نسعى من خلال هذه المداخلة إلى الكشف عن حوارية توجهات الخطابات الأدبية في الكتابات الروائية عند الحبيب السائح”، والممثلة في رواياته التالية رواية :” زمن النمرود ” و” ذاك الحنين”، ورواية “تلك المحبة “، رواية ” زهوة” ، وكولونيل الزبربر ” من خلال البحث عن بروزالأجناس المتخللة في الخطاب الروائي عبر مستوى الأجناس الأدبية، أي من خلال أدب الرسالة، وفن الخبر ، والتراث الشعبي.
الكلمات المفتاحية . الحوارية، توجهات الخطابات، الخطابات الأدبية، الرواية الحوارية ، الرواية المنولوجية .
بقلم الدكتور عبد القادر ضيف الله
1ــ الأجناس المتخللة في المجموعة الروائية
تُعدُ الأجناس المتخلِّلَة في الخطاب الروائي أحد أهم الأشكال الأكثر جوهرية في إدخال وتنظيم التعدد اللغوي في الرّواية عبر الصّوغ الحواري الداخلي الذي يقتضي“أننُدخل إلى كيان(الرّواية)جميع أنواع الأجناس التعبيريّة،سواءكانت أدبية(قصص، وأشعار، وقصائد، ومقاطع كوميدية)أوخارج–أدبية(دراسات عن السّلوكات، ونصوص بلاغية وعلمية، ودينية، الخ)،نظرياً، فإنّ أيّ جنس تعبيريّ يمكنه أن يدخل إلى بنية الرّواية، وليس من السّهل العثور على جنس تعبيريّ واحد لم يسبق له، في يوم ما، أن أَلْحَقَهُ كاتب أوآخر بالرّواية، وتحتفظ تلك الأجناسعادة، بمرونتها واستقلالها وأصالتها اللسانية والأسلوبية، أكثر من ذلك، فإنّه توجد فئة من الأجناس التّعبيرية الخاصّة الّتي تلعب دوراً بنّاءً جدّ هام داخل الروايات، بل إنّها، أحياناً، تحدّد حتّى بنية المجموع، خالقة بذلك،مغايرات للجنس الروائي. تلك الأجناس هي الاعتراف، والمذكرات الخاصة، ومحكي الأسفار، والبيوغرافيا، والرسائل،الخ«(1).
إذن الأجناس الأدبية التي تتخلل الرواية تقوم بدور مهم قد يغير حتّى في جنس الرواية وشكلها برُمَّتِها وهذا ما نجده في (الرواية الواقعية، الرواية النفسية،رواية رسائل) وكل واحد من تلك الأجناس يملك أشكاله اللفظية والدلالية التي تُمثل مختلف مظاهر الواقع، وهذا ما يجعل الرّواية منَضدِّة تنضيدا تراتُبياً، ومعمّقةبطريقة جديدة تبعا لتنوع لغاتها،كما “يمكن أن تكون هذه الأجناس المتخلِّلَّة مباشرة قصدية أو مُوضَّعةكليةً،أي متجرّدة تماما من نوايا الكاتب(2).
في المجموعة الروائية للحبيب السائح تحضر الأجناس الأدبية بشكل كثيف من طرف الشخصيات أوالمروي عنها حضورا أغنى المدونة الروائية ببعد معرفي وثقافي متداخل أسس لرّواية جامعة ميزت سردية الحبيب السائح عن غيره من الروائيين الجزائريين لهذا سوف نحاول في هذه الورقة مقاربة هذه الأجناس ودورها في حوارية الرواية، وهل حقا مارست بشكل أو بأخر هذه الأجناس(الأدبية) دورها في مغايرة الشكل الروائي وفي حواريته؟ وكيف كان توجه خطاباتها منولوجيا أم حواريا؟
سنبدأ بمقاربة الأجناس الأدبية المتخللة، بطرح السؤال التالي: ما مدى تأثير وجود الأجناس الأدبية في بنية الرواية وتشكيلها الجمالي، ثم ما مدى دورها في حوارية الرواية؟
مستوى الأجناس الأدبية
- أدب الرسالة/ الوصية.
في روايات الحبيب السائح تحضر الأجناس الأدبية بشكل كثيف مشكلة علاقات تناصية بينها، قد تبرز متلفظا بها من طرف الشّخصيات أو مروي عنها أحيانا، كما في رواية “تلك المحبة”(2009)(3)، و رواية” زهوة”(2011)(4)اللتان تتخللهما أجناس أدبية متنوعة بشكل كثيف حضورا أغني هذه الروايات ببعد معرفي وثقافي غني، ومتداخل يؤسس لكتابة رواية جامعة (5)،يمكن أن نمثل لذلك بجنس الرّسالة أو الوصيّة التي جاءت كوسيلة لتدعيم التنوع الكلامي عبر تكثيف للكلمة المزدوجة الصوت فـي الرّسالة التي هي عبارة عن قصة على لسان المتكلم الذي تنعكس فيه الكلمة الغيرية، حيث تمتاز بإحساسها القوي بوجود الآخر وكأنه أمامنا، فالمرسل ينشغل فكره بمواقف المرسل إليه واستفساراته وأجوبته، وبالتالي فكلمته تحوي الفعل ورد الفعل في الوقت نفسه(6).
نستحضر هنا مثالا على ذلك جاء في الرسالة التي تركها إدريس إلى عزيزة“» باسم نور السّماوات والأرض على من كان نبيا وآدم بين الماء والطين. ميزت، هذا كتابي أوصي به إلى قرينتي الطالق عزيزة بنت السراجي أني أسميت الوليد الذي تضعه يوسف. و الله أشهِد أنها، وهي في عصمتي، ما خانت ولا فحشت. العبد الفقير إلى الله إدريس « “(7)تبدأ هذه الرسالة بتقديم البسملة وهنا يتم استحضار سورة من القرآن الكريم وهي سورة النور التي يضمنها الروائي على عادة الرسائل الصوفية، أو المتون الدينية كما في الرسالة الوصية التي دونها عبد النور في السّجل السّابع عشر والتي قرأها متزامنا مع صوت يوسف في بيت العائلة قبل الرحلة“» إني، لما ظهر في البلاد من شر نخر القلوب وبما فشا من فساد لطّخ الضّمائر فتوارى الصّلاح وتزعزع الإيمان، قد اعتزلت دولة أولي أمركم المستظهرين على العباد بالظلم والهوان. وتركت مجالس الافتراء وذر الرماد. وهجرت أي مشيخة لبست ثوب الورع فوق لحمها المكمود بالفجور. وأغلقت باب قلبي عن كل طمع. ودخلت في طريق الحقيقة، لأفلت من رجس هذا الزمان «“(8).
الوصية أو الرسالة الموضوعة بين مزدوجتين في كلى المثالين تتخلل الرّواية كأثر دال على قرار وجودي يتماهى فيه صوت السّارد مع صوت يوسف.
يظهر صوت السارد” سي إدريس” في الخلفية سواء في الوصية الأولى أو الثانية التي كتبها “عبدالنور” لأن كليهما دوّن وصية اختياره لاعتزال الحياة العامة، اعتزال أي مشيخة ودخول طريق الحقيقة.
الصوت هنا ليس صوتا أحاديا، بل هو صوت متعدد تتقاطع فيه أصوات عائلة آل القاضي شعيب في رحلة تصوفهم، كما تتقاطع فيه نبرات الخطاب الصوفي الذي يعد خطابا شبه أدبي .
يقرُّ سي إدريس في الوصية الأولى ببنوة يوسف ويلقبه باسم يوسف وينفي الخيانة عن طليقته عزيزة، بعد أن يطلع وصيته بمطلع ديني تحكمه العبارة القرآنية المآخوذه من سورة النور كما أشرنا سابقا والتي تمثل اسما من أسماء الجلالة»اللَّهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ«(9). وهذا المطلع المتضمن يوحي بأننا أمام نص يتداخل فيه بصورة معقدة الجنس الأدبي بغير الأدبي وهذا ما تمتاز به المدونة الروائية عند الحبيب السائح التي تؤسس لتعددية في الأساليب تبرز متماهية مع أسلوب الكاتب من خلال تشخيصه صورة اللغة، ويؤدي هذا التداخل أيضا إلى خلق خطاب متعدّد الأصوات كما يحقق محاكاة للقوالب الصغرى كالرسالة التي دكرناها أو المذكرات والشعارات التي تشكل ذاكرة مميزة وهامة تختزن التاريخي وتضعف الإحساس والانفعال بالواقع المعاش (70).ينهي السارد الرسالة بهذا الخطاب «ثم بالسّلام على النبي( صلى الله عليه و سلّم)، كما عادة الرسائل التراثية أو الوصايا الشيء الذي يجعل من النص ينفتح على آفاق التّعدد اللغوي من خلال أسلبته ليقوم بكسر نوايا الكاتب والإيهام بواقعية الحدث.
و في النّص الصّوفي الذي تمثله الرسالة والوصية، والذي يمثل أثر عائلة آل القاضي في رحلة تصوفهم وفي الوقت نفسه يمثل أثر لكل رجل زَهَدَ عن دنيا تفشّى فيها ظلم الحكام وتوارى الصّلاح وتزعزع الإيمان، يرتسم التداعي الذي يستحضره الكاتب على لسان السارد عبد النور الشخصية الرئيسية الذي دوّن النّص على شكل رسالة في السّجل السّابع عشر. هو أيضا يمثل نوع من الإيهام الفني بواقعية الحدث، لأن قالب هذه الرّسالة، بالإضافة إلى أنها تشكل أثرا من أثار الحياة الصوفية، فهي توضع في الرّواية باعتبارها تقليدًا أدبيا مكرسًا في الثقافة الصُّوفية، ذلك أن فكرة تدوين رسالة في السّجلات المقام تُعدّ تقليدا عند كبار الصوفية، وهذا ما فعله قبله سي إدريس في السّجل السّادس عشر الذي شكل تاريخا لحياة سلالة آل القاضي شعيب في المقام كمكان حدثي نحو طريق الخلاص من الرجــس و الفساد الذي وصلت إليه البلاد.
قد يكون هذا نوع من الاشتغال على الرسالة الصوفية الذي يمارسه الحبيب السائح في مدونته الروائية نوع من النحت اللغوي الذي تستحضر فيه لغات متعددة لأجل أدبية يرى الكاتب أن مركزها اللغة، يقول في أحد حواراته”اللغة تحتفي بأعراسها،”(11)، كما أن استحضار اللغة الصوفية يعد أثرا من الآثار الثقافة الصوفية التي تتخذ من تدوين الحالة الصوفية واستعاذتها كطقس شعائري في الخلوة نوع من العقيدة مما يجعل من لغة الحبيب السائح في المقام الأول لغة تراثية تأثث نفسهامن الشعائر الصوفية، ومن الواقع الحضاري والعلمي كما تجسده المجالس العلمية التي كانت تعقد في خلوة المقام في رواية” زهوة” التي أثث الحبيب السائح جسمها النصي، و خصائص تعبيراتها من الطقس العجائبي والتراثي كما يتجلى في هذه الفقرة التي يصف فيها الروائي المجلس الصوفي بأسلوب وصفي عجائبي كما رآه يوسف في رحلته في الحلم:” كانوا جالسين على زربية حمراء، صفين متقابلين سبعة إلى سبعة في عباءاتهم البيضاء وعمائمهم الصفراء، أولئك الذين دخل عليهم يوسف في حجرة أضاءتها ثلاثة قناديل نحاسية، موضوعة على مرافع خشبية في الحيطان الثلاثة، تداخل نورها الخافت بأشعة لهيب حطب النار المستعرة في كانون الحائط الرابع، وإلى ظهورهم وسائد صوفية من لون الزربية. فنطق نحوه الشيخ الذي تصدرهم إلى الحائط الثالث، في أناقة ووقار: » صاحب الطلعة البهية والوجه الجميل « ! ودعاه إلى أخذ منزلة عن يمينه.فشخصت إليه أبصارهم،وعن يمين وشمال، مبهورين بهيئته، على سواء الذين بدوا في عمر الكهولة الموقرة أومن سرَح عليهم حسن الفتوة وتوثّبها.
ولإشارة من الشيخ، آخذو، كل من أمامه، سجلا كالذي كان قدمه ليوسف وقال: »افتح« !فلما فتح لم يقابل عينيه غير البياض تولى إليه وبتبجيل: » ليس قبل أن ينال المجلس من فضلك. «فتبسم، وفتح على آخر صفحة من سجله : »تم الجزء السادس عشر في هذه الليلة الخالصة ويليه جزء موال. إن كنت لن أرى لي إليه غدا فإن العناية ستأتي بمن يقتفي الأثر. لله الملك والكلم. «“(12).
من خلال هذا النص المشكل بلغته التراثية نستشف حوارية توجه الخطابات الأدبية التي تخلق تعددا لغوي من خلال أصداء الملفوظات التي تكسِّر نوايا الكاتب لدرجة أن الرّواية تبدو وكأنها مجردة مِنْ إمكانيتها الأولى في المقاربة اللفظية للواقع(13)،وعليه يمكن القول إذن، إن الحبيب السائح قد راهن ليس على اللغة كفعل تواصلي فحسب بقدر ما راهن على وجودها كحدث ألسني، أو كطقس صوفي كما يقول عنه د سعيد بوطَاجين”ولو أن المفردات وحدها كافية للإقرار بأن القاموس اللغوي للحبيب السائح يمثل حدثا ألسنيا في حد ذاته، بغض النظر عن طبيعة البلاغات المحتملة التي يمكن أن يمررها للقارئ الفرضي”(14).
يستثمر الروائي الحبيب السائح في تشكيل نصوصه الروائية في قدرة اللغة على تشكيل صورة مغايرة يصبح فيها التواصل تواصلا جماليا أكثر منه تواصل اجتماعي بسيط، أي أن اللغة في الرّواية عند الحبيب السائح هي جوهر الحكاية وهي غاية في حدِّ ذاتها يقول هو نفسه عن اللغة الروائية بأنها”لغة مفتوحة تتجدد بكل قراءة ويصبح النص مهرجانا من المجازات والاستعارات والانزياحات، ورواية تحتفي فيها اللغة بأعراسها”(15).،ولأن اللغة عند الحبيب السائح هي كما قال السعيد بوطجين هي الحدث الألسني البارز فإنها تستثمر كل إمكانيات الأجناس الأدبية المتخللة للمغايرة عن لغة المرجع الواقعي، مثلها مثل الأجناس شبه أدبية التي يمتصها النص عبر تناصات حوارية، وهذا ماتتوفر عليه في كل نصوص المدونة الروائية عند الحبيب السائح، في نص رواية “زهوة “، أو” تلك المحبة” أو”تماسخت” يستثمر الروائي الخطاب الصوفي الذي أدخل بلغته الجوهرية التي ساعدت على توسيع الأفق الأدبي واللساني في رّوايات المدونة، وقد زاد تداخلها في إعطاء هذه الرّوايات بعدا جماليا، كما نجد أيضا من ضمن الأجناس الأدبية التي تظهر بجلاء في كتابات الحبيب السائح، نجد فن الخبر، كجنس أدبي أدخله الحبيب السائح في معظم رواياته لأجل استعادة الماضي لتشكيل الحدث ولأجل إدخال التعدد اللغوي والحواري، لهذا سوف نحاول مقاربة كيفية توظيف فن الخبر في روايات الحبيب السائح، وكيف شكل حورية للخطاب الروائي عموما.
2ـ فن الخبر.
يعد الخبر شكلا فنيا عرف في التراث العربي القديم وأخذ حيزا كبيرا في ساحة النثر العربي لأنه احتوى عاداتهم من أسمار ومناظرات ومجالسهم،فـالأخبار عموما هي أحداث الماضين، أفعالهم وأقوالهم وما طرأ على أوضاعهم وحياتهم مما يتناقله الرواة ويتحدث به اللاحقون عن السابقين أو شاهدوا الخبر أو سمعوا عنه(16).
في رواية” تلك المحبة”( 2013)(17).يبدأ الروائي الحبيب السائح في رصد جملة من الأخبار عن تاريخ منطقة مجتمع الصحراء(المكان)الذي تؤسس عليه الرّواية متنها من خلال الرّوايات المختلفة التي يُضّمنها الروائي عن المنطقة وعن الصراع القبلي الذي كان بين أفراد هذا المجتمع الصحراوي والديانات المختلفة التي مرت عليه، لايختص هنا فعل الإخبار بالمكان والمجتمع الصحراوي بصفة عامة فقط بل يختص أيضا بالإخبار عن سيرة الشخصيات بداية من المرأة التي تختصر المكان والزمان أو المرأة الحدث التي تدور حولها الرّواية بجو أسطوري عجائبي، يحوّل الواقع إلى واقع سحري بشخصيات سحرية، وهذه المرأة قد قيل عنها إنها جنية سكنت الرجل الدرويش إسماعيل، ثم تحوّلت إلى امرأة اسمها البتول أثارت غيرة وحقد النساء والرجال معا.
يهيمن على السرد في رواية “تلك المحبة” الفعل قال بعدِّه أداة إخبار يوصل الموضوعات وفي الوقت نفسه يشكل«آلية أساسية لعملية الحكي على كل المستويات. فالأقوال تتولد عنها أقوال وأحاديث مختلفة، ونشهد نوعا من التدفق والتعدد اللغوي والتنويع الأسلوبي”(18).
تقول السيدة البتول عن نفسها:”وقد تكون الرياح حملتني نواة فانشقت منها شجرة تحبل مثلي وتلد، وتعطي من جسمها طعم الحياة، كما أهب من جسدي لذة الحب فأجري في الدم هواء معطرا بالرغبة. لعله، لذلك، يكونون هم الذين قالوا إن قدري دحرجني إلى إقليم العطش ليُجرني غيرة منهمرة من أكباد النساء وفتنة جارية في قلوب الرجال كما يجري ماء الحياة في فقارات(توات) الهادئة، أويسري صمت السر في(قورارة) الهائمة، أوتعوي الريح في (تيدكلت) القاهرة، فأنت مكفول بأن تعرف أنها ثلاثٌ كلها بين خصب امرأة تلد الطلع، ومن عقر ناقة تدخر الملح، ومن هيجان ريح تغسل الجدب بالرمل، مثلما أتوضأ بالشمس،أنا”(19).
يتخذ الحبيب السائح من أسلوب الإخبار طريق لفتح السرد أمام احتمالات متعددة للغة كي تستقي تعددها من الأمكنة والأشياء لتنامي الحكي من خلال موضوعات متعددة، ومتشظية في الوقت نفسه، وهذا ما تزخر به روايات المدونة منها هذه الفقرة التي أوردناها من رواية “تلك المحبة” على سبيل التمثيل لا الحصر وقد جاءت احتفاء بالمكان كأيقونة وحدث، وهو ما نجده أيضا بارزا في روايات أخرى مثل رواية “ذاك الحنين” و رواية”الموت في وهران”، حيث يقوم الحبيب السائح باستثمار فن الخبر للاحتفاء بالمكان، واستعادته بعدما فقد رونقه وحضوره البهي في الزمن الحاضر، و في الوقت نفسه لأجل إدهاش القارئ الفرضي من جهة، وللتعبير عن الجميل كما يقول الروائي نفسه، هو يكتب عن المكان لأنه منحه اللغة،لغة الرمل والأمان زمن الموت(تسعينيات القرن الماضي)،ثانيا احتفاء بذاكرة منسية وبتراث محلي تجتمع فيه عناصر العجائبي بالأسطوري،وبالخرافي والصوفي، وهي عناصر متجدِّرة في الذاكرة نفسها، وتعبر عن أفق التجربة التاريخية التي عاشها المجتمع(20) .
يحضر الخبر إذن، هنا لفتح الخطاب الروائي على حوارية تتردد أصداؤها مع كل جزئية، مختلفة لتاريخ المكان أو لأسماء الأمكنة التي تحمل في داخلها أصداء لغة مغايرة عن لغة الكاتب، لكن الحبيب السائح لا يورد الخبر لأجل إيصال الموضوعات فقط أي ليس لوظيفته الخبرية المعروفة، بل لتضمين اللغة بعدا أسطوريا وعجائبيا، وهذا ما يساهم في حواريتها وتعدد أصواتها، وبالتالي يصبح فن الخبر أداة من الأدوات أو الأجناس الادبية التي تتخلل الرواية لتشكل حواريتها.
1-1-3- التراث الشعبي.
يختلف الدراسون في تحديد مفهوم وافي وشافي لمصطلح التراث الشعبي نظرا لتشعب المفهوم واتساع حقل دلالته فأردوا أن يقدموا له تعريفا شاملا كما فعل محمد الجواهري في التعريف الذي حدّد به أبعاد التراث الشعبي في أربعة عناصر هي:
1ـ المعتقدات والمعارف الشعبية
2ـ العادات والتقاليد الشعبية
3ـ الثقافة المادية والفنون الشعبية
4ـ الأدب الشعبي “(21).
تبدأ رواية “ذاك الحنين”( 1997)(22).من الصفحات الأولى زاخرة بإدخال التراث الشعبي المتمثل في حلقة المداح وهي أول تجربة مغايرة يخوضها الروائي بعيدا عن الطرح الإيديولوجي الذي اتسمت به أعماله السابقة التي تغلبت عليها النزعة المنولوجية التي تنحاز إلى الفكرة الأحادية للكاتب وعلى حساب تعدد الأفكار والايديولوجيات، يقول في بداية رواية “ذاك الحنين” متخذا من أسلوب الحلقة خلفية لإدخال التعدد اللغوي والصوتي في الرّواية” مولى المحنة ياحضار واحد من البلاد، سبحانه خالقي مولاي مكن لي نعمة الكلام. الرجال بأفعالها كما النساء بمعادنها والبلدان بآثارها. جاه الزمان على بغتة، فتح له الصدر وقال، القلب فيه حنيني محفور لمدينة هرشمت مزولتها، وبلاد أتلف كنيسته وجحد مسابحه ونسي جوامعه، وانعقد فيه لسان اللغة عن فك طلسمات جدولها عشق بلون اليخضور..”(23).
تمثل الحلقة واحد من أهم منابع الموروث الثقافي المسرحي، وإن كان بناؤها يعتمد على العرض والحوار في مقابل السرد الذي تختص به الرواية فإن الحبيب السائح قام بتوظيفها أولا، كإطار للحكاية في روايته”ذاك الحنين”، وخلفية ليصبح الفعل الروائي ذاته قوة تجعل من القارئ وجها لوجه مع تاريخ ذاكرته المنسية، الذاكرة هنا ذاكرة المكان قبل كل شيء، وثانيا، كمجال يرد إليه أصول الرّواية الكرنفرالية كما تحدث عنها باختين، حيث السخرية المشحونة بالحوراية، وقد تجلت هنا من خلال الأسلوب التعتيقي الذي يزخر به أسلوب المداح في الحلقة عبر اللغة الوسطى المشحونة بتعدد الوعي، وتعدد الأصوات، وهي ميزة تبناها الروائي منذ عمله الروائي الأول”زمن النمرود”(1985)(24).كما يقول دكتور بوجمعة بوشوشة«يتحدّدأسلوب كاتب”زمن النمرود” باختيار أولي هو لغة وسطى بين الفصحة والعامية سواء كان ذلك في موقع السرد أو مراكز الحوار، مما جعل الراوي يخاطب المتقبل، والشخصيات تخاطب بعضها البعض في واقع النص بلغة عامية جزائرية صيغت في أسلوب يجعلها أقرب ما تكون لما عرف باللغة الوسطى”(25).يوظف الحبيب السائح الحلقة كتراث شعبي لأجل المغايرة التيمية والشكلية لتجاوز الأطروحي والأحادي، أي تجاوز المنولوجي الذي تميزت به كتابات جيل السبعينات في الجزائر، ليفتح مجالا أمام التعدد اللغوي ليدخل للرّواية ويعطي حواريتها. يأتي هذا العمل والأعمال التي جاءت بعده مفارقة لأعمال الروائي السابقة الممثلة في المتوالية القصصية”القرار “، و “الصعود نحو الأسفل”، وروايته ” زمن النمرود” في سياق التجاوز الأطروحي الذي أشرنا إليه سابقا وفي إطار التجريب الذي اعتمد فيه على استلهام أشكال التراث واستغلاله في نحت لغة حداثية لأجل توليف متناغم لا يظهر فيها أي شرخ بين القديم والجديد،”إننا أمام لغة تكتب لغة، لغة ساردة ومسرودة، ناقلة ومنقولة، لأنها تحكي عن العالم الخارجي وتتحدث عن نفسها بنفسها”(26)تجسّد إذن روايات الحبيب السائح بتوظيفها للتراث انزياحا عن الموضوعات والأساليب السّائدة في الرّواية الجزائرية في إطار قانون التحوّل عن التجارب التي سبقتها لتشخص تخيليا حالة التّدهور القيمي للمجتمع ببحثها وانغراسها في الخطابات الأدبية وغير الأدبية سواء ما تعلق منها بالشعر الشعبي كما تمثله حلقة المداح في” ذاك الحنين” أو يمثله التضمين الذي يورده الحبيب السائح في رواية “ّكولونيل الزبربر”(2015)(27)والمتعلق بقصيدة من الشعر الشعبي(الملحون) للشاعر لخضر بن خلوف في محاورته لرأس مقطوع” جيت نسالكْ ونْتَيَا تردْ جْوابي حشّمتك بالله كلمني”(28). أو ما تعلق بالأسطوري و العجائبي الذي يزخر به التراث الشعبي عموما كما تجلى بوضوح في رواية “تلك المحبة”التي ينفتح موضوعها ولغتها على الأسطوري لأجل ضمان علاقاتحوراية، تجسدها بوضوح حكاية إسماعيل الدرويش وحكاية المرأة التي حارت فيها العقول، وهي أسطورة شعبية معروفة، ومتداولة في منطقة الصحراء/منطقة أدرار تحديدا، تحكي عن شاعر اسمه(الشلالي) والجنية(مروشة)، مثَّلتْ في الرّواية ترميزا فنيا اتخذه الكاتب لتمرير خطابات إيديولوجية متعددة رغم وجود تبئير كلي على ذات الكاتب من خلال اللغة الموضوع التي تبقى الهاجس الأول عند الروائي الحبيب السائح يمارس عليها الحفر والنظم بعدِّها مشروع سردية جديدة ومختلفة بالنسبة إليه.
في الأخير مدونة الحبيب السائح زاخرة بالأجناس الأدبية المتخللة وهذه ميزة فنية منحت نصوصّه بعدا حواريا وجماليا .
المراجع والمصادر :
. ميخائيل باختين : الخطاب الروائي ، ص161
- . نفس المرجع ، ص162.
- .الحبيب السايح: رواية تلك المحبة، دار فيسرا ، الجزائر ،2013،د ط
- .الحبيب السايح: رواية زهوة ، دار الحكمة للنشر ، الجزائر 2011.
- .نظر عبد الحميد عقار : الرّواية المغاربية، ص49
- . نورة بعيو: آليات الحوارية وتمظهراتها في خماسية “مدن الملح” وثلاثية ” أرض السواد” لعبدالرحمن منيف، الأمل للطباعة والنشر، الجزائر، ط1، ص 224
- . الحبيب السايح : رواية زهوة، ص 42
- . نفس المرجع، ص 16
- . من سورة النور سورة مدنية تهتم بالآداب الاجتماعية عامة وآداب البيوت خاصة وقد وجّهت المسلمين إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة بما فيها من توجيهات رشيدة وآداب سامية تحفظ المسلم ومجتمعه وتصون حرمته وتحافظ عليه من عوامل التفكك الداخلي والانهيار الخلقي الذي يدمّر الأمم. وقد نزلت فيها آيات تبرئة السيدة عائشة بعد حادثة الإفك .
- . ينظر نورة بعيو: تمظهرات الحوارية في خماسية ” مدن الملح” وثلاثية ” أرض السواد” لعبدالرحمن منيف، الامان للنشر والتوزيع، الجزائر ، ص224.
- . حوار أجراه الصحفي كمال ريايحي: مجلة عمان، العدد103، ص 5.
- . الحبيب السايح : رواية زهوة، ص 63
- . مخائيل باختين : تحليل الخطاب الروائي،2009، ص161
- . السعيد بوطاجين : السرد ووهم المرجع مقاربات في النص السردي الجزائري الحديث، منشورات الاختلاف 2008،ط1، ص 66
- . حوار كمال ريايحي مع الروائي الحبيب السائح: مجلة عمان، العدد 103، ص 5.
- . عبدالله العشي: زحام الخطابات ( مدخل تصنيفي للخطابات الواصفة)، دار الأمل ، تيزوزو/ الجزائر ، ط 1 ، ص 356
- . الحبيب السايح : رواية” تلك المحبة “، فيسيرا للنشر، الجزائر ،2013.
- . آمنة بلعلى : المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف ،دار الأمل، تيزوزو، الجزائر،ط2 ، ص 178
- .الحبيب السائح : رواية تلك المحبة ” ص 18.
- . أنظر د أمينة بلعلى: المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف ، الأمل لطباعة والنشر، تيزوزو، الجزائر 2011،ط2،ص 181
- . ينظر سمية فالق : التراث الشعبي بين المفهوم والاستعمال، مجلة المعنى، منشورات المركز الجامعي خنشلة ، عدد 2 ، جويلية 2009 ، ص 165،174
- . الحبيب السايح: رواية ” ذاك الحنين”، دار cmm، الجزائر 1997، ط1.
- . المرجع نفسه: الرواية ، ص 11
- . الحبيب السايح :” زمن النمرود ” المؤسسة الوطنية للكتاب 1985، د ط
- .بن جمعة بوشوشة: اتجاهات الرواية في المغرب العربي، الدار المغاربية للطباعة والنشر والإشهار، ط1، تونس،1999،239.
- . سعيد بوطاجين: السرد و وهم المرجع، مقاربات في النص السردي الجزائري الحديث، منشورات الاختلاف ، ص 47
- . الحبيب السايح: رواية كولونيل الزبربر،دار الساقي، بيروت ، 2015، ط 1
- . نفس المرجع:الرواية، ص 17 .