عدّت الثورة الجزائريّة موضوعًا أثيرًا في السرد الروائي الجزائري طيلة عقود من الزمن، وفي الوقت الذي تباينت فيه دوافع استحضارها.
ظلّت البطولة مرتبطة بالشخصيّة الذكوريّة في غالب الأحيان، بحكم أنّ الرجل يحتل صدارة الفعل في قضايا الحروب والنزاعات، في حين كان حضور المرأة هامشيًا، تماشيًا مع المنظومة القيميّة التقليديّة المتحكّمة في تحديد وضعيّة المرأة آنذاك.
كان قدر الكثير من الثائرات الجزائريّات أن يطويهن النسيان في الجزائر المستقلة، بعد أن طوى الموت صفحات حياتهن وهن يحلمن بغد أفضل.
تعيد آسيا جبار في روايتها “المرأة التي لا قبر لها” La Femme sans sépulture الاعتبار للمرأة الجزائرية، مسلّطة الضوء على بطولاتها وتضحياتها الجسام في صفوف الثورة التحريرية جنبًا إلى جنب مع الرجل.
استعادت تفاصيل حياة البطلة زليخة يمينة عدي، ابنة شرشال، التي انتقم منها الاستعمار بعد القبض عليها وتعذيبها بإخفاء جثتها، وإمعانًا في ذلك حرمها من الدفن لطمس أثرها وذكراها، خوفًا من تحوّلها إلى بطلة أسطوريّة يضاهي حضورها في وجدان الجزائريين حضور “جان دارك” Jeanne d’Arc في وجدان الفرنسيين، ولعلّ هذا ما جعل آسيا جبّار تكرّس لتخليد ذكراها، عملاً سرديًا هو أقرب إلى السيرة في طابعه التوثيقي.
1- بوادر الثورة والتمرّد في شخصيّة زليخة
تتجلّى ملامح التمرد في شخصية زليخة باكرًا، إذ يتمّ تصويرها في الرواية على نحو يجعلها التجسيد الفعلي للمرأة المتحرّرة من سطوة التقاليد، والأحكام النمطيّة التي فرضها المستعمر الفرنسي على الشعب الجزائري، فقد زاولت دراستها في المدرسة الفرنسيّة جنبًا إلى جنب مع أبناء الكولون.
كانت أول فتاة مسلمة تتحّصل على الشهادة في منطقتها، ممّا زادها شعورًا بالنديّة والتّفوق، تزوجت لاحقًا من الرجل الذي اختارته رغم عدم حصولها على الموافقة المطلقة لوالدها، محطّمة بذلك فكرة الوصاية المفروضة على المرأة بدعوى المحافظة على التقاليد.
وبعد سفر زوجها إلى فرنسا وانقطاع أخباره قرّرت طلب الطلاق، وأوكلت رعاية ابنتها “الهانية” إلى عمّة لها تعاني من العقم، لتعيد بعد ذلك الزواج مرّتين؛ فتنفصل عن الأوّل باختيارها على الرغم من حبها له؛ نتيجة تباين المواقف السياسيّة بينهما، ويفرّق الموت بينها وبين الأخير.
تتبنى البطلة تصورًا مختلفًا عن الزواج بوصفه خيارًا شخصيًا، رافضة إخضاعه لما تقتضيه الأعراف المتوارثة، فكانت بذلك حالة استثنائية وسط مجتمعها المحافظ، كما أنّها حطّمت الصورة النمطيّة للأم التي يحول تعلّقها بأبنائها دون خوضها غمار الحياة، مُؤْثرة تحمّل معاناة الفراق بدل التخلّي عن هدفها.
يبرز التحرّر من القيود والضوابط الاجتماعية من ناحية أخرى على صعيد رؤيتها لجسدها ومظهرها الخارجي، فقد كانت تمشي بلا غطاء رأس أو فيشو، مثلها مثل الأوروبيات، ممّا جعل المستعمر يلقبها بالفوضوية «L’anarchiste»، وتكمن أهميّة هذا الموقف في ما يخلّفه من ارتباك على صعيد نظرة الآخر لها، سواء كان من الفرنسيّين أو الأهالي.
ولّد لديها هذا الحسّ التحرّري وعيًا نقديًا مكّنها من إدراك طبيعة العلاقة التي تربط المستعمِر بالأهالي الجزائريين.
وعلى الرغم من انتمائها إلى أسرة ذات شأن واعتبار والدها (الشايب) “عربيًا جيدًا” في نظر المستعمِر، فإنّها لم تكن تبحث عن خلاصها الشخصي، بل آمنت أن خلاصها يكمن في خلاص شعبها.
في هذا الصدد توكل الساردة إلى شخصيّة “الهانية” ابنة زليخة مهمة استحضار مشاهد من الذاكرة لرسم ملامح شخصية والدتها، التي عرفت بحسّها النقدي إزاء السياسة الاستعمارية، فقد أدركت وضعيّة الأهالي في حال الشدّة والرّخاء “الأفضل للأوروبيين.
أمّا الأهالي فيحتفظ لهم بالشعير!”()، ولعلّ هذا ما جعل شعورها بالنديّة تجاه الفرنسيين يطغى ليصبح سمة بارزة في تعاملها معهم، خاصة في مواجهة المواقف الاستعلائية التي يبتغي أصحابها الحط من مكانة المرأة الجزائريّة، إذ لم تكن لتتنازل عن حقها في الرد، وقد مكّنها إتقانها للّغة الفرنسيّة من بلوغ مقصدها، ممّا جعلها أيقونة للمرأة الجريئة بالنسبة لنساء المنطقة.
يتحوّل التحرّر إلى هاجس وطني بعد انخراطها في صفوف الثورة الجزائرية سنة 1956، عقب مقتل زوجها الحاج عدي، إذ تولّت تشكيل خليّة نسائية لجمع المساعدات ونقلها إلى الثوّار، معتمدة أسلوب التنكّر في زي امرأة عجوز لتضليل المستعمر، والإبقاء على سريّة نشاطها، وبعد صعودها إلى الجبل لقّبت بأم المجاهدين لكونها المرأة الوحيدة وسط خليّة مكوّنة من قرابة خمسة وأربعين شابًا.
من خلال المسار الذي عبرته البطلة في الرواية ترتسم معالم أسطورة المرأة البطلة، بوصفها نموذجا للمرأة الجزائرية التي واجهت كل مخاوفها إبّان فترة الاستعمار الفرنسي، وتمكّنت من تخطي كل العقبات والأساطير الاجتماعيّة التي من شأنها أن تحول دون اكتشافها لهويتها وتحريرها لصوتها.
ولعلّ أبرزها: أسطورة الفوارق الجنسيّة، وأسطورة الشرف، وأسطورة الحب الرومانسي، وأسطورة الأم المضحيّة().
2 – بانوراما المجتمع التقليدي الجزائري خلال فترة الثورة التحريريّة
تستعيد آسيا جبّار سيرة حياة زليخة عدي لتخرجها من دائرة الصمت والنسيان، ضمن مشروع أعم يتمثل في إعادة بناء ذاكرة مدينة شرشال، بين الماضي والحاضر، إيمانًا منها بأنّ المدن – على حدّ تعبير عبد الرحمن منيف – هي التاريخ، وبالتالي فإنّها الذاكرة الحقيقية لما كان ولما يجب أن يبقى.
سعت الساردة لاستعادة تفاصيل حياة زليخة عن طريق محاورات جمعتها بمجموعة من الراويات اللواتي شكّلن مصادر متنوعة للذاكرة الحيّة في بعدها الشفوي.
ارتسمت من خلالها ملامح مجتمع مكبّل بقيود مضاعفة، يمثّل الاستعمار ظاهرها، في حين كانت التقاليد القيد الحقيقي الذي مارس سطوته داخليًا، ممّا أتاح المجال لتشكّل صورة نمطيّة عن المرأة، عدّ الخروج عنها تصرفًا غير محمود العواقب، له من التبعات ما يجعل صاحبه مدانًا مسبقاً.
من ذلك ما تعلّق بقضية التعليم، فمزاولة زليخة تعليمها في مدرسة فرنسيّة وارتداؤها ملابس تشبه ملابس الفرنسيين أمر استهجنه محيطها التقليدي، متهمًا إياها بالتنكّر في زي الفرنسيين رغبة في تقليدهم، ما جعلها عرضة للاحتقار بمختلف مظاهره
تستحضر البطلة هذه الجزئية في المونولوج الأخير لتبرز اختلال المعايير، ووقع الأحكام المسبقة الجائرة عليها بوصفها امرأة متحرّرة، إذ بلغت حدّ اتهامها من قبل البعض بالنّفاق وتقليد العدو.
والغريب أنّ هذه الأحكام لم تنبع من مجتمعها الذكوري فحسب، بل تبنّتها النساء أيضا باعتبار أنّ وعيهن انعكاس وامتداد للوعي الرجالي حول قضيّة المرأة، لذا فخطورته تكمن في أنّه يعيد إنتاج صورة المرأة الخاضعة من الداخل، ففي مجتمع يدين المرأة لمجرد خروجها عن المألوف يصبح فعل التحرّر فعلاً مخلاً بالحياء.
في مقابل هذا الاستهجان لكل ما يمت بصلة إلى التحرر من التقاليد، تبرز ملامح مجتمع مسلوب الإرادة، تفترسه مشاعر الخوف والعجز عن المواجهة، خلال أحلك الظروف، فبدل أن يبادر الرجل لمواجهة قدره في الذود عن بني قومه، حيّهم وميّتهم، باعتبار أنّه الدور الذي أعدته له الطبيعة، يتخلّف البعض عن ذلك تحت ذريعة الخوف وحفظ النفس، لتتولّى المرأة مهمة القيام بوظيفة عجز عن أدائها الرجال.
يتجلّى ذلك في الرواية من خلال استحضار “لالة لبية” رفيقة زليخة في النضال الجريمة التي ارتكبها المستعمر في حق أبناء سعدون، فبعد أن قضى عليهم وألقى جثثهم في شوارع حي الدويرات فارضًا حظر التجوّل، تقاعس بعض الرجال عن أداء واجبهم، واكتفوا بإدانة الضحايا بدل الجلاّد.
في حين تولّت لالة لبية جمع النساء اللواتي تمرّدن على مشيئة أزواجهن، والتحقن ببيت الشهداء لحياكة أكفان الشهداء()، ويشكّل استحضار هذه القصة الصدى النقيض لصورة زليخة، المرأة التي لا قبر لها، فعلى الرغم من قبح الجريمة التي اقترفها المستعمر ضدهم، إلاّ أنّ أهلهم تمكنوا من تكريمهم بإجراء مراسم الدفن، في حين تمّ إخفاء جثة زليخة والتكتّم على مصيرها، لا لشيء سوى لكونها امرأة دوّخت الاستعمار بمفردها، فكان الإبقاء على أثرها وصمة عار في جبينه.
إضافة إلى هذه الحادثة التي تكشف عن سلبيّة الجانب الذكوري من المجتمع، تستدعي مينة ابنة زليخة موقفًا آخر تتجلّى من خلاله انتهازية ولا مبالاة صنف آخر من أصحاب الامتيازات.
تمثّل في النساء اللواتي كنّ يبدين نوعًا من الوطنيّة إزاء قضيّة الثورة، مبرزة خذلانهن لزليخة، فبعد أن تمّ توقيف مرافقها من قبل الجنود الفرنسيين في معبر المراقبة، لجأت إلى لالة لبية بحثًا عن مكان آمن يأويها، إلاّ أنّها لم تتمكن من إقناع نساء البلدة باستقبالها تلك الليلة.
فبينما أبدت إحداهن رفضها للفكرة دون تقديم مبررات، قدّمت أخرى ما يشبه التبرير الذي يشي بالتشفي، في قالب مثل شعبي “يالي يستحي بما ضره، ما ضره الشيطان غير هو”()، ففي مجتمع تنخره ذهنيّة الخوف والنفاق يصبح تغيير الوضع السائد والتحرّر من إكراهاته أشبه بجهاد مضاعف لمجابهة عدو خارجي واضح المعالم وأعداء خفيّة، وتتجلّى الغاية من ذلك في إبراز عظمة التضحيات التي بذلتها زليخة في سبيل القضية التي نذرت نفسها لها.
3 – الحكي بوصفه سبيلا للتحرّر من ذهنيّة الصمت والتغييب
تنتقل الساردة في رواية امرأة بلا قبر بين فضاءات داخلية وأخرى خارجيّة، تقاطعت من خلالها مصائر نساء كنّ الحلقة المقرّبة من البطلة زليخة، مثّلت في رمزيتها الالتقاء بين الماضي والحاضر.
لكن السّمة المشتركة بينهن هي الانتظار، والشعور بثقل التاريخ دون القدرة على التحرّر منه، في ظل واقع تنكّر لماضي الثورة المجيد وأحلّ محله واقعًا هجينًا لا يمت إلى قيمها بشيء، مكرّسًا ما يشبه القطيعة بين ماضي الأمة وحاضرها.
يبدو ذلك جليًا مع أوّل لقاء بالساردة، إذ تردّد ابنتا زليخة الصيغة ذاتها “انتظرتك كل هذه السنين”()، في حين تأكّد الساردة على فكرة أنّ إنجاز هذا النص قد تأخّر كثيرًا، سواء أوحى الأمر بالفترة الفاصلة بين بداية البحث لإنجاز الفيلم الوثائقي واختفاء زليخة (1956 – 1976)، أو بين الشروع في كتابة الرواية وإنهائها (1981 – 2001)، ممّا يرمز إلى التأخر الكبير الذي تعيشه أمّة بأكملها في رحلتها للبحث عن هويّتها وترسيخ معالمها.
تتمّ الإشارة إلى الساردة في مواضع مختلفة بمسميات متعدّدة: المسافرة، الغريبة، المحاورة، الزائرة، وصولاً إلى الضيفة والصديقة في الختام.
ويعكس هذا التدرّج المتعاقب التقارب الحاصل بينها وبين الطرف المقابل (الراويات)، ممّا ينقلها على صعيد الرؤية من سياق السرد الموضوعي (التوثيقي) إلى السرد الذاتي، حين تسهم بتأويلاتها وتأملاتها في تحرير ذكريات من تحاورهن.
لتعثر كل واحدة منهن على الشعور بالراحة بعد أن افتقدنه، لتتحوّل رحلة البحث من الموضوع (زليخة) إلى الذات في أعمق تجلياتها، فـ”الهانيّة” البنت الكبرى لزليخة تتمكن شيئا فشيئا من التحرّر من ثقل تجارب الماضي من خلال الحكي، بعد أن كانت “بمثابة الظلّ الذي يمشي في أعقاب زليخة، إلى درجة الشعور بأن هذه الأخيرة تسكنها وتدفعها للبحث عن قبرها المخفي في الغابة، لكن دون جدوى.
يظل العثور عليه كما الإنجاب بالنسبة للهانية، أمرا مستحيلا “()، أمّا مينة فتجد القدرة أخيرًا على سرد تفاصيل الليالي التي قضتها مع أمها في الجبل أيامًا قبل أن تلقى حتفها، بعد أن كانت تتحرّج من البوح تحت ضغط المشاعر.
كما بادرت في موضع آخر بالحديث عن تجربة حب فاشلة جمعتها برشيد الطالب الجامعي الذي تبيّن لاحقًا أنّه شاذ جنسيًا وعلى علاقة بفرنسي ينوي السفر معه إلى فرنسا ليمارس حريّته الجنسيّة بعيدًا عن ضغوط المجتمع().
أدى السرد وظيفة استشفائية في الرواية، فلقاء مينة بالساردة – التي كانت تؤدي دور المستمع – مكّنها من التصالح مع ذاتها ومع ماضيها فتحرّرت ممّا يؤرقها، ولعلّ هذا ما يفسّر اختيارها من قبل البطلة زليخة في المونولوج الأخير لتولّي مهمة السير على خطاها، بوصفها النموذج الأنسب للمرأة الجزائريّة العصريّة التي تحسن الجمع بين دروس الماضي لتخوض رهانات الحاضر.
لا تكتمل أبعاد الصورة دون الاستعانة بذاكرة لالة لبية والزهرة عدي، إذ تتولّى كل واحدة منهما رسم التفاصيل الغائبة لصورة زليخة، بحكم أنّ الأولى تعدّ “ذاكرة صافيّة” تحفظ تفاصيل الماضي ولها قدرة على التنبؤ بالمستقبل، كما تمتلك معرفة عميقة بتاريخ أسر المنطقة.
إذ تكتشف الساردة بفضلها معطيات كانت تجهلها عن محيطها الأسري “تذهب مينة لزيارة السيدة اللبية فتحدثها عن معرفتها بأسرة الزائرة وتحديدا جدتها فاطمة، كما تقصّ عليها حادثة قراءتها الطالع وتنبؤها بأن ابنهم المغترب في فرنسا موجود في منطقة Verdun.
إذ تردهم أخبار بعد فترة عن أنه معتقل في سجن يقع في المنطقة ذاتها”()، ممّا يحوّل رحلة البحث عن شخصيّة زليخة إلى فرصة لاكتشاف الذات (ذات الساردة التي تتقاطع في كثير من الأحيان مع ذات الروائية).
في حين تولّت العمّة الزهرة عدي إضاءة جوانب عن علاقة زليخة مع والد مينة “الحاج عدي”، مستحضرة قصة انضمامه إلى صفوف الثورة التحريريّة، وإنشائه لأول مدرسة لتعليم اللغة العربية في شرشال، ممّا جعله يصنّف من بين الشخصيات الذكوريّة القليلة التي كان لها أثر إيجابي على مسار البطلة (إضافة إلى والدها)، فقد كان رجلاً متديناً، لكنه لم يكن متزمتًا، جمع بين خدمة العلم وخدمة الوطن، كما أشادت الزهرة بمواقف زليخة البطولية مؤكدة أنّها لو ولدت ذكرًا لكانت جنرالاً لأنّها لم تعرف الخوف مطلقًا().
أمّا الصوت الأكثر حضورًا فيتمثّل في صوت زليخة من خلال المونولوج التخييلي الذي يتخلّل الرواية في أربعة مواضع، والذي أتاح للبطلة تقديم رؤية كاملة، لما جرى خلال فترة الاستعمار، ولما يجري بعد التنكّر لروح الثورة بعد الاستقلال، ممّا جعل صوتها كاشفًا للبؤر المعتمة في التاريخ الرسمي، وحاملاً لنبوءة التغيير، كما أنّ رمزيّة هذا الحضور تكتسي أهميّتها من خلال فكرة التعويض، فحرمان البطلة من القبر وتكريس فكرة الغياب المطلق يتمّ معارضتها بإعطائها حق رواية التاريخ أو تصحيحه.
تسهم هذه الأصوات المتشظيّة في تشكيل قصة زليخة، لترسم مجتمعة ما يشبه لوحة فسيفسائية، تتداخل فيها الألوان والأشكال وتفاصيل الأمكنة، بغية تقديم صورة متكاملة عن حياة البطلة، يتقاطع من خلالها الماضي بالحاضر، والحقيقة بالخيال معارضة بذلك منطق الصمت والغموض الذي تبناه المستعمر، والذي خلّف الكثير من الأسئلة العالقة بشأن التاريخ الوطني بعد الاستقلال.
4 – التجلي الأسطوري لشخصيّة زليخة في الرواية
أخرجت آسيا جبّار بطلتها من إطارها الواقعي جاعلة منها شخصيّة أسطوريّة، يتجسّد من خلالها فعل التضحيّة لتحقيق الخلاص الجماعي، مستثمرة في هذا الصدد الموروث الديني المسيحي المتعلّق بشخصيّة المسيح عليه السلام، ممّا أكسب نهايتها المأساويّة هالة من الإشراق الدائم.
توحي بتجاوزها لشرطها الإنساني الفاني وعبورها إلى عوالم القداسة والخلود، تقول البطلة مخاطبة ابنتها مينة في مقطع من المونولوج الأوّل: “كما لو أنّ الملاك جبريل جاء ليرفعني، ليجعلني أحوم فوق الحشد والجنود، ثم ينحني بي تدريجيا، متألقة تحت أشعة الشمس، فوق المدينة هناك، أمام المنارة والساحة الرومانية، ثم فوقك، جاثمة، ورأسك مرفوع، في فنائنا المتواضع”().
لا يكتمل فعل الأسطرة دون استحضار أماراته، وكما أنّ آية الأنبياء معجزاتهم، تصبح زليخة قادرة على الإتيان بأفعال خارقة في ظروف غير اعتياديّة، من ذلك إعادة الشباب إلى شيخ هرم تأثّر بحالها، تقول “بين المشاهدين، شيخ دفع بقوة الحوط العسكري، ونجح في الاقتراب مني وسحبني من طرف ثوبي الصوفي البني، ناداني شبه منتحب:
– زليخة أوه حاجّتي!
عظّمني. دُفع بشكل مفاجئ.
– صبورة، أوه يا ولدي، أجبته.
جدّدت شبابه، في المقابل. لم يعد يسمعني. ولم أعد أراه، نتيجة النور الأبيض غير الحقيقي، غمرنا، أعمانا جميعاً”().
لا يقتصر الأمر على توظيف الموروث الديني، إذ تستلهم الروائية في موضع آخر أسطورة السيرين، التي تمثّل إحدى محطات ملحمة الأوديسا.
شكّلت زيارة الساردة للمتحف محطّة محوريّة في الروايّة، قدّمت من خلالها قراءة تأويليّة للوحة فسيفسائيّة كان لها وقع خاص في نفسيّتها، فنقلت صداه إلى كل من مينة ولالة لبيّة، ويبدو لاحقا أنّ اختيارهما لم يكن اعتباطيا بقدر ما جاء متماشيا مع الرؤية التي تسعى الرواية لتأسيسها.
مضمون اللوحة مشهد لثلاث نساء على هيئة طيور، يمتلكن سيقانًا طويلة، مستعدات للتحليق فوق البحر، بينما كنّ على الشاطئ يتأملن سفينة تشق الأمواج()، تؤكد مينة معرفتها بهذه اللوحة المستوحاة من ملحمة الأوديسا، إذ تحمل عنوان “أوديسيوس والسيرين” مشيرة إلى أنّها اُكتشفت في الثلاثينيات داخل منزل أحد الكولون.
تستعيد تفاصيل الأسطورة مؤكدة لمضيفتها أنّها تجسّد مشهد إغراء يتوجب على البطل أن يخرج منه منتصرًا، ليواصل رحلته، لكنّه على الرغم من ذلك يودّ أن يكون الوحيد الذي يتمكّن من سماع أغاني السيرين والاستمتاع بها، لذا يطلب من بحّارته أن يثبّتوه على سارية ويصموا آذانهم ليتمكنوا من توجيه السفينة.
تثير الصورة ضحك مينة التي تتعجّب من كون العادة أن يتمّ تصوّر السيرين على هيئة نساء سمكات، في حين تتولى الساردة تأويل المشهد على نحو مغاير، موجّهة انتباهها إلى إحدى نساء اللوحة التي تميّزت عن نظيرتيها باختفاء نصف جسدها.
وفيما يشبه معارضة للأوديسا ترى أن الرجال لو استمعوا إلى غنائهن فلن يروا في الشاطئ مصدرًا للخطر، إذ لا حضور لخطر الموت في اللوحة، وإنّما يبدو سحر الغناء طاغيًا على المشهد، فكل واحدة منهن تحمل بين يديها آلة موسيقية (قيثارة ومزمارا)، في استعداد للتحليق.
في المقابل يبدو أوديسيوس منصتًا إليهن (خاضعا لسطوتهن) يعاني لأنه مقيّد، كما أنّه خلافًا للنهاية المأساويّة للسيرين في الأوديسا (موتهن وابتعاد سفينة أوديسيوس منتصرًا)، تظلّ رمزيّة نساء اللوحة الفسيفسائية حيّة مفعمة بسحر الغناء وطموح التحليق والطيران، لتنبئ بالأمل في التحرّر.
تسقط الساردة تفاصيل اللوحة على واقع مدينة شرشال والجزائر بشكل عام، معتبرة أنّها تجسيد لنزوع نسائها اللواتي سيحلقن هن أيضا، بخفتهن وأغانيهن، مبديّة في الوقت ذاته حسرتها نتيجة تدني الفاعليّة وتفشي الشعور بالسلبيّة في أوساط الجزائريين منذ 1962 نتيجة الواقع السياسي المخيّب.
إذ تقول: “نشعر بذلك في الشوارع وأفنية، لكنّ ليس المرتفعات، ولا الجبال ولا في الهضاب، أين يطفو رماد يختزن خيبة أمل الجماهير بعد لهيب الماضي”()، في إشارة إلى أنّ رماد الثورة من السهل أن يتوهّج، كأنّها بذلك تستدعي أسطورة الفينيق بشكل مضمر.
أمام عظمة الماضي وبؤس الحاضر، تبرز زليخة بوصفها بطلة ملحميّة، بحكم أنّها وحدها من استطاعت التحليق، بعد أن ألقى المستعمر بها من المروحيّة، فصارت روحها تجوب أفق المدينة، في حين تجسّد كل من لالة لبيّة ومينة قطبي اللوحة، فإحداهما تحيل إلى الماضي، في حين تحيل الأخرى إلى الحاضر.
وتتمثل رؤية الساردة في التأكيد على ضرورة التصالح بين الماضي والحاضر لرسم معالم الطريق نحو الحريّة وتشييد مستقبل الجزائر الحديثة، الأمر الذي لن يتأتى دون إحياء نموذج زليخة وما تحمله من قيم التحدي والشجاعة وفخر الانتماء.
يأتي توظيف الساردة لهذه اللوحة الفسيفسائية، وما ضمّنته من تأويل لمضمونها بغية تفكيك الخطاب الاستعماري الذي وجد ما يسوّغه على صعيد المشروع الاستشراقي.
من خلال الدخول في حوار مع لوحات كان موضوعها نساء الجزائر، مثل لوحة دولاكروا Delacroix التي تحمل عنوان “نساء الجزائر في بيوتهن” سنة 1834، التي أوحت بأنّ الصمت والتأمل يطبقان عليهن كما لو أنّ عالمهن المعزول يعمل على قمعهن(). ممّا جعلهن يبدين من خلالها “بمظهر كسول وكئيب”()، إضافة إلى لوحات بيكاسو Picasso ذات المنظور الثوري والتي تحمل هي الأخرى عنوان “نساء الجزائر” سنة 1955.
أمّا لوحة الفسيفساء فبدت من خلالها “شخصيّة مينة هي صورة المرأة الجزائرية الحديثة: الراسخة في التاريخ، والواثقة من هويّتها. متخلصةً أخيرا من الجمود والظلّ المعزول لنساء الجزائر في لوحات دولاكروا، تواصل الحركة والرقص الذي يكتسح لوحة بيكاسو لكي تلتحق بخفة وتحليق زليخة في لوحة الفسيفساء فتصبح المرأة الطائر لأوديسا حديثة”().
تمكّنت آسيا جبّار من أن تهب بطلتها حضورًا أزليًا في ذاكرة الأجيال القادمة، فجعلّت تحرّرها من الجسد، علامة على حلولها في الزمان والمكان، إيذانًا بدخولها عوالم المطلق والقداسة، فما حاجتها بعد ذلك إلى قبر، يُذكٍّر بفنائها؟
د. شهرة بلغول
جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي
الهوامش:
– Assia Djebar, La Femme sans sépulture, Albin Michel, Paris, 2002, p20.
– Ibid, idem.
– FadhilaSidi Said, AssiaDjebar’s La Femme sans s épulture (2002)/ The WomanwithoutSepulcher : The Quest for FemaleHeroism, El- Khitab, n°16, 2013, p261.
– Assia Djebar, La Femme sans sépulture, p44.
– Ibid, p175, 176.
– Ibid, p15.
– Ibid, p64,65.
– Ibid, p109.
– Ibid, p111.
– Ibid, p81.
– Ibid, p67.
– Ibid, p68.
– Ibid, p116,117.
– Ibid, p119.
15- لين ثورنتون، النساء في لوحات المستشرقين البحث عن الشرق، تر: مروان سعد الدين، دار المدى، سورية، ط1، 2008، ص 26.
– المرجع نفسه، ص27.
– Nicole Aas-Rouxparis, La Femme-oiseau de la mosaique: image et chant dans la femme sans sépulture d’Assia Djebar, Nouvelles Etudes Francophones, Vol.19, No.2, University of Nebraska press, Automne 2004, p106.