تتسارع الأحداث ناحتة تضاريس الحياة من حولنا فتغيّر ملامحها بتغيّر عامل الزمن.
نتابع تطوّراتها عبر المحطات الإعلامية والمنصات الاجتماعية، فنتيه بين الحقيقة والزيف وبين الجوهر والمظهر. يصاب المتابع بالتخمة جراء هذا التسونامي المعلوماتي وغالبا ما ينصرف إلى ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من وسائل ترفيه، دون الاكتراث لعامل الوقت والقيمة المعرفية. وهنا ينقسم المستخدمين إلى:
من يدخل في حالة توّحد متقدّمة تجعله يعيش في معزل عن الواقع،
ومن يرى ويعي التبّاين والتضارب في المعلومات المتداولة لكنّه مستسلم لقانون الجاذبية الّذي يتحكم فيه أصحاب الفك والربط من حوله، تسحبه تارة إلى الأسفل وتتركه يسبح في الفضاء تارة أخرى.
انقسامات النخب زادت وفئاتها تباينت
بينما تجد الفئة الثالثة نفسها سابحة ضد تيار قويّ محاولة إيقاف الرياح العاتية بحمل مشروع نهضويّ يحقق التغيير المنشود. إنّها فئة المسافرين على متن الرحلات التأملية لاستكشاف المحطّات الإصلاحية.
وبينما كان أحد هؤلاء المسافرين في خلوة الكترونية على متن رحلة تأملية رأى فانوس مالك بن نبي يشتعل. أحد رواد النهضة الفكرية في الجزائر. عملاق أفنى عمره في البحث عن سبل تحقيق النهضة، فطرح أفكارا مختلفة زواياها متميّزة دلالاتها جريء طرحها. فتح للجزائر خاصّة وللعالم العربي عامّة نافذة مطلّة على العالم داعيا إلى الانفتاح على الآخر.
أقرأه السلام دون أمل في تلقي رد، لكن سرعان ما وصله إشعار بصول رسالة. فدار بينهما الحوار التالي:
أشكر لحضرتك كرم التواصل معي ولا يسعني وصف شعوري في حضرت قامة مثل حضرتكم. فانوس حضرتكم كان الوحيد المضيء، فراسلتكم علّني أحظى بدردشة انتهل منها ولو اليسير من علمكم.
كل الفوانيس مضيئة لكن يتعذر عليكم رؤية بعضكم.
كيف يمكن ذلك ونحن نفعّل خدمة الفوانيس الالكترونية بطريقة إرادية؟
₍ ج ₎ أصبحت الفوانيس تُفعّل من عقلكم الباطن، فلا تضاء إلاّ إذا كان لديكم استعدادا لاستقبال أفكار الآخر. الآن كلّ واحد منكم يعيش في فقاعة معتمة، وما تلك الفقاعة إلا تكتّل “أفكاره المجسدّة” التي أقحمته في دوامة الشخصنة Argumentum ad hominemوالتّعصب للفكرة، فأوهمته أنّه يملك الحقيقة المطلقة وأفكار الآخر لاغية باطلة.
الثقافة ظاهرة ناجمة عن البيئة لا عن المدرسة
نحن بذلك مجتمع متكوّن من أفراد تعاني من مشكلة تواصل؟
بمعنى أدق مجتمع فاقد لأحد شروط تكوين جوهره وهو “مركب الانسجام”. حتى تتكوّن الكتلة الاجتماعية يجب أن تشعر بوحدة الغاية والمصير فيصير بذلك الانسجام تلقائيا آليا بين أفرادها.
تُوحدّنا غاية التغيير ونعي أن مصيرنا واحد. أليس هذا كافيا؟
لو كان كافيا لما بهت لون حراككم وذهبت ريحكم واختلفت مشاربكم. لم يفقه أغلبكم ماهية التغيير ولم تُحدَّد آلياته. توحدتم للمطالبة بحقوق آنية ثمّ سرعان ما انقسمتم إلى مؤيد راض بما تحقق منها، ومعارض مصرّ على تغيير جذري ومستقيل تائه بين الاثنين.
لكنّه كان السبيل الوحيد للمطالبة بالتغيير.
₍ ج ₎ الحراك ذاته ظاهرة صحيّة وقد سبقكم إليه أسلافكم، بل هناك من هو في حراك مستمر، وثورة دائمة من أجل تحقيق غايات قد تكون أسمى من تغيير نظام ورفض تشكيلة حكومية. لكنّه تلّخص في هبّة شعبية لم تبلغ منتهاها و”أي إخفاق يسجّله مجتمع في إحدى محاولاته إنّما هو التعبير الصادق عن درجة أزمته الثقافية”، ويتجلى الإخفاق هنا في غياب الانسجام بين المؤيد والمعارض والمستقيل وتعدّد مشاربهم. ولا يمكننا أن نقول على أي منهم أنّه يحمل مشروعا نهضويّا أو يطمح لبناء حضارة مادام غير مدرك لضرورة اعتبار عامل الإنسان.
أين الحلقة المفقودة التي من شأنها تحقيق الانسجام ومن ثمة التكتل؟
التوجيه، فالتوجيه وحده قادر على تحقيق أساس متين وتوافق في السير ووحدة في الهدف، والرفض المطلق لأيّ تكتل أو تمثيل غيّب هذا العامل الحيّوي.
لكنّنا أردناها شعبية بامتياز يعود فيها القرار للشعب وحده دون قيادة قد تحيده عن مساره !
₍ ج ₎ وهل الشعب مؤهل لقيادة نفسه بنفسه؟ وهل هو حامل لمشروع نهضويّ أصلا؟
أليس التغيير مشروعا نهضويّا؟
التغيير الّذي طالب به الحراك ضيّق الأفق لا يرقى لأن ينعت بمشروع نهضة دون التقليل من أهميته وما حققه من مكاسب. يحتاج مشروع النهضة إلى ثقافة تؤهل المجتمع لحمله.
على هذا الأساس حتّى في وجود قيادة توّجه الأفراد، لن نبلغ المبتغى مادام المجتمع يعاني من مشكلة ثقافة؟
تكوّن مركبات الثقافة جوهر المجتمع والتي تتمثل في الأخلاق والانسجام والمنطق العملي Logique Pragmatique والعلم، ومتى تمّ الإخلال بأحدها نتج الإخفاق في تحقيق البناء وإحداث التغيير. وقد غاب الانسجام لمّا اختلفت الشعارات وانقسمت الأفراد حسب المطالب الفئوية، وغاب العلم لمّا لم تظهر نخبة قيادية توّجه الأفراد وتصحح المسار وغاب المنطق العملي. ظهرت أفكار لكنّها لم تترجم لحركات وأعمال.
بالضبط، فالثقافة تكسب الفرد وعيا بماضيه وحاضره وتربطه بمجتمعه، وتؤهله لفهم واستيعاب الظواهر الاجتماعية والسياسية من حوله، فتجده عارفا بحقوقه مدركا لواجباته،فتمنحه القدرة على بناء مجتمع.
هنا تطرح مشكلة النخبة المستقيلة فمن غيرها يتولى مهمة حلّ مشكلة الثقافة؟
النكبة في النخبة فعلا. زادت انقسامات النخب اليوم وتباينت فئاتها، بين فرونكوفوني ومعرّب وبين مثقّف مركز ومثقّف هامش فضلا عن المارين عبر خطوط الأنابيب.
ما مرد هذه الانقسامات والمنشأ واحد والوطن واحد والمصير واحد؟ ومن هم المارين عبر خطوط الأنابيب؟
مهلك يا بني ! سنحاول أن نختصر التفاصيل حتى نعالج الجوهر دون أن نطيل.
اعذرني أستاذي فالتساؤلات عديدة والفرصة فريدة.
فأمّا الانقسامات والتباينات فترجع إلى طبيعة التكوين، حيث غلب على كلّ فئة توّجه فكري وإيديولوجي حال دون تكتل هذه النخب وانسجامها، ولا يمكن الحديث عن أيّ مشروع بناء حضاريّ في ظل غياب هذا التكتل. الأمثلة التي تثبت هذا عديدة، ويكفينا الوقوف على الجدليّات التي أسالت حبرا كثيرا في الآونة الأخيرة وشغلتكم على المنصات الاجتماعية، بغض النظر عن من وراءها والغاية من إثارتها.
تقصدون مسألة اللّغة والهويّة والدين؟
نعم فبعد 58 سنة من الاستقلال مازالت مسألة اللّغة والهويّة محلّ جدل، وما زالت النخب تتناحر بين مدافع عن الفرنسية التي يرى فيها لغة علم وحضارة رغم سيرها في طريق الاندثار بشهادة اللّسانيين من أهلها، وبين من يجد في الانجليزية مخرجا، فضلا عن الجدل القائم حول اللغة الوطنية، والآراء المتضاربة حول دور المرأة ومساحة حريتها، والقضايا الدينية وغيرها.
ما يحيّرني أنّ ضرورة الانسجام والمنطق العملي والعناية بثلاثية الإنسان والتراب والوقت، أمور وردت في مؤلفاتكم وأفكار طرحتموها وأسمع دويّها من به صمم، ومع ذلك لم تترجم إلى عمل؟
تقديم الفكرة دون إرادة وسلطة رسمية لضمان تنفيذها لا يكفي إن أردنا إصلاحا أو تغييرا. لابد من تحقيق ثنائيّة الإرادة المعنويّة والإمكان الماديّ.
فبات الأمر بذلك مستحيلا، على الأقل في ظلّ الأزمة السياسية الراهنة !
منطق المستحيل يعيق التحاقنا بالركب الحضاريّ. عرفت الجزائر حركات إصلاحية وحداثيّة، حقّقت ما حقّقت وآمنت بالتغيير حتى وإن لم تبلغ مبتغاها. علينا البحث في أسباب إخفاقهم ونحدّد مسؤولياتنا حيال ذلك بالابتعاد عن العاطفة والتحلي بالموضوعية لنبني عالم أفكار على أسس سليمة.
ماذا تقصدون بالابتعاد عن العاطفة؟
أن لا يرجح المعربّون والإسلاميون كفّة الحركة الإصلاحية ولا يرجح الفرونكفونيون كفة الحداثيين مثلا، وأن نجري دراسة موضوعية لا تحرمنا من مزايا وانجازات صاحب الرأي الأخر. نحن شعب عاطفي وكفى بالزوابع الالكترونية المناسبتية دليلا وهذا عيب سيحجب عنا الأفق.
لكن لعلّ أكبر عائق اليوم هو كبح جماح أيّ مبادرة إصلاح وتغيير؟
الكبح والتضييق وقرض الأفكار من قبل من أسمّيهم بالدخدخيات، أمر عانت منه جميع الأجيال ولا سبيل لصاحب الفكرة غير العمل بما يُتاح له وفي إطار غير رسمي. الفكرة في حاجة إلى من يدافع عنها ويحميها ونطالب السلطات الرسمية بذلك دوما، لكن هذا لا يعني أن نبقى ننتظر رفع الحصار على الأفكار بطريقة سلبية، “فقد رأينا تحت الاحتلال الألماني المثقفين اليهود ينشغلون بما يمكن لنخبة أن تقوم به اعتمادا على بساطة العلم الذّي يحوزونه من أجل خدمة شعبهم حتى وإن كان ذلك تحت المراقبة الشديدة”. يجب التحرّك “فإن تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ”.
وماذا عن عابري خطوط الأنابيب الذين ذكرتموهم آنفا؟
حديثي عن خط الأنابيب في ميدان الأفكار إشارة إلى هجرة الأدمغة ومنهم فارّين ومنفيّين. وها هي الجزائر اليوم تعاني هجرة كفاءات عالية من شأنها إحداث الفارق إن تكتلت.
إنّها معضلة حقا، خاصّة وأنّها أصبحت حلم الجميع. دوافع عدّة وراء هذا التسريب الفكري، عدم تكافئ الفرص، وعدم العناية بالبحث العلمي والمقابل المادي الهزيل والاعتماد على الخبرات الأجنبية على حساب الوطنية والمنظومة التربويّة الهشة في مجملها. وما الحلّ في رأيكم؟
₍ ج ₎ تضمّن سؤالك الجواب، لكنّني أراك ناسيا دافعا آخر بل ممّهدا لهجرة الأدمغة، وهو خوصصة المؤسسات التربوية وفتحها المجال لتدريس البرامج والمناهج الأجنبية، منها الفرنسية ومنها البريطانية. إنّها تضيف صنفا ثالثا وهو “المبرمجين”، حيث لا يترك لهم التباين بين السياق الثقافي الذي صمّمت البرامج الأجنبية في إطاره والسياق الثقافي للمجتمع الذي يعيشون فيه، خيارا غير الهجرة في أغلب الأحيان.
الأجدر غلق هذه المدارس، فكيف للأولياء الزج بأبنائهم في مدارس تجعلهم يعيشون على هامش ثقافتين؟
سبق وأن حدثتك على ضرورة الابتعاد عن العاطفة. لو نظرنا للظاهرة بموضوعية فسنجد أن بعض الأسر ترّجح كفّة المدرسة ذات البرنامج الأجنبي لاستدراك الهوة المعرفية بين المنظومة العربية والغربية.
لكن هذا البرنامج لا يكفل المواد التي تتضمّن كلّ ما اتصلّ بثقافتنا العربية الإسلامية الأمازيغية، أليس كافيا لمقاطعتها؟
نجد أنفسنا أمام خيارين، إمّا منح الطفل رصيدا معرفيا يؤهله لسوق العمل ويفتح له آفاقا مستقبلية وفي الوقت نفسه، حيث “لا يكون العلم استنباطًا لحاجة مجتمع يريد معرفة نفسه ليحدث تغييرها”، وإمّا برنامجا يعنى بالثوابت لتأهيل ذات الطفل للمشاركة في البناء الحضاري والذّي لم تتوفر البيئة المناسبة لتحقيقه.
قبل لوم اللاجئين إلى المدارس الأجنبية كان الأجدر فحص نقائص المدارس الحكومية، فجراء النمو الديمغرافي لم تعد الأقسام تستوعب العدد الهائل من المتمدرسين، زد عليه نقص الإمكانيات الماديّة والأدوات البيداغوجية إن لم نقل انعدامها وما تتطلّبه من رحلات وتطبيقات ونشاطات تربوية وعلمية، وعدم توفر أغلب المدارس على مطاعم مدرسية ونقل مدرسي ممّا يصّعب المهمّة على الأمهّات العاملات. فضلا عن ضعف المنظومة التربوية ومضامينها التي لا تصنع فكرا نقديا The Critical Thinking ، ولا تكوّن إنسانا تقدميّا متفتحا ديمقراطيا، فلا تترك أمام الأولياء المقتدرين عامّة خيارا غير المدرسة الخاصّة.
بالتالي المدرسة العمومية لا تكوّن فردا قادرا على التغيير، والمدرسة ذات المناهج الأجنبية تكوّن فردا يعاني من “فراغ ثقافي”، فما الحلّ إذا؟
الأخطر أننا نسير نحو انقسام نخبوي آخر في ظل اختلاف المضامين والمناهج، الّذي يؤدي الى اختلاف الرؤى واختلاف السلوك وبالتالي استحالة التكتل وتحقيق الانسجام. الأجدر إصلاح المنظومة التربوية، فنؤسس لمدرسة تجمع بين متطلبات الواقع المعرفي والاقتصادي ومتطلبات البناء الحضاري الذي يرتكز على التمسك بالثوابت، شريطة بعث فكر جديد يحرّرنا من قيد الموروث الثقافي، فيقوم بعملية “تصفية لعاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والاجتماعي ممّا فيه من عوامل قتّالة ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجوّ للعوامل الحيّة والدعاية إلى الحياة”، والحرص على توحيد المنهج بين القطاع العام والخاص لتوحيد الغاية وتوجيه السير وتحقيق وحدة نخبوية تحقق المشروع النهضويّ.
لو أرجعنا البصر كرتين لوجدنا أن كثيرا من خريجي المدرسة العمومية يعيشون على هامش ثقافتين وهو أمر لا أجد له تفسيرا !
“الثقافة ليست ظاهرة صادرة عن المدرسة، ولكنّها ظاهرة ناجمة عن البيئة” وبيئتكم اليوم الكترونية بامتياز.يتيح العالم الافتراضي والإعلام نافذة مطلة على منتجات الحضارة الغربية المغرية ونمط حياة يعانق المثالية، عبر الصورة التي ترسمها الصناعة السينمائية الغربية وحملات شيطنة وتشويه كلّ ما هو عربي وإسلامي وإفريقي، فلا يرى الشاب من الغرب إلاّ بريقه فيصبح وجهته الأولى ومبلغ سعيه.
ما يظهر له من تباين جلي بين واقعه المعيش ورخاء ما وراء البحار، يجعله يتخلى تلقائيا عن عباءته التي لم يعد يرى منها بدا، ليصير تقدميّا. غذّى هذا الانبهار بالغرب والتنصل من كلّ ما هو أصيل وأصلي، كتابات وخطابات فئة نخبوية عمدت إلى تهشيم كلّ ما هو محليّ وتثبيت المثالية المسوّقة. وبالتالي ” ضيّع –هذا الشباب- الأصول الثقافية التي تنتمي إليها أسرته ولم يحصل على الأصول الثقافية التي أراد استيرادها. فأصبح يعيش على هامش ثقافتين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”
بهذا اتسعت الهوّة وأصبح الأمر أكثر تعقيدا، بتنشئة جيل غير قادر على التغيير، متنّصل من ثقافته المحلية، يائس من واقعه وطامح إلى الهجرة!
الأمر مستعص فعلا، لكن المؤكّد أن المستحيل لن يلحقنا بالركب الحضاريّ كما أسلفنا. علينا التفكير في إصلاح المنظومة التربوية وبالموازاة شنّ إصلاحات من شئنها تهيئة البيئة الحاضنة للفرد.
تقوم الجهات الوصيّة بتجريب مناهج تحت عنوان الإصلاح، فهل هي ظاهرة صحيّة؟
ارتكب قطاع التربية أخطاء عديدة ومادام مصرا على انتهاج سياسة استيراد المناهج فلن نجني ثمار هذا الإصلاح المزمع. تَفقد الحلول المستعارة من البلدان المتحضرة فاعليتها بانفصالها عن إطارها الاجتماعي. فعملية الاستعارة محمودة إذا ما قمنا بتهيئة البيئة المواتية لها بحيث تثبت النجاعة نفسها إذا ما طبّقت في البيئة الجديدة، هذا إذا كانت قد أثبت نجاعة في بيئتها الأصلية. ولنظام ل.م.د L.M.D خير دليل على ذلك، فبغض النظر عن تجاز بعض الدول له فهو يحتاج إلى إمكانيات غير متاحة في الوقت الراهن، فجلّ الجامعات تعاني من مشكلة عدم التأطير الكافي، وعقبة الإشراف الذي يعتبر ركيزة هذا النظام، فضلا عن عدم توّفر المراجع والمكتبات اللازمة ومعضلة الانترنت الذي أصبح من الأساسيات.
الأصح أن نكف على استيراد الفكرة المميتة “وهي الفكرة التي فقدتْ هويتها وقيمتها الثقافية بعد أنْ فقدتْ جذورها التي بقيت في مكانها، أي في محيطها الثقافي الأصلي”، وأن نوّجه أنظارنا إلى تلك النماذج التي حققت نهضة وأثبت فاعلية كسنغافورة وفنلندا. تمكنت سنغافورة من وضع مناهج تتحدث لغتها وتناسب سياقها الثقافي، وتبعث بروح الإبداع والابتكار وتلامس واقعها المعيش فكانت لها فاعليّة في المجتمع.
يذكرني هذا بنظريات ادغار مورين Edgar Morin ، الفيلسوف وعالم الاجتماع، الذي تحدّث بإسهاب في مؤلفاته عن ضرورة ربط الواقع بمضامين المناهج الدراسية !
هو من المدرسة البنائية Constructivisme، ميزته أنّه يعنى بالفرد ويحث على ربط التعليم بالسياق الثقافي والاجتماعي بدولة ما مع مدّ الجسور بينها وبين المجتمع الدولي، فقد صار العالم قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا الحديثة، ولا يمكن تكوين الفرد بمعزل عن ما يجري في العالم. “والضمير الإنساني الذي لم يألف العمل على حدود الثقافات تسيطر عليه عادات جذبية مزمنة تحمله على أن يرى الأشياء من زاوية ضيقة”.
ألا يشكل الانفتاح خطرا على ثقافتنا الإسلامية؟
بل “من الضروري ومن الأولويات بالنسبة للمجتمع المسلم أن يتخلّص من النفسية الانعزالية الموروثة عن قرون الانحطاط، حتى يثبت حضوره في العالم ولا سيما عندما يؤلف الطبقة المثقّفة في البلاد”. الطابوهات التي حفّ بها العالم الإسلاميّ نفسه، هي سبب انغلاقه وتخلّفه عن الركب الحضاري، ثمّ ينتفض فجأة لمّا يصفعه الغرب بما يراه مساس بمقدّساته أو دوس على قضاياه الجوهريّة، وهو ما يعيشه اليوم مع قضية الكاريكاتير المسيئة للرسول محمد صلوات الله عليه أو قضية التطبيع.
قضية الكاريكاتير تُكّن عن تكالب الغرب وأحقادهم الدفينة ، وما تلك الانتفاضة إلا لنصرة النبيّ المختار ! أليست الدعوات إلى القطيعة مشروعة؟
ننصر نبيّنا ونذكّر بولائنا وبرائنا أمر مطلوب ومحمود لكنّه لا يكفي. يجب أن نقف وقفة الدارس الفاحص للأحداث. عندما يصاب الإنسان بمرض يقوم الطبيب بالفحص لتحديد مكان العلّة ثمّ يبحث عن سبب الإصابة فيمرّ إلى العلاج والذّي يتضمن الابتعاد عن المسبّبات وإجراءات الوقاية، كذلك الحال هنا فلا يمكننا أن نكتفي بالتنديد والتهديد والوعيد الذّي لا يتعدى صوته حدود شاشات الأجهزة الالكترونية.
أمّا عن القطيعة فلا يمكننا أن نصفها بأكثر من انفعال. لا يختلف اثنان على كوننا أمّة تأكل ممّا لا تزرع وتلبس ممّا لا تتنتج فعن أيّ قطيعة نتحدث؟ ليس مطلوب من المسلم “أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينّظم هذه العلاقات معها”، ثمّ يراجع علاقته بدينه ليعي أنّه من بادر بالإساءة والتشويه عندما حاد عن جوهر الدين، وألبسه ثوبا باليا من معتقدات لا تمت له به بصلة وممارسة هو بريء منها، كاللّجوء للدجل باسم الرقية الشرعية والتبرّك بالأولياء والصالحين وهي ظاهرة من مخلفات الاستعمار ومازالت تلازمه إلى حدّ اليوم، فضلا عن أئمة البلاط الذين وصلوا حدّ التحريف والتزييف خدمة للساسة الذين عاثوا في الأرض فسادا.
قام الإسلام فور بزوغ فجره بعملية تنقية فأزال الأفكار والممارسات البالية التي طبعت العصر الجاهلي، لكنّنا عدنا إلى ضلالنا القديم حيث نرى إعادة تراكم طقوس وعادات وتقاليد بالية رجعية مثبطة لأيّ تطوّر محتمل.
إذا عرف السبب بطل العجب يا بنيّ، ولم يتطاول الغرب على ديننا الحنيف من فراغ. هذا لا يعني تقبّل الإساءة لكن التّصرف بمنطق عمليّ والتحلي بالفاعليّة وتصحيح المسار هو المطلوب.
أكثر ما أصابنا من أئمة البلاط تبريرهم تطبيع العرب مع إسرائيل. فكيف بلغنا هذا الحدّ؟
كان ما كتبته عن المسألة اليهودية أكثر ما أبقي في الظلّ، وكأنّ هناك من يتعمد إبعادنا عن هالة بني صهيون، حتّى يتسنى لهم العمل بهدوء للوصول إلى الهيمنة التي يطمحون إليها.
لقد هيمنوا على عالم المال والأعمال بل والأفكار في أوروبا وأمريكا والعالم بأسره ، فتجد ذوي الثراء الفاحش في العالم يهود كعائلة روتشيلد مثلا، ومن كبار المفكرين الذين أثّروا على الفكر ووجهوه يهود كسبينوزا وفرويد، ويتواصل مسلسل الهيمنة والسيطرة مسايرا الزمان والمكان، حريصا على تطوير أساليبه وتقنياته. تجاوز اليهود اليوم الحروب التقليدية وأساليب الاحتلال التي مازلنا نضيّع وقتا ثمينا في اجترار وقائعها والتنديد ببشاعتها. هم اليوم، ودون أن يبرحوا أمكنتهم، يكتسحون عقولنا ويوّجهون فكرنا ويرّبون أبناءنا بما يخدم قضيتهم، بالتّحكم في أكثر الأسلحة تأثيرا وفتكا وهي وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية.
يعيش اليوم العالم حالة شبيهة بأفلام الخيال العلمي أين تظهر قوى الشرّ التي تريد أن تصبح سادة العالم فتحوّل الجميع إلى زومبي يمتثلون لأوامرها، وما تلك الأفلام إلاّ صناعة يهودية، فهم المترّبعون اليوم على عرش الصناعة السينمائية كوودي ألن Woody Alain وألن شاباط Alain Chabatوستيفن سبيلبرغSteven Spielberg . ولا يقلّ هذا خطورة عن السيطرة والهيمنة الالكترونية حيث أنّ لاري بايج Larry Page المؤسس الشريك لشركة قوقل google يهودي، ومارك زوكربرغ Mark Zuckerberg مؤسس الفايسبوك الذّي أدخل العالم في حالة إدمان الكتروني يهودي.
إن التطبيع الذي نراه اليوم تحصيل حاصل يا بنيّ، فاليهودي يسمو بحلمه ويرقى بأساليبه .
أرأيت يا بني كيف يتم تصميم مختلف التطبيقات بخوارزميات لا يرى منها المستخدم غير شكلها النهائي كتطبيق قوقل وتطبيق الوورد وتطبيقات الألعاب وغيرهم؟ كذلك اليهودي يعكف على إنشاء خوارزميات التطبيع ليسوقها لنا على شكل تطبيقات تسرّ الناظرين فيجعلنا نطبّع بكل سلاسلة ونحن في غفلة من أمرنا.
فلنعد إلى الرسوم المتحركة التي تبثها القنوات العربية ولنتأمل تفاصيلها وسنجد كما مذهلا من شعائرهم الدينية وعاداتهم وطقوسهم وثقافتهم. ألم يصنعوا بذلك جيلا عربيّا جاهزا لتطبيع سلس؟
يُعرف اليهوديّ بحدّة تماهيه في السياقات الثقافية المختلفة، فهو لا يظهر للعيان بهويّته الأصلية فلا نكاد نعي كمّ الصهينة التي تحاك في الظلام ونلبس نحن نسيجها في وضح النهار. إنّ اليهود يعرفون عنّا ما نجهله عن أنفسنا فتيّسر عليهم جرّنا إلى مستنقع التطبيع، وجهلنا نحن عنهم ماهيتهم وفكرهم وأدبهم وتوّجههم فسهل علينا التيه في شوارعهم الواسعة التي أبهرتنا أضواؤها فعمينا على أعمدتها التي نشعر بوجودها حتى نرتطم بها.
نرفض التطبيع جملة وتفصيلا وتبقى القضية الفلسطينية قضيّتنا لكن علينا ننتقي أساليب الرفض التي ترقى إلى دهاء خصمنا، ونقي نفسنا من التطبيع المعنوي الّذي قد يخلق جيلا عربيّا مُتصّهين.
أين حراكنّا من كلّ هذا؟ فهمت الآن معنى الحراك الفكري الذي استهلت به حديث حضرتك. لكن من أيّ رحم ستلد الإرادة التي تبعث الروح من جديد في هذا الشعب لرفع التحدي وحمل مشروع النهضة؟
“لابد من البحث العلمي في مشروع للتوعية أوّلا بخطورة الحالة ثمّ وضع إستراتيجية لتنمية الإرادة المفقودة” شريطة منحها الحرية اللازمة وحفها بالإرادة السياسية لضمان هذه الحريّة مع توفير الإمكان الماديّ ومن ثنائية ₍ الإرادة المعنويّة ،الإمكان الماديّ ₎ بدأنا وبها نختم، فهي حلقة يا بنيّ.
أشكر هذا الفضاء الذّي جمعني بحضرتك وأتاح لي فرصة لقاء قامة عبّدت لنا الطريق.
طريق لم يسلكه أحد في زمنه لكن هكذا هي الأفكار، تنتظر اللّحظة التاريخية المناسبة لتفعيلها وها قد آتى أوانها ومسح الغبار عن ما خطته أناملي يوما أملا في غد أفضل.
بادر بالخروج من فقاعتك المعتمة حتى تنار لك باقي الفوانيس، واطرق أبواب باقي المسافرين على متن الرحلات التأملية. أنصتوا إلى بعضكم البعض ففلاحكم في تكتلكم، واعلموا ان لكل زمن عباقرته والجزائر التي ولد بن نبي من رحمها لم تعقر.
نوال وعمارة
مترجمة و ناشطة ثقافية