يثير الكاتب نور الدين بحوح جوانب تاريخية وإسلامية وأوربية وحضارية، في “الأندلس.. خواطر رحلة في زمن الوباء الجارف”. وهو يروي رحلته بلغة فيها الحاضر والماضي، بطريقة جميلة تلف أدب الرحلة برحيق خاص، خارج توا من أسلوب هذا الجزائري المقيم في ألمانيا.

لقد كان أبو عبد اللّه بعكس أبيه أبي الحسن وعمّه الزّغل، فلم تكن له من صفات العزيمة والحزم، والشّجاعة والأقدام التي اتسما بها شيئٌ يُذكر.
بل كانت له صفة من صفات جدّه محمّد الأوّل المؤسّس لدولة بني الأحمر في غرناطة، فقد خَذَلَ جدّه المسلمين وخذّلهم وصانع ملك قشتالة وانضوى تحت لوائه وتنازل له عن نصف الأندلس الصّغرى وسلّم له مدن جيّان وأرجونة وبركونة والحجّار وقلعة جابر شهادة ولاء وخضوع. وعاونه في الاستيلاء على قرمونة واشبيليا وفاوض باسمه أبناء ملّته فيما بقي من أشلاء الأندلس في أن يسلّموا مدنهم للنّصارى. وأقنعهم بتسليمها وأن لا جدوى من الدّفاع عنها.
ففي ظلّ الفوضى العارمة التي أعقبت هزيمة الموحّدين في حصن العُقاب سنة 1212م وتضعضعِ نفوذهم بالأندلس. وتوالي سقوط كبرى المدن الأندلسيّة. رأى فرديناند الثّالث ملك قشتالة أنّ الفرصة سانحة لغزو ما تبقّى من ممالك الأندلس، وإنهاء الجود الإسلامي من شبه الجزيرة الإيبيريّة فحشد لذلك جيشه وزحف على جيَّان يريد انتزاعها من ابن الأحمر، وضرب عليها حصاره سنة 1245م.
شعر ابن الأحمر أنّه عاجز عن ردّ هذا الطّوفان من الجيوش النّصرانيّة، وأنّه لا بُدّ له من البحث عن منفذٍ لخلاصه وخلاص عرشه المهدّد بالزّوال. فأقدم على خطوة جريئة لم تكن لأحدٍ على بال، وسار إلى فردينادو شخصيّا في معسكره وعرض عليه تسليم المدينة في أمان وأن يُصالحه ويحالفه ضدّ عدوّه. ويحكم ما تحت يده باسمه، وباسم قشتالة، فوافق فرديناند وشرط عليه شرطًا مُذلّة، عُرفت بشروط معاهدة جيّان والتي نصّت على:
ــ تحديد حدود مملكة غرناطة التي سيحكمها بنو نصر باسم ملوك قشتالة وفي طاعتهم.
ــ أن يُؤدّي له جزية سنويّة قدرها 150 ألف قطعة ذهبيّة.
ــ أن يحضر ابن الأحمر اجتماع مجلس الكورتيس في قشتالة بصفته أميرا تابعًا للعرش.
ــ التّعهّد بمؤازرة قشتالة في حربها ضدّ أعدائها. وتقديم أعدادا من الجند أينما طُلب ذلك.
يبدو أنّه مثلما للملامح الجسمية والصّفات الجسديّة جينات يرثها الأبناء عن الآباء، كذلك فإنّ للصّفات النّفسيّة من خيانة وغدر وخذلان جينات يتوارثها الأبناء والأحفاد. فقد تطابقت رواية المقري عن الجدّ الأوّل لبني الأحمر ورواية صاحب كتاب ” نبذة العصر في ملوك بني نصر” فتشابه سلوك الجدّ والحفيد. فقد تصرّف الحفيد مثل الجدّ فقدّر كلاهما قوّته أمام قوّة الممالك النصرانية، وقبل بالتنازل عمّا في يديه من الحصون والمدن من أجل استمرار حكمه
قال المقري: “كان ابن الأحمر أول أمره وصل يدَه بالطاغية فرناندو الثالث استظهارًا على أمره فعضّدَه، فأعطاه ابن هود ثلاثين حصنًا في كفّ غَرْبِه حتّى يأمن شرّه بسبب ابن الأحمر، وليعينه على ملك قُرطبة، فتسلمها ثم تغلّب على قرطبة سنة 633ه، أعادها الله؛ ثم نازَل فرناندو إشبيلية سنة 646 وابن الأحمر معه، ثم دخلها صُلحًا وملَك أعمالها، ثم ملك مُرسية سنة 665ه، ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين كورة كورة، وثغرًا ثغرًا”.
ومثله أورد مؤلّف “نبذة العصر” أنّ أبا عبد اللّه الصّغير نقم على عمّه الزّغل صعوده العرش فطلب من فريديناندو وايزابيلاّ العون.”فأمدّوه بالرجال والأنفاط، والبارود، والقمح، والعلف والبهائم، والذّهب، والفضّة، وغير ذلك؛ ليشد به عضد الفتنة ويُقوّي الشر”.
ومثلما شعر الحفيد بعبء الجريمة التي اقترفها عندما حاصر القشتاليّون غرناطة، شعر الجدّ كذلك قبل قرنيين ونصف بنفس العبء ولكن بعد فوات الأوان:
فعندما استسلمت اشبيليا سنة 1248م للملك فردينادو عاد محمّد بن الأحمر إلى قطاعه حزينًا يردّد عبارات الحزن هذه:
ــ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
لكنّ المتملّقين والمتزلّفين والدّهماء من النخب استقبلوه استقبال المنتصرين فكانوا يحيّونه بعبارة: ” غالب!”، غالب!”.
وحتّى يُخفّف من غلوائهم وغلوّهم كان يُجيب:
ــ لا غالب إلاّ اللّه ــ
التي صارت شعارا لدولة بني الأحمر في الأندلس، والّذي يجده الزّائر منحوتا على أبواب وجُدران ما بقي من قصور وأسواق ودور ذلك العصر.
لا أحد يعرف إلى اليوم فوق أيّ هضبة أو تلّة وقف أبو عبداللّه يبكي الحمراء وغرناطة. وكم فرسخًا قطع ثمّ أجهش بالبكاء، فكلّ ما قيل عنه وكُتب كان كذبًا مأخوذًا من مستودع أكاذيب القساوسة والرّهبان تشفيًّا فيه وتشفّيًا في كلّ ما هو مُسلم أو عربيّ، فهم ليسوا بعدول ولا تُؤخذ الرّواية إلاّ من عدلٍ.
عبثًا أحاول أن أصمّ وعيي دون فحيح ذكريات تلك الحقب الخوالي التي تلاحقني، وأبذل الجهد كي لا تتسرّب إلى خيالي صور الماضي ومآسيه. وأحاول أن أُبدلها بصور من الواقع، ومن نضارة المكان وجماله، غير أنّي لمّا رفعت عيني، ونظرت إلى أبراج الحمراء الشّامخة، رأيت أنّها قد تكسّت بكساء الحزن والبُؤس، فتداعت عليَّ الذّكريات، ودبّت فيها الحياة، وانقلب حالي إلى غير حال، واضطرمت في وجداني مشاعر الحسرة والحرقة بدل مشاعر الإعجاب والفخر.
لم أفلح ولا أظنّني سأفلح في عدم التّباكي على الأطلال، والحسرة على ما فات، فإنّ للأطلال وطأتها عليّ، وعلى كلّ من يحمل ديني ويتكلّم لغتي. ولحوادث التّاريخ والأمجاد الغابرة حبالا تلفّها حول أرواحنا يستحيل التّخلّص منها، ولحنين الذكريات في حياتنا جينات نتوارثها من جيل إلى جيل. قد قالها أبونا الأوّل وتركها على أقدس مكان في مكّة معلّقة:
ــ قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
ــ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ
ــ فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لَم يَعفُ رَسمُه
ــ لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمأَلِ
ــ تَرى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِه
ــ وَقيعانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ
ــ كَأَنّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلو
ــ لَدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
ــ وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِيِّهُم
ــ يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَمَّلِ.
استسلمت لصور الذّكريات التي غزت خيالي، ولنار الحسرة والحرقة التي اضطرمت في وجداني وسِرت كالحالم اليقظ على مهل إلى مدخل الحمراء أجرّب حظّي من جديد لعلّي أفوز بما رُمت إليه، غير أنّي بُؤت بمرارة الخيبة، وخاب مسعاي.
فلمّا رأيت أنّ السّبيل سُدّ في وجهي وعوض أن ألبث في مكاني أتجرّع غصص القنوط أقنعت نفسي أن أتحوّل في مسيري وأتجوّل تحت أسوار الحمراء. وأفتّش عن بقايا من المجد العظيم أسفل أبراجها.
انحدرت منحدرا طويلا أسفل برج الغَدور الّذي يعلو القنطرة التي تربط بين حدائق البرطل وجنّات العريف، لأتوقّف أمام لوحة إرشاديّة كُتب عليها: “هذا ممرّ أبي عبد اللّه المعروف بالملك الشّقي” طوله 860مترا. قلت لنفسي: لقد أصاب ظنّك، فمن هنا خرج أبو عبداللّه الصّغير بعد أن سلّم مفاتيح الحمراء للملكين الكاثوليكيّين.
تابعت السّير بين السّور والأبراج وبين تلّة كثيفة الأشجار، فأبصرت شلاّلا مغمورا بين كومة من الأشجار. يُشنّف صوت مائه المترقرق الآذان، قبل أن ينهمر في جبّ، ويغور في ميزابٍ تحت الأرض، ويُعاود الجريان في ساقية أسفل السور والبرج.
سرت حَذَاء السّاقية حتّى وصلت إلى باب مهجور، فاندفعت إليه ونظرت بين شقوقه، فأبصرت أكوامًا من الحجارة، وعلى حين غفلة منّي همس هامسٌ في روعي:
ــ أليس هذا هو الباب الّذي خرج منه أبو عبداللّه الصّغير بعد سقط غرناطة، وطلب من الملكين إيزابيلاَّ وفرديناند أن يسُدّاه خلفه فلا يُفتح لأحدٍ من بعده، فكان هذا هو الوعد الوحيد الّذي لم يُخلفاه.
ثمّ أترك الباب وأعود إلى ممرّ أبي عبد اللّه بين التّلة والأسوار لأفتّش عن نهاية مجرى الماء، فأصاب بالذّهول عندما ألحظ أنّ الماء ينغمر فجأة لينساب داخل قناة مسقّفة بنفس القرميد العربي الّذي يُسقّف قصور الحمراء وتمتدّ على طول جسر لا يسعها إلاّ هي، لتصل الى داخل قصبة الحمراء.
أتوقّف عند لوحة إرشاديّة أكثر تفصيلاً من الأولى التي ينتهي عندها الممرّ كُتب عليها:
ــ هذا الممرّ هو ثالث ممرّ رئيسيّ إلى الحمراء، وهو يربط بين القسم السّفلي من حيّ البيّازين بالحمراء عبر الفُرجة (الشّقة) التي تفصل الحمراء عن جنّات العريف، ويأتي اسم هذا الممرّ ممّا روته الأسطورة عن فرار أبي عبد اللّه والمعروف شعبيًّا ب: “الملك الشّقيّ” أو ” الملك الصّغير” من الحمراء وسلوكه هذا الطّريق إلى حيّ البيّازين ليتزعّم الثّورة على أبيه السّلطان مولاي أبي الحسن. مكّنت هذه الثّورة أبا عبداللّه من اعتلاء عرش غرناطة كآخر سلطان نصري على فترتين (1482ــ 1483م) و(1487م ــ 1492م).
من الأسماء التي حملها هذا الممرّ أيضا أسم :” باب الطّواحين” حيث كان الماء ينتق. فبالقسم القريب من نهر “حدراه” كانت الكثير من المجاري والجداول التي تمدّ القنوات والطّواحين بالماء الّذي ينساب في جِباب وسواقي ونافورات القصور النّصريّة.
وعجبًا لهذا المكان، كم من أحداث أليمة وقعت فيه، فمن هنا ذهب أبو عبد اللّه الصّغير إلى منفاه الأخير فطُوي سِفر أعظم حضارة عرفتها الإنسانيّة، ومن هنا ذهب أبو عبداللّه الصّغير إلى أنصاره بحيّ البيّاسين، الّذين أعلنوه سلطانًا على غرناطة، ومن هنا بدأت نهاية حكاية مملكة غرناطة، ومن هنا تسلّل الجنود القشتاليّون عبر بوّابة المطاحن إلى الحمراء فكانت نهاية الإسلام على جزيرة إيبريا.
كم من ذكرى تعيسة يستعيدها المرء هنا تحت أسوار الحمراء. ربّما كان مولاي أبي الحسن قاسيا وطاغيًا غير أنّه كان فظنًا مدركًا لما يرمو إليه النّصارى وكان أبيّا وشجاعا لكنّ ابنه هو الّذي أفشل مساعيه، وأحبط خططه، وشقّ الصّف في الوقت الذي كانت الحاجة إلى تراصّه كبيرة،
تقول الرّواية الإسلاميّة أنّ أبا الحسن بن سعد والد أبي عبد اللّه الشّقيّ كان وافر العزم، شديد البأس مع العدوّ، على درجة من الحذق والبراعة والبداهة، وأنّه عمد في بداية عهده إلى تحصين البلاد، وضبط حدودها، وإعادة تنظيم الجيش، فكثر الخير، وانبسطت الأرزاق، ورخصت الأسعار، وعمّ الأمن كافّة البلاد، وأنّه قد أصابه الغرور بعد أن غزا مدينة الصّخرة وانتصاره فيها، فخلد إلى الرّكون والرّاحة، واستغرق في الملذّات، واحتجب عن النّاس فلم يعد ينظر في شؤونهم وفي شؤون الملك، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، فأنكر الخاصّة والعامّة ذلك منه.
ثمّ استفحل الأمر بعد أن تزوّج السّلطان في آخر سنين عمره من سبيّة اسبانية حسناء سيطرت على عقله وأنجبت منها ولدين هما سعد ونصر نافست ضرّتها عائشة الحرّة عليه وأغرت السّلطان بها وبولديها حتّى حرمهم من كلّ حُظوة، ومازالت بأبي الحسن تغريه حتّى زجّ بعائشة وولديها إلى برج قمارش وحجر عليهم، ممّا أثار حفيظة كبراء القصر وأعيان غرناطة وفي مقدّمتهم بنو سرّاج الّذين يُؤثرون عائشة الحرّة وولديها، واشتدّ سخطهم عليه، وانقسم المجتمع الغرناطي إلى فريقين متخاصمين، فريق يُناصر أبا الحسن ومحضيّته وفريق يُناصر عائشة الحُرّة وولدها أبا عبد اللّه.
لم تفتر عائشة ولم تستسلم، وبادرت بالعمل، فاستغلّت غياب السّلطان أبي الحسن الّذي ذهب يُدافع النّصارى عن مدينة لوشة، واتصلت بأنصارها في حيّ البيّازين (البيّاسين) ودبّرت أمر فرارها وفرار ولديها.
تقول الرّواية القشتاليّة أنّها استعانت بأغطية الفراش عند الهبوط من نافذة برج قمارش وأنّها أدلت ولديها ثمّ أدلت نفسها من البرج الشّاهق إلى ضفّة نهر حداره أين كان ينتظرها خدمها المخلصون بالجياد على ضفّة النهر ليس بعيدا عن المكان الّذي أقف فيه أنا الآن، ثمّ تسلّل الجميع في جوف اللّيل الحالك إلى حيّ البيّاسين.
أهزّ نطري إلى الهضبة المجارة للهضبة التي تحمل الحمراء فأبصر حيّ البيّازين (البيّاسين)، لم يعد يفصلني عنه إذن إلاّ هذا الممرّ على نهر حداره.
توهّمت نفسي أنها تسمع صلصة طقم جياد أبي عبدا للّه، وأمّه، وأخيه ووقع حوافرها تسبقني إليه فأعذّ السّير في أثرهم عسى أن ألحق بهم إلى المكان الّذي أعلنوا منه الثّورة على أبي الحسن.