فرضت علينا جائحة كورونا نفسها كموضوع رئيس لملفّ أوّل عدد من مجلة “فواصل”، تماما مثلما فرضت نمط حياةٍ جديداً على البشرية جمعاء، نمطٌ عنوانه الحجر والحظر والتباعد وتقييد التنقل، وإلغاء المناسبات الدينية والاجتماعية ومظاهر الحياة العادية. وقد جاء الملف تحت عنوان “تأمّلات في زمن الجائحة”، ببساطة لأنّ كلّ ظاهرة من هذا الحجم وبهذا التعقيد، تتطلّب وقتا وجهدا للاقتراب منها ومحاولة فهمها وتفسيرها، لذلك، اقتصر الأمر على مجرّد “تأمّلات” في بعض زوايا الظاهرة.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها البشرية مثل هذه الجوائح، ولنا في الأنفلونزا الإسبانية (1918) خير مثال، ولكن التطور العلمي وتحسّن المنظومة الصحية جعل الإنسان يحسّ بالأمان، بأنه في منأى عن تهديد الأمراض، التي اختفى بعضها من قاموس البشرية.. ليأتي هذا الفيروس المستجد، ويضرب أكبر الدول وأكثرها تطورا وتقدّما علميا واقتصاديا، وهو ما صدم إنسان القرن الحادي والعشرين.. ولكن، هل هي صدمة واحدة، أم توليفة من صدمات متعددة الأوجه؟
لأن الأزمة الصحية ضربت في المقتل أكثر من مجال، ولأن سياقات الدول والمجتمعات مختلفة، فإن القول بتعرّض البشر للون واحد من الصدمة يبدو مجانبا للصواب.. ولعلّنا نستعرض هنا بعض هذه الصدمات:
صدمة سياسية: شهد النظام العالم، خصوصا في بدايات الأزمة الصحية، ثم مع تفاقمها، استقطابا بين بعض الفاعلين الدوليين، جعلنا نفكّر في مدى متانة، بل بالأحرى هشاشة، النظام الدولي الحالي، المبني على مفهوم الأمن الجماعي.. وقد رأينا كيف تخلّت العديد من الدول عن هذا المفهوم، في غياب فعالية المنظمات الأممية ذات العلاقة وتخبطها، وبرز أكثر دور الدولة القومية بمفهومها الضيق، المتمترس وراء الحدود الجغرافية، بل ورأينا عمليات قرصنة جوية لطائرات محمّلة بالمعدّات الطبية، في مشهد هوبزي بعيد كلّ البعد عن خطابات التكامل وشعارات الكوسموبوليتانية. ولعلّ الأزمة الصحية لم تقم سوى بأن أبرزت أكثر “التململ” الأمني والاقتصادي الذي يعيشه العالم في الفترة الأخيرة.
وعلى المستوى الداخلي، طالت الصدمة الدول التي لطالما فاخرت بالحوكمة، أو الحكم الرشيد، المتميّز بالتحكّم والتسيير المضبوط لمختلف جوانب الحياة، مع ضمان الحريّات، وكان الإغلاق الكلّي ضربة قوية لهذا النموذج، بل ظهرت قوى مناهضة لتدابير الغلق بدعوى أن ذلك يقيّد الحريات الفردية ويقوّض نظامها، وأنّ حريّة الفرد كقيمة غير قابلة للتفاوض أهمّ حتى من مواجهة الوباء.
صدمة اقتصادية: صحيح أن العالم كان يتأهب للأزمة الاقتصادية الدورية، التي يعرفها النظام الرأسمالي تقريبا كلّ عشر سنوات، ولكن لا أحد توقّع مثل هذا “الإغلاق الكلّي”.. وإن وجبت الإشارة إلى أنه في وقت تضررت قطاعات اقتصادية إلى أقصى الحدود، شهدت قطاعات أخرى ازدهارا غير مسبوق.
صدمة معرفية: أو “صدمة إدراكية”، ولقد جاءت صورة المخابر الصيدلانية عاجزة أمام هذا الفيروس في وقت كان العالم يفاخر بثورته التكنولوجية الهائلة، ما شكّل نوعا من التضارب والتناقض.
لقد صُدم الإنسان في إدراكه لذاته ومكانته، وهو الذي اعتبر طويلا بأنه في أعلى السلسلة الغذائية، وبفضل تطور الرعاية الصحية، انقرضت أمراض متعدّدة كانت تفتك بالإنسان في السابق، ما عزّز هذا الإحساس بالتفوق Supremacy. ولكن الإنسان ما لبث أن رأى عدوّا غير مرئي، يفتك بالبشر، ويجعل منظومتهم الصحية تتهاوى، وتفوّقهم العلمي يقف عاجزا. ويمكن فهم التفسيرات “التآمرية” بتصنيع الفيروس مخبريا، على أنها محاولة لمقاومة هذه الصدمة الإدراكية، ورفض لفكرة تراجع الإنسان عن الصدارة والتفوق تحت عنوان “العلم”.
قد يكون غياب التفسير العلمي الدقيق، وضبابية مساعي الوصول إلى لقاح في القريب العاجل، وراء لجوء “العموم من الناس” إلى تفسيرات تتقبلها العقول ببساطة أكبر، على رأسها نظريات المؤامرة، كاعتبار أن الفيروس الجديد صنيعة مخابر عالمية، وأننا في قلب حرب بيولوجية، وقد ساهم في التأسيس لهذا الطرح وترويجه، للأسف، سياسيون وقادة دول، مع أنّ “قواعد الاشتباك” المتعلّقة بالسلاح البيولوجي، في أبسط أبجدياتها، لم تكن متوفّرة فيما شهده العالم مؤخرا.
كما انتشر اعتقاد آخر مبني على الرؤية المالتوسية، المبنية على أهميّة المعطى الديموغرافي، حيث زُعم أن الهدف “الحقيقي” من وراء ما يشهده العالم هو محاولة “تصفية” جزء من البشرية، بشكل يمكّن من استغلال موارد الأرض بفعالية وأريحية أكبر، ما يجعل الجزء المتبقّي من البشر ينعمون بحياة أفضل. ولعلّ نظرة إلى أعداد ضحايا الفيروس، إلى حدّ الآن، تنسف بسهولة مثل هذا الطرح “التآمري”، ومع ذلك، ما يزال هذا الطرح منتشرا، تصديقا لنظرية “فستينغر” للتنافر المعرفي.
صدمة نفسية: قد لا نكون في هذا المقال بصدد توظيف المعنى الإكلينيكي للكلمة (تروما) بشكل دقيق، ولكن يمكن الحديث عن وجود صدمة نفسية باختلاف أشكالها.. وهنا تحدّثنا الأخصائية النفسية والباحثة الأكاديمية نوارة بوقاسي عن تعرّض الناس إلى تغيّرات في التقاليد هامّة، على غرار عدم قدرتهم على تنظيم الجنائز وحضورها وتعزية الأقارب، بسبب تدابير وإجراءات الدفن الاستثنائية لضحايا كوفيد19، ما حرم أهلهم من الحداد. من جهة أخرى، تشير بوقاسي إلى الاختلاف في “إستراتيجية المواجهة” بين شخص وآخر، اختلاف سببه التجارب السابقة وبناء الشخصية، ومن هنا فإن تعامل الناس مع “صدمة جائحة كورونا” سيكون متباينا إلى حدّ كبير.. أمّا إجراءات الغلق والحجر الصحّي فمن شأنها أن تجعل العديد من المشاكل النفسية تطفو إلى السطح.
صدمة ثقافية: من كلّ ما سبق، يمكن القول إن حياة الناس قد تغيّرت، ما يعني إمكانية تعرّضهم إلى صدمة، بل صدمات، ثقافية. وإذا كان مفهوم “الصدمة الثقافية Culture Shock” مستعملا في علم الاجتماع وعلم النفس، فإنه قد ظهر بداية في الأنثروبولوجيا على يد عالم الإناسة أوبرغ (1960)، ويعني، في تعريفه البسيط، ذلك التوتر أو الضغط النفسي الناتج عن تغيّر نمط حياة الإنسان بشكل ملحوظ.. وهذا ما سببته جائحة كورونا وتدابير مواجهتها: تغيّر في حياة البشر، كفيلٌ بالقول إنهم أمام صدمة ثقافية.
صدمات عديدة سببتها الأزمة الصحية العالمية، نحاول التكيّف معها بمرور الوقت، ولكننا ما زلنا لم نخرج منها، ما يجعل كلّ محاولة للتنبّؤ بمرحلة ما بعد الصدمة غاية في الصعوبة، حتى لا نجزم باستحالتها.
مقاربات متعدّدة
يتبيّن لنا أن الأزمة الصحية العالمية، جرّاء فيروس كوفيد19، أزمة متعدّدة الأوجه، وبالتالي وجب التطرّق إليها ومحاولة فهمها بالاعتماد على مقاربات متعدّدة ومختلفة، ولكنها متكاملة، في رؤية بين تخصصاتية شاملة، وهو ما لجأ إليه كتاّب هذا الملفّ، كلّ في تخصّصه، وكلّ بأدواته العلمية والتحليلية.
وفي مقاله ” كوفيد 19 والهُويّة: العلم والتأويل الجديد للدين والقِيم”، طرح الأستاذ الدكتور بومدين بوزيد مجموعة من الأسئلة الإشكالية، حول مدى تأثير الجَوائح على “الرّمزيات المشتركة”، وبقاء بعضها وزوال بعضها الآخر، والمضامين التي نعيد بها قراءة “الهُويّة”، وإن كان “القوْل الطّبي” سيصبحُ هو الفيصل أم أن الكلمة الأخيرة ستعود إلى “القوْل الدّيني” و”العادة الاجتماعيّة”.
وممّا توقّعه أ.د.بومدين بوزيد أن تكون “جائحة كورونا” بداية مرحلة جديدة للبشرية في تجديد أسْئلتها الوجودية والدينية والأخلاقية، وأنظمتها الاقتصادية والسّياسية، وإعادة خريطة العلاقات الدّوليّة. هذا “الزلزال” سيطال أيضا العلاقات الإنسانية ذاتها، حيث ستختفي سُلوكات وتنشأ سُلوكات وذهنيّات جديدة. وإذا كان الدين حاضرا بعد كل جائحة أو كارثة، فإن هذا الحُضور والعودة إلى الرّوحانيات يختلف في الأزمنة التّاريخية، فإمّا أن يكون بوعي فينتج تأويلات جديدة، وإمّا أن يكون بنكوص خرافي يستقيل فيه العقل ويُدَمّر المستقبل.
بدوره، لا يرى الدكتور عبد الرزاق بلعقروز في جائحة كورونا مجرّد حدث بيولوجي صحّي، بل هو “حدث ثقافي أيضا، يجعل الشَّخص يُعيد طرح الأسئلة عن معنى حياته، وعن أولوياته في الوجود، وما المعرفة التي يجب عليه أن يراهن عليها مستقبلا، وكيف يبتكر أسلوبا ثقافيا جديدا في الحياة يحفظ له وجوده الجسدي ووجوده الثقافي أيضا”. ويعتبر د.بلعقروز، في مقاله “الثقافة والجائحة: ماذا قدَّمت الثقافة لإنسان الحجر الصحّي؟” أن الحجر الصحي “عودة إلى الذّات المنسية”، وأن للثقافة دورا محوريا في هذه المرحلة الحساس، بل إنها “أنقذت الإنسان من الموت في الحجر الصحي”. وليس كلّ ما ترتّب عن الوباء سلبي بالضرورة، حيث أنه “أظهر التَّضامن وبيَّن الدور الأخلاقي للثقافة”. ورافع د.بلعقروز من أجل إعادة البحث العلمي إلى مكانته المحورية في المجتمعات الإنسانية.
ومن بين هذه المجتمعات، اختارت المتخصصة في علم الاجتماع، الدكتورة أمال عيسات، التركيز على المجتمع الجزائري، في مقالها المعنون “المجتمع الجزائري في ظل تفشي جائحة كورونا: قراءة سوسيولوجية”. وذكّرت د.عيسات بأن ما ستقوله “لا يمكن اعتباره دراسة ابستمولوجية، بقدر ما هو مجرد ملاحظات نظرية وافتراضات طالما لن نقم بعد بدراسة ميدانية لفهم وتحليل الواقع”.
وأشارت د.عيسات إلى تأثير جائحة كورونا التي غيّرت أشكال النظام والتفاعل الاجتماعي، من خلال ما تجسّد في تدابير التباعد الاجتماعي الاضطرارية. وبالإضافة إلى التأثير الاجتماعي والاقتصادي، لم يخلُ مقال د.عيسات من الجانب العلمي البيداغوجي، حيث تطرقت إلى “إشكالية تحديات التعليم عن بعد”، خصوصا وأن التعليم ركيزة من أهمّ ركائز المجتمع، حاضرا ومستقبلا.
من جهته، ركّز د.محمد مرواني على المقاربة الاتصالية، وبالضبط اتصال الأزمات. وفي مقاله “جائحة “كورونا”.. أي دور لاتصال الأزمات؟”، لاحظ د.مرواني أن الأزمة الصحية “كشفت حاجة ملحّة إلى تكوين الكوادر الإدارية على فنون ومهارات أخرى، مهنية بالدرجة الأولى لإدارة الأزمات”. كما أكّد على الحاجة إلى “مركز اتصال مؤسساتي”، يؤطر العمل الاتصالي في أوقات الأزمات، و”يعزز فنون وأساليب الاتصال في مؤسسات الدولة” في الظروف الصعبة والاستثنائية التي يمكن أن تشهدها البلاد “مهما كان طابع هذه الظروف”.