نشأ علي الكنز بمدينة سكيكدة، بالحي المعروف بـ”ضاحية الأمل” (faubourg de l’Espérance). وكانت سكيكدة تعتبر من أكثر المدن الجزائرية تميزا بالطابع الكولونيالي ومن أكثرها ارتباطا بالحركة الوطنية في نفس الوقت.
عاش علي الكنز في زمن لم يكن فيه بالأمر البسيط أن يتعلّم خلاله طفل في مستعمرة. فكان القيام بذلك بمثابة مغامرة حقيقية، ورغم صعوبتها، فقد زودت جيله بثراء ثقافي، مكّنه من أن يعيش حياة ثقافية ثرية وغنية، أكسبته همة واعتزازا بالنفس أثارتا سخط “الأقدام السوداء”.
إن شعور علي الكنز بضرورة تعلم اللّغة العربية الفصحى، بعد التحاقه بمعهد علم الاجتماع و”تهجيره” من معهد الفلسفة، لم يكن فقط جراء رغبته في تغيير الأوضاع وتأسيس سوسيولوجية وطنية. حيث كان المعربون من الأساتذة يتناقشون فيما بينهم بالعربية التي لم يكن يستوعبها جيدا.
بالعودة إلى مذكراته (كتابات المنفى) ندرك أنّه تعلّم العربية في مصر التي قضى بها مدة سنتين، لأنه وببساطة كان يريد العودة إلى أصول هويته، التي تشكّلت خلال مرحلة طفولته.
فكان يحاول القضاء على هذا الاغتراب اللغوي القسري الذي فرضته سياسة جول فيري. ويذكر، بأنّ والده ألحقه بالكتاب لتعلّم العربية صباحا، ثم بالمدرسة الفرنسية مساءً.
وتشكّل حينها وعيه كطفل جزائري، يعيش في وطن خاضع للكولونيالية، فعرف ظاهرة التمييز مقارنة بالأوروبيين من الأقدام السوداء. وبعدها بسنوات، استوعب جيدا عقدة الأوروبيين من الأقدام السوداء، وإعتبرها “صدمة” عايشوها وهم في الجزائر نجمت من شعورهم بالتعالي على الجزائريين واحتقارهم لهم، حيث كانوا يعتبرون أنفسهم متفوقين عرقيا.
العودة إلى الذات
لقد عبّر علي الكنز بصدق عن حبّه للغته العربية، ورفضه للمناهج الدراسية الفرنسيّة التي لم تكن تقربه من صلب ثقافته.
هو كباقي الجزائريين، لم يكن يعرف شيئا عن تاريخ الجزائر وجغرافيتها، فكتب في مذاكرته، ما يلي: “إنّ الذهاب إلى المدرسة، كان يعني، الصراع على جبهتين: المدرسة ومناهجها المرهقة، ثم الشارع وما يحتويه من شجارات ومنافسة دائمة. فقد كانت الأولى تستوجب بذل جهد ذهني هام، بالنسبة إلى أمثالنا ممن يُـلقن موادَ خارجة عن مجالنا الذهني، مثل جغرافية فرنسا، أنهرها، مناطقها، وتاريخها المشحون بملوكها وحروبها؛ كنا نجهل كل شيء عن مدينة سكيكدة التي كانت تدعى “فيليب – فيل”، وعن لغتنا التي كان يوصى بعدم النطق بها في المدرسة”.
هذا الاجتثاث اللغوي الذي عاشه علي الكنز سنلمسه أيضا حين يضطر بعد استقلال الجزائر للتحدث بالفرنسية حتى لا يضطر للحديث بالعربية السكيكدية.
وكتب: “من النتائج الناجمة عن ذلك الإقصاء العدواني والمتعالي (لمعربينا المتشبثين باللغة التي يفضّلون التحدث بها، “الأزهري) أنني أجبرت، كما هو الشأن بالنسبة لكافة الجيل الذي زاول التعليم في المدرسة الفرنسية، على التحدث بالفرنسية، مخافة أن يؤدي نطقي بالعربية “السكيكدية” المشحون بالأخطاء نحوا ونطقا، إلى تأليب المستمعين ضدي. وحيث إن النوايا الحسنة لا يمكن أن تشكّل وحدها الوسيلة الكافية، فقد أفضى الجهد الذي بذله المكلفون بترقية اللغة العربية، بواسطة الأيديولوجيا بدل المنهجية التربوية الملائمة، إلى عكس المقصود. حيث ساهم إقصاؤهم للعربية الشعبية المستعملة، في تركيز مكانة اللغة الفرنسية ففي جزائر بعد الاستقلال!.(…) فقد أفضت السياسة والأيديولوجية في القضية اللغوية. إلى تلويث أجواء نقاش عرفته بلدان أخرى، بدورها، غير أنها تصدّت لمعالجته بحكمة أكبر. لقد ساهمت العربية المصرية، واللبنانية أو العراقية في مواكبة وإثراء اللغة الفصحى، مما أكسب تلك الثقافات الوطنية أبعادا قومية فعلية”.
أمل المدرّس
وكان حلم علي الكنز، أن يصبح أستاذا في الفلسفة. ويرجع الفضل في ذلك إلى أستاذه في هذه المادة حسن حمدان، وهو أستاذ لبناني جاء الجزائر للتدريس بها، بعد أن تحصل على شهادة عليا من جامعة ليون. معه اكتشف فلسفة جديدة، ومنهجا قائما على تدريس الفيلسوف باشلار، مع ابن سيناء؛ ابن خلدون، فرناند بروديل، بول إلوار، عمر الخيام.
و تحقّق حلم علي الكنز وهو في سن الأربعة والعشرين، وكتب في ذات المذكرات: “تكفّلت بتولي التدريس في “المبحث النقدي لمبادئ العلوم وأصولها المنهجية”، اعتمادا على الدروس التي قدمتها في ثانوية الأمير عبد القادر، منه درس باشلار وطريقته المشهورة “القطيعة الإيبستيمولوجية”. وغيلهايم الذي كان يسمح لي بالانتقال من مؤلفه “السوي والمرضي” إلى فوكو و”البيوسياسة”. وخصّصت السداسي الثاني “للثورة الغاليلية”. أما في تاريخ الفلسفة. حيث الدروس أشق بكثير، فقد تكفّلت بدرس صغير في تطور مفهوم الدولة تاريخيا. بعد أن سمحت لي قراءاتي السابقة بتهيئة ممراته”. بخصوص الفلسفة والإنسانيات عموما، فقد كان النقاش يدور أساسا حول مدرسة “ألتوسير” (ج. روسيير، إتيان باليبار، ماشري، باديو). وأيضا حول جان لاكان، أنطونيو غرامشي وفوكو.
كنا نشعر مع الفلاسفة المعربين بقرابة أكبر من عبد المجيد مزيان، وبقية المدرسين الذين تميزوا بممارسة فلسفة مستقاة من الكتب، وبين “جورج لابيكا” الذي فرغ وقتها من تقديم أطروحة حول ابن خلدون، وكان يساعدنا على أن لا نميل للتعالي عن الأجواء المحلية، مذكرا إيان، في كل مرة، بعدم نسيان موروثنا الفلسفي.
لقد وصل به الأمر إلى حدّ برمجة درس سنوي حول حي “بن يقضان”. لكن حلم علي الكنز لم يكتمل بسبب قرار تعريب قسم الفلسفة الذي عرف في فترة ما بعد الانقلاب صراعات سياسية قوية بين مجموعتين. وذكر علي الكنز في مذاكراته: “تطلب الأمر دعوة المفكر المغربي محمد عابد الجابري
وحسن حمدان من أجل مراجعة الفرع، ووضع برامجه وتحديد مستقبله. والواقع أن مطالب هؤلاء الأساتذة كانت سياسية أكثر منها فلسفية، باستثناء الأستاذ مزيان. ثم بعده الأستاذ شريط الذين قاسمتهم أحاديث كانت ذات محتويات نظرية بحق.
كان سخط هؤلاء الأساتذة يتوقف في حدود التنديد بالفلسفة الغربية، من غير اقتراح أي بديل جاد. والأدهى من ذلك أنّني قد صنفت في هذا الصراع الدائر بين الفئتين، مع الفئة الأولى. صحيح أنني مفرنس. وأحسن الفلسفة الأوروبية أكثر من اطلاعي على الفلسفة الإسلامية، غير أنّني كنت مقتنعا بأنّ التمكّن من الفلسفتين، أفضل وسيلة للترقية الفكرية”.
رحلة إلى مخازن اللغة العربية
قرّر علي الكنز التوجّه إلى مصر لتعلم اللغة العربية في جامعة الأزهر في سنة 1972. وذكر في مذاكراته أنّه كان يشعر ببعض الحرج من أن يكون أميا في اللغة العربية، وأن لا يفهم ما يقوله له زملاؤه المعربين، الذين كانوا يتعمدون اللجوء إلى استعمال لغة معقّدة، ومحرجا جدا لأنه غير قادر على قراءة الجرائد والمجلات بالّلغة العربية، ومن عدم التمكّن والقدرة على قراءة نصوص الفلاسفة العرب.
في مصر تعرّف علي الكنز، حسب ما يرويه في مذاكراته، على نوعية جديدة من المعربين، كانت مختلفة ـ حسبه ـ عن تلك التي عايشها في الجزائر، فقد كانوا مثقفين ملتزمين، يساريين وعصريين، يتناقشون في المواضيع المتعلقة بالسياسة، بالاقتصاد، والتحليل النفسي، التاريخ، والأدب، دون التخلي عن عمق عروبتهم.
وكتب: “ومن غير أن يحملوا أي مركّب نقص اتجاه نظرائهم الغربيين، لم يكونوا يشعرون بالعبء المتمثل في حمل الحضارة العربية الإسلامية، كما يحمل المحتضر المحتاج إلى إنعاش”.
وتابع: “لقد توصّلت في القاهرة، عن طريق المقارنة مع أصدقائي في مصر، إلى فهم زملائي في الجزائر. وبدون تعميم أقول بأنّهم كانوا غير مبالين نسبيا عن المشاكل الراهنة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
والأدهي من ذلك كله، هو أن ذلك قد شمل حتى مجالات اختصاصهم الأكاديمي! لم يكونوا “باليساريين” ولا “باليمينيين”، لا ضد ولا مع بومدين؛ وما دمنا بصدد الفلسفة، ففي وسعنا أن نقول بأنهم لم يكونوا رشديين ولا غزاليين، كانتيين أو هيجليين. كانوا يعتبرون أنفسهم “حماة” حضارتنا، غير أنهم ينظرون إلى المهمة من منظور الحفاظ على متحف، وليس عن واقع تاريخي في حاجة إلى تحديد مكانته في رقعة الحاضر، بعد أن أذابت أشعة الشمس ركام التجمّد الكولونيالي.
وفي الواقع، فقد كانوا محافظين بأتمّ معنى الكلمة. وقد امتدت محافظتهم حتى إلى مجال اللغة التي يتداولونها، أي “الأزهري” بالمصطلح الساخر الذي يستعمله المثقفون المصريون. ومن منطلق إعتبار أنفسهم الورثة “الشرعيين” لتلك الحضارة، فقد اقتصر تصوّرهم للدور المنوط بهم في مهمة “الحفاظ”، من غير أن يولوا عناية تذكر بـ “الاجتهاد”. إنني أعتقد اليوم بأن مشكل التعريب في الجامعة، في عشرية السبعينات، هو مشكل لغوي حقا، لكنه أيضا مشكل اجتماعي وثقافي، في أوسع مضامينه”، إن إشكالية عدم تكوّن نخبة في الجزائر مقارنة بتلك التي تشكلت في مصر والتي أثارها الكنز في مذكراته، تعود لتعثر مشروع تأسيس الدولة في الجزائرمن طرف النخبة نتيجة لعدة عوامل تاريخية كما يرى العديد من الباحثين.
العودة إلى الوطن
بعد عودة علي الكنز إلى الجزائر من مصر، التحق بالجامعة للتدريس في معهد علم الإجتماع، وتمكّن من الجمع في قسم واحد بين الطلبة المعربين والمفرنسين وإلقاء المحاضرات لهما مع الأستاذ برهان غليون بإقتراح من مصطفى ماضي الذي كان طالبا في القسم المعرب.
وكتب علي الكنز عن تلك التجربة التي أسعدته كثيرا “يقول الكنز عن هذه التجربة:” (…) حاولت القيام بتجربة تتمثل في تدريس مختلط، كانت تبدو مشجعة للغاية. فقد تمّ إشراك المجموعتين في نفس الملتقيات المتعلقة بالسوسيولوجيا السياسية، يتمّ تنشيطها تارة من طرف شخصيات عربية أو أوروبية عابرة أو في إقامة مؤقتة. كانت الضوابط التربوية القاعدية قد فرضت إزدواجية لغوية “سلبية”، تحضر اللجوء إلى الترجمة: فقد كان الطالب ينصت باللغة العربية أو الفرنسية، ويجري المناقشة بالعربية أو بالفرنسية. كنت أعتبر تلك التجربة، محطات تربوية ضرورية، متلائمة مع الأوضاع اللغوية التي تعيشها الجامعة، كما إعتبرتها وسيلة للحدّ من الأبعاد التي إتخذها الصراع بين هؤلاء وهؤلاء، وأيضا خطوات أولى في إنهاء الفوارق التي تفصل بين المعسكرين. لقد وجدت التجربة رضا وإرتياحا لدى كافة الطلبة، بإستثناء.. السلطات الجامعية التي وضعت حدا لها. فهمت عندها بأن سياسة المواجهة بين الفريقين كانت مؤسسة بحق على إستراتيجية سلطوية مدروسة”.
وقال الأستاذ مصطفى ماضي: “لم يكن هدف الأستاذ علي الكنز هو فقط التجسير بين المعربين les arabisants والمفرنسين les francisants، بل كان وبخاصة هدفه فتح النقاش والحوار، بل لنقل التواصل بين المغارب والمشارق. خلال التجربة السابقة الذكر المتمثلة في جمع القسمين المعرب والمفرنس، كان لا يكتفي بإلقاء الدروس والمحاضرات، بل تجاوز الطريقة الكلاسيكية المملة والعقيمة باعتماده دعوة أصدقاء وباحثين ومفكرين زملاء له من العرب والغرب للمشاركة بتدخلات لتعليمنا حرية المناقشة والمحاورة (يوسف درويش، سمير أمين، إتيان باليبار، أنور عبد المالك، حسن حمدان، ج.لابيكا)، بل قل لـ”مجاسرتهم” علميا، إن صحّ التعبير. كان هدفه التربوي تدريبنا على كيفية مناقشة الفكر بالفكر. بفضله بدأنا مداعبة صفحات المصادر والكتب المرجعية لكبار المؤلفين: اندري غندر فرانك (André Gunder Frank)، شارل بيتلحم (Charles Bettelheim) سمير امين، ايتيان باليبار (E.Balibar)، جورج لابيكا (G.labica) البير ميمي (A.Memmi)، الثنائي محمود حسين (Mahmoud Hussein)،أنطونيو غرامشي (A.Gramsci) ،عبد الله مازوني A.Mazouni و الكثير من منشورات فرانسوا ماسبيرو (F.Maspéro) الذي تعلمنا من منشوراته علي الكثير من الفاعلين في ميدان السوسيولوجيا. كيف لي أن أتعرف على فرانسوا ماسبيرو أو فرانسيس جانسون أو يوسف دويش لولا علي الكنز ومبادرة جمع طلبة الشعبتين معا؟”.
المثقّف النقدي
إن علي الكنز، لم يكن عالم إجتماع عادي، بل كان مثقفا نقديا بإمتياز، على شاكلة غرامشي، وعمار بلحسن. وقال عنه الأستاذ ماضي مصطفى: “هو رجل ناضل فكريا من أجل استقلالية علم الاجتماع قصد تأصيله وتوطينه محليا، تناولا ومنهجا. إنه رجل يُعتبر خير ناطق باسم جيل شديد المراس أمثال محمد بوخبزة وجيلالي اليابس الخ..، رجل كان يصرخ بقلمه عاليا ودون خوف من حراس المعبد ليقول لهم: “إذا أردنا تَقويمَ المُمارَسات السوسيولوجية الحاليَّة في بلادنا، أمكننا وصفها بتبعيَّتها الأساسيَّة للسوسيولوجيا الغربيَّة، يمكن أنْ نؤكِّد هذه الحقيقة دون خوفٍ. وقد انسَحَب هذا الحُكم علينا سابقًا، تأخُذ هذه التبعيَّة أشكالَ التَّكرار والتقليد، سواء أكان هذا التقليد واعيًا أم غير واعٍ؛ ممَّا يُؤدِّي إلى انعِكاس، أو بالأحرى انحِراف قَضايا وإشكاليَّات العالم الغربي داخل البِنَى الثقافيَّة والإجتماعيَّة لعالَمنا.. وفيما يتبدَّى تأثير النظريَّات الأنكلوساكسونيَّة في المشرق، نُلاحِظ أنَّ السوسيولوجيا الفرنسيَّة هي التي تُسَيطِر على المغرب(…)، نظريَّات دخيلة من إنتاجٍ غربي، نرى هذه النظريَّات قد نُقِلت كما هي إلى الجامعات العربيَّة لتردد فيها بشكلٍ آلي، فيبدو كما لو أنَّ الممارسات السوسيولوجية في بلادنا قد اقتَصَر دورُها على أنْ تكون محطَّات وساطة للنظريَّات الغربيَّة؛ أي: أنْ تقوم بالدور السلبي الذي يعودُ للمقلِّد”.
وأضاف قائلا: “الجديد الذي جاء به علي الكنز يؤكد أيضا على أن مصداقية العلم رَهْـنٌ بمصداقية استعمالاته. إنه رجل إلى جانب نضاله الفكري التنويري، كان يناضل فكرا وممارسة من أجل إثبات أهمية المصالحة اللغوية بين النخبتين “المعربة” و”المفرنسة”. رجل كتب مئات الصفحات ليس فقط لتحرير التناول السوسيولوجي وتخليصه من السذاجة والاتكالية المتمثلة في الإعتماد على الأطروحات الأورو – مركزية، بل وبخاصة من أجل القضاء على القطيعة اللغوية لأنها. حسب رأيه، جرثومة أنهكت الجامعة وتسببت في القطيعة المرجعية والفكرية، رجل ناضل، ليس فقط نظريا، بل كتابة وممارسة قصد نشر ثقافة مناقشة الفكر بالفكر والإبتعاد عن الأدلجة والسياسوية”.
ولأن علي الكنز عاشق للقراءة ويعتبرها فخامة شخصية فقد عمد لتأسيس سلسلة “الأنيس” مع صديقه مدير مؤسسة الفنون المطبعية محمد بن منصور، وهو مشروع قائم على إعادة نشر المؤلفات الكلاسيكية الكبرى، التي إنقضت فترة خضوعها لـ “كتاب الجيب”، وتكون مزدوجة اللغة.
وكتب في مذاكراته: “كُلفت بالجانب المتعلّق بالعلوم الإنسانية، وكُلف محمد بلقايد، وهو أستاذ في الأدب، بالروايات، بينما تكلّف محمد هلي، وهو صحفي، بالروايات البوليسية. كان المبدأ بسيطا: ينبغي أن يوطأ لكل مؤلف بتقديم من طرف مثقف جزائري. أسهمت في ذلك، كافة معارفي من الزملاء وغيرهم، وإلى غاية مغادرتي الجزائر سنة 1993، تمّ نشر حوالي مئة عنوان، في الاختصاص الذي تكفلّت به. يمكن أن نعتبر الإنجاز بكيفية ما، موسوعة لنا، إذ لا زلت إلى حد اليوم، عند زياراتي المقتضبة للجزائر، أعتز لمشاهدة تلك المؤلفات الصغيرة، التي يمكن التعرف عليها من بعيد في واجهات المكاتب، فتذهب بي الذكرى في الحين إلى بن منصور و”إجتهاده” الثقافي. فهو يمثل في نظري، على غرار من كنت أعرفهم شخصيا مثل حسن حمدان، يوسف درويش، خير الدين حسيب، ذلك الجيل الذي جاء بعد الفترة الاستعمارية، حاملا للقدرات الفكرية المتضمنة في تلك الطاقة التي كانت تدفع بنا إلى تجاوز الذات، جيل يمكن أن يستعان في الإشارة إليه بعباراة غرامشي: “الحاملين لمبدأ الأمل”؛ الأمل الذي لولاه لإندثرت الإرادة في دوامة الأحقاد”.
وعن أهمية سلسلة الأنيس التي أشرف علي الكنز على إصدراها كتب الأستاذ مولود عويمر أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة الجزائر 2: “عرفت الأستاذ علي الكنز من خلال سلسلة الأنيس التي كان يشرف عليها بين 1989 و1993، وهي مجموعة من كتب الجيب هدفها وضع العلم في متناول الجميع. وكانت تضم أشهر المؤلفات في التراث العربي والإسلامي القديم (الجاحظ، الفارابي، ابن خلدون، ابن طفيل، ابن المقفع، ابن بطوطة..) والفكر العربي الحديث (رفاعة الطهطاوي، محمد عبده، الكواكبي، شكيب أرسلان، علي عبد الرازق، سلامة موسى..) والفكر الإنساني (ميكيافيلي، سبينوزا، روسو، لوبون، فرويد، دوركايم،..). كنا نحن الطلبة نقتني هذه السلسلة التي وصلت إلى مائة عنوان بثمن معقول، وفتحت لنا آفاقا في عالم الفكر والأدب. كما عرفته من خلال سلسلة الصاد التي نشر فيها مجموعة من الكتب في القضايا المعاصرة باللغتين العربية والفرنسية، وأذكر الآن “إغتيال العقل” لبرهان غليون، و”سيد قطب الخطاب والأديولوجية” لمحمد حافظ دياب، “الثورة الجزائرية سنوات المخاض” لمحمد حربي، “الإسلام السياسي” لمحمد سعيد العشماوي، “الصدفة والتاريخ حوارات مع بلعيد عبد السلام” لعلي الكنز ومحفوظ بنون…الخ”.
ومن بين أهم إنجازات علي الكنز أيضا إلحاق المتخرجين من قسم علم الاجتماع بمركز البحوث الاقتصادية من أجل التنمية، كما كتب دراسة قيّمة حول “الاقتصاد الجزائري “وصدر سنة 1978 تحت اسم مستعار”ط .بن حورية “، عن منشورات ماسبيرو، بعد مرور مدة قصيرة من وفاة الرئيس بومدين، وقد حرّره علي الكنز في سرية، وهو دراسة نقدية علمية للنظام السياسي.
المراجع:
“كتابات المهجر”مذكرات علي الكنز ترجمها إلى العربية مصطفى ماضي وستصدر عن دار نشر جزائرية.