومرزوق” الجنّي هو الذي يتناول الحلوى التي تهدى اليه. لم يبق اليوم الشيء الكثير من المكان ما عدا قبر الرجل الصالح الذي تزوره النسوة من حين لآخر للتبرك ووضع بعض الشمعات ثم الانصراف تحت عيون مراقبة من أشخاص يعتقدون أن ذلك لا يجوز لأنه من أعمال الجاهلية.
لكل قناعاته وهذه قسنطينة التي وجد فيها الفرنسيون طقسا آخر كان يتم الاحتفال به سنويا على مرتفعات جبل سيدي مسيد و هو “حفلة النسور” التي تحلق الناس حول الحيوات التي يتم ذبحها وتقدم لحومها قرابين للسنور. انقرض الاحتفال لكن النسور ما زالت اليوم تحلق في سماء المدينة وهي تذكرنا بالذي جرى.
ما يشدك في هذي المدينة يا صديقي هو كثرة الأشجار والحدائق رغم أنها مبنية فوق صخرة. جنباتها للأحراش والشجيرات الصغيرة التي تتشبث بالصخور والصبار أما الأشجار الضخمة فموزعة بانتظام في الحدائق. كانت المدينة مقسمة بين حديقتين: جنان المركانتية (الأغنياء) وجنان الزاوالية (الفقراء)، اليوم ما تزال الأولى قائمة أما الثانية فبني في مكانها فندقا ايبيس ونوفوتيل.
لكن أهم ما يميز المدينة القديمة هو حي سيدي جليس الذي يضم العين التي تسقي الجميع وقبالتها مسجد وبائع الآلات الموسيقية ومدرسة جول فيري (ولد علي اليوم) ومصلحي الأدوات النحاسية وبعض المنازل التي حافظ عليها سكانها وكلهم وعي أنها قطعة من التاريخ مثل دار الموسيقي باجين الذي يدخلك للسقيفة ثم وسط الدار ويخرج آلة العود ويمتعك ببعض المقاطع من المالوف.
بالقرب من الساحة كانت هناك حوانيت تصنع الحلويات التقليدية ومنها “النوقة” التي يصنعها محل عائلة بوكرو. يحكي عمي الطاهر أحد أفراد هذه العائلة رحمه الله أن واحدا من أهم الشخصيات الوطنية كان قد تعلم تلك الصنعة في هذا المحل وهو: رابح بيطاط الذي أصبح بعدها رئيسا للجمهورية الجزائرية.
لقسنطينة رحباتها وساحاتها وزواياها وشخصياتها ومجانينها حتى أن بعضهم دخل الأسطورة مثل “حدة لحدودي” العجوز التي كانت تجول المدينة وهي تتكئ على عصاها وحين يقلقها الأطفال بصراخهم “آ حدة عمار مات، وحدّة وين تبات؟” تنادي “دمّار ربي ودمّار العبد”، كذلك جيرار، بلومي، عليوة بوالشوا، عمار الفانتور وأسماء قد لا تعني لك شيئا يا صديقي وما عليك سوى أن تسأل أهل المدينة كي يسردوا على مسمعيك بعض الذي كان مع هؤلاء الذين كانوا ملح المدينة وبهاء شوارعها.
لدى قسنطينة الحكايات المعتقة التي تخفيها مثل العسل في الجرار ولا تخرجها إلا في مناسبات قليلة لأشخاص يحسنون تناولها كما يفعلون مع حلويات الغريبية والمقرود مع القهوة بالزهر راس قطار. تلك مناسبة يحدث فيها تقطير للورد والزهر ويأكل الناس الطمينة ونسمع كلمة “كبّة” التي سمعتها هذا الأسبوع من زوجتي وهي منشغلة بتلك المناسبة خاصة وأن رمضان على الأبواب ويكون دوما للزهر المكان والمكانة في صينية السهرة المباركة.
هذه رحلة أولى في قسنطينة التي أعرف والتي تستحق عشرات الزيارات كي تلم بالقليل من روح المدينة التي عبرت القرون وها هي دوما تتحدى الزمن.