تضبط لغة قويةٌ ومعجم شعريّ معبِّرٌ إلى جانب نسيج بلاغيٍّ مُحكمٌ، معمار النصّ الجديد الذي صدر للروائي الجزائري مبروك دريدي. تحت عنوان “الغراب الأخير” عن دار الباحث. ويحتاج القارئ إلى صبرٍ وتأمّلٍ عميقين لاستيعاب المحطّات الجمالية. وهو يمرّ من واحدة إلى أخرى، صبرٌ يضاهي النَّفَسَ الممتدّ الذي كتب به الروائيّ النصّ.
“الغراب الأخير” رواية شعرية اللغة، بدلالة نسيجها البلاغيّ الكثيف، من أوّل إلى آخر صفحة فيها، لكنها إلى جانب هذه الخاصية الفنية المهيمنة / المشكّلة لبنيتها.
هي رواية تطرح عددا من القضايا ذات الصلة بالوجود الإنساني في حدود خصوصياته المحلية الوطنية ضمن عوالمها السردية، وإن بدت رواية سياسية محضة.
تلعب هذه الرواية على فهم المتلقي، وتأخذ منه بقدر ما تمنح من أفكار. تحت تأثير سطوة الكثافة البلاغية، بما يجعل منها نصًّا موجّها لفئة النخبة أكثر منها للفئات الأخرى، فهي نصٌّعصيٌّ، يخرج القارئ منه بقدرٍ من الاستحسان المُجمل..
وبين هذا الاستحسان وأثره النفسيّ، تفلتُ مؤشّرات فهمٍ كثيرة من يد القارئ وهو يكاد يمسك بالدلالة، حتى إنه يجد صعوبة في استرجاع صميم الفكرة التي شغّل الروائي كل هذه الهالة من الجمالية لأجل تناولها دون ترك عبارة واضحة توجّه المتلقي أو تسمح له بإصدار حكم نهائيّ حول المحتوى.
من الصعب الحكم على هذه المرونة والإفلات اللذين يتمتّع بهما النصّ ويُسهمان في تبديد تلقي القارئ. إن كانا يتعلّقان بصنيعة قصدها الروائيّ في صورة حيلة لجأ إليها لتمرير رسائل بعينها والقفز على قوانين المؤسّسة الثقافية والمقول السياسيّ، أم إن الموضوع هو تحصيل حاصل. كرّسته تقنيات السرد وطبيعة اللغة التي استعان بها في صياغة نصّه.
تتطرّق رواية “الغراب الأخير” إلى موضوع العائلات العريقة، تلك العائلات التي تربطها صلة وثيقة بالسلطة وتظلّ يدها حاضرة في صناعة القرار السياسيّ وصياغة المشهد العام.
وهي عائلات ترث أمجاد الأسلاف، فيما يشبه نموذج الطبقات الأرستقراطية المعروف في أوروبا خلال العصر الكلاسيكي. حيث تجمع الطبقة بين يديها الثروة والوجاهة. وتمتلك مقوّمات واستعدادات العيش تحت نظام المجتمع بما هي جزءٌ فيه، لكن بعيدًا عن القانون أو غير مُلزمَة به، لأنها طرفٌ صانعٌله.
يفهم القارئ، أو يستنتج في ضوء الرواية بأن هذه الفئة تمارس الوصاية على المجتمع وترى بأنها مسؤولة أخلاقيا عن حاضره ومستقبله. وأنه لا يمكن للمجتمع ضمان استمرار البقاء دونها، ولو اتخذ دورها صورة بطش وسطوة لأجل التكفّل بشؤونه، بينما تفرض وجودها عليه بفوقية وتعالٍ، حيث يظلّ دون مزيّتها وتحت رحمتها.
لم تفكّك الرواية الشفرة السرية بخصوص العلاقة التي تربط فئة المرموقين بالسلطة، إذ يظل مصدر قوّتها غامضا، ولا يوجد ما يبرّر المكانة التي تتبوّؤها غير الأمر الواقع الذي يفسّره النفوذ المطلق والتقدير الذي تحظى به في الأوساط الخاصّة.
ومن جهة أخرى، لم تحتف الرواية بالسجل التاريخيّ للأنساب، كما لم ترسم خرائط جغرافية للعائلات العريقة في امتدادها التاريخي، ولم تُشر إلى رصيدٍ طويلٍ في النضال الوطنيّ والمقاومة يمنحها مشروعية وحقّ المبادرة.
وبذلك يظل موضوع مكانة ووجود هذه الطبقة مبهمًا في حدود إيحاءات النصّ، لا تشفع له سوى إشارات متفرّقة عن الثروة وقِدم العهد في المكانة، وهما سببان غير كافيين في تبرير هذه الظاهرة.
تحدث المفارقة في النصّ عندما يتدخّل الروائيّ بإجراء تعديلٍ يمسّ مسار نظام المجتمع الذي يخضع لمنطق الأقطاب في تعريف هويته السياسية، حيث يحرّك الوازع الإنساني/ الأخلاقيّ داخل دائرة اللعبة، فيعدّل وظيفيا وجهة الأحداث، عندما يرفض بطل الرواية تكريس استمرارية نظام اللعبة ويتمرّد، فيتوجّه نحو أليكانت في إسبانيا، كردّ فعل رافض للمشاركة فيما سيحدث داخل الوطن، بعد أحداث أكتوبر 1988.
تنشد الرواية التغيير السياسيّ من الداخل وتعلّق الآمال على “المخلّص” الذي يخرج من صلب المؤسّسة، فيظهر من جديد بعد أن يختفي خلال حقبة من الزمن لدواعٍ ضرورية، تمليها طبيعة الأجواء المشحونة التي تلفظ بصورة آلية الحكمة والهدوء والتأني. وتفسح المجال للمغامرة والتسرّع، وقد كرّس الروائيّ هذه الرؤية التي أعطت مشروعية ظهور وعودة البطل عبد الحميد لجبايلي سرديا.
قد تكون فكرة العائلة العريقة مجرّد رمزية استعان بها الروائي لكشف الاشتغال الوظيفيّ لأنساقية الأنظمة على اختلافها، ولحاجة فنية تليق بنوع الموضوع الذي يرغب في إخضاعه للتجريب من خلال عملٍ سرديّ يترك اكتشاف نتائج اختباره للقارئ.
لكن الواضح في ذلك أن مبروك دريدي عبّر بالوقائع التمثيلية (الرواية) عن قوّة إحكام المفهوم المنظوماتي، حيث لا يمكن الاشتغال داخل منظومةٍ بقوانين دخيلة عليها، كما أن المضيّ بأفق جديدٍ ومختلف، يحتاج إلى موافقة داخل المؤسّسة ذاتها، هي موافقة يمكن افتكاكها، لكن بعد دفع عربون الولاء، المتمثّل في التعبير عن الانسجام مع الجماعة والرغبة في تجديد الاستمرار بإصلاح ما فسد.
وقد كان عربون البطل في “الغراب الأخير” هو العودة إلى “دين الآباء”، حيث استنساخ مبدأ / عادة “المرأة الفاتحة” التي بشّرت بعودة أسطورة لجبايلية مع ابنه عبد الجليل.
بدوره، سجّل حضور المرأة في “الغراب الأخير” خصوصية.
فإلى جانب ورودها شخصية في الرواية بالصورة المعروفة؛ أمًّا ومُربية وزوجة وابنة، حضرت ببُعد آخر، كرّسه الروائي وظيفيا، حيث أشعل جذوة رمزيّتها خلال محطّات التدفّق السرديّ، لتكون محرّكة للسرد وصانعة لكثير من آفاق الدلالة لدى القارئ، ويمكن التقاط إشارات كثيرة لهذه الوظيفية، بدءًا من اختيار الأسماء “رمانة”، “زهور”و”سلطانة”.
يعطي الروائي لكل امرأة / اسمٍ في ثنايا السرد أبعادا وظيفية، فرمانة التي ربّته وكانت خزانة ما عرف من حكايات عن عائلته هي كتلة من الرحمة والحماية والأمان / وطنٌ، وهي الحبة الحُبلى بالحياة التي تفجّر رغبة القول في ذاكرة البطل على اسمها عندما يشرع في النزول من تل الكاستيلو “أتفتّتُ عند السفح رمانة تناثرت حباتها في جهات الكون”.
فهذه المرأة التي يعرفها قلبًا دافئا، تعود على لسانه وهو في إسبانيا مثالا للعطاء ورصيدا للمسكوت.. تعود اسما وسردية يتموّهان بالإشارة إلى فاكهة معروفة.
وفي رمزية أخرى تتلاحم المرأة مع الوطن، فالبطل يختار في إيفا التي تزوّجها بإسبانيا الوطن البديل، لذلك عندما يعود إلى وطنه، يتنازل عن رخصة البدليّة فيها، وحين يجد القصر الذي كان يسكنه مقفرا وموحشا، يتعلّل الأمر في منطق السرد بغياب “رمانة” و”زهور” و”سلطانة” اللواتي لم تعدن موجودات فيه، ومن أجل إعمار القصر وبعث الحياة من جديد، يقول في آخر صفحة من الرواية “ستعود بساتين الرمان..”.
سيكون في وسع النقد قول الكثير حول هذا النصّ الجديد الذي يستكمل آفاقا يشهدها التجريب في مجال كتابة الرواية في الجزائر والوطن العربيّ، وعلى أرجح التقدير، ستشغل بلاغته متابعات الدارسين وقتا، في انتظار مداخلاتٍ وقراءاتٍ للجانب الفكريّ.
للإشارة، مبروك دريدي روائي وأكاديمي جزائري، يشغل منصب أستاذ النقد والأدب بجامعة سطيف، صدرت له أربع روايات، هي “في حضرة الماء” الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع الروائي، و”وادي الجن”، و”لامبيدوزا”، و”الغراب الأخير”، وقد حصل على جائزة طيب صالح في النقد عن كتاب “المكان في النص السردي العربي”.